التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي ٱلأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِـيجُ فَـتَرَاهُ مُصْفَـرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ
٢١
أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٢٢
ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ ذَلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ
٢٣
أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ
٢٤
كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ ٱلْعَـذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ
٢٥
فَأَذَاقَهُمُ ٱللَّهُ ٱلْخِزْيَ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
٢٦
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
٢٧
قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
٢٨
ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ٱلْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
٢٩
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ
٣٠
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ
٣١
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى ٱللَّهِ وَكَذَّبَ بِٱلصِّدْقِ إِذْ جَآءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ
٣٢
وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ
٣٣
لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَآءُ ٱلْمُحْسِنِينَ
٣٤
لِيُكَـفِّرَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ٱلَّذِي كَـانُواْ يَعْمَلُونَ
٣٥
أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْـلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَـادٍ
٣٦
وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي ٱنتِقَامٍ
٣٧
-الزمر

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
عود إلى بدء من الاحتجاج على ربوبيته تعالى والقول في اهتداء المهتدين وضلال الضالين والمقايسة بين الفريقين وما ينتهي إليه عاقبة أمر كل منهما، وفيها معنى هداية القرآن.
قوله تعالى: { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض } إلى آخر الآية، قال في المجمع: الينابيع جمع ينبوع وهو الذي ينبع منه الماء يقال نبع الماء من موضع كذا إذا فار منه، والزرع ما ينبت على غير ساق والشجر ما له ساق وأغصان النبات يعم الجميع، وهاج النبت يهيج هيجاً إذا جف وبلغ نهايته في اليبوسة، والحطام فتات التبن والحشيش. انتهى.
وقوله: { فسلكه ينابيع في الأرض } أي فأدخله في عيون ومجاري في الأرض هي كالعروق في الأبدان تنقل ما تحمله من جانب إلى جانب، والباقي ظاهر والآية - كما ترى - تحتج على توحده تعالى في الربوبية.
قوله تعالى: { أفمن شرح الله صدره للإِسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله } الخ لما ذكر في الآية السابقة أن فيما ذكره من إنزال الماء وإنبات النبات ذكرى لأولي الألباب وهم عباده المتقون وقد ذكر قبل أنهم الذين هداهم الله ذكر في هذه الآية أنهم ليسوا كغيرهم من الضالين وأوضح السبب في ذلك وهو أنهم على نور من ربهم يبصرون به الحق وفي قلوبهم لين لا تعصى عن قبول ما يلقى إليهم من أحسن القول.
فقوله: { أفمن شرح الله صدره } خبره محذوف يدل عليه قوله: { فويل للقاسية قلوبهم } الخ أي كالقاسية قلوبهم والاستفهام للانكار أي لا يستويان.
وشرح الصدر بسطه ليسع ما يلقى إليه من القول وإذ كان ذلك للإِسلام وهو التسليم لله فيما أراد وليس إلا الحق كان معناه كون الإِنسان بحيث يقبل ما يلقى إليه من القول الحق ولا يرده، وليس قبولاً من غير دراية وكيفما كان بل عن بصيرة بالحق وعرفان بالرشد ولذا عقبه بقوله: { فهو على نور من ربه } فجعله بحسب التمثيل راكب نور يسير عليه ويبصر ما يمر به في ساحة صدره الرحب الوسيع من الحق فيبصره ويميزه من الباطل بخلاف الضال الذي لا في صدره شرح فيسع الحق ولا هو راكب نور من ربه فيبصر الحق ويميزه.
وقوله: { فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله } تفريع على الجملة السابقة بما يدل على أن القاسية القلوب - وقساوة القلب وصلابته لازمة عدم شرح الصدر وعدم النور - لا يتذكرون بآيات الله فلا يهتدون إلى ما تدل عليه من الحق، ولذا عقبه بقوله: { أُولئك في ضلال مبين }.
وفي الآية تعريف الهداية بلازمها وهو شرح الصدر وجعله على نور من ربه، وتعريف الضلال بلازمه وهو قساوة القلب من ذكر الله.
وقد تقدم في تفسير قوله:
{ { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإِسلام } [الأنعام: 125] الآية كلام في معنى الهداية فراجع.
قوله تعالى: { الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني } إلى آخر الآية كالإِجمال بعد التفصيل بالنسبة إلى الآية السابقة بالنظر إلى ما يتحصل من الآية في معنى الهداية وإن كانت بياناً لهداية القرآن.
