التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ ٱلأَوَّلِينَ
٧١
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ
٧٢
فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُنذَرِينَ
٧٣
إِلاَّ عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلْمُخْلَصِينَ
٧٤
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ ٱلْمُجِيبُونَ
٧٥
وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ ٱلْكَرْبِ ٱلْعَظِيمِ
٧٦
وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ ٱلْبَاقِينَ
٧٧
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي ٱلآخِرِينَ
٧٨
سَلاَمٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي ٱلْعَالَمِينَ
٧٩
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ
٨٠
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُؤْمِنِينَ
٨١
ثُمَّ أَغْرَقْنَا ٱلآخَرِينَ
٨٢
وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ
٨٣
إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ
٨٤
إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ
٨٥
أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ ٱللَّهِ تُرِيدُونَ
٨٦
فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٨٧
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي ٱلنُّجُومِ
٨٨
فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ
٨٩
فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ
٩٠
فَرَاغَ إِلَىٰ آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ
٩١
مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ
٩٢
فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِٱلْيَمِينِ
٩٣
فَأَقْبَلُوۤاْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ
٩٤
قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ
٩٥
وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ
٩٦
قَالُواْ ٱبْنُواْ لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي ٱلْجَحِيمِ
٩٧
فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ ٱلأَسْفَلِينَ
٩٨
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ
٩٩
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ ٱلصَّالِحِينَ
١٠٠
فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ
١٠١
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْيَ قَالَ يٰبُنَيَّ إِنِّيۤ أَرَىٰ فِي ٱلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يٰأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّابِرِينَ
١٠٢
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ
١٠٣
وَنَادَيْنَاهُ أَن يٰإِبْرَاهِيمُ
١٠٤
قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ
١٠٥
إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْبَلاَءُ ٱلْمُبِينُ
١٠٦
وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ
١٠٧
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي ٱلآخِرِينَ
١٠٨
سَلاَمٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ
١٠٩
كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ
١١٠
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُؤْمِنِينَ
١١١
وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ
١١٢
وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ
١١٣
-الصافات

الميزان في تفسير القرآن

{ بيان }
تعقيب لغرض السياق السابق المتعرض لشركهم وتكذيبهم بآيات الله وتهديدهم بأليم العذاب يقول: إن أكثر الأولين ضلوا كضلالهم وكذبوا الرسل المنذرين كتكذيبهم ويستشهد بقصص نوح وإبراهيم وموسى وهارون وإلياس ولوط ويونس عليهم السلام وما في الآيات المنقولة إشارة إلى قصة نوح وخلاصة قصص إبراهيم عليه السلام.
قوله تعالى: { ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين } إلى قوله { المخلصين } كلام مسوق لإِنذار مشركي هذه الأُمة بتنظيرهم للأُمم الهالكين من قبلهم فقد ضل أكثرهم كما ضل هؤلاء وأرسل إليهم رسل منذرون كما أرسل منذر إلى هؤلاء فكذبوا فكان عاقبة أمرهم الهلاك إلا المخلصين منهم.
واللام في { لقد ضل } للقسم وكذا في { لقد أرسلنا } والمنذرين الأول بكسر الذال المعجمة وهم الرسل والثاني بفتح الذال المعجمة وهم الأمم الأولون، و { إلا عباد الله } إن كان المراد بهم من في الأمم من المخلصين كان استثناء متصلاً وإن عم الأنبياء كان منقطعاً إلا بتغليبه غير الأنبياء عليهم والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: { ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون } اللامان للقسم وهو يدل على كمال العناية بنداء نوح وإجابته تعالى، وقد مدح تعالى نفسه في إجابته فإن التقدير فلنعم المجيبون نحن، وجمع المجيب لإِفادة التعظيم وقد كان نداء نوح - على ما يفيده السياق - دعاءه على قومه واستغاثته بربه المنقولين في قوله تعالى:
{ { وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً } [نوح: 26]، وفي قوله تعالى: { { فدعا ربه أني مغلوب فانتصر } [القمر: 10]. قوله تعالى: { ونجيناه وأهله من الكرب العظيم } الكرب - على ما ذكره الراغب - الغم الشديد والمراد به الطوفان أو أذى قومه، والمراد بأهله أهل بيته والمؤمنون به من قومه وقد قال تعالى في سورة هود: { { قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن } [هود: 40] والأهل كما يطلق على زوج الرجل وبنيه يطلق على كل من هو من خاصته.
