التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِيۤ آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ أَفَمَن يُلْقَىٰ فِي ٱلنَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِيۤ آمِناً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
٤٠
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلذِّكْرِ لَمَّا جَآءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ
٤١
لاَّ يَأْتِيهِ ٱلْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ
٤٢
مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ
٤٣
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيۤ آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَـٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ
٤٤
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ فَٱخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ
٤٥
مَّنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٍ لِّلْعَبِيدِ
٤٦
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىٰ وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِي قَالُوۤاْ آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ
٤٧
وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ مِن قَبْلُ وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ
٤٨
لاَّ يَسْأَمُ ٱلإِنْسَانُ مِن دُعَآءِ ٱلْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ ٱلشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ
٤٩
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَـٰذَا لِي وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَآئِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّيۤ إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ فَلَنُنَبِّئَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ
٥٠
وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ
٥١
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ
٥٢
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
٥٣
أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ
٥٤
-فصلت

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
عودة أُخرى إلى حديث القرآن وكفرهم به على ظهور آيته ورفعة درجته وما فرطوا في جنبه ورميهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجحدهم الحق وكفرهم بالآيات وما يتبع ذلك، وتختتم السورة.
والآية الأُولى أعني قوله: { إن الذين يلحدون في آياتنا } الآية كالبرزخ الرابط بين هذا الفصل والفصل السابق من الآيات لما وقعت بين قوله: { إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم } الآية وبين قوله: { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن } الآية وقوله: { ومن آياته الليل والنهار } الخ.
قوله تعالى: { إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا } الخ سياق تهديد لملحدي هذه الأُمة كما يؤيده الآية التالية، والإِلحاد الميل.
وإطلاق قوله: { يلحدون } وقوله: { آياتنا } يشمل كل إلحاد في كل آية فيشمل الإِلحاد في الآيات التكوينية كالشمس والقمر وغيرهما فيعدونها آيات لله سبحانه ثم يعودون فيعبدونها، ويشمل آيات الوحي والنبوة فيعدون القرآن افتراء على الله وتقولاً من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو يلغون فيه لتختل تلاوته فلا يسمعه سامع أو يفسرونه من عند أنفسهم أو يؤولونه ابتغاء الفتنة فكل ذلك إلحاد في آيات الله بوضعها في غير موضعها والميل بها إلى غير مستقرها.
وقوله: { أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمناً يوم القيامة } إيذان بالجزاء وهو الإِلقاء في النار يوم القيامة قسراً من غير أي مؤمن متوقع كشفيع أو ناصر أو عذر مسموع فليس لهم إلا النار يلقون فيها، والظاهر أن قوله: { أم من يأتي آمناً يوم القيامة } لإِبانة أنهما قبيلان لا ثالث لهما فمستقيم في الإِيمان بالآيات وملحد فيها ويظهر به أن أهل الاستقامة في أمن يوم القيامة.
وقوله: { اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير } تشديد في التهديد.
قوله تعالى: { إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم } إلى قوله { من حكيم حميد } المراد بالذكر القرآن لما فيه من ذكر الله، وتقييد الجملة بقوله: { لما جاءهم } يدل على أن المراد بالذين كفروا هم مشركوا العرب المعاصرين للقرآن من قريش وغيرهم.
وقد اختلفوا في خبر { إن } ويمكن أن يستظهر من السياق أنه محذوف يدل عليه قوله: { إن الذين يلحدون في آياتنا } الخ فإن الكفر بالقرآن من مصاديق الإِلحاد في آيات الله فالتقدير إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم يلقون في النار يوم القيامة، وإنما حذف ليذهب فيه وهم السامع أي مذهب ممكن والكلام مسوق للوعيد.
وإلى هذا المعنى يرجع قول الزمخشري في الكشاف: إن قوله: { إن الذين كفروا } الخ بدل من قوله: { إن الذين يلحدون في آياتنا }.
وقيل: خبر إن قوله الآتي: { أُولئك ينادون من مكان بعيد }, وقيل: الخبر قوله: { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } بحذف ضمير عائد إلى اسم إن والتقدير لا يأتيه منهم أي لا يأتيه من قبلهم ما يبطله ولا يقدرون على ذلك أو بجعل أل في الباطل عوضاً من الضمير والمعنى لا يأتيه باطلهم.
وقيل: إن قوله: { وإنه لكتاب عزيز } الخ قائم مقام الخبر، والتقدير إن الذين كفروا بالذكر كفروا به وإنه لكتاب عزيز.
