التفاسير

< >
عرض

وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّـلُ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ
٣٨
قُلْ يٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُـمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
٣٩
مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ
٤٠
إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ لِلنَّـاسِ بِٱلْحَقِّ فَـمَنِ ٱهْتَـدَىٰ فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَـلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِـيلٍ
٤١
ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا وَٱلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِـهَا فَيُمْسِكُ ٱلَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا ٱلْمَوْتَ وَيُرْسِلُ ٱلأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
٤٢
أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ شُفَعَآءَ قُلْ أَوَلَوْ كَـانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ
٤٣
قُل لِلَّهِ ٱلشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
٤٤
وَإِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ ٱشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ
٤٥
قُلِ ٱللَّهُمَّ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ عَالِمَ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
٤٦
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سُوۤءِ ٱلْعَذَابِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ
٤٧
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَـسَبُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
٤٨
فَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
٤٩
قَدْ قَالَهَا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
٥٠
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ هَـٰؤُلاَءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ
٥١
أَوَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
٥٢
-الزمر

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
في الآيات كرة أُخرى على المشركين بالاحتجاج على توحده تعالى في الربوبية وأنه لا يصلح لها شركاؤهم وأن الشفاعة التي يدعونها لشركائهم لا يملكها إلا الله سبحانه وفيها أُمور أُخر متعلقة بالدعوة من موعظة وإنذار وتبشير.
قوله تعالى: { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } إلى آخر الآية، شروع في إقامة الحجة وقد قدم لها مقدمة تبتني الحجة عليها وهي مسلمة عند الخصم وهي أن خالق العالم هو الله سبحانه فإن الخصم لا نزاع له في أن الخالق هو الله وحده لا شريك له وإنما يدعي لشركائه التدبير دون الخلق.
وإذا كان الخلق إليه تعالى فما في السماوات والأرض من عين ولا أثر إلا وينتهي وجوده إليه تعالى فما يصيب كل شيء من خير أو شر كان وجوده منه تعالى وليس لأحد أن يمسك خيراً يريده تعالى له أو يكشف شراً يريده تعالى له لأنه من الخلق والإِيجاد ولا شريك له تعالى في الخلق والإِيجاد حتى يزاحمه في خلق شيء أو يمنعه من خلق شيء أو يسبقه إلى خلق شيء والتدبير نظم الامور وترتيب بعضها على بعض خلق وإيجاد فالله الخالق لكل شيء كاف في تدبير أمر العالم لأنه الخالق لكل شيء وليس وراء الخلق شيء حتى يتوهم استناده إلى غيره فهو الله رب كل شيء وإلهه لا رب سواه ولا إله غيره.
فقوله: { قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله } أي أقم الحجة عليهم بانياً لها على هذه المقدمة المسلمة عندهم أن الله خالق كل شيء وقل مفرعاً عليه أخبروني عما تدعون من دون الله، والتعبير عن آلهتهم بلفظة { ما } دون { من } ونحوه يفيد تعميم البيان للأصنام وأربابها جميعاً فإن الخواص منهم وإن قصروا العبادة على الأرباب من الملائكة وغيرهم واتخذوا الأصنام قبلة وذريعة إلى التوجه إلى أربابها لكن عامتهم ربما أخذوا الأصنام نفسها أرباباً وآلهة يعبدونها ونتيجة الحجة عامة تشمل الجميع.
وقوله: { إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمةٍ هل هن ممسكات رحمته } الضر كالمرض والشدة ونحوهما، وظاهر مقابلته الرحمة عمومه لكل مصيبة، وإضافة الضر والرحمة إلى ضميره تعالى في { كاشفات ضره } و { ممسكات رحمته } لحفظ النسبة لأن المانع من كشف الضر وإمساك الرحمة هو نسبتهما إليه تعالى.
وتخصيص الضر والرحمة به صلى الله عليه وآله وسلم من عموم الحجة له ولغيره لكونه المخاصم الأصيل لهم وقد خوفوه بآلهتهم من دون الله.
وإرجاع ضمير الجمع المؤنث إلى ما يدعونه من دون الله لتغليب جانب غير أُولي العقل من الأصنام وهو يؤيد ما قدمناه في قوله: { أفرأيتم ما تدعون من دون الله } أن التعبير بما لتعميم الحجة للأصنام وأربابها.
