التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ ٱلْحِكْمَةَ أَنِ ٱشْكُرْ للَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ
١٢
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يٰبُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِٱللَّهِ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ
١٣
وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ
١٤
وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
١٥
يٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ أَوْ فِي ٱلأَرْضِ يَأْتِ بِهَا ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ
١٦
يٰبُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ
١٧
وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ
١٨
وَٱقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَٱغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ ٱلأَصْوَاتِ لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ
١٩
-لقمان

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
في الآيات إشارة إلى إيتاء لقمان الحكمة ونبذة من حكَمه ومواعظه لابنه ولم يذكر في القرآن إلا في هذه السورة ويناسب المورد من حيث مقابلة قصته الممتلئة حكمة وموعظة لما قصَّ من حديث من كان يشتري لهو الحديث ليضلَّ عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً.
قوله تعالى: { ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله } الخ، الحكمة على ما يستفاد من موارد استعمالها هي المعرفة العلمية النافعة وهي وسط الاعتدال بين الجهل والجربزة. وقوله: { أن اشكر لي } قيل: هو بتقدير القول أي وقلنا: أن اشكر لي.
والظاهر أنه تفسير إيتائه الحكمة من غير تقدير القول، وذلك أن حقيقة الشكر هي وضع النعم في موضعها الذي ينبغي له بحيث يشير الى إنعام المنعم، وإيقاعه كما هو حقه يتوقف على معرفة المنعم ومعرفة نعمه بما هي نعمه وكيفية وضعها موضعه بحيث يحكي عن إنعامه فإيتاؤه الحكمة بعث له إلى الشكر فإيتاء الحكمة أمر بالشكر بالملازمة.
وفي قوله: { أن اشكر لله } التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة وذلك أن التكلم مع الغير من المتكلم إظهار للعظمة بالتكلم عن قبل نفسه وخدمه وقول أن اشكر لنا على هذا لا يناسب التوحيد في الشكر وهو ظاهر.
وقوله: { ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد } استغناء منه تعالى أن نفع الشكر إنما يرجع إلى نفس الشاكر والكفر لا يتضرر به إلا نفسه دونه سبحانه ومن يشكر فإنما يوقع الشكر لنفع نفسه ولا ينتفع به الله سبحانه لغناه المطلق ومن كفر فإنما يتضرر به نفسه إن الله غني لا يؤثر فيه الشكر نفعاً ولا ضراً حميد محمود على ما أنعم سواء شكر أو كفر.
وفي التعبير عن الشكر بالمضارع الدالّ على الاستمرار وفي الكفر بالماضي الدال على المرَّة إشعار بأن الشكر إنما ينفع مع الاستمرار لكن الكفر يتضرر بالمرَّة منه.
قوله تعالى: { وإذ قال لقمان لإبنه وهو يعظه يا بنيَّ لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم } عظمة كل عمل بعظمة أثره وعظمة المعصية بعظمة المعصي فإن مؤاخذة العظيم عظيمة فأعظم المعاصي معصية الله لعظمته وكبريائه فوق كل عظمة وكبرياء بأنه الله لا شريك له وأعظم معاصيه معصيته في أنه الله لا شريك له.
وقوله: { إن الشرك لظلم عظيم } حيث أُطلق عظمته من غير تقييد بقياسه إلى سائر المعاصي يدل على أن له من العظمة ما لا يقدّر بقدر.
قوله تعالى: { ووصينا الإِنسان بوالديه } إلى آخر الآية، اعتراض واقع بين الكلام المنقول عن لقمان وليس من كلام لقمان وإنما اطَّرد ها هنا للدلالة على وجوب شكر الوالدين كوجوب الشكر لله بل هو من شكره تعالى لانتهائه إلى وصيته وأمره تعالى، فشكرهما عبادة له تعالى وعبادته شكر.
وقوله: { حملته أُمه وهناً على وهن وفصاله في عامين } ذكر بعض ما تحملته أُمه من المحنة والأذى في حمله وتربيته ليكون داعياً له إلى شكرهما وخاصة الأُم.