وقيل: الخبر قوله: { ما يقال لك } الخ بحذف الضمير وهو { فيهم } والمعنى ما يُقال لك في الذين كفروا بالذكر إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن لهم عذاب الاستئصال في الدنيا وعذاب النار في الآخرة، ووجوه التكلف في هذه الوجوه غير خفية على المتأمل البصير.
وقوله: { وإنه لكتاب عزيز } الضمير للذكر وهو القرآن، والعزيز عديم النظير أو المنيع الممتنع من أن يغلب، والمعنى الثاني أنسب لما يتعقبه من قوله: { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه }.
وقوله: { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } إتيان الباطل إليه وروده فيه وصيرورة بعض أجزائه أو جميعها باطلاً بأن يصير ما فيه من المعارف الحقة أو بعضها غير حقة أو ما فيه من الأحكام والشرائع وما يلحقها من الأخلاق أو بعضها لغى لا ينبغي العمل به.
وعليه فالمراد بقوله: { من بين يديه ولا من خلفه } زمانا الحال والاستقبال أي زمان النزول وما بعده إلى يوم القيامة، وقيل: المراد بما بين يديه ومن خلفه جميع الجهات، كالصباح والمساء كناية عن الزمان كله فهو مصون من البطلان من جميع الجهات وهذا العموم على الوجه الأول مستفاد من إطلاق النفي في قوله: { لا يأتيه }.
والمدلول على أي حال أنه لا تناقض في بياناته، ولا كذب في أخباره، ولا بطلان يتطرق إلى معارفه وحكمه وشرائعه، ولا يعارض ولا يغير بإدخال ما ليس منه فيه أو بتحريف آية من وجه إلى وجه.
فالآية تجري مجري قوله:
{ { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } [الحجر: 9]. وقوله: { تنزيل من حكيم حميد } بمنزلة التعليل لكونه كتاباً عزيزاً لا يأتيه الباطل الخ، أي كيف لا يكون كذلك وهو منزل من حكيم متقن في فعله لا يشوب فعله وهن، محمود على الإِطلاق.
قوله تعالى: { ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك } الخ { ما } في { ما يقال لك } نافية، والقائلون هم الذين كفروا حيث قالوا: إنه ساحر أو مجنون أو شاعر لاغ في كلامه أو يريد أن يتأمر علينا، والقائلون لما قد قيل للرسل أُممهم.
والمعنى: ما يقال لك من قبل كفار قومك حيث أرسلت إليهم فدعوتهم فرموك بما رموك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك أي مثل ما قد قيل لهم.
وقوله: { إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم } في موضع التهديد والوعيد أي إن ربك ذو هاتين الصفتين أي فانظر أو فلينظروا ماذا يصيبهم من ربهم وهم يقولون ما يقولونه لرسوله؟ أهو مغفرة أم عقاب؟ فالآية في معنى قوله: { اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير } أي ما عملتم من حسنة أو سيئة أصابكم جزاؤه بعينه.
وقيل: المعنى ما يوحى إليك في أمر هؤلاء الذين كفروا بالذكر إلا ما قد أُوحي للرسل من قبلك وهو أن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم فالمراد بالقول الوحي، و { إن ربك } الخ بيان لما قد قيل.
قوله تعالى: { ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته ءأعجمي وعربي } قال الراغب: العجمة خلاف الإِبانة. قال: والعجم خلاف العرب والعجمي منسوب إليهم، والأعجم من في لسانه عجمة عربياً كان أو غير عربي اعتباراً بقلة فهمهم عن العجم. انتهى. فالأعجمي غير العربي البليغ سواء كان من غير أهل اللغة العربية أو كان منهم وهو غير مفصح للكنة في لسانه، وإطلاق الأعجمي على الكلام كإطلاق العربي من المجاز.
فالمعنى: ولو جعلنا القرآن أعجمياً غير مبين لمقاصده غير بليغ في نظمه لقال الذين كفروا من قومك: هلا فصلت وبينت آياته وأجزاؤه فانفصلت وبانت بعضها من بعض بالعربية والبلاغة أكتاب مرسل أعجمي ومرسل إليه عربي؟ أي يتنافيان ولا يتناسبان.
وإنما قال: { عربي } ولم يقل: عربيون أو عربية مع كون من أُرسل إليه جمعاً وهم جماعة العرب، إذ القصد إلى مجرد العربية من دون خصوصية للكثرة بل المراد بيان التنافي بين الكلام وبين المخاطب به لا بيان كون المخاطب واحداً أو كثيراً.