وقوله: { قل حسبي الله } أمر بالتوكل عليه تعالى كما يدل عليه قوله بعده: { عليه يتوكل المتوكلون } وهو موضوع موضع نتيجة الحجة كأنه قيل: قل لهم: إني اتخذت الله وكيلاً لأن أمر تدبيري إليه كما أن أمر خلقي إليه فهو في معنى قولنا: فقد دلت الحجة على ربوبيته وصدقت ذلك عملاً باتخاذه وكيلاً في أُموري.
وقوله: { عليه يتوكل المتوكلون } تقديم الظرف على متعلقه للدلالة على الحصر أي عليه يتوكلون لا على غيره، وإسناد الفعل إلى الوصف من مادته للدلالة على كون المراد المتوكلين بحقيقة معنى التوكل ففي الجملة ثناء عليه تعالى بأنه الأهل للتوكل عليه يتوكل أهل البصيرة في التوكل فلا لوم علي إن توكلت عليه وقلت: حسبي الله.
قوله تعالى: { قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل } إلى قوله { عذاب مقيم } المكانة هي المنزلة والقدر وهي في المعقولات كالمكان في المحسوسات فأمرهم بأن يعملوا على مكانتهم معناه أمرهم أن يستمروا على الحالة التي هم عليها من الكفر والعناد والصد عن سبيل الله.
وقوله: { فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه } الظاهر أن { من } استفهامية لا موصولة لظهور العلم فيما يتعلق بالجملة لا بالمفرد.
وقوله: { ويحل عليه عذاب مقيم } أي دائم وهو المناسب للحلول، وتفكيك أمر العذابين يشهد أن المراد بالأول عذاب الدنيا وبالثاني عذاب الآخرة، وفي الكلام أشد التهديد.
والمعنى: قل مخاطباً للمشركين من قومك: يا قوم اعملوا - مستمرين - على حالتكم التي أنتم عليها من الكفر والعناد إني عامل - كما اؤمر غير منصرف عنه - فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويذله؟ وهو عذاب الدنيا كما في يوم بدر ويحل عليه ولا يفارقه عذاب دائم وهو عذاب الآخرة.
قوله تعالى: { إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق } إلى آخر الآية: في مقام التعليل للأمر الذي في الآية السابقة، واللام في قوله: { للناس } للتعليل أي لأجل الناس أن تتلوه عليهم وتبلغهم ما فيه، والباء في قوله: { بالحق } للملابسة أي ملابساً للحق لا يشوبه باطل.
وقوله: { فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها } أي تفرع على هذا الإِنزال أن من اهتدى فإنما يعود نفعه من سعادة الحياة وثواب الدار الآخرة إلى نفسه، ومن ضل ولم يهتد به فإنما يعود شقاؤه ووباله من عقاب الدار الآخرة إلى نفسه فالله سبحانه أجل من أن ينتفع بهداهم أو يتضرر بضلالهم.
وقوله: { وما أنت عليهم بوكيل } أي مفوضاً إليه أمرهم قائماً بتدبير شؤونهم حتى توصل ما فيه من الهدى إلى قلوبهم.
والمعنى: إنما أمرناك أن تهددهم بما قلنا لأنا نزلنا عليك الكتاب بالحق لأجل أن تقرأه على الناس لا غير فمن اهتدى منهم فإنما يعود نفعه إلى نفسه ومن ضل ولم يهتد به فإنما يعود ضرره إلى نفسه وما أنت وكيلاً من قبلنا عليهم تدبر شؤونهم فتوصل الهدى إلى قلوبهم فليس لك من الأمر شيء.
قوله تعالى: { الله يتوفى الأنفس حين موتها } إلى آخر الآية، قال في المجمع: التوفي قبض الشيء على الإِيفاء والإِتمام يُقال: توفيت حقي من فلان واستوفيته بمعنى. انتهى. تقديم المسند إليه في الآية يفيد الحصر أي هو تعالى المتوفي لها لا غير وإذا انضمت الآية إلى مثل قوله تعالى:
{ { قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم } [السجدة: 11]، وقوله: { { حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا } [الأنعام: 61] أفادت معنى الأصالة والتبعية أي إنه تعالى هو المتوفي بالحقيقة وملك الموت والملائكة الذين هم أعوانه أسباب متوسطة يعملون بأمره.