والوهن الضعف وهو حال بمعنى ذات وهن أو مفعول مطلق والتقدير تهن وهناً على وهن، والفصال الفطم وترك الإِرضاع، ومعنى كون الفصال في عامين تحققه بتحقق العامين فيؤول إلى كون الإِرضاع عامين، وإذا ضمَّ إلى قوله تعالى:
{ { وحمله وفصاله ثلاثون شهراً } [الأحقاف: 15]، بقي لأقلَّ الحمل ستة أشهر، وستكرر الإِشارة إليه فيما سيأتي.
وقوله: { أن اشكر لي ولوالديك إليَّ المصير } تفسير لقوله: { وصينا } الخ، في أول الآية أي كانت وصيتنا هو أمرنا بشكرهما كما أمرناه بشكر الله، وقوله: { إليَّ المصير } إنذار وتأكيد للأمر بالشكر.
والقول في الالتفات الواقع في الآية في قوله: { أن اشكر لي ولوالديك إليَّ المصير } الخ، من سياق التكلم مع الغير إلى سياق التكلم وحده كالقول في الالتفات في قوله السابق: { أن اشكر لله }.
قوله تعالى: { وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما } إلى آخر الآية. أي إن ألحَّا عليك بالمجاهدة أن تجعل ما ليس لك علم به أو بحقيقته شريكاً لي فلا تطعهما ولا تشرك بي، والمراد بكون الشريك المفروض لا علم به كونه معدوماً مجهولاً مطلقاً لا يتعلق به علم فيؤول المعنى: لا تشرك بي ما ليس بشيء، هذا محصَّل ما ذكره في الكشاف وربما أيده قوله تعالى:
{ { أتنبئونه بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض } } [يونس: 18]. وقيل: { تشرك } بمعنى تكفر و { ما } بمعنى الذي، والمعنى: وإن جاهداك أن تكفر بي كفراً لا حجة لك به فلا تطعهما ويؤيده تكرار نفي السلطان على الشريك في كلامه تعالى كقوله: { { ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } [يوسف: 40]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله: { وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أناب إليَّ } الجملتان كالتلخيص والتوضيح لما تقدم في الآيتين من الوصية بهما والنهي عن إطاعتهما إن جاهدا على الشرك بالله.
يقول سبحانه: يجب على الإِنسان أن يصاحبهما في الأُمور الدنيوية غير الدين الذي هو سبيل الله صحاباً معروفاً ومعاشرة متعارفة غير منكرة من رعاية حالهما بالرفق واللين من غير جفاء وخشونة وتحمل المشاق التي تلحقه من جهتهما فليست الدنيا إلا أياماً معدودة متصرمة، وأما الدين فإن كانا ممن أناب إلى الله فلتتبع سبيلهما وإلا فسبيل غيرهما ممن أناب إلى الله.
ومن هنا يظهر أن في قوله: { واتبع سبيل من أناب إليَّ } إيجازاً لطيفاً فهو يفيد أنهما لو كانا من المنيبين إلى الله فلتتبع سبيلهما وإلا فلا يطاعا ولتتبع سبيل غيرهما ممن أناب إلى الله.
وقوله: { ثم إليَّ مرجعكم فأُنبئكم بما كنتم تعملون } أي هذا الذي ذكر، تكليفكم في الدنيا ثم ترجعون إلى يوم القيامة فاظهر لكم حقيقه أعمالكم التي عملتموها في الدنيا فأقضي بينكم على حسب ما تقتضيه أعمالكم من خير أو شر.
وبما مرَّ يظهر أن قوله: { في الدنيا } يفيد أولاً قصر المصاحبة بالمعروف في الأُمور الدنيوية دون الدينية، وثانياً: تهوين أمر الصحبة وأنها ليست إلا في أيام قلائل فلا كثير ضير في تحمل مشاق خدمتهما، وثالثاً المقابلة ليوم الرجوع إلى الله المشار إليه بقوله: { ثم إليَّ مرجعكم } الخ.
قوله تعالى: { يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله } الخ، ذكروا أن الضمير في { إنها } للخصلة من الخير والشر لدلالة السياق على ذلك وهو أيضاً اسم كان و { مثقال حبة } خبره، والمراد بكونها في صخرة اختفاؤها بالاستقرار في جوف الصخرة الصماء أو في السماوات أو في الأرض، والمراد بالإِتيان بها إحضارها للحساب والجزاء.