قال في الكشاف: فإن قلت: كيف يصح أن يراد بالعربي المرسل إليهم وهم أُمة العرب؟ قلت: هو على ما يجب أن يقع في إنكار المنكر لو رأى كتاباً عجمياً كتب إلى قوم من العرب يقول: كتاب أعجمي ومكتوب إليه عربي وذلك لأن مبنى الإِنكار على تنافر حالتي الكتاب والمكتوب إليه لا على أن المكتوب إليه واحد أو جماعة فوجب أن يجرد لما سيق إليه من الغرض ولا يوصل به ما يخل غرضاً آخر ألا تراك تقول وقد رأيت لباساً طويلاً على امرأة قصيرة: اللباس طويل واللابس قصير ولو قلت: واللابس قصيرة جئت بما هو لكنة وفضول قول لأن الكلام لم يقع في ذكورة اللابس وأُنوثته إنما وقع في غرض وراءهما.
وقوله: { قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء } بيان أن أثر القرآن وخاصته لا يدور مدار لغته بل الناس تجاهه صنفان وهم الذين آمنوا والذين لا يؤمنون، وهو هدى وشفاء للذين آمنوا يهديهم إلى الحق ويشفي ما في قلوبهم من مرض الشك والريب. وهو عمى على الذين لا يؤمنون - وهم الذين في آذانهم وقر - يعميهم فلا يبصرون الحق وسبيل الرشاد.
وفي توصيف الذين لا يؤمنون بأن في آذانهم وقرا إيماء إلى اعترافهم بذلك المنقول عنهم في أول السورة: { وفي آذاننا وقر }.
وقوله: { أُولئك ينادون من مكان بعيد } أي فلا يسمعون الصوت ولا يرون الشخص وهو تمثيل لحالهم حيث لا يقبلون العظة ولا يعقلون الحجة.
قوله تعالى: { ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه } الخ تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عن جحود قومه وكفرهم بكتابه.
وقوله: { ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم } الكلمة هي قوله:
{ { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين } [البقرة: 36]. وقوله: { وإنهم لفي شك منه مريب } أي في شك مريب من كتاب موسى عليه السلام. بيان حال قومه ليتسلى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما يرى من قومه.
قوله تعالى: { من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها } الخ أي إن العمل قائم بصاحبه ناعت له فلو كان صالحاً نافعاً انتفعت به نفسه وإن كان سيئاً ضاراً تضررت به نفسه فليس في إيصاله تعالى نفع العمل الصالح إلى صاحبه وهو الثواب ولا في إيصال ضرر العمل السيء إلى صاحبه وهو العقاب ظلم ووضع للشيء في غير موضعه.
ولو كان ذلك ظلماً كان تعالى في إثابته وتعذيبه من لا يحصى من العباد في ما لا يحصى من الأعمال ظلاّماً للعبيد لكنه ليس بظلم ولا أنه تعالى ظلاّم لعبيده وبذلك يظهر وجه التعبير باسم المبالغة في قوله: { وما ربك بظلاّم للعبيد } ولم يقل: وما ربك بظالم.
قوله تعالى: { إليه يرد علم الساعة } إلى قوله { إلا بعلمه } ارتداد علم الساعة إليه اختصاصه به فلا يعلمها إلا هو، وقد تكرر ذلك في كلامه تعالى.
وقوله: { وما تخرج من ثمرات من أكمامها } { ثمرات } فاعل { تخرج } و { من } زائدة للتأكيد كقوله:
{ { وكفى بالله شهيداً } [النساء: 166]، وأكمام جمع كم وهو وعاء الثمرة و { ما } مبتدأ خبره { إلا بعلمه } والمعنى وليس تخرج ثمرات من أوعيتها ولا تحمل أُنثى ولا تضع حملها إلا مصاحباً لعلمه أي هو تعالى يعلم جزئيات حالات كل شيء.
فهو تعالى على كونه خالقاً للأشياء محولاً لأحوالها عالم بها وبجزئيات حالاتها مراقب لها، وهذا هو أحسن التدبير فهو الرب وحده، ففي الآية إشارة إلى توحده تعالى في الربوبية والألوهية، ولذا ذيّل هذا الصدر بقوله: { ويوم يناديهم أين شركائي } الخ.