قوله تعالى: { وجعلنا ذريته هم الباقين } أي الباقين من الناس بعد قرنهم وقد بحثنا في هذا المعنى في قصة نوح من سورة هود.
قوله تعالى: { وتركنا عليه في الآخرين } المراد بالترك الإِبقاء وبالآخرين الأمم الغابرة غير الأولين، وقد ذكرت هذه الجملة بعد ذكر إبراهيم عليه السلام أيضاً في هذه السورة وقد بدلت في القصة بعينها من سورة الشعراء من قوله:
{ { واجعل لي لسان صدق في الآخرين } [الشعراء: 84] واستفدنا منه هناك أن المراد بلسان صدق كذلك أن يبعث الله بعده من يقوم بدعوته ويدعو إلى ملته وهي دين التوحيد.
فيتأيد بذلك أن المراد بالإِبقاء في الآخرين هو إحياؤه تعالى دعوة نوح عليه السلام إلى التوحيد ومجاهدته في سبيل الله عصراً بعد عصر وجيلاً بعد جيل إلى يوم القيامة.
قوله تعالى: { سلام على نوح في العالمين } المراد بالعالمين جميعها لكونه جمعاً محلى باللام مفيداً للعموم، والظاهر أن المراد به عالموا البشر وأممهم وجماعاتهم إلى يوم القيامة فإنه تحية من عند الله مباركة طيبة تهدى إليه من قبل الأمم الإِنسانية ما جرى فيها شيء من الخيرات اعتقاداً أو عملاً فإنه عليه السلام أول من انتهض لدعوة التوحيد ودحض الشرك وما يتبعه من العمل وقاسى في ذلك أشد المحنة فيما يقرب من ألف سنة لا يشاركه في ذلك أحد فله نصيب من كل خير واقع بينهم إلى يوم القيامة، ولا يوجد في كلامه تعالى سلام على هذه السعة على أحد ممن دونه.
وقيل: المراد بالعالمين عوالم الملائكة والثقلين من الجن والإِنس.
قوله تعالى: { إنا كذلك نجزي المحسنين } تعليل لما امتن عليه من الكرامة كإجابة ندائه وتنجيته وأهله من الكرب العظيم وإبقاء ذريته وتركه عليه في الآخرين والسلام عليه في العالمين، وتشبيه جزائه بجزاء عموم المحسنين من حيث أصل الجزاء الحسن لا في خصوصياته فلا يوجب ذلك اشتراك الجميع فيما اختص به عليه السلام وهو ظاهر.
قوله تعالى: { إنه من عبادنا المؤمنين } تعليل لإِحسانه المدلول عليه بالجملة السابقة وذلك لأنه عليه السلام لكونه عبداً لله بحقيقة معنى الكلمة كان لا يريد ولا يفعل إلا ما يريده الله، ولكونه من المؤمنين حقاً كان لا يرى من الاعتقاد إلا الحق وسرى ذلك إلى جميع أركان وجوده ومن كان كذلك لا يصدر منه إلا الحسن الجميل فكان من المحسنين.
قوله تعالى: { ثم أغرقنا الآخرين } ثم للتراخي الكلامي دون الزماني والمراد بالآخرين قومه المشركون.
قوله تعالى: { وإن من شيعته لإِبراهيم } الشيعة هم القوم المشايعون لغيرهم الذاهبون على أثرهم وبالجملة كل من وافق غيره في طريقته فهو من شيعته تقدم أو تأخر قال تعالى:
{ { وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل } [سبأ: 54]. وظاهر السياق أن ضمير { شيعته } لنوح أي إن إبراهيم كان ممن يوافقه في دينه وهو دين التوحيد، وقيل: الضمير لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا دليل عليه من جهة اللفظ.