وقوله: { الله يتوفى الأنفس حين موتها } المراد بالأنفس الأرواح المتعلقة بالأبدان لا مجموع الأرواح لأن المجموع غير مقبوض عند الموت وإنما المقبوض هو الروح يقبض من البدن بمعنى قطع تعلقه بالبدن تعلق التصرف والتدبير والمراد بموتها موت أبدانها إما بتقدير المضاف أو بنحو المجاز العقلي، وكذا المراد بمنامها.
وقوله: { والتي لم تمت في منامها } معطوف على الأنفس في الجملة السابقة، والظاهر أن المنام اسم زمان وفي منامها متعلق بيتوفى والتقدير ويتوفى الأنفس التي لم تمت في وقت نومها.
ثم فصل تعالى في القول في الأنفس المتوفاة في وقت النوم فقال: { فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأُخرى إلى أجل مسمى } أي فيحفظ النفس التي قضى عليها الموت كما يحفظ النفس التي توفاها حين موتها ولا يردها إلى بدنها، ويرسل النفس الاخرى التي لم يقض عليها الموت إلى بدنها إلى أجل مسمى تنتهي إليه الحياة.
وجعل الأجل المسمى غاية للإِرسال دليل على أن المراد بالإِرسال جنسه بمعنى أنه يرسل بعض الأنفس إرسالاً واحداً وبعضها إرسالاً بعد إرسال حتى ينتهي إلى الأجل المسمى.
ويستفاد من الآية أولاً: أن النفس موجود مغاير للبدن بحيث تفارقه وتستقل عنه وتبقى بحيالها.
وثانياً: أن الموت والنوم كلاهما توف وإن افترقا في أن الموت توف لا إرسال بعده والنوم توف ربما كان بعده إرسال.
ثم تمم الآية بقوله: { إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } فيتذكرون أن الله سبحانه هو المدبر لأمرهم وأنهم إليه راجعون سيحاسبهم على ما عملوا.
قوله تعالى: { أم اتخذوا من دون الله شفعاء } الخ { أم } منقطعة أي بل اتخذ المشركون من دون الله شفعاء وهم آلهتهم الذين يعبدونهم ليشفعوا لهم عند الله سبحانه كما قال في أول السورة: { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } وقال:
{ { يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [يونس: 18]. وقوله: { قل أولو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون } أمر بأن يرده عليهم بالمناقشة في إطلاق كلامهم فإن من البديهي أن الشفاعة تتوقف على علم في الشفيع يعلم به ما يريد؟ وممن يريد؟ ولمن يريد؟ فلا معنى لشفاعة الجهاد الذي لا شعور له وكذا تتوقف على أن يملك الشفيع الشفاعة ويكون له حق أن يشفع ولا ملك لغير الله إلا أن يملكه الله شيئاً ويأذن له في التصرف فيه فقولهم بشفاعة أوليائهم مطلقاً الشامل لما لا يملكونه ولا علم لهم بإذنه تعالى لهم فيها تخرص.
فالاستفهام في { أولو كانوا } الخ للإِنكار والمعنى قل لهم: هل تتخذونهم شفعاء لكم ولو كانوا لا يملكون من عند أنفسهم شيئاً كالملائكة ولا يعقلون شيئاً كالأصنام؟ فإنه سفه.