قوله تعالى: { ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذنّاك ما منا من شهيد } إلى قوله { من محيص } الظرف متعلق بقوله: { قالوا } وقيل: ظرف لمضمر مؤخر قد ترك إيذاناً بقصور البيان عنه كما في قوله تعالى: { ويوم يجمع الله الرسل }، وقيل: متعلق بمحذوف نحو اذكر، ولعل الوجه الأول أنسب لصدر الآية بالمعنى الذي ذكرناه فتكون الآية مسوقة لنفي الشركاء ببيان قيام التدبير به تعالى واعتراف المشركين بذلك يوم القيامة.
والإِيذان الإِعلام، والمراد بالشهادة القولية أو الشهادة بمعنى الرؤية الحضورية وعلى الثاني فقوله: { وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل } عطف تفسير يبيّن به سبب انتفاء الشهادة.
وقوله: { وظنوا ما لهم من محيص } الظن - على ما قيل - بمعنى اليقين، والمحيص المهرب والمفر، والمعنى: ويوم ينادي الله المشركين: أين شركائي؟ - على زعمكم - قالوا: أعلمناك ما منا من يشهد عليك بالشركاء - أو ما منا من يشاهد الشركاء وغاب عنهم ما كانوا يدعون من دون الله في الدنيا، وأيقنوا أن ليس لهم مهرب من العذاب.
قوله تعالى: { لا يسأم الإِنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فَيَئُوسٌ قنوط } السأمة الملال، واليأس والقنوط بمعنى وهو انقطاع الرجاء، والدعاء الطلب.
شروع في ختم الكلام في السورة ببيان ما هو السبب في جحودهم ودفعهم الحق الصريح، وهو أن الإِنسان مغتر بنفسه فإذا مسه شر يعجز عن دفعه يئس من الخير وتعلق بذيل الدعاء والمسألة وتوجه إلى ربه، وإذا مسه خير اشتغل به وأعجب بنفسه وأنساه ذلك كل حق وحقيقة.
والمعنى: لا يمل الإِنسان من طلب الخير وهو ما يراه نافعاً لحياته ومعيشته وإن مسه الشر فكثير اليأس والقنوط لما يرى من سقوط الأسباب التي كان يستند إليها، وهذا لا ينافي تعلق رجائه إذ ذاك بالله سبحانه كما سيأتي.
قوله تعالى: { ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي } الخ الأصل بالنظر إلى مضمون الآية السابقة أن يُقال: وإن ذاق خيراً قال: هذا لي لكن بدّل ذاق من { أذقناه } و { خيراً } من قوله: { رحمة منا } ليدل على أن الخير الذي ذاقه هو رحمة من الله أذاقه إياها وليس بمصيبة برأسه ولا هو يملكه ولو كان يملكه لم ينفك عنه ولم يمسسه الضراء، ولذا قيد قوله: { ولئن أذقناه } الخ بقوله: { من بعد ضراء مسته }.
وقوله: { ليقولن هذا لي } أي أنا أملكه فلي أن أفعل فيه ما أشاء وأتصرف فيه كيف أُريد، فليس لأحد أن يمنعني من شيء منه أو يحاسبني على فعل، ولهذا المعنى عقبه بقوله: { وما أظن الساعة قائمة } فإن الساعة هي يوم الحساب.
وقوله: { ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى } أي للمثوبة الحسنى أو للعاقبة الحسنى، وهذا مبني على ما يراه لنفسه من الكرامة واستحقاق الخير كأنه يقول: ما ملكته من الخير لو كان من الله فإنما هو لكرامة نفسي عليه وعلى هذا فإن قامت الساعة ورجعت إلى ربي كانت لي عنده العاقبة الحسنى.
فالمعنى: وأُقسم لئن أذقنا الإِنسان رحمة هي منا ولا يستحقها ولا يملكها فأذقناها من بعد ضراء مسته وذلك يدله على أنه لا يملك ما أُذيقه نسي ما كان من قبل وقال: هذا لي - يشير إلى شخص النعمة ولا يسميها رحمة - وليس لأحد أن يمنعني عما أفعل فيه ويحاسبني عليه وما أظن الساعة - وهي يوم الحساب - قائمة، وأُقسم لئن رجُعت إلى ربي وقامت ساعة كانت لي عنده العاقبة الحسنى لكرامتي عليه كما أنعم عليّ من النعمة.