قيل: ومن حسن الإِرداف في نظم الآيات تعقيب قصة نوح عليه السلام وهو آدم الثاني أبو البشر بقصة إبراهيم عليه السلام وهو أبو الأنبياء إليه تنتهي أنساب جل الأنبياء بعده وعلى دينه تعتمد أديان التوحيد الحية اليوم كدين موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأيضاً نوح عليه السلام نجاه الله من الغرق وإبراهيم عليه السلام نجاه الله من الحرق.
قوله تعالى: { إذ جاء ربه بقلب سليم } مجيئه ربه كناية عن تصديقه له وإِيمانه به، ويؤيد ذلك أن المراد بسلامة القلب عروّه عن كل ما يضر التصديق والإِيمان بالله سبحانه من الشرك الجلي والخفي ومساوي الأخلاق وآثار المعاصي وأي تعلق بغيره ينجذب إليه ويختل به صفاء توجهه إليه سبحانه.
وبذلك يظهر أن المراد بالقلب السليم ما لا تعلق له بغيره تعالى كما في الحديث وسيجيء إن شاء الله في البحث الروائي الآتي.
وقيل: المراد به السالم من الشرك، ويمكن أن يوجه بما يرجع إلى الأول وقيل: المراد به القلب الحزين، وهو كما ترى.
والظرف في الآية متعلق بقوله سابقاً { من شيعته } والظروف يغتفر فيها ما لا يغتفر في غيرها، وقيل متعلق باذكر المقدر.
قوله تعالى: { إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون } أي أيّ شيء تعبدون؟ وانما سألهم عن معبودهم وهو يرى أنهم يعبدون الأصنام تعجباً واستغراباً.
قوله تعالى: { أئِفكاً آلهة دون الله تريدون } أي تقصدون آلهة دون الله افكا وافتراء، انما قدم الإِفك والآلهة لتعلق عنايته بذلك.
قوله تعالى: { فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم } لا شك أن ظاهر الآيتين أن إخباره عليه السلام بأنه سقيم مرتبط بنظرته في النجوم ومبني عليه ونظرته في النجوم إما لتشخيص الساعة وخصوص الوقت كمن به حمى ذات نوبة يعين وقتها بطلوع كوكب أو غروبها أو وضع خاص من النجوم وإما للوقوف على الحوادث المستقبلة التي كان المنجمون يرون أن الأوضاع الفلكية تدل عليها، وقد كان الصابئون مبالغين فيها وكان في عهده عليه السلام منهم جم غفير.
فعلى الوجه الأول لما أراد أهل المدينة أن يخرجوا كافة إلى عيد لهم نظر إلى النجوم وأخبرهم أنه سقيم ستعتريه العلة فلا يقدر على الخروج معهم.
وعلى الوجه الثاني نظر عليه السلام حينذاك إلى النجوم نظرة المنجمين فأخبرهم أنها تدل على أنه سيسقم فليس في وسعه الخروج معهم.
وأول الوجهين أنسب لحاله عليه السلام وهو في إخلاص التوحيد بحيث لا يرى لغيره تعالى تأثيراً، ولا دليل لنا قوياً يدل على أنه عليه السلام لم يكن به في تلك الأيام سقم أصلاً، وقد أخبر القرآن بإخباره بأنه سقيم وذكر قبيل ذلك أنه جاء ربه بقلب سليم فلا يجوز عليه كذب ولا لغو من القول.
ولهم في الآيتين وجوه أُخر أوجهها أن نظرته في النجوم وإخباره بالسقم من المعاريض في الكلام والمعاريض أن يقول الرجل شيئاً يقصد به غيره ويفهم منه غير ما يقصده فلعله نظر عليه السلام في النجوم نظر الموحد في صنعه تعالى يستدل به عليه تعالى وعلى وحدانيته وهم يحسبون أنه ينظر إليها نظر المنجم فيها ليستدل بها على الحوادث ثم قال: إني سقيم يريد أنه سيعتريه سقم فإن الإِنسان لا يخلو في حياته من سقم مّا ومرض مّا كما قال:
{ { وإذا مرضت فهو يشفين } [الشعراء: 80] وهم يحسبون أنه يخبر عن سقمه يوم يخرجون فيه لعيد لهم، والمرجح عنده لجميع ذلك ما كان يهتم به من الرواغ إلى أصنامهم وكسرها.