فقوله: { الله نزل أحسن الحديث } هو القرآن الكريم والحديث هو القول كما في قوله تعالى:
{ { فليأتوا بحديث مثله } [الطور: 34]، وقوله: { { فبأي حديث بعده يؤمنون } [المرسلات: 50] فهو أحسن القول لاشتماله على محض الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو كلامه المجيد.
وقوله: { كتاباً متشابهاً } أي يشبه بعض أجزائه بعضاً وهذا غير التشابه الذي في المتشابه المقابل للمحكم فإنه صفة بعض آيات الكتاب وهذا صفة الجميع.
وقوله: { مثاني } جمع مثنية بمعنى المعطوف لانعطاف بعض آياته على بعض ورجوعه إليه بتبين بعضها ببعض وتفسير بعضها لبعض من غير اختلاف فيها بحيث يدفع بعضه بعضاً ويناقضه كما قال تعالى:
{ { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } [النساء: 82]. وقوله: { تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم } صفة الكتاب وليس استئنافاً، والاقشعرار تقبض الجلد تقبضاً شديداً لخشية عارضة عن استماع أمر هائل أو رؤيته، وليس ذلك إلا لأنهم على تبصر من موقف نفوسهم قبال عظمة ربهم فإذا سمعوا كلامه توجهوا إلى ساحة العظمة والكبرياء فغشيت قلوبهم الخشية وأخذت جلودهم في الاقشعرار.
وقوله: { ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } { تلين } مضمنة معنى السكون والطمأنينة ولذا عدي بالى والمعنى ثم تسكن وتطمئن جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله لينة تقبله أو تلين له ساكنة إليه.
ولم يذكر القلوب في الجملة السابقة عند ذكر الاقشعرار لأن المراد بالقلوب النفوس ولا اقشعرار لها وإنما لها الخشية.
وقوله: { ذلك هدى الله يهدي به من يشاء } أي ما يأخذهم من اقشعرار الجلود من القرآن ثم سكون جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله هو هدى الله وهذا تعريف آخر للهداية بلازمها.
وقوله: { يهدي به من يشاء } أي يهدي بهداه من يشاء من عباده وهو الذي لم يبطل استعداده للاهتداء ولم يشغل بالموانع عنه كالفسق والظلم وفي السياق إشعار بأن الهداية من فضله وليس بموجب فيها مضطر إليها.
وقيل: المشار إليه بقوله: { ذلك هدى الله } القرآن وهو كما ترى، وقد استدل بالآيات على أن الهداية من صنع الله لا يشاركه فيها غيره، والحق أنها خالية عن الدلالة على ذلك وإن كان الحق هو ذلك بمعنى كونها لله سبحانه أصالة ولمن اختاره من عباده لذلك تبعاً كما يستفاد من مثل قوله:
{ { قل إن هدى الله هو الهدى } [البقرة: 120] وقوله: { { إن علينا للهدى } [الليل: 12]، وقوله: { { وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا } [الأنبياء: 73]، وقوله: { { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } [الشورى: 52]. فالهداية كلها لله إما بلا واسطة أو بواسطة الهداة المهديين من خلقه وعلى هذا فمن أضله من خلقه بأن لم يهده بالواسطة ولا بلا واسطة فلا هادي له وذلك قوله في ذيل الآية: { ومن يضلل الله فما له من هاد } وسيأتي الجملة بعد عدة آيات وهي متكررة في كلامه تعالى.
قوله تعالى: { أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون } مقايسة بين أهل العذاب يوم القيامة والآمنين منه والفريقان هما أهل الضلال وأهل الهدى ولذا عقب الآية السابقة بهذه الآية.
والاستفهام للإِنكار وخبر { من } محذوف والتقدير كمن هو في أمن منه، ويوم القيامة متعلق بيتقي، والمعنى أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة لكون يده التي بها كان يتقي المكاره مغلولة إلى عنقه كمن هو آمن من العذاب لا يصيبه مكروه. كذا قيل.
وقيل: الاتقاء بوجهه بالمعنى المذكور لا وجه له لأن الوجه ليس مما يتقي به بل المراد الاتقاء بكليته أو بخصوص وجهه سوء عذاب يوم القيامة ويوم القيامة قيد للعذاب والمراد عكس الوجه السابق، والمعنى أفمن يتقي سوء العذاب الذي يوم القيامة في الدنيا بتقوى الله كالمصر على كفره، ولا يخلو من التكلف.
وقوله: { وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون } القول لملائكة النار، والظاهر أن الجملة بتقدير قد أو بدونه والأصل وقيل لهم ذوقوا، الخ. لكن وضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على علة الحكم وهي الظلم.