قوله تعالى: { قل لله الشفاعة جميعاً له ملك السماوات والأرض } الخ توضيح وتأكيد لما مر من قوله: { قل أولو كانوا لا يملكون شيئاً } واللام في { لله } للملك، وقوله: { له ملك السماوات والأرض } في مقام التعليل الجملة السابقة، والمعنى كل شفاعة فإنها مملوكة لله فإنه المالك لكل شيء إلا أن يأذن لأحد في شيء منها فيملكه إياها، وأما استغلال بعض عباده كالملائكة يملك الشفاعة مطلقاً كما يقولون فمما لا يكون قال تعالى:
{ { ما من شفيع إلا من بعد إذنه } [يونس: 3]. وللآية معنى آخر أدق إذا انضمت إلى مثل قوله تعالى: { { ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع } [الأنعام: 51] وهو أن الشفيع بالحقيقة هو الله سبحانه وغيره من الشفعاء لهم الشفاعة بإذن منه فقد تقدم في بحث الشفاعة في الجزء الأول من الكتاب أن الشفاعة ينتهي إلى توسط بعض صفاته تعالى بينه وبين المشفوع له لإِصلاح حاله كتوسط الرحمة والمغفرة بينه وبين عبده المذنب لانجائه من وبال الذنب وتخليصه من العذاب.
والفرق بين هذا الملك وما في الوجه السابق أن المالك لا يتصف بمملوكه في الوجه السابق كما في ملك زيد للدار بخلاف الملك في هذا الوجه فإن المالك فيه يتصف بمملوكه كملك زيد الشجاع لشجاعته.
وقوله: { ثم إليه ترجعون } تعليل آخر لكونه يملك الشفاعة جميعاً الدال على الحصر وذلك أن الشفاعة إنما يملكها الذي ينتهي إليه أمر المشفوع له إن شاء قبلها وأصلح حال المشفوع له وأما غيره فإنما يملكها إذ رضي بها وأذن فيها والله سبحانه هو الذي يرجع إليه العباد دون الذين يدعون من دون الله فالله هو المالك للشفاعة جميعاً فقولهم يكون أوليائهم شفعاء لهم مطلقاً ثم عبادتهم لهم كذلك بناء بلا مبنى يعتمد عليه.
وقيل: قوله: { ثم إليه ترجعون } تهديد لهم كأنه قيل: ثم إليه ترجعون فتعلمون أنهم لا يشفعون لكم ويخيب سعيكم في عبادتهم.
وقيل: يحتمل أن يكون تنصيصاً على مالكية الآخرة التي فيها معظم نفع الشفاعة وإيماء إلى انقطاع الملك الصوري عما سواه تعالى، والوجه ما قدمناه.
قوله تعالى: { وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة } الخ المراد من ذكره تعالى وحده جعله مفرداً بالذكر من غير ذكر آلهتهم ومن مصاديقه قول لا إله إلا الله، والاشمئزاز الانقباض والنفور عن الشيء.
وإنما ذكر من وصفهم عدم إيمانهم بالآخرة لأن ذلك هو الأصل في اشمئزازهم ولو كانوا مؤمنين بالآخرة وأنهم يرجعون إلى الله فيجازيهم بأعمالهم عبدوه دون أوليائهم ولم يرغبوا عن ذكره وحده.
وقوله: { وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون } المراد بالذين من دونه آلهتهم، والاستبشار سرور القلب بحيث يظهر أثره في الوجه.
قوله تعالى: { قل اللّهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم } الخ لما بلغ الكلام مبلغاً لا يرجى معه فيهم خير لنسيانهم أمر الآخرة وإنكارهم الرجوع إليه تعالى حتى كانوا يشمئزون من ذكره تعالى وحده أمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يذكره تعالى وحده ويذكرهم حكمه بين عباده فيما اختلفوا فيه في صورة الالتجاء إليه تعالى على ما فيه من الإِقرار بالبعث وقد وصف الله تعالى بأنه فاطر السماوات والأرض أي مخرجها من كتم العدم إلى ساحة الوجود، وعالم الغيب والشهادة فلا يخفى عليه شيء، ولازمه أن يحكم بالحق وينفذ حكمه.
قوله تعالى: { ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة } الخ المراد بالذين ظلموا هم الذين ظلموا في الدنيا فالفعل يفيد مفاد الوصف، والظالمون هم المنكرون للمعاد كما قال:
{ { أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً وهم بالآخرة كافرون } [الأعراف: 44 - 45]. والمعنى: ولو أن الظالمين المنكرين للمعاد ضعفي ما في الأرض من أموال وذخائر وكنوز لجعلوه فدية من سوء العذاب.