لكن هذا الوجه مبني على أنه كان صحيحاً غير سقيم يومئذ، وقد سمعت أن لا دليل يدل عليه.
على أن المعاريض غير جائزة على الأنبياء لارتفاع الوثوق بذلك عن قولهم.
قوله تعالى: { فتولوا عنه مدبرين } ضمير الجمع للقوم وضمير الإِفراد لإِبراهيم عليه السلام أي خرجوا من المدينة وخلفوه.
قوله تعالى: { فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون ما لكم لا تنطقون } الروغ والرواغ والروغان الحياد والميل، وقيل أصله الميل في جانب ليخدع من يريده.
وفي قوله: { ألا تأكلون }؟ تأييد لما ذكروا أن المشركين كانوا يضعون أيام أعيادهم طعاماً عند آلهتهم.
وقوله: { ألا تأكلون }؟ { ما لكم لا تنطقون }؟ تكليم منه لآلهتهم وهي جماد وهو يعلم أنها جماد لا تأكل ولا تنطق لكن الوجد وشدة الغيظ حمله على أن يمثل موقفها موقف العقلاء ثم يؤاخذها مؤاخذة العقلاء كما يفعل بالمجرمين.
فنظر إليها وهي ذوات أبدان كهيئة من يتغذى ويأكل وعندها شيء من الطعام فامتلأ غيظاً وجاش وجداً فقال: ألا تأكلون؟ فلم يسمع منها جواباً فقال: { ما لكم لا تنطقون }؟ وأنتم آلهة يزعم عبادكم أنكم عقلاء قادرون مدبرون لامورهم فلما لم يسمع لها حساً راغ عليها ضرباً باليمين.
قوله تعالى: { فراغ عليهم ضرباً باليمين } أي تفرع على ذاك الخطاب أن مال على آلهتهم يضربهم ضرباً باليد اليمنى أو بقوة بناء على كون المراد باليمين القوة.
وقول بعضهم: إن المراد باليمين القسم والمعنى مال عليهم ضرباً بسبب القسم الذي سبق منه وهو قوله:
{ { وتالله لأكيدن أصنامكم } [الأنبياء: 57] بعيد.
قوله تعالى: { فأقبلوا إليه يزفون } الزف والزفيف الإِسراع في المشي أي فجاءوا إلى إبراهيم والحال أنهم يسرعون اهتماماً بالحادثة التي يظنون أنه الذي أحدثها.
وفي الكلام إيجاز وحذف من خبر رجوعهم إلى المدينة ووقوفهم على ما فعل بالأصنام وتحقيقهم الأمر وظنهم به عليه السلام مذكور في سورة الأنبياء.
قوله تعالى: { قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعبدون } فيه إيجاز وحذف من حديث القبض عليه والإِتيان به على أعين الناس ومسألته وغيرها.
والاستفهام للتوبيخ وفيه مع ذلك احتجاج على بطلان طريقتهم فهو يقول: لا يصلح ما نحته الإِنسان بيده أن يكون رباً للإِنسان معبوداً له والله سبحانه خلق الإِنسان وما يعمله والخلق لا ينفك عن التدبير فهو رب الإِنسان ومن السفه أن يترك هذا ويعبد ذاك.
وقد بان بذلك أن الأظهر كون ما في قوله: { ما تنحتون } موصولة والتقدير ما تنحتونه، وكذا في قوله: { وما تعملون } وجوز بعضهم كون { ما } فيها مصدرية وهو في أولهما بعيد جداً.
ولا ضير في نسبة الخلق إلى ما عمله الإِنسان أو إلى عمله لأن ما يريده الإِنسان ويعمله من طريق اختياره مراد الله سبحانه من طريق إرادة الإِنسان واختياره ولا يوجب هذا النوع من تعلق الإِرادة بالفعل بطلان تأثير إرادة الإِنسان وخروج الفعل عن الاختيار وصيرورته مجبراً عليه، وهو ظاهر.
ولو كان المراد نسبة خلق أعمالهم إلى الله سبحانه بلا واسطة ولا من طريق إرادتهم بل بتعلق إرادته بنفس عملهم وأفاد الجبر لكان القول أقرب إلى أن يكون عذراً لهم من أن يكون توبيخاً وتقبيحاً، وكانت الحجة لهم لا عليهم.