كان الفصل السابق من كلامه المنقول راجعاً إلى التوحيد ونفي الشريك وما في هذه الآية فصل ثان في المعاد وفيه حساب الأعمال، والمعنى: يا بني أن تكن الخصلة التي عملت من خير أو شر أخف الأشياء وأدقها كمثقال حبة من خردل فتكن تلك الخصلة الصغيرة مستقرة في جوف صخرة أو في أي مكان من السماوات والأرض يأت بها الله للحساب والجزاء لأن الله لطيف ينفذ علمه في أعماق الأشياء ويصل إلى كل خفي خبير يعلم كنه الموجودات.
قوله تعالى: { يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأُمور } الآية وما بعدها من كلامه راجع إلى نبذة من الأعمال والأخلاق الفاضلة.
فمن الأعمال الصلاة التي هي عمود الدين ويتلوها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن الأخلاق الصبر على ما يصيب من مصيبة.
وقوله: { إن ذلك من عزم الأُمور } الإِشارة إلى الصبر والإِشارة البعيدة للتعظيم والترفيع وقول بعضهم: إن الإِشارة إلى جميع ما تقدم من الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر ليس في محله لتكرر عدّ الصبر من عزم الأُمور في كلامه تعالى كقوله:
{ { ولمن صبر وغفر إن ذلك من عزم الأُمور } [الشورى: 43]، وقوله: { { وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأُمور } } [آل عمران: 186]. والعزم - على ما ذكره الراغب - عقد القلب على إمضاء الأمر وكون الصبر - وهو حبس النفس في الأمر - من العزم إنما هو من حيث إن العقد القلبي ما لم ينحل وينفصم ثبت الإِنسان على الأمر الذي عقد عليه فالصبر لازم الجد في العقد والمحافظة عليه وهو من قدرة النفس وشهامتها.
وقول بعضهم: إن المعنى أن ذلك من عزيمة الله وإيجابه في الأُمور بعيد وكذا قول بعضهم: إن العزم هو الجزم وهو لغة هذيل.
قوله تعالى: { ولا تصعّر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور } قال الراغب: الصعر ميل في العنق والتصعير إمالته عن النظر كبراً قال: { ولا تصعر خدك للناس } وقال: المرح شدة الفرح والتوسع فيه انتهى.
فالمعنى: لا تعرض بوجهك عن الناس تكبراً ولا تمش في الأرض مشية من اشتد فرحه إن الله لا يحب كل من تأخذه الخيلاء - وهو التكبر بتخيل الفضيلة - ويكثر من الفخر. وقال بعضهم إن معنى: { ولا تصعر خدك للناس } لا تلو عنقك لهم تذللاً عند الحاجة وفيه أنه لا يلائمه ذيل الآية.
قوله تعالى: { واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير } القصد في الشيء الاعتدال فيه والغض - على ما ذكره الراغب - النقصان من الطرف والصوت فغض الصوت النقص والقصر فيه.
والمعنى: وخذ بالاعتدال في مشيك وبالنقص والقصر في صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير لمبالغتها في رفعه.
(بحث روائي)
في الكافي بإسناده عن عبد الله بن سنان قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إن من الكبائر عقوق الوالدين واليأس من روح الله والأمن من مكر الله وقد روي: أكبر الكبائر الشرك بالله.
وفي الفقيه في الحقوق المروية عن سيد العابدين عليه السلام: حق الله الأكبر عليك أن تعبده ولا تشرك به شيئاً فإذا فعلت ذلك بإخلاص جعل لك على نفسه أن يكفيك أمر الدنيا والآخرة.
قال: وأما حق أُمك أن تعلم أنها حملتك حيث لا يحتمل أحد أحداً وأعطتك من ثمرة قلبها ما لا يعطي أحد أحداً ووقتك بجميع جوارحها، ولم تبال أن تجوع وتطعمك، وتعطش وتسقيك، وتعرى وتكسوك، وتضحى وتظلّك، وتهجر النوم لأجلك، ووقتك الحر والبرد لتكون لها فإنك لا تطيق شكرها إلا بعون الله وتوفيقه.