قوله تعالى: { كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون } أي من الجهة التي لا يحتسبون ففوجؤا وأخذوا على غفلة وهو أشد الأخذ، وفي الآية وما بعدها بيان لما أصاب بعض الكفار من عذاب الخزي ليكون عبرة لغيرهم.
قوله تعالى: { فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون } الخزي هو الذل والصغار، وقد أذاقهم الله ذلك في ألوان من العذاب أنزلنا عليهم كالغرق والخسف والصيحة والرجفة والمسخ والقتل.
قوله تعالى: { ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون } أي ضربنا لهم من كل نوع من الأمثال شيئاً لعلهم يتنبهون ويعتبرون ويتعظون بتذكر ما تتضمنه.
قوله تعالى: { قرآناً عربياً غير ذي عوج لعلهم يتقون } العوج الانحراف والانعطاف، { قرآناً عربياً } منصوب على المدح بتقدير أمدح أو أخص ونحوه أو حال معتمد على الوصف.
قوله تعالى: { ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل هل يستويان } الخ، قال الراغب: الشكس - بالفتح فالكسر - سيء الخلق، وقوله: { شركاء متشاكسون } أي متشاجرون لشكاسة خلقهم. انتهى وفسروا السلم بالخالص الذي لا يشترك فيه كثيرون.
مثل ضربه الله للمشرك الذي يعبد أرباباً وآلهة مختلفين فيشتركون فيه وهم متنازعون فيأمره هذا بما ينهاه عنه الآخر وكل يريد أن يتفرد فيه ويخصه بخدمة نفسه، وللموحد الذي هو خالص لمخدوم واحد لا يشاركه فيه غيره فيخدمه فيما يريد منه من غير تنارع يؤدي إلى الحيرة فالمشرك هو الرجل الذي فيه شركاء متشاكسون والموحد هو الرجل الذي هو سلم لرجل. لا يستويان بل الذي هو سلم لرجل أحسن حالاً من صاحبه.
وهذا مثل ساذج ممكن الفهم لعامة الناس لكنه عند المداقة يرجع إلى قوله تعالى:
{ { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [الأنبياء: 22] وعاد برهاناً على نفي تعدد الأرباب والآلهة.
وقوله: { الحمد لله } ثناء لله بما أن عبوديته خير من عبودية من سواه.
وقوله: { بل أكثرهم لا يعلمون } مزية عبادته على عبادة غيره على ما له من الظهور التام لمن له أدنى بصيرة.
قوله تعالى: { إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } الآية الأولى تمهيد لما يذكر في الثانية من اختصامهم يوم القيامة عند ربهم والخطاب في { إنكم } للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأُمته أو المشركين منهم خاصة والاختصام - كما في المجمع - رد كل واحد من الاثنين ما أتى به الآخر على وجه الإِنكار عليه.
والمعنى: إن عاقبتك وعاقبتهم الموت ثم إنكم جميعاً يوم القيامة بعد ما حضرتم عند ربكم تختصمون وقد حكى مما يلقيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم
{ { وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً } [الفرقان: 30]. والآيتان عامتان بحسب لفظهما لكن الآيات الأربع التالية تؤيد أن المراد بالاختصام ما يقع بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين الكافرين من أُمته يوم القيامة.
قوله تعالى: { فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين } في الآية وما بعدها مبادرة إلى ذكر ما ينتهي إليه أمر اختصامهم يوم القيامة وتلويح إلى ما هو نتيجة القضاء بينهم كأنه قيل: ونتيجة ما يقضى به بينكم معلومة اليوم وأنه من هو الناجي منكم، ومن هو الهالك؟ فإن القضاء يومئذ يدور مدار الظلم والإِحسان ولا أظلم من الكافر والمؤمن متق محسن والظلم إلى النار والإِحسان إلى الجنة. هذا ما يعطيه السياق.
فقوله: { فمن أظلم ممن كذب على الله } أي افترى عليه بأن ادعى أن له شركاء والظلم يعظم بعظم من تعلق به وإذا كان هو الله سبحانه كان أعظم من كل ظلم ومرتكبه أظلم من كل ظالم.
وقوله: { وكذب بالصدق إذ جاءه } المراد بالصدق الصادق من النبأ وهو الدين الإِلهي الذي جاء به الرسول بقرينة قوله: { إذ جاءه }.
وقوله: { أليس في جهنم مثوى للمتكبرين } المثوى اسم مكان بمعنى المنزل والمقام، والاستفهام للتقرير أي إن في جهنم مقام هؤلاء الظالمين لتكبرهم على الحق الموجب لافترائهم على الله وتكذيبهم بصادق النبأ الذي جاء به الرسول.