قوله تعالى: { قالوا ابنوا له بنياناً فألقوه في الجحيم } البنيان مصدر بنى يبني والمراد به المبنى، والجحيم النار في شدة تأججها.
قوله تعالى: { فأرادوا به كيداً فجعلناهم الأسفلين } الكيد الحيلة والمراد احتيالهم إلى إهلاكه وإحراقه بالنار.
وقوله: { فجعلناهم الأسفلين } كناية عن جعل إبراهيم فوقهم لا يؤثر فيه كيدهم شيئاً إذ قال سبحانه:
{ { يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم } [الأنبياء: 69]. وقد اختتم بهذا فصل من قصص إبراهيم عليه السلام وهو انتهاضه أولاً على عبادة الأوثان واختصامه لعبادها وانتهاء أمره إلى إلقائه النار وإبطاله تعالى كيدهم.
قوله تعالى: { وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين } فصل آخر من قصصه عليه السلام يذكر عزمه على المهاجرة من بين قومه واستيهابه من الله ولداً صالحاً وإجابته إلى ذلك وقصة ذبحه ونزول الفداء.
فقوله: { وقال إني ذاهب إلى ربي } الخ كالإِنجاز لما وعدهم به مخاطباً لآزر:
{ { واعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقياً } [مريم: 48] ومنه يعلم أن مراده بالذهاب إلى ربه الذهاب إلى مكان يتجرد فيه لعبادته تعالى ودعائه وهو الأرض المقدسة.
وقول بعضهم: إن المراد أذهب إلى حيث أمرني ربي لا شاهد عليه.
وكذا قول بعضهم: إن المراد إني ذاهب إلى لقاء ربي حيث يلقونني في النار فأموت وألقى ربي سيهديني إلى الجنة.
وفيه - كما قيل - أن ذيل الآية لا يناسبه وهو قوله: { رب هب لي من الصالحين } وكذا قوله بعده: { فبشرناه بغلام حليم }.
قوله تعالى: { رب هب لي من الصالحين } حكاية دعاء إبراهيم عليه السلام ومسألته الولد أي قال: رب هب لي الخ وقد قيده بكونه من الصالحين.
قوله تعالى: { فبشرناه بغلام حليم } أي فبشرناه أنا سنرزقه غلاماً حليماً وفيه إشارة إلى أنه يكون ذكراً ويبلغ حد الغلمان، وأخذ الغلومة في وصفه مع أنه بلغ مبلغ الرجال للإِشارة إلى حاله التي يظهر فيها صفة كماله وصفاء ذاته وهو حلمه الذي مكنه من الصبر في ذات الله إذ قال: { يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين }.
ولم يوصف في القرآن من الأنبياء بالحلم إلا هذا النبي الكريم في هذه الآية وأبوه في قوله تعالى:
{ { إن إبراهيم لحليم أواه منيب } [هود: 75]. قوله تعالى: { فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى } الخ الفاء في أول الآية فصيحة تدل على محذوف والتقدير فلما ولد له ونشأ وبلغ معه السعي، والمراد ببلوغ السعي بلوغه من العمر مبلغاً يسعى فيه لحوائج الحياة عادة وهو سن الرهاق، والمعنى فلما راهق الغلام قال له يا بني الخ.
وقوله: { قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك } هي رؤيا إبراهيم ذبح إبنه، وقوله: { إني أرى } يدل على تكرر هذه الرؤيا له كما في قوله:
{ { وقال الملك إني أرى } [يوسف: 43] الخ.
وقوله: { فانظر ماذا ترى } هو من الرأي بمعنى الاعتقاد أي فتفكر فيما قلت وعين ما هو رأيك فيه، وهذه الجملة دليل على أن إبراهيم عليه السلام فهم من منامه أنه أمر له بالذبح مثّل له في مثال نتيجة الأمر ولذا طلب من ابنه الرأي فيه وهو يختبره بماذا يجيبه؟.
وقوله: { قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين } جواب ابنه، وقوله: { يا أبت افعل ما تؤمر } إظهار رضى بالذبح في صورة الأمر وقد قال: افعل ما تؤمر ولم يقل: اذبحني إشارة إلى أن أباه مأمور بأمر ليس له إلا ائتماره وطاعته.
