التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ
٧
وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ
٨
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَٰلَهُمْ
٩
أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا
١٠
ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ مَوْلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَأَنَّ ٱلْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَىٰ لَهُمْ
١١
إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ ٱلأَنْعَامُ وَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ
١٢
وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ
١٣
أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءُ عَمَلِهِ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَاءَهُمْ
١٤
مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي ٱلنَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ
١٥
-محمد

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
الآيات جارية على السياق السابق.
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم } تحضيض لهم على الجهاد ووعد لهم بالنصر إن نصروا الله تعالى فالمراد بنصرهم لله أن يجاهدوا في سبيل الله على أن يقاتلوا لوجه الله تأييداً لدينه وإعلاء لكلمة الحق لا ليستعلوا في الأرض أو ليصيبوا غنيمة أو ليظهروا نجدة وشجاعة.
والمراد بنصر الله لهم توفيقه الأسباب المقتضية لظهورهم وغلبتهم على عدوهم كإلقاء الرعب في قلوب الكفار وإدارة الدوائر للمؤمنين عليهم وربط جأش المؤمنين وتشجيعهم، وعلى هذا فعطف تثبيت الأقدام على النصر من عطف الخاص على العام وتخصيص تثبيت الأقدام، وهو كناية عن التشجيع وتقوية القلوب، لكونه من أظهر أفراد النصر.
قوله تعالى: { والذين كفروا فتعساً لهم وأضل أعمالهم } ذكر ما يفعل بالكفار عقيب ذكر ما يفعل بالمؤمنين الناصرين لله لقياس حالهم من حالهم.
والتعس هو سقوط الإِنسان على وجهه وبقاؤه عليه ويقابله الانتعاش وهو القيام عن السقوط على الوجه فقوله: "تعساً لهم" أي تعسوا تعساً وهو وما يتلوه دعاء عليهم نظير قوله:
{ { قاتلهم الله أنى يؤفكون } [المنافقون: 4]، { { قتل الإِنسان ما أكفره } [عبس: 17]، ويمكن أن يكون إخباراً عن تعسهم وبطلان أثر مساعيهم على نحو الكناية فإن الإِنسان أعجز ما يكون إذا كان ساقطاً على وجهه.
قوله تعالى: { ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم } المراد بما أنزل الله هو القرآن والشرائع والأحكام التي أنزلها الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وأمر بإطاعتها والانقياد لها فكرهوها واستكبروا عن اتباعها.
والآية تعليل مضمون الآية السابقة، والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: { أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمَّر الله عليهم وللكافرين أمثالها } التدمير الإِهلاك، يقال: دمَّره الله أي أهلكه، ويقال: دمَّر الله عليه أي أهلك ما يخصه من نفس وأهل ودار وعقار فدمَّر عليه أبلغ من دمَّره كما قيل، وضمير { أمثالها } للعاقبة أو للعقوبة المدلول عليها بسابق الكلام.
والمراد بالكافرين الكافرون بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمعنى: وللكافرين بك يا محمد أمثال تلك العاقبة أو العقوبة وإنما أوعدوا بأمثال العاقبة أو العقوبة ولا يحلّ بهم إلا مثل واحد لأنهم في معرض عقوبات كثيرة دنيوية وأخروية وإن كان لا يحلّ بهم إلا بعضها، ويمكن أن يراد بالكافرين مطلق الكافرين، والجملة من باب ضرب القاعدة.
قوله تعالى: { ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم } الإِشارة بذلك إلى ما تقدم من نصر المؤمنين ومقت الكافرين وسوء عاقبتهم، ولا يصغى إلى ما قيل: إنه إشارة إلى ثبوت عاقبة أو عقوبة الأمم السالفة لهؤلاء، وكذا ما قيل: إنه إشارة إلى نصر المؤمنين، وذلك لأن الآية متعرضة لحال الطائفتين: المؤمنين والكفار جميعاً.