وأما حق أبيك فأن تعلم أنه أصلك فإنك لولاه لم تكن فمهما رأيت من نفسك ما يعجبك فاعلم أن أباك أصل النعمة عليك فيه فاحمد الله واشكره على قدر ذلك ولا قوة إلا بالله.
وفي الكافي بإسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
" جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله من أبرّ؟ قال: أُمك. قال: ثم من؟ قال: أُمك. قال: ثم من؟ قال: أُمك. قال: ثم من؟ قال: أباك"
]. وفي المناقب: مرَّ الحسين بن علي عليه السلام على عبد الرحمن بن عمرو بن العاص فقال عبد الله: من أحب أن ينظر إلى أحب أهل الأرض إلى أهل السماء فلينظر إلى هذا المجتاز وما كلمته منذ ليالي صفين.
فأتى به أبو سعيد الخدري إلى الحسين عليه السلام فقال له الحسين عليه السلام: أتعلم أني أحب أهل الأرض إلى أهل السماء وتقاتلني وأبي يوم صفين؟ والله إن أبي لخير مني. فاستعذر وقال إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لي: أطع أباك. فقال له الحسين عليه السلام: أما سمعت قول الله عزّ وجلّ: { وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما } وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنما الطاعة بالمعروف، وقوله: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وفي الفقيه في ألفاظه صلى الله عليه وآله وسلم الموجزة: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وفي الكافي بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: سمعته يقول: اتقوا المحقَّرات من الذنوب فإن لها طالباً، يقول أحدكم أذنب وأستغفر أن الله عز ّوجلّ يقول: { سنكتب ما قدَّموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين } وقال عزّ وجلّ: { إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير }.
وفيه بإسناده إلى معاوية بن وهب قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن أفضل ما يتقرب به العباد إلى ربهم وأحبّ ذلك إلى الله عزّ وجلّ فقال: ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة. الحديث.
وفيه بإسناده عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الرضا عليه السلام أنه قال: الصلاة قربان كل تقي.
وفي المجمع: { واصبر على ما أصابك } من المشقة والأذى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. عن علي عليه السلام.
وفيه في قوله تعالى: { ولا تصعّر خدك للناس } أي ولا تمل وجهك من الناس بكل ولا تعرض عمن يكلمك استخفافاً به، وهذا المعنى قول ابن عباس وأبي عبد الله عليه السلام.
وفي الدر المنثور أخرج الطبراني وابن عدّي وابن مردويه عن أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن قول الله: { ولا تصعّر خدك للناس } قال: إليَّ الشدق.
وفي المجمع في قوله تعالى: { إن أنكر الأصوات لصوت الحمير } وروي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: هي العطسة المرتفعة القبيحة والرجل يرفع صوته بالحديث رفعاً قبيحاً إلا أن يكون داعياً أو يقرأ القرآن.
أقول: وفي جميع هذه المعاني وخاصة في العقوق روايات كثيرة متظافرة.
(كلام في قصة لقمان ونبذ من حكمه، في فصلين)
1- لم يرد اسم لقمان في كلامه تعالى إلا في سورة لقمان ولم يذكر من قصصه إلا ما في قوله عزَّ من قائل: { ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله } وقد وردت في قصته وحكمه روايات كثيرة مختلفة ونحن نورد بعض ما كان منها أقرب إلى الاعتبار.
ففي الكافي عن بعض أصحابنا رفعه إلى هشام بن الحكم قال: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر عليه السلام: يا هشام إن الله قال: { ولقد آتينا لقمان الحكمة } قال: الفهم والعقل.
وفي المجمع روى نافع عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: حقاً أقول لم يكن لقمان نبيّاً ولكن كان عبداً كثير التفكر حسن اليقين أحب الله فأحبه ومن عليه بالحكمة.
كان نائماً نصف النهار إذ جاءه نداء: يا لقمان هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض تحكم بين الناس بالحق؟ فأجاب الصوت إن خيرني ربي قبلت العافية ولم أقبل البلاء وإن عزم علي فسمعاً وطاعة فإني أعلم أنه إن فعل بي ذلك أعانني وعصمني.