والآية خاصة بمشركي عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو بمشركي أُمته بحسب السياق وعامة لكل من ابتدع بدعة وترك سنة من سنن الدين.
قوله تعالى: { والذي جاء بالصدق وصدَّق به أُولئك هم المتقون } المراد بالمجيء بالصدق الإِتيان بالدين الحق والمراد بالتصديق به الإِيمان به والذي جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقوله: { أُولئك هم المتقون } لعل الإِشارة إلى الذي جاء به بصيغة الجمع لكونه جمعاً بحسب المعنى وهو كل نبي جاء بالدين الحق وآمن بما جاء به بل وكل مؤمن آمن بالدين الحق ودعى إليه فإن الدعوة إلى الحق قولاً وفعلاً من شؤون اتباع النبي، قال تعالى:
{ { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني } [يوسف: 108]. قوله تعالى: { لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين } هذا جزاؤهم عند ربهم وهو أن لهم ما تتعلق به مشيتهم فالمشية هناك هي السبب التام لحصول ما يشاؤه الإِنسان أياً ما كان بخلاف ما عليه الأمر في الدنيا فإن حصول شيء من مقاصد الحياة فيها يتوقف - مضافاً إلى المشية - على عوامل وأسباب كثيرة منها السعي والعمل المستمد من الاجتماع والتعاون.
فالآية تدل أولاً على إقامتهم في دار القرب وجوار رب العالمين، وثانياً أن لهم ما يشاؤن فهذان جزاء المتقين وهم المحسنون فإحسانهم هو السبب في إيتائهم الأجر المذكور وهذه هي النكتة في إقامة الظاهر مقام الضمير في قوله: { وذلك جزاء المحسنين } وكان مقتضى الظاهر أن يُقال: وذلك جزاؤهم.
وتوصيفهم بالإِحسان وظاهره العمل الصالح أو الاعتقاد الحق والعمل الحسن جميعاً يشهد أن المراد بالتصديق المذكور هو التصديق قولاً وفعلاً. على أن القرآن لا يسمي تارك بعض ما أنزله الله من حكم مصدقاً به.
قوله تعالى: { ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا } إلى آخر الآية ومن المعلوم أنه إذا كفر أسوأ أعمالهم كفر ما دون ذلك، والمراد بأسوأ الذي عملوا ما هو كالشرك والكبائر.
قال في مجمع البيان في الآية: أي أسقط الله عنهم عقاب الشرك والمعاصي التي فعلوها قبل ذلك بإيمانهم وإحسانهم ورجوعهم إلى الله تعالى انتهى وهو حسن من جهة تعميم الأعمال السيئة، ومن جهة تقييد التكفير بكونه قبل ذلك بالإِيمان والإِحسان والتوبة فإن الآية تبين أثر تصديق الصدق الذي أتاهم وهو تكفير السيئات بالتصديق والجزاء الحسن في الآخرة.
وقوله: { ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون }.
قيل: المراد أنه ينظر إلى أعمالهم فيجازيهم في أحسنها جزاءه اللائق به وفي غير الأحسن يجازيهم جزاء الأحسن فالباء للمقابلة نحو بعت هذا بهذا.
ويمكن أن يُقال: إن المراد أنه ينظر إلى أرفع أعمالهم درجة فيترفع درجتهم بحسبه فلا يضيع شيء مما هو آخر ما بلغه عملهم من الكمال لكن في جريان نظير الكلام في تكفير الأسوأ خفاء.
وقيل: صيغة التفضيل في الآية { أسوأ } و { أحسن } مستعملة في الزيادة المطلقة من غير نظر إلى مفضل عليه فإن معصية الله كلها أسوأ وطاعته كلها أحسن.
قوله تعالى: { أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه } المراد بالذين من دونه آلهتهم من دون الله على ما يستفاد من السياق، والمراد بالعبد من مدحه الله تعالى في الآيات السابقة ويشمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم شمولا ًأولياً.
والاستفهام للتقرير والمعنى هو يكفيهم، وفيه تأمين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قبال تخويفهم إياه بآلهتهم وكناية عن وعده بالكفاية كما صرح به في قوله:
{ { فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم } [البقرة: 137]. قوله تعالى: { ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهد الله فما له من مضلٍّ } الخ جملتان كالمتعاكستين مرسلتان إرسال الضوابط الكلية ولذا جيء فيهما باسم الجلالة وكان من قبيل وضع الظاهر موضع الضمير.