والمولى كأنه مصدر ميمي أُريد به المعنى الوصفي فهو بمعنى الولي ولذلك يطلق على سيد العبد ومالكه لأن له ولاية التصرف في أمور عبده، ويطلق على الناصر لأنه يلي التصرف في أمر منصوره بالتقوية والتأييد والله سبحانه مولى لأنه المالك الذي يلي أمور خلقه في صراط التكوين ويدبرها كيف يشاء، قال تعالى:
{ { ما لكم من دونه من وليّ ولا شفيع } [السجدة: 4]، وقال: { { وردُّوا إلى الله مولاهم الحق } [يونس: 30]، وهو تعالى مولى لأنه يلي تدبير أمور عباده في صراط السعادة فيهديهم إلى سعادتهم والجنة ويوفقهم للصالحات وينصرهم على أعدائهم، والمولوية بهذا المعنى الثاني تختص بالمؤمنين، لأنهم هم الداخلون في حظيرة العبودية المتبعون لما يريده منهم ربهم دون الكفار.
وللمؤمنين مولى وولي هو الله سبحانه كما قال: { ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا }، وقال:
{ { الله وليُّ الذين آمنوا } [البقرة: 257]، وأما الكفار فقد اتخذوا الأصنام أو أرباب الأصنام أولياء فهم أولياؤهم على ما زعموا كما قال بالبناء على مزعمتهم بنوع من التهكم: { { والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت } [البقرة: 257]، ونفى ولايتهم بالبناء على حقيقة الأمر فقال: { وأن الكافرين لا مولى لهم } ثم نفى ولايتهم مطلقاً تكويناً وتشريعاً مطلقاً فقال: { { أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي } [الشورى: 9]، وقال: { { إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم } [النجم: 23]. فمعنى الآية: أن نصره تعالى للمؤمنين وتثبيته أقدامهم وخذلانه الكفار وإضلاله أعمالهم وعقوبته لهم إنما ذلك بسبب أنه تعالى مولى المؤمنين ووليّهم، وأن الكفار لا مولى لهم فينصرهم ويهدي أعمالهم وينجيهم من عقوبته.
وقد تبين بما تقدم ضعف ما قيل: إن المولى في الآية بمعنى الناصر دون المالك وإلا كان منافياً لقوله تعالى:
{ { وردّوا إلى الله مولاهم الحق } [يونس: 30]، ووجه الضعف ظاهر.
قوله تعالى: { إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوىً لهم } مقايسة بين الفريقين وبيان أثر ولاية الله للمؤمنين وعدم ولايته للكفار من حيث العاقبة والآخرة وهي أن المؤمنين يدخلون الجنة والكفار يقيمون في النار.
وقد أُشير في الكلام إلى منشأ ما ذكر من الأثر حيث وصف كلاً من الفريقين بما يناسب مآل حاله فأشار إلى صفة المؤمنين بقوله: { الذين آمنوا وعملوا الصالحات } وإلى صفة الكفار بقوله: { يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام } فأفاد الوصفان بما بينهما من المقابلة أن المؤمنين راشدون في حياتهم الدنيا مصيبون للحق حيث آمنوا بالله وعملوا الأعمال الصالحة فسلكوا سبيل الرشد وقاموا بوظيفة الإِنسانية، وأما الكفار فلا عناية لهم بإصابة الحق ولا تعلق لقلوبهم بوظائف الإِنسانية، وإنما همُّهم بطنهم وفرجهم يتمتعون في حياتهم الدنيا القصيرة ويأكلون كما تأكل الأنعام لا منية لهم إلا ذلك ولا غاية لهم وراءه.
فهؤلاء أي المؤمنون تحت ولاية الله حيث يسلكون مسلكاً يريده منهم ربهم ويهديهم إليه ولذلك يدخلهم في الآخرة جنات تجري من تحتها الأنهار، وأُولئك أي الكفار ما لهم من ولي وإنما وكلوا إلى أنفسهم ولذلك كان مثواهم ومقامهم النار.
وإنما نسب دخول المؤمنين الجنات إلى الله نفسه دون إقامة الكفار في النار قضاء لحق الولاية المذكورة فله تعالى عناية خاصة بأوليائه، وأما المنسلخون من ولايته فلا يبالي في أي واد هلكوا.
قوله تعالى: { وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم } المراد بالقرية أهل القرية بدليل قوله بعد: { أهلكناهم } الخ، والقرية التي أخرجته صلى الله عليه وآله وسلم هي مكة.