وقوله: { وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } البداء والبدو بمعنى الظهور والحساب والحسبان العد، والاحتساب الاعتداد بالشيء بمعنى البناء على عده شيئاً وكثيراً ما يستعمل الحسبان والاحتساب بمعنى الظن كما قيل ومنه قوله: { ما لم يكونوا يحتسبون } أي ما لم يكونوا يظنون لكن فرق الراغب بين الحسبان والظن حيث قال: والحسبان أن يحكم لأحد النقيضين من غير أن يخطر الآخر بباله ويكون بعرض أن يعتريه فيه شك، ويقارب ذلك الظن لكن الظن أن يخطر النقيضين بباله فيغلب أحدهما على الآخر. انتهى.
ومقتضى سياق الآية أن المراد بيان أنهم سيواجهون يوم القيامة أموراً على صفة هي فوق ما تصوروه وأعظم وأهول مما خطر ببالهم لا أنهم يشاهدون أموراً ما كانوا يعتقدونها ويذعنون بها وبالجملة كانوا يسمعون أن الله حساباً ووزناً للأعمال وقضاء وناراً وألواناً من العذاب فيقيسون ما سمعوه - على إنكار منهم له - على ما عهدوه من هذه الأُمور في الدنيا فلما شاهدوها إذ ظهرت لهم وجدوها أعظم مما كان يخطر ببالهم من صفتها فهذه الآية في وصف عذابه نظير قوله في وصف نعيم أهل الجنة:
{ { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } [السجدة: 17]. وأيضاً مقتضى السياق أن البدو المذكور من قبيل الظهور بعد الخفاء والانكشاف بعد الاستتار كما يشير إليه قوله تعالى: { { لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد } [ق: 22]. قوله تعالى: { وبدا لهم سيئات ما كسبوا } إلى آخر الآية أي ظهر لهم سيئات أعمالهم بعد ما كانت خفية عليهم فهو كقوله: { { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء } [آل عمران: 30]. وقوله: { وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون } أي ونزل عليهم وأصابهم ما كانوا يستهزؤون به في الدنيا إذا سمعوه من أولياء الدين من شدائد يوم القيامة وأهواله وأنواع عذابه.
قوله تعالى: { فإذا مس الإِنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة قال إنما أوتيته على علم } الخ الآية في مقام التعليل البياني لما تقدم من وصف الظالمين ولذا صدرت بالفاء لتتفرع على ما تقدم تفرع البيان على المبين.
فهو تعالى لما ذكر من حالهم أنهم أعرضوا عن كل آية دالة على الحق ولم يصغوا إلى الحجج المقامة عليهم ولم يسمعوا موعظة ولم يعتدوا بعبرة فجحدوا ربوبيته تعالى وأنكروا البعث والحساب وبلغ بهم ذلك أن اشمأزت قلوبهم إذا ذكر الله وحده.
بيّن أن ذلك مما يستدعيه طبع الإِنسان المائل إلى اتباع هوى نفسه والاغترار بما زين له من نعم الدنيا والأسباب الظاهرية الحافة بها فالإِنسان حليف النسيان إذا مسه الضر أقبل إلى ربه وأخلص له ودعاه ثم إذا خوله ربه نعمة نسبه إلى علم نفسه وخبرته ونسي ربه وجهل أنها فتنة فتن بها.
فقوله: { فإذا مس الإِنسان ضر } أي مرض أو شدة { دعانا } أي خصنا بالدعاء وانقطع عن غيرنا.
وقوله: { ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم } التخويل الإِعطاء على نحو الهبة، وتقييد النعمة بقوله: { منا } للدلالة على كون وصف النعمة محفوظاً لها والمعنى خولناه نعمة ظاهراً كونها نعمة.
وضمير { أوتيته } للنعمة بما أنه شيء أو مال والعناية في ذلك بالإِشارة إلى أنه لا يعترف بكونها نعمة منا بل يقطعها عنا فيسميها شيئاً أو مالاً ونحوه ولا يسميها نعمة حتى يضطره ذلك إلى الاعتراف بمنعم والإِشارة إليه كما قال: { أوتيته } فصفح عن الفاعل لذلك والتعبيران أعني { نعمة منا } { إنما أوتيته } من لطيف تعبير القرآن، وقد وجهوا تذكير الضمير في { أوتيته } بوجوه أُخر غير موجهة من أرادها فليرجع إلى المفصلات.