وقوله: { ستجدني إن شاء الله من الصابرين } تطييب منه لنفس أبيه أنه لا يجزع منه ولا يأتي بما يهيج وجد الوالد عن ولده المزمل بدمائه، وقد زاد في كلامه صفاء على صفاء إذ قيد وعده بالصبر بقوله: { إن شاء الله } فأشار إلى أن اتصافه بهذه الصفة الكريمة أعني الصبر ليس له من نفسه ولا أن زمامه بيده بل هو من مواهب الله ومننه إن يشأ تلبس به وله أن لا يشاء فينزعه منه.
قوله تعالى: { فلما أسلما وتله للجبين } الإِسلام الرضا والاستسلام: والتل الصرع والجبين أحد جانبي الجبهة واللام في { للجبين } لبيان ما وقع عليه الصراع كقوله:
{ { يخرون للأذقان سجداً } [الإسراء: 107]، والمعنى فلما استسلما إبراهيم وابنه لأمر الله ورضيا به وصرعه إبراهيم على جبينه.
وجواب لما محذوف إيماء إلى شدة المصيبة ومرارة الواقعة.
قوله تعالى: { وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا } معطوف على جواب لما المحذوف، وقوله: { قد صدقت الرؤيا } أي أوردتها مورد الصدق وجعلتها صادقة وامتثلت الأمر الذي أمرناك فيها أي إن الأمر فيها كان امتحانياً يكفي في أمتثاله تهيؤ المأمور للفعل وإشرافه عليه فحسب.
قوله تعالى: { إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين } الإِشارة بكذلك إلى قصة الذبح بما أنها محنة شاقة وابتلاء شديد والإِشارة بهذا إليها أيضاً وهو تعليل لشدة الأمر.
والمعنى: إنا على هذه الوتيرة نجزي المحسنين فنمتحنهم امتحانات شاقة صورة هينة معنى فإذا أتموا الابتلاء جزيناهم أحسن الجزاء في الدنيا والآخرة، وذلك لأن الذي ابتلينا به إبراهيم لهو البلاء المبين.
قوله تعالى: { وفديناه بذبح عظيم } أي وفدينا ابنه بذبح عظيم وكان كبشاً أتى به جبريل من عند الله سبحانه فداء على ما في الأخبار، والمراد بعظمة الذبح عظمة شأنه بكونه من عند الله سبحانه وهو الذي فدى به الذبيح.
قوله تعالى: { وتركنا عليه في الآخرين } تقدم الكلام فيه.
قوله تعالى: { سلام على إبراهيم } تحية منه تعالى عليه، وفي تنكير سلام تفخيم له.
قوله تعالى: { كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين } تقدم تفسير الآيتين.
قوله تعالى: { وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين } الضمير لإِبراهيم عليه السلام.
واعلم أن هذه الآية المتضمنة للبشرى بإسحاق بوقوعها بعد البشرى السابقة بقوله: { فبشرناه بغلام حليم } المتعقبة بقوله: { فلما بلغ معه السعي } إلى آخر القصة ظاهرة كالصريحة أو هي صريحة في أن الذبيح غير إسحاق وهو إسماعيل عليهما السلام وقد فصلنا القول في ذلك في قصص إبراهيم عليه السلام من سورة الأنعام.
قوله تعالى: { وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين } المباركة على شيء جعل الخير والنماء والثبات فيه أي وجعلنا فيما أعطينا إبراهيم وإسحاق الخير الثابت والنماء.
ويمكن أن يكون قوله: { ومن ذريتهما } الخ قرينة على أن المراد بقوله: { باركنا } إعطاء البركة والكثرة في أولاده وأولاد إسحاق، والباقي ظاهر.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في قوله تعالى: { بقلب سليم } قال: القلب السليم الذي يلقى الله عز وجل وليس فيه أحد سواه.
وفيه قال: القلب السليم من الشك.
وفي روضة الكافي بإسناده عن حجر عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أبو جعفر عليه السلام: عاب آلهتهم فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم. قال أبو جعفر عليه السلام: والله ما كان سقيماً وما كذب.