وفي الآية تقوية لقلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتهديد لأهل مكة وتحقير لأمرهم أن الله أهلك قرى كثيرة كل منها أشد قوة من قريتهم ولا ناصر لهم ينصرهم.
قوله تعالى: { أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم } السياق الجاري على قياس حال المؤمنين بحال الكفار يدل على أن المراد بمن كان على بينة من ربه هم المؤمنون فالمراد بكونهم على بينة من ربهم كونهم على دلالة بينة من ربهم توجب اليقين على ما اعتقدوا عليه وهي الحجة البرهانية فهم إنما يتبعون الحجة القاطعة على ما هو الحري بالإِنسان الذي من شأنه أن يستعمل العقل ويتبع الحق.
وأما الذين كفروا فقد شغفهم أعمالهم السيئة التي زينها لهم الشيطان وتعلقت بها أهواؤهم وعملوا السيئات، فكم بين الفريقين من فرق.
قوله تعالى: { مثل الجنة التي وعد المتقون } إلى آخر الآية يفرق بين الفريقين ببيان مآل أمرهما وهو في الحقيقة توضيح ما مر في قوله: { إن الله يدخل الذين آمنوا } الخ من الفرق بينهما فهذه الآية في الحقيقة تفصيل تلك الآية.
فقوله: { مثل الجنة التي وعد المتقون } المثل بمعنى الصفة - كما قيل - أي صفة الجنة التي وعد الله المتقين أن يدخلهم فيها، وربما حمل المثل على معناه المعروف واستفيد منه أن الجنة أرفع وأعلى من أن يحيط بها الوصف ويحدها اللفظ وإنما تقرب إلى الأذهان نوع تقريب بأمثال مضروبة كما يلوح إليه قوله تعالى:
{ { فلا تعلم نفس ما أُخفي لهم من قرة أعين } [السجدة: 17]. وقد بدل قوله في الآية السابقة: { الذين آمنوا وعملوا الصالحات } في هذه الآية من قوله: { المتقون } تبديل اللازم من الملزوم فإن تقوى الله يستلزم الإِيمان به وعمل الصالحات من الأعمال.
وقوله: { فيها أنهار من ماء غير آسن } أي غير متغير بطول المقام، وقوله: { وأنهار من لبن لم يتغير طعمه } كما في ألبان الدنيا، وقوله: { وأنهار من خمر لذة للشاربين } أي لذيذة للشاربين، واللذة إما صفة مشبهة مؤنثة وصف للخمر، وإما مصدر وصفت به الخمر مبالغة، وإما بتقدير مضاف أي ذات لذة، وقوله: { وأنهار من عسل مصفى } أي خالص من الشمع والرغوة والقذى وسائر ما في عسل الدنيا من الأذى والعيوب، وقوله: { ولهم فيها من كل الثمرات } جمع للتعميم.
وقوله: { ومغفرة من ربهم } ينمحي بها عنهم كل ذنب وسيئة فلا تتكدر عيشتهم بمكدر ولا ينتغص بمنغص، وفي التعبير عنه تعالى بربهم إشارة إلى غشيان الرحمة وشمول الحنان والرأفة الإِلهية.
وقوله: { كمن هو خالد في النار } قياس محذوف أحد طرفيه أي أمن يدخل الجنة التي هذا مثلها كمن هو خالد في النار وشرابهم الماء الشديد الحرارة الذي يقطع أمعاءهم وما في جوفهم من الأحشاء إذا سقوه، وإنما يسقونه وهم مكرهون كما في قوله: { وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم }، وقيل: قوله: { كمن هو خالد } الخ، بيان لقوله في الآية السابقة: { كمن زين } الخ، وهو كما ترى.
(بحث روائي)
في المجمع في قوله تعالى: { ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله } قال أبو جعفر عليه السلام: كرهوا ما أنزل الله في حق علي عليه السلام.
وفيه في قوله تعالى: { كمن زين له سوء عمله } قيل: هم المنافقون وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام.
أقول: ويحتمل أن تكون الروايتان من الجري.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: { كمن هو خالد في النار وسقوا ماءً حميماً فقطَّع أمعاءهم } قال: ليس من هو في هذه الجنة الموصوفة كمن هو في هذه النار كما أن ليس عدوّ الله كوليّه.