والآية نظيرة قوله في قصة صاحب الجنة:
{ { ما أظن أن تبيد هذه أبداً وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً } [الكهف: 35 - 36]. وقد تقدم بعض الكلام فيه.
وقوله: { فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ } تهديد ووعيد.
قوله تعالى: { وإذا أنعمنا على الإِنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض } النأي الابتعاد، والمراد بالجانب الجارحة وهي الجنب أو المراد الجهة والمكان فقوله: { نأى بجانبه } كناية عن الابتعاد بنفسه وهو كناية عن التكبر والخيلاء، والمراد بالعريض الوسيع، والدعاء العريض كالدعاء الطويل كناية عما استمر وأصر عليه الداعي، والآية في مقام ذم الإِنسان وتوبيخه أنه إذا أنعم الله عليه أعرض عنه وتكبر وإذا سلب النعمة ذكر الله وأقبل عليه بالدعاء مستمراً مصراً.
قوله تعالى: { قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد } { أرأيتم } أي أخبروني، والشقاق والمشاقة الخلاف، والشقاق البعيد الخلاف الذي لا يقارب الوفاق وهو شديده، وقوله: { ممن هو في شقاق بعيد } كناية عن المشركين ولم يقل: منكم بل أتى بالموصول والصلة وذلك في معنى الصفة ليدل على علة الحكم وهو الشقاق البعيد من الحق.
والمعنى: قل للمشركين أخبروني إن كان هذا القرآن من عند الله ثم كفرتم به من أضل منكم؟ أي لا أضل منكم لأنكم في خلاف بعيد من حق ما فوقه حق.
فمفاد الآية أن القرآن يدعوكم إلى الله ناطقاً بأنه من عند الله فلا أقل من احتمال صدقه في دعواه وهذا يكفي في وجوب النظر في أمره دفعاً للضرر المحتمل وأي ضرر أقوى من الهلاك الأبدي فلا معنى لإِعراضكم عنه بالكلية.
قوله تعالى: { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } الخ، الأفاق جمع أُفق وهو الناحية، والشهيد بمعنى الشاهد أو بمعنى المشهود وهو المناسب لسياق الآية.
وضمير { أنه } للقرآن على ما يعطيه سياق الآية ويؤيده الآية السابقة التي تذكر كفرهم بالقرآن، وعلى هذا فالآية تعد إراءة آيات في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين بها كون القرآن حقاً، والآيات التي شأنها إثبات حقيّة القرآن هي الحوادث والمواعيد التي أخبر القرآن أنها ستقع كإخباره بأن الله سينصر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ويمكن لهم في الأرض ويظهر دينهم على الدين كله وينتقم من مشركي قريش إلى غير ذلك.
فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بالهجرة إلى المدينة وقد اشتد الأمر عليه وعلى من آمن به غايتها فلا سماء تظلهم ولا أرض تقلهم ثم قتل صناديد قريش في بدر ولم يزل يرفع ذكره ويفتح على يديه حتى فتح مكة ودانت له جزيرة العرب ثم فتح بعد رحلته للمسلمين معظم المعمورة فأرى سبحانه المشركين آياته في الآفاق وهي النواحي التي فتحها للمسلمين ونشر فيها دينهم، وفي أنفسهم وهو قتلهم الذريع في بدر.
وليست هذه آيات في أنفسها فكم من فتح وغلبة يذكره التاريخ ومقاتل ذريعة يقصها لكنها آيات بما أن الله سبحانه وعد بها والقرآن الكريم أخبر بها قبل وقوعها ثم وقعت على ما أخبر بها.
ويمكن أن يكون المراد بإراءة الآيات وتبين الحق بذلك ما يستفاد من آيات أُخرى أن الله سيظهر دينه بتمام معنى الظهور على الدين كله فلا يعبد على الأرض إلا الله وحده وتظل السعادة على النوع الإِنساني وهي الغاية لخلقتهم، وقد تقدم استفادة ذلك من قوله تعالى:
{ { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض } [النور: 55] الآية وغيره وأيدناه بالدليل العقلي.
والفرق بين الوجهين أن وجه الكلام على الأول إلى مشركي مكة ومن يتبعهم خاصة وعلى الثاني إلى مشركي الأُمة عامة والخطاب على أي حال اجتماعي، ويمكن الجمع بين الوجهين.
ويمكن أن يكون المراد ما يشاهده الإِنسان في آخر لحظة من لحظات حياته الدنيا حيث تطير عنه الأوهام وتضل عنه الدعاوي وتبطل الأسباب ولا يبقى إلا الله عز اسمه ويؤيده ذيل الآية والآية التالية، وضمير { أنه الحق } على هذا لله سبحانه.
