التفاسير

< >
عرض

لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً
١٨
وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَان ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً
١٩
وَعَدَكُمُ ٱللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَـٰذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ ٱلنَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً
٢٠
وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ ٱللَّهُ بِهَا وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً
٢١
وَلَوْ قَـٰتَلَكُمُ ٱلَّذِينَ كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
٢٢
سُنَّةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً
٢٣
وَهُوَ ٱلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً
٢٤
هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
٢٥
إِذْ جَعَلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ وَكَانُوۤاْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً
٢٦
لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَا بِٱلْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً
٢٧
هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً
٢٨
-الفتح

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
فصل رابع من الآيات يذكّر تعالى فيه المؤمنين ممن كان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خروجه إلى الحديبية فيذكّر رضاه عنهم إذ بايعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحت الشجرة ثم يمتنّ عليهم بإنزال السكينة وإثابة فتح قريب ومغانم كثيرة يأخذونها.
ويخبرهم - وهو بشرى - أن المشركين لو قاتلوهم لانهزموا وولّوا الأدبار وأن الرؤيا التي رآها النبي صلى الله عليه وآله وسلم رؤيا صادقة سيدخلون المسجد الحرام آمنين محلّقين رؤوسهم لا يخافون فإنه تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
قوله تعالى: { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } الرضا هيئة تطرأ على النفس من تلقّي ما يلائمها وتقبله من غير دفع، ويقابله السخط، وإذا نسب إلى الله سبحانه كان المراد الإِثابة والجزاء الحسن دون الهيئة الطارئة والصفة العارضة الحادثة لاستحالة ذلك عليه تعالى, فرضاه سبحانه من صفات الفعل لا من صفات الذات.
والرضا - كما قيل - يستعمل متعدياً إلى المفعول بنفسه ومتعدياً بعن ومتعدياً بالباء فإذا عدّي بنفسه جاز دخوله على الذات نحو: رضيت زيداً، وعلى المعنى نحو: رضيت أمارة زيد، قال تعالى:
{ { ورضيت لكم الإِسلام ديناً } [المائدة: 3]، وإذا عدّي بعن دخل على الذات كقوله: { { رضي الله عنهم ورضوا عنه } [المجادلة: 22]، وإذا عدّي بالباء دخل على المعنى كقوله تعالى: { أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة }.
ولما كان الرضا المنسوب إليه تعالى صفة فعل له بمعنى الإِثابة والجزاء، والجزاء إنما يكون بإزاء العمل دون الذات ففيما نسب من رضاه تعالى إلى الذات وعدّي بعن كما في الآية { لقد رضي الله عن المؤمنين } نوع عناية استدعى عد الرضا وهو متعلق بالعمل متعلقاً بالذات وهو أخذ بيعتهم التي هي متعلقة الرضا ظرفاً للرضى فلم يسع إلا أن يكون الرضا متعلقاً بهم أنفسهم.
فقوله: { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } إخبار عن إثابته تعالى لهم بإزاء بيعتهم له صلى الله عليه وآله وسلم تحت الشجرة.
وقد