والملائم لسياق الآية أن يكون معنى { على علم } على علم مني أي أوتيت هذا الذي أُوتيت على علم مني وخبرة بطرق كسب المعاش واقتناء الثروة وجمع المال.
وقيل: المراد إنما أُوتيته على علم من الله بخير عندي استحق به أن يؤتيني النعمة؛ وقيل: المراد على علم مني برضى الله عني، وأنت خبير بأن ما تقدم من معنى قوله: { ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أُوتيته } لا يلائم شيئاً من القولين.
وقوله: { بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون } أي بل النعمة التي خولناه منا فتنة أي ابتلاء وامتحان نمتحنه بذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون بذلك.
وقيل: معناه بل تلك النعمة عذاب لهم، وقيل: المعنى بل هذه المقالة فتنة لهم يعاقبون عليها والوجهان بعيدان سيما الأخير.
قوله تعالى: { قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فأصابهم سيئات ما كسبوا } ضمير { قد قالها } راجع إلى القول السابق باعتبار أنه مقالة أو كلمة.
والآية رد لقولهم وإثبات لكونها فتنة يمتحنون بها بأنهم لو أوتوها على علم منهم واكتسبوها بحولهم وقوتهم لأغنى عنهم كسبهم ولم يصبهم سيئات ما كسبوا وحفظوها لأنفسهم وتنعموا بها ولم يهلكوا دونها وليس كذلك فهؤلاء الذين قبلهم قالوا هذه المقالة فما أغنى عنهم كسبهم وأصابهم سيئات ما كسبوا.
والظاهر أن الآية تشير بقوله: { قد قالها الذين من قبلهم } إلى قارون وأمثاله وقد حكي عنه قول { إنما أوتيته على علم مني } في قصته من سورة القصص.
قوله تعالى: { والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم ما كسبوا وما هم بمعجزين } الإِشارة بهؤلاء إلى قومه صلى الله عليه وآله وسلم والمعنى أن هؤلاء الذين ظلموا من قومك سبيلهم سبيل من قبلهم سيصيبهم سيئات كسبهم ووبالات عملهم وما هم بمعجزين لله.
قوله تعالى: { أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } الخ جواب آخر عن قول القائل منهم: { إنما أوتيته على علم } وقد كان الجواب الأول { قد قالها الذين من قبلهم } الخ جواباً من طريق النقض وهذا جواب من طريق المعارضة بالإِشارة إلى دلالة الدليل على أن الله سبحانه هو الذي يبسط الرزق ويقدر.
بيان ذلك: أن سعي الإِنسان عن علم وإرادة لتحصيل الرزق ليس سبباً تاماً موجباً لحصول الرزق وإلا لم يتخلف ومن البين خلافه فكم من طالب رجع آيساً وساع خاب سعيه.
فهناك علل وشرائط زمانية ومكانية وموانع مختلفة باختلاف الظروف خارجة عن حد الإِحصاء إذا اجتمعت وتوافقت أنتج ذلك حصول الرزق.
وليس اجتماع هذه العلل والشرائط على ما فيها من الاختلاف والتشتت والتفرق من مادة وزمان ومكان ومقتضيات أُخر مرتبطة بها مقارنة أو متقدمة وعلل العلل ومقدماتها الذاهبة إلى ما لا يحصى، اجتماعاً وتوافقاً على سبيل الاتفاق فإن الاتفاق لا يكون دائمياً ولا أكثرياً وقانون ارتزاق المرتزقين الشامل للموجودات الحية بل المنبسط على أقطار العالم المشهود وأرجائه ثابت محفوظ في نظام جار على ما فيه من السعة والانبساط ولو انقطع لهلكت الأشياء لأول لحظة ومن فورها.
وهذا النظام الجاري بوحدته وتناسب أجزاؤه وتلاؤمها يكشف عن وحدانية ناظمه وفردانية مدبره ومديره الخارج عن أجزاء العالم المحفوظة بنفس النظام الباقية به وهو الله عز اسمه.
على أن النظام من التدبير والتدبير من الخلق كما مر مراراً فخالق العالم مدبره ومدبره رازقه وهو الله تعالى شأنه.