فقالت الملائكة بصوت لا يراهم: لم يا لقمان؟ قال: لأن الحكم أشدَّ المنازل وآكدها يغشاه الظلم من كل مكان إن وفى فبالحري أن ينجو، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة، ومن يكن في الدنيا ذليلاً وفي الآخرة شريفاً خير من أن يكون في الدنيا شريفاً وفي الآخرة ذليلاً ومن تخيّر الدنيا على الآخرة تفته الدنيا ولا يصيب الآخرة. فعجبت الملائكة من حسن منطقه فنام نومة فاعطي الحكمة فانتبه يتكلم بها ثم كان يؤازر داود بحكمته فقال له داود: طوبى لك يا لقمان اعطيت الحكمة وصرفت عنك البلوى.
وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
"أتدرون ما كان لقمان؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: كان حبشياً"
]. 2- وفي تفسير القمي بإسناده عن حماد قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن لقمان وحكمته التي ذكرها الله عزّ وجلّ، فقال: أما والله ما أُوتي لقمان الحكمة بحسب ولا مال ولا أهل ولا بسط في جسم ولا جمال.
ولكنه كان رجلاً قوياً في أمر الله متورعاً في الله ساكتاً مستكيناً عميق النظر طويل الفكر حديد النظر مستغن بالعبر لم ينم نهاراً قط ولم يره أحد من الناس على بول ولا غائط ولا اغتسال لشدة تستره وعموق نظره وتحفظه في أمره، ولم يضحك من شيء قط مخافة الإِثم ولم يغضب قط، ولم يمازح إنساناً قط، ولم يفرح بشيء أتاه من أمر الدنيا ولا حزن منها على شيء قط وقد نكح من النساء وولد له من الأولاد الكثير وقدم أكثرهم أفراطاً فما بكى على موت أحد منهم.
ولم يمر برجلين يختصمان أو يقتتلان إلا أصلح بينهما ولم يمض عنهما حتى تحابّا، ولم يسمع قولاً قط من أحد استحسنه إلا سأل عن تفسيره وعمّن أخذه، وكان يكثر مجالسة الفقهاء والحكماء، وكان يغشى القضاة والملوك والسلاطين فيرثي للقضاة مما ابتلوا به، ويرحم الملوك والسلاطين لغرتهم بالله وطمأنينتهم في ذلك، ويعتبر ويتعلم ما يغلب به نفسه ويجاهد به هواه ويحترز به من الشيطان يداوي قلبه بالفكر ويداوي نفسه بالعبر، وكان لا يظعن إلا فيما يعنيه فبذلك أُوتي الحكمة ومنح العصمة.
وإن الله تبارك وتعالى أمر طوائف من الملائكة حين انتصف النهار وهدأت العيون بالقائلة فنادوا لقمان حيث يسمع ولا يراهم فقالوا: يا لقمان هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض تحكم بين الناس؟ فقال لقمان: إن أمرني الله بذلك فالسمع والطاعة لأنه إن فعل ذلك أعانني عليه وعلمني وعصمني وإن هو خيّرني قبلت العافية.
فقالت الملائكة: يا لقمان لم؟ قال: لأن الحكم بين الناس بأشد المنازل وأكثر فتناً وبلاء يخذل ولا يعان ويغشاه الظلم من كل مكان وصاحبه فيه بين أمرين إن أصاب فيه الحق فبالحري أن يسلم وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة، ومن يكن في الدنيا ذليلاً ضعيفاً كان أهون عليه في المعاد من أن يكون حكماً سرياً شريفاً، ومن اختار الدنيا على الآخرة يخسرهما كلتيهما تزول هذه ولا تدرك تلك.
قال: فتعجب الملائكة من حكمته واستحسن الرحمن منطقه فلما أمسى وأخذ مضجعه من الليل أنزل الله عليه الحكمة فغشَّاه بها من قرنه إلى قدمه وهو نائم وغطَّاه بالحكمة غطاء فاستيقظ وهو أحكم الناس في زمانه، وخرج على الناس ينطق بالحكمة ويبثَّها فيها.
