التفاسير

< >
عرض

قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ ٱللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
١٤
مَنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ
١٥
وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى ٱلْعَالَمينَ
١٦
وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ فَمَا ٱخْتَلَفُوۤاْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
١٧
ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ فَٱتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ
١٨
إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ ٱلظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلْمُتَّقِينَ
١٩
-الجاثية

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
لما ذكر آيات الوحدانية وأشار فيها بعض الإِشارة إلى المعاد وكذا إلى النبوّة في ضمن ذكر تنزيل الكتاب وإيعاد المستكبرين المستهزئين به ذكر في هذه الآيات تشريع الشريعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتوسّل إلى ذلك بمقدمتين تربطانه بما تقدم من الكلام إحداهما دعوة المؤمنين إلى أن يكفوا عن التعرض لحال الكفار الذين لا يرجون أيام الله فإن الله مجازيهم لأن الأعمال مسؤول عنها صالحة أو طالحة، وهذا هو السبب لتشريع الشريعة، والثانية: أن إنزال الكتاب والحكم والنبوة ليس ببدع فقد آتى الله بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة وآتاهم البينات التي لا يبقى معها في دين الله ريب لمرتاب إلا أن علماءهم اختلفوا فيه بغياً منهم وسيقضي الله بينهم.
ثم ذكر سبحانه تشريع الشريعة له وأمره باتباعها ونهاه عن اتباع أهواء الجاهلين.
قوله تعالى: { قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله } الخ، أمر منه تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يأمر المؤمنين أن يغفروا للكفار فيصير تقدير الآية: قل لهم: اغفروا يغفروا فهي كقوله تعالى:
{ { قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة } [إبراهيم: 31]. والآية مكية واقعة في سياق الآيات السابقة الواصفة لحال المستكبرين المستهزئين بآيات الله المهددة لهم بأشد العذاب وكأن المؤمنين بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا إذا رأوا هؤلاء المستهزئين يبالغون في طعنهم وإهانتهم للنبي واستهزائهم بآيات الله لم يتمالكوا أنفسهم دون أن يدافعوا عن كتاب الله ومن أرسله به ويدعوهم إلى رفض ما هم فيه والإِيمان مع كونهم ممن حقّت عليهم كلمة العذاب كما هو ظاهر الآيات السابقة، فأمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يأمرهم بالعفو والصفح عنهم وعدم التعرض لحالهم فإن وبال أعمالهم سيلحق بهم وجزاء ما كسبوه سينالهم.
وعلى هذا فالمراد بالمغفرة في قوله: { قل للذين آمنوا يغفروا } الصفح والإِعراض عنهم بترك مخاصمتهم ومجادلتهم، والمراد بالذين لا يرجون أيام الله هم الذين ذكروا في الآيات السابقة فإنهم لا يتوقعون لله أياماً لا حكم فيها ولا ملك إلا له تعالى كيوم الموت والبرزخ ويوم القيامة ويوم عذاب الاستئصال.
وقوله: { ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون } تعليل للأمر بالمغفرة أو للأمر بالأمر بالمغفرة ومحصله ليصفحوا عنهم ولا يتعرضوا لهم، فلا حاجة إلى ذلك لأن الله سيجزيهم بما كانوا يكسبون فتكون الآية نظيرة قوله:
{ { وذرني والمكذبين أُولي النعمة ومهّلهم قليلاً إن لدينا أنكالاً وجحيماً } [المزمل: 11 - 12]، وقوله: { { ثم ذرهم في خوضهم يلعبون } [الأنعام: 91]، وقوله: { { فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون } [المعارج: 42]، وقوله: { { فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون } [الزخرف: 89]. ومعنى الآية: مر الذين آمنوا أن يعفوا ويصفحوا عن أُولئك المستكبرين المستهزئين بآيات الله الذين لا يتوقعون أيام الله ليجزيهم الله بما كانوا يكسبون ويوم الجزاء يوم من أيامه أي ليصفحوا عن هؤلاء المنكرين لآيام الله حتى يجزيهم بأعمالهم في يوم من أيامه.
وفي قوله: { ليجزي قوماً } وضع الظاهر موضع الضمير، وكان مقتضى الظاهر أن يقال: ليجزيهم، والنكتة فيه مع كون { قوماً } نكرة غير موصوفة تحقير أمرهم وعدم العناية بشأنهم كأنهم قوم منكرون لا يعرف شخصهم ولا يهتم بشيء من أمرهم.
وبما تقدم من تقرير معنى الآية تتصل الآية وما بعدها بما قبلها وتندفع الاشكالات التي أوردوها عليها واهتموا بالجواب عنها، ويظهر فساد المعاني المختلفة التي ذكروها لها ومن أراد الاطلاع عليها فليراجع المطولات.
قوله تعالى: { من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون } في موضع التعليل لقوله: { ليجزي قوماً } الخ، ولذا لم يعطف وليس من الاستئناف في شيء.
ومحصل المعنى: ليجزيهم الله بما كسبوا فإن الأعمال لا تذهب سُدىً وبلا أثر بل من عمل صالحاً انتفع به ومن أساء العمل تضرر به ثم إلى ربكم ترجعون فيجزيكم حسب أعمالكم إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً.