أقول: وفي معناه روايات أُخر وفي بعضها: ما كان إبراهيم سقيماً وما كذب إنما عنى سقيماً في دينه مرتاداً.
وقد تقدم الروايات في قصة حجاج إبراهيم عليه السلام قومه وكسره الأصنام وإلقائه في النار في تفسير سور الأنعام ومريم والأنبياء والشعراء.
وفي التوحيد عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث وقد سأله رجل عما اشتبه عليه من الآيات قال: وقد أعلمتك أن رب شيء من كتاب الله عز وجل تأويله غير تنزيله ولا يشبه كلام البشر وسأنبئك بطرف منه فتكتفي إن شاء الله.
من ذلك قول إبراهيم عليه السلام: { إني ذاهب إلى ربي سيهدين } فذهابه إلى ربه توجهه إليه عبادة واجتهاداً وقربه إلى الله عز وجل ألا ترى أن تأويله غير تنزيله؟.
وفيه بإسناده عن الفتح بن يزيد الجرجاني عن أبي الحسن عليه السلام قال: يا فتح إن لله إرادتين ومشيئتين: إرادة حتم، وإرادة عزم ينهى وهو يشاء ذلك ويأمر وهو لا يشاء أو ما رأيت أنه نهى آدم وزوجته عن أن يأكلا من الشجرة وهو يشاء ذلك؟ ولو لم يشأ لم يأكلا، ولو أكلا لغلبت شهوتهما مشيئة الله تعالى، وأمر إبراهيم بذبح ابنه إسماعيل عليهما السلام وشاء أن لا يذبحه ولو لم يشأ أن لا يذبحه لغلبت مشيئة إبراهيم مشيئة الله عز وجل. قلت: فرجت عني فرج الله عنك.
وعن أمالي الشيخ بإسناده إلى سليمان بن يزيد قال: حدثنا علي بن موسى قال: حدثني أبي عن أبيه عن أبي جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال: الذبيح إسماعيل عليه السلام.
أقول: وروى مثله في المجمع عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام، وبهذا المضمون روايات كثيرة أُخرى عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، وقد وقع في بعض رواياتهم أنه إسحاق وهو مطروح لمخالفة الكتاب.
وعن الفقيه سئل الصادق عليه السلام عن الذبيح من كان؟ فقال إسماعيل لأن الله تعالى ذكر قصته في كتابه ثم قال: { وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين }.
أقول: هذا ما تقدم في بيان الآية أن الآية بسياقها ظاهرة بل صريحة في ذلك.
وفي المجمع عن ابن إسحاق أن إبراهيم كان إذا زار إسماعيل وهاجر حمل على البراق فيغدو من الشام فيقيل بمكة ويروح من مكة فيبيت عند أهله بالشام حتى إذا بلغ معه السعي رأى في المنام أن يذبحه فقال له: يا بني خذ الحبل والمدية ثم انطلق بنا إلى هذا الشعب لنحتطب.
فلما خلا إبراهيم بابنه في شعب ثبير أخبره بما قد ذكره الله عنه فقال: يا أبت أشدد رباطي حتى لا اضطرب واكفف عني ثيابك حتى لا ينتضح من دمي شيئاً فتراه أمي واشحذ شفرتك وأسرع مر السكين على حلقي ليكون أهون علي فإن الموت شديد فقال له إبراهيم: نعم العون أنت يا بني على أمر الله.
ثم ساق القصة وفيها ثم انحنى إليه بالمدية وقلب جبرائيل المدية على قفاها واجتر الكبش من قبل ثبير واجتر الغلام من تحته ووضع الكبش مكان الغلام، ونودي من ميسرة مسجد الخيف: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا.
أقول: والروايات في القصة كثيرة ولا تخلو من اختلاف.
وفيه: روى العياشي بإسناده عن بريد بن معاوية العجلي قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: كم كان بين بشارة إبراهيم بإسماعيل وبين بشارته بإسحاق عليه السلام؟ قال: كان بين البشارتين خمس سنين قال الله سبحانه فبشرناه بغلام حليم يعني إسماعيل وهي أول بشارة بشر الله به إبراهيم عليه السلام في الولد.