قال: فلما أُوتي الحكم بالخلافة ولم يقبلها أمر الله عزّ وجلّ الملائكة فنادت داود بالخلافة فقبلها ولم يشترط فيها بشرط لقمان فأعطاه الله عزّ وجلّ الخلافة في الأرض وابتلي بها غير مرة كل ذلك يهوي في الخطأ يقيله الله ويغفر له، وكان لقمان يكثر زيارة داود عليه السلام ويعظه بمواعظه وحكمته وفضل علمه، وكان داود يقول له: طوبى لك يا لقمان أُوتيت الحكمة وصرفت عنك البليَّة وأُعطي داود الخلافة وابتلي بالحكم والفتنة.
ثم قال أبو عبد الله عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ: { وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بنيَّ لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم } قال: فوعظ لقمان ابنه باثار حتى تفطَّر وانشق.
وكان فيما وعظه به يا حماد أن قال: يا بنيّ إنك منذ سقطت إلى الدنيا استدبرتها واستقبلت الآخرة فدارٌ أنت إليها تسير أقرب إليك من دار أنت عنها متباعد. يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك ولا تجادلهم فيمنعوك، وخذ من الدنيا بلاغاً ولا ترفضها فتكون عيالاً على الناس، ولا تدخل فيها دخولاً يضر بآخرتك، وصم صوماً يقطع شهوتك ولا تصم صياماً يمنعك من الصلاة فإن الصلاة أحب إلى الله من الصيام.
يا بني: إن الدنيا بحر عميق قد هلك فيها عالم كثير فاجعل سفينتك فيها الإِيمان واجعل شراعها التوكل، واجعل زادك فيها تقوى الله فإن نجوت فبرحمة الله وإن هلكت فبذنوبك.
يا بني: إن تأدبت صغيراً انتفعت به كبيراً ومن عنى بالأدب أهتم به، ومن اهتم به تكلف علمه ومن تكلف علمه اشتد له طلبه ومن اشتد له طلبه أدرك منفعته فاتخذه عادة فإنك تخلف في سلفك وينتفع به من خلفك ويرتجيك فيه راغب ويخشى صولتك راهب، وإياك والكسل عنه بالطلب لغيره فإن غُلبت على الدنيا فلا تغلبن على الآخرة وإذا فاتك طلب العلم في مظانه فقد غلبت على الآخرة واجعل في أيامك ولياليك وساعاتك نصيباً في طلب العلم فإنك لن تجد له تضييعاً أشد من تركه ولا تمارينّ فيه لجوجاً ولا تجادلنَّ فقيهاً ولا تعادين سلطاناً، ولا تماشين ظلوماً ولا تصادقنه ولا تؤاخين فاسقاً ولا تصاحبن متَّهماً واخزن علمك كما تخزن ورقك.
يا بنيَّ: خف الله عزّ وجلّ خوفاً لو أتيت القيامة ببر الثقلين خفت أن يعذبك وارج الله رجاء لو وافيت القيامة بإثم الثقلين رجوت أن يغفر الله لك.
فقال له ابنه: يا أبت كيف أُطيق هذا وإنما لي قلب واحد؟ فقال له لقمان: يا بني: لو استخرج قلب المؤمن يوجد فيه نوران نور للخوف ونور للرجاء لو وزنا لما رجح أحدهما على الآخر بمثقال ذرة فمن يؤمن بالله يصدق ما قال الله عزّ وجلّ ومن يصدق ما قال الله يفعل ما أمر الله، ومن لم يفعل ما أمر الله لم يصدق ما قال الله فإن هذه الأخلاق يشهد بعضها لبعض.
فمن يؤمن بالله إيماناً صادقاً يعمل لله خالصاً ناصحاً ومن يعمل لله خالصاً ناصحاً فقد آمن بالله صادقاً ومن أطاع الله خافه، ومن خافه فقد أحبه، ومن أحبه فقد اتَّبع أمره ومن اتبع أمره استوجب جنته ومرضاته، ومن لم يتّبع رضوان الله فقد هان عليه سخطه نعوذ بالله من سخط الله.
يا بني: لا تركن إلى الدنيا ولا تشغل قلبك بها فما خلق الله خلقاً هو أهون عليه منها الا أنه لم يجعل نعيمها ثواب المطيعين ولم يجعل بلاءها عقوبة للعاصين.
وفي قرب الأسناد: هارون عن ابن صدقة عن جعفر عن أبيه عليه السلام قيل للقمان: ما الذي أجمعت عليه من حكمتك؟ قال: لا أتكلف ما قد كفيته ولا أُضيع ما وليته.
