التفاسير

< >
عرض

يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن ٱلْغَآئِطِ أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً
٤٣
-النساء

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
قد تقدم في الكلام على قوله تعالى:
{ يسألونك عن الخمر والميسر } [البقرة: 219]، أن الآيات المتعرضة لأمر الخمر خمس طوائف, وأن ضم هذه الآيات بعضها إلى بعض يفيد أن هذه الآية: { يا أيُّها الذين آمنوا لا تقربوا } الآية نزلت بعد قوله تعالى: { { تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً } [النحل: 67]، وقوله: { قل إنما حرَّم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإِثم } [الأعراف: 33]، وقبل قوله تعالى: { { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما } [البقرة: 219]، وقوله تعالى: { { يا أيُّها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه } [المائدة: 90]، وهذه آخر الآيات نزولاً.
ويمكن بوجه أن يتصور الترتيب على خلاف هذا الذي ذكرناه فتكون النازلة أولاً آية النحل ثم الأعراف ثم البقرة ثم النساء ثم المائدة فيكون ما يفيده هذا الترتيب من قصة النهي القطعي عن شرب الخمر على خلاف ما يفيده الترتيب السابق, فيكون ما في سورة الأعراف نهياً من غير تفسير, ثم الذي في سورة البقرة نهياً باتاً, لكن المسلمين كانوا يتعللون في الاجتناب حتى نهوا عنها نهياً جازماً في حال الصلاة في سورة النساء, ثم نهياً مطلقاً في جميع الحالات في سورة المائدة, ولعلَّك إن تدبرت في مضامين الآيات رجحت الترتيب السابق على هذا الترتيب, ولم تجوز بعد النهي الصريح الذي في آية البقرة النهي الذي في آية النساء المختص بحال الصلاة, فهذه الآية قبل آية البقرة؛ إلاَّ أن نقول إن النهي عن الصلاة في حال السكر كناية عن الصلاة كسلان, كما ورد في بعض الروايات الآتية.
وأما وقوع الآية بين ما تقدمها وما تأخر عنها من الآيات, فهي كالمتخللة المعترضة, إلاَّ أن ها هُنا احتمالاً ربما صحح هذا النحو من التخلل والاعتراض - وهو غير عزيز في القرآن - وهو جواز أن تتنزل عدة من الآيات ذات سياق واحد متصل منسجم تدريجاً في خلال أيام, ثم تمس الحاجة إلى نزول آية أو آيات, ولما تمّت الآيات النازلة على سياق واحد, فتقع الآية بين الآيات كالمعترضة المتخللة وليست بأجنبية بحسب الحقيقة, وإنما هي كالكلام بين الكلام لرفع توهم لازم الدفع, أو مس حاجة إلى إيراده نظير قوله تعالى:
{ بل الإِنسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره * لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه * كلاَّ بل تحبون العاجلة } [القيامة: 14 - 20] الآيات، انظر إلى موضع قوله: { لا تحرك } إلى قوله: { بيانه }.
وعلى هذا فلا حاجة إلى التكلف في بيان وجه ارتباط الآية بما قبلها, وارتباط ما بعدها بها, على أن القرآن إنما نزل نجوماً, ولا موجب لهذا الارتباط إلاَّ في السور النازلة دفعة أو الآيات الواضحة الاتصال الكاشف ذلك عن الارتباط بينها.
قوله تعالى: { يا أيُّها الذين آمنوا } إلى قوله: { ما تقولون } المراد بالصلاة المسجد, والدليل عليه قوله: ولا جنباً إلاَّ عابري سبيل, والمقتضي لهذا التجوز قوله حتى تعلموا ما تقولون إذ لو قيل: لا تقربوا المسجد وأنتم سكارى لم يستقم تعليله بقوله: { حتى تعلموا ما تقولون } أو أفاد التعليل معنى آخر غير مقصود مع أن المقصود إفادة أنكم في حال الصلاة تواجهون مقام العظمة والكبرياء وتخاطبون رب العالمين, فلا يصلح لكم أن تسكروا وتبطلوا عقولكم برجس الخمر, فلا تعلموا ما تقولون, وهذا المعنى كما ترى - يناسب النهي عن اقتراب الصلاة لكن الصلاة لما كانت أكثر ما تقع, تقع في المسجد جماعة - على السنة - وكان من القصد أن تذكر أحكام الجنب في دخوله المسجد أوجز في المقال وسبك الكلام على ما ترى.
وعلى هذا فقوله: { حتى تعلموا ما تقولون } في مقام التعليل للنهي عن شرب الخمر بحيث يبقى سكرها إلى حال دخول الصلاة - أي نهيناكم عنه لغاية أن تعلموا ما تقولون وليس غاية للحكم, بمعنى أن لا تقربوا إلى أن تعلموا ما تقولون فإذا علمتم ما تقولون فلا بأس.
قوله تعالى: { ولا جنباً إلاَّ عابري سبيل } إلى آخر الآية سيأتي الكلام في الآية في تفسير قوله تعالى:
{ { يا أيُّها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } [المائدة: 6]. (بحث روائي)
في تفسير العياشي عن محمد بن الفضل عن أبي الحسن عليه السلام في قول الله: { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } قال: هذا قبل أن تحرم الخمر.
أقول: ينبغي أن تحمل الرواية على أن المراد بتحريم الخمر توضيح تحريمها, وإلاَّ فهي مخالفة للكتاب, فإن آية الأعراف تحرم الخمر بعنوان أنه إثم صريحاً, وآية البقرة تصرح بأن في الخمر إثماً كبيراً, فقد حرمت الخمر في مكة قبل الهجرة لكون سورة الأعراف مكية ولم يختلف أحد في أن هذه الآية (آية النساء) مدنية, ومثل هذه الرواية عدة روايات من طرق أهل السنة تصرح بكون الآية نازلة قبل تحريم الخمر, ويمكن أن تكون الرواية ناظرة إلى كون المراد بالآية عن الصلاة كسلان.
وفيه عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: لا تقم إلى الصلاة متكاسلاً ولا متناعساً ولا متثاقلاً فإنها من خلل النفاق, فإن الله نهى المؤمنين أن يقوموا إلى الصلاة وهم سكارى يعني من النوم.
أقول: قوله: فإنها من خلل النفاق استفاد عليه السلام ذلك من قوله تعالى: { يا أيُّها الذين آمنوا }, فالمتمرد عن هذا الخطاب منافق غير مؤمن, وقوله: يعني من النوم يحتمل أن يكون من كلام الراوي ويحتمل أن يكون من كلامه عليه السلام ويكون تفسيراً للآية من قبيل بطن القرآن, ويمكن أن يكون من الظهر.
وقد وردت روايات أُخر في تفسيره بالنوم, رواها العياشي في تفسيره عن الحلبي في روايتين, والكليني في الكافي بإسناده عن زيد الشحام عن الصادق عليه السلام, وبإسناده عن زرارة عن الباقر عليه السلام, وروى هذا المعنى أيضاً البخاري في صحيحه عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.