وفي تعقيب قوله: { أليس الله بكاف } الخ بقوله: { ومن يضلل } الخ إشارة إلى أن هؤلاء المخوفين لا يهتدون بالإِيمان أبداً ولن ينجح مسعاهم وأنهم لن ينالوا بغيتهم ولا أمنيتهم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإن الله لن يضله وقد هداه.
وقوله: { أليس الله بعزيز ذي انتقام } استفهام للتقرير أي هو كذلك، وهو تعليل ظاهر لقوله: { ومن يضلل الله } الخ فإن عزته وكونه ذا انتقام يقتضيان أن ينتقم ممن جحد الحق وأصر على كفره فيضله ولا هادي يهديه لأنه تعالى عزيز لا يغلبه فيما يريد غالب، وكذا إذا هدى عبداً من عباده لتقواه وإحسانه لم يقدر على إضلاله مضل.
وفي التعليل دلالة على أن الإِضلال المنسوب إلى الله تعالى هو ما كان على نحو المجازاة والانتقام دون الضلال الابتدائي وقد مر مراراً.
(بحث روائي)
عن روضة الواعظين روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ { أفمن شرح الله صدره للإِسلام فهو على نور من ربه } فقال: إن النور إذا وقع في القلب انفسح له وانشرح. قالوا: يا رسول الله فهل لذلك علامة يعرف بها؟ قال: التجافي عن دار الغرور، والإِنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزول الموت.
أقول: ورواه في الدر المنثور عن ابن مردويه عن عبد الله بن مسعود وعن الحكيم الترمذي عن ابن عمر، وعن ابن جرير وغيره عن قتادة.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: { أفمن شرح الله صدره } الآية قال: نزلت في أمير المؤمنين عليه السلام.
أقول: ونزول السورة دفعة لا يلائمه كما مر في نظيره.
وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير عن ابن عباس قالوا: يا رسول الله لو حدثتنا فنزل: { الله نزل أحسن الحديث }.
أقول: وهو من التطبيق.
وفي المجمع في قوله تعالى: { تقشعر منه جلود } الآية روي عن العباس بن عبد المطلب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
"إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها"
]. وفي الدر المنثور في قوله تعالى: { قرآناً عربياً غير ذي عوج } أخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: { قرآناً عربياً غير ذي عوج } قال: "غير مخلوق"
]. أقول: الآية تأبى عن الانطباق على الرواية وقد تقدم كلام في معنى الكلام في ذيل قوله تعالى: { { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض } [البقرة: 253] في الجزء الثاني من الكتاب.
وفي المجمع في قوله تعالى: { ورجلاً سلماً لرجل } روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بالإِسناد عن علي أنه قال: أنا ذلك الرجل السلم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
أقول: ورواه أيضاً عن العياشي بإسناده عن أبي خالد عن أبي جعفر عليه السلام وهو من الجري والمثل عام.
وفيه في قوله تعالى: { ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } قال ابن عمر: كنا نرى أن هذه فينا وفي أهل الكتابين وقلنا: كيف نختصم نحن ونبينا واحد وكتابنا واحد، حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف فعلمت أنها فينا نزلت.
وقال أبو سعيد الخدري: كنا نقول: إن ربنا واحد ونبينا واحد وديننا واحد فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا: نعم هو هذا.
أقول: وروى في الدر المنثور الحديث الأول بطرق مختلفة عن ابن عمر وفي ألفاظها اختلاف والمعنى واحد، ورواه أيضاً عن عدة من أصحاب الجوامع عن إبراهيم النخعي، وروى ما يقرب منه بطريقين عن الزبير بن العوام، وروى الحديث الثاني عن سعيد بن منصور عن أبي سعيد الخدري.
والأحاديث تعارض ما روي أن الصحابة مجتهدون مأجورون إن أصابوا وإن أخطأوا.
وفي المجمع في قوله تعالى: { والذي جاء بالصدق وصدق به } قيل: الذي جاء بالصدق محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصدق به علي بن أبي طالب عليه السلام وهو المروي عن أئمة الهدى من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
أقول: ورواه في الدر المنثور عن ابن مردويه عن أبي هريرة، والظاهر أنه من الجري نظراً إلى قوله في ذيل الآية { أُولئك هم المتقون }.
وروي من طرقهم أن الذي صدق به أبو بكر وهو أيضاً من تطبيق الراوي، روي أن الذي جاء به جبريل والذي صدق به محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو أيضاً تطبيق غير أن السياق يدفعه فإن الآيات مسوقة لوصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وجبريل أجنبي عنه لا تعلق للكلام به.