وفي البحار عن قصص الأنبياء بإسناده عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان فيما وعظ به لقمان ابنه أن قال: يا بنيّ: إن تك في شك من الموت فارفع عن نفسك النوم ولن تستطيع ذلك وإن كنت في شك من البعث فارفع عن نفسك الانتباه ولن تستطيع ذلك فإنك إذا فكرت في هذا علمت أن نفسك بيد غيرك وإنما النوم بمنزلة الموت وإنما اليقظة بعد النوم بمنزلة البعث بعد الموت، وقال: قال لقمان لابنه: يا بنيّ لا تقترب فيكون أبعد لك ولا تبعد فتهان، كل دابة تحب مثلها وابن آدم لا يحب مثله. لا تنشر بزّك إلا عند باغيه، وكما ليس بين الكبش والذئب خلّة كذلك ليس بين البارّ والفاجر خلة، من يقترب من الزفت تعلّق به بعضه كذلك من يشارك الفاجر يتعلم من طرفه، من يحب المراء يشتم، ومن يدخل مدخل السوء يتهم، ومن يقارن قرين السوء لا يسلم، ومن لا يملك لسانه يندم.
وقال: يا بني صاحب مائة ولا تعاد واحداً، يا بني إنما هو خلاقك وخلقك فخلاقك دينك وخلقك بينك وبين الناس فلا تبغضن إليهم وتعلّم محاسن الأخلاق.
يا بني كن عبداً للأخيار ولا تكن ولداً للأشرار. يا بني أدّ الأمانة تسلم دنياك وآخرتك وكن أميناً فإن الله لا يحب الخائنين. يا بني لا تُرِ الناس أنك تخشى الله وقلبك فاجر.
وفي الكافي بإسناده عن يحيى بن عقبة الأزدي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان فيما وعظ به لقمان لابنه يا بني إن الناس قد جمعوا قبلك لأولادهم فلم يبق ما جمعوا ولم يبق من جمعوا له، وإنما أنت عبد مستأجر قد أُمرت بعمل ووعدت عليه أجراً فأوف عملك واستوف أجرك، ولا تكن في هذه الدنيا بمنزلة شاة وقعت في زرع أخضر فأكلت حتى سمنت فكان حتفها عند سمنها، ولكن اجعل الدنيا بمنزلة قنطرة على نهر جزت عليها فتركتها ولم ترجع إليها آخر الدهر اخربها ولا تعمرها فإنك لم تؤمر بعمارتها.
واعلم أنك ستسأل غداً إذا وقفت بين يدي الله عز وجل عن أربع: شبابك فيما أبليته، وعمرك فيما أفنيته، ومالك مما اكتسبته وفيما أنفقته، فتأهب لذلك وأعدّ له جواباً ولا تأس على ما فاتك من الدنيا فإن قليل الدنيا لا يدوم بقاؤه وكثيرها لا يؤمن بلاؤه فخذ حذرك، وجدَّ في أمرك، واكشف الغطاء عن وجهك، وتعرّض لمعروف ربك، وجدِّد التوبة في قلبك، واكمش في فراقك قبل أن يقصد قصدك، ويقضى قضاؤك، ويحال بينك وبين ما تريد.
وفي البحار عن القصص بإسناده عن حماد عن الصادق عليه السلام قال: قال لقمان: يا بني إياك والضجر وسوء الخلق وقلة الصبر فلا يستقيم على هذه الخصال صاحب، والزم نفسك التؤدة في أُمورك وصبِّر على مؤنات الإِخوان نفسك، وحسّن مع جميع الناس خلقك.
يا بني إن عدمك ما تصل به قرابتك وتتفضل به على إخوانك فلا يعدمنك حسن الخلق وبسط البشر فإن من أحسن خلقه أحبه الأخيار وجانبه الفجار، واقنع بقسم الله ليصفو عيشك فإن أردت أن تجمع عزّ الدنيا فاقطع طمعك مما في أيدي الناس فإنما بلغ الأنبياء والصديقون ما بلغوا بقطع طمعهم.
أقول: والأخبار في مواعظه كثيرة اكتفينا منها بما أوردناه إيثاراً للاختصار.