ويشير إلى هذا البرهان في الآية قوله: { لمن يشاء } فإنه إذا كان بسط الرزق وقدره بمشيئته تعالى لم يكن بمشيئة الإِنسان الذي يتبجح بعلمه وسعيه ولا بمشيئة شيء من العلل والأسباب وإيجابه كما هو ظاهر وليس من قبيل الاتفاق بل هو على نظام جار فهو بمشيئة جاعل النظام ومجريه وهو الله سبحانه.
وقد تقدم كلام في معنى الرزق في ذيل قوله تعالى:
{ { وترزق من تشاء بغير حساب } [آل عمران: 27] وسيأتي كلام فيه في تفسير قوله: { { فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون } [الذاريات: 23] إن شاء الله تعالى.
(بحث روائي)
في التوحيد عن علي عليه السلام في حديث وقد سأله رجل عما اشتبه عليه من الآيات قال: وأما قوله: { يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم } وقوله: { الله يتوفى الأنفس حين موتها } وقوله: { توفته رسلنا وهم لا يفرطون } وقوله: { الذين يتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } وقوله: { الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم } فإن الله تبارك وتعالى يدبر الأمر كيف يشاء ويوكل من خلقه من يشاء بما يشاء أما ملك الموت فإن الله يوكله بخاصته ممن يشاء من خلقه ويوكل رسله من الملائكة خاصة بمن يشاء من خلقه.
وليس كل العلم يستطيع صاحب العلم أن يفسره لكل الناس لأن فيهم القوي والضعيف، ولأن منه ما يطاق حمله ومنه ما لا يطاق حمله إلا أن يسهل الله له حمله وأعانه عليه من خاصة أوليائه.
وإنما يكفيك أن تعلم أن الله المحيي المميت، وأنه يتوفى الأنفس على يدي من يشاء من خلقه من ملائكته وغيرهم.
وفي الخصال عن علي عليه السلام في حديث الأربعمائة: لا ينام المسلم وهو جنب لا ينام إلا على طهور فإن لم يجد الماء فليتيمم بالصعيد فإن روح المؤمن ترفع إلى الله تعالى فيقبلها ويبارك عليها فإن كان أجلها قد حضر جعلها في كنوز رحمته وإن لم يكن أجلها قد حضر بعث بها مع امنائه من ملائكته فيردونها في جسده.
وفي المجمع روى العياشي بالإِسناد عن الحسن بن محبوب عن عمرو بن ثابت عن أبي المقدام عن أبيه عن أبي جعفر عليه السلام قال: ما من أحد ينام إلا عرجت نفسه إلى السماء وبقيت روحه في بدنه وصار بينهما سبب كشعاع الشمس فإن أذن الله في قبض الأرواح أجابت الروح النفس وإن أذن الله في رد الروح أجابت النفس الروح وهو قوله سبحانه: { الله يتوفى الأنفس حين موتها } الآية.
فمهما رأت في ملكوت السماوات فهو مما له تأويل وما رأت فيما بين السماء والأرض فهو مما يخيله الشيطان ولا تأويل له.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن سليم بن عامر أن عمر بن الخطاب قال: العجب من رؤيا الرجل إنه يبيت فيرى الشيء لم يخطر له على بال فيكون رؤياه كأخذ باليد ويرى الرجل الرؤيا فلا يكون رؤياه شيئاً.
فقال علي بن أبي طالب: أفلا أخبرك بذلك يا أمير المؤمنين يقول الله تعالى: { الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأُخرى إلى أجل مسمى } فالله يتوفى الأنفس كلها فما رأت وهي عنده في السماء فهي الرؤيا الصادقة، وما رأت إذا أرسلت إلى أجسادها تلقيها الشياطين في الهواء فكذبتها وأخبرتها بالأباطيل فعجب عمر من قوله.
أقول: تقدم تفصيل الكلام في الرؤيا في سورة يوسف والرجوع إليه يعين في فهم معنى الروايتين، وقد أطلق فيهما السماء على ما اصطلح عليه بعالم المثال الأعظم وما بين السماء والأرض على ما اصطلح عليه بعالم المثال الأصغر فتبصر.