ولهم في الآية أقوال أُخرى أغمضنا عن إيرادها.
وقوله: { أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } فاعل { لم يكف } هو { بربك } والباء زائدة، و { أنه على كل شيء شهيد } بدل من الفاعل، والاستفهام للإِنكار، والمعنى أولم يكف في تبين الحق كون ربك مشهوداً على كل شيء إذ ما من شيء إلا وهو فقير من جميع جهاته إليه متعلق به وهو تعالى قائم به قاهر فوقه فهو تعالى معلوم لكل شيء وإن لم يعرفه بعض الأشياء.
واتصال الجملة أعني قوله: { أوَلم يكف بربك } الخ بقوله: { سنريهم } الخ على الوجه الأخير من الوجوه الثلاثة الماضية ظاهر، وأما على الوجهين الأولين فلعل الوجه فيه أن المشركين إنما كفروا بالقرآن لدعوته إلى التوحيد فانتقل من الدلالة على حقيّة القرآن للدلالة على حقيّة ما يدعو إليه مستقيماً من غير واسطة كأنه قيل: سنريهم آياتنا ليتبين لهم أن القرآن الذي يخبرهم بها حق فيتبين أن ربك واحد لا شريك له ثم قيل: وهذا طريق بعيد هناك ما هو أقرب منه أوَلم يكفهم أن ربك مشهود على كل شيء؟.
قوله تعالى: { ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم } الخ الذي يفيده السياق أن في الآية تنبيهاً على أنهم لا ينتفعون بالاحتجاج على وحدانيته تعالى بكونه شهيداً على كل شيء وهو أقوى براهين التوحيد وأوضحها لمن تعقّل لأنهم في مرية وشك من لقاء ربهم وهو كونه تعالى غير محجوب بصفاته وأفعاله عن شيء من خلقه.
ثم نبه بقوله: { ألا إنه بكل شيء محيط } على ما ترتفع به هذه المرية وتنبت من أصلها وهو إحاطته تعالى بكل شيء على ما يليق بساحة قدسه وكبريائه فلا يخلو عنه مكان وليس في مكان ولا يفقده شيء وليس في شيء.
وللمفسرين في الآية أقوال لو راجعتها لرأيت عجباً.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن عساكر عن عكرمة في قوله: { أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمناً يوم القيامة } نزلت في عمار بن ياسر وفي أبي جهل.
أقول: ورواه أيضاً عن عدة من الكتب عن بشر بن تميم، وروى أيضاً عن ابن مردويه عن ابن عباس { أفمن يلقى في النار } قال: أبو جهل بن هشام، و { أم من يأتي آمناً يوم القيامة } قال: أبو بكر الصديق، والروايات من التطبيق.
وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: { إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم } يعني القرآن { لا يأتيه الباطل من بين يديه } قال: لا يأتيه الباطل من قبل التوراة ولا من قبل الإِنجيل والزبور { ولا من خلفه } قال: لا يأتيه من بعده كتاب يبطله.
وفي المجمع في الآية قيل فيه أقوال - إلى أن قال - وثالثها معناه أنه ليس في إخباره عما مضى باطل ولا في إخباره عما يكون في المستقبل باطل بل أخباره كلها موافقة لمخبراتها، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: { ءأعجمي وعربي } قال: لو كان هذا القرآن أعجمياً لقالوا: كيف نتعلمه ولساننا عربي وأتيتنا بقرآن أعجمي فأحب الله أن ينزله بلسانهم وقد قال الله عز وجل: { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه }.
وفي روضة الكافي بإسناده عن الطيار عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل: { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } قال: خسف ومسخ وقذف. قال: قلت: { حتى يتبين لهم } قال: دع ذا ذاك قيام القائم.
وفي إرشاد المفيد عن علي بن أبي حمزة عن أبي الحسن موسى عليه السلام في الآية قال: الفتن في آفاق الأرض والمسخ في أعداء الحق.
وفي روضة الكافي بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام في الآية قال: يريهم في أنفسهم المسخ، ويريهم في الآفاق انتقاض الآفاق عليهم فيرون قدرة الله عز وجل في أنفسهم وفي الآفاق. قلت له: حتى يتبين لهم أنه الحق؟ قال: خروج القائم هو الحق عند الله عز وجل يراه الخلق.