قوله تعالى: { ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة } الخ، لما بين أن للأعمال آثاراً حسنة أو سيئة تلحق صاحبيها أراد التنبيه على تشريع شريعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ كان على الله سبحانه أن يهدي عباده إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم كما قال تعالى:
{ { وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر } [النحل: 9]. فنبه على ذلك بقوله الآتي: { ثم جعلناك على شريعة من الأمر } الخ، وقدّم على ذلك الإِشارة إلى ما آتى بني إسرائيل من الكتاب والحكم والنبوة ورزقهم من الطيبات وتفضيلهم وإيتائهم البينات ليؤذن به أن الإِفاضة الإِلهية بالشريعة والنبوة والكتاب ليست ببدع لم يسبق إليه بل لها نظير في بني إسرائيل وهم بمرآهم ومسمعهم.
فقوله: { ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة } المراد بالكتاب التوراة المشتملة على شريعة موسى عليه السلام وأما الإِنجيل فلا يتضمن الشريعة وشريعته شريعة التوراة، وأما زبور داود فهي أدعية وأذكار, ويمكن أن يراد بالكتاب جنسه الشامل للتوراة والإِنجيل والزبور كما قيل لكن يبعده أن الكتاب لم يطلق في القرآن إلا على ما يشتمل على الشريعة.
والمراد بالحكم بقرينة ذكره مع الكتاب ما يحكم ويقضي به الكتاب من وظائف الناس كما يذكره قوله تعالى:
{ { وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } [البقرة: 213]، وقال في التوراة: { { يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله } [الروم: 44]، فالحكم من لوازم الكتاب كما أن النبوة من لوازمه.
والمراد بالنبوة معلوم وقد بعث الله من بني إسرائيل جماً غفيراً من الأنبياء كما في الأخبار وقص في كتابه جماعة من رسلهم.
وقوله: { ورزقناهم من الطيبات } أي طيبات الرزق ومن ذلك المن والسلوى.
وقوله: { وفضلناهم على العالمين } إن كان المراد جميع العالمين فقد فضلوا من بعض الجهات ككثرة الأنبياء المبعوثين والمعجزات الكثيرة الظاهرة من أنبيائهم، وإن كان المراد عالمي زمانهم فقد فضلوا من جميع الجهات.
قوله تعالى: { وآتيناهم بينات من الأمر } إلى آخر الآية المراد بالبينات الآيات البينات التي تزيل كل شك وريب تمحوه عن الحق ويشهد بذلك تفريع قوله: { فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم }.
والمراد بالأمر قيل: هو أمر الدين، و { من } بمعنى في والمعنى: وأعطيناهم دلائل بيّنة في أمر الدين ويندرج فيه معجزات موسى عليه السلام.
وقيل: المراد به أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمعنى: آتيناهم آيات من أمر النبي وعلامات مبينة لصدقه كظهوره في مكة ومهاجرته منها إلى يثرب ونصرة أهله وغير ذلك مما كان مذكوراً في كتبهم.
وقوله: { فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم } يشير إلى أن ما ظهر بينهم من الاختلاف في الدين واختلاط الباطل بالحق لم يكن عن شبهة أو جهل وإنما أوجدها علماؤهم بغياً وكان البغي دائراً بينهم.
وقوله: { إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } إشارة إلى أن اختلافهم الذي لا يخلو من اختلاط الباطل بالحق لا يذهب سدى وسيؤثر أثره ويقضي الله بينهم يوم القيامة فيجزون على حسب ما يستدعيه أعمالهم.
قوله تعالى: { ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون } الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ويشاركه فيه أُمته، والشريعة طريق ورود الماء والأمر أمر الدين، والمعنى: بعدما آتينا بني إسرائيل ما آتينا جعلناك على طريقة خاصة من أمر الدين الإِلهي وهي الشريعة الإِسلامية التي خص الله بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأُمته.
وقوله: { فاتبعها } الخ، أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم باتباع ما يوحى إليه من الدين وأن لا يتبع أهواء الجاهلين المخالفة للدين الإِلهي.
ويظهر من الآية أولاً: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكلف بالدين كسائر الأُمة.
وثانياً: أن كل حكم عملي لم يستند إلى الوحي الإِلهي ولم ينته إليه فهو هوى من أهواء الجاهلين غير منتسب إلى العلم.
قوله تعالى: { إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً } الخ، تعليل للنهي عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، والإِغناء من شيء رفع الحاجة إليه، والمحصّل: أن لك إلى الله سبحانه حوائج ضرورية لا يرفعها إلا هو والذريعة إلى ذلك اتباع دينه لا غير فلا يغني عنك هؤلاء الذين اتَّبعت أهواءهم شيئاً من الأشياء إليها الحاجة أو لا يغني شيئاً من الإِغناء.
وقوله: { وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين } الذي يعطيه السياق أنه تعليل آخر للنهي عن اتباع أهواء الجاهلين، وأن المراد بالظالمين المتبعون لأهوائهم المبتدعة وبالمتقين المتبعون لدين الله.
والمعنى: أن الله ولي الذين يتعبون دينه لأنهم متقون والله وليهم، والذين يتبعون أهواء الجهلة ليس هو تعالى ولياً لهم بل بعضهم أولياًء بعض لأنهم ظالمون والظالمون بعضهم أولياء بعض فاتبع دين الله يكن لك ولياً ولا تتبع أهواءهم حتى يكونوا أولياء لك لا يغنون عنك من الله شيئاً.
وتسمية المتبعين لغير دين الله بالظالمين هو الموافق لما يستفاد من قوله:
{ { أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً وهم بالأخرة كافرون } [الأعراف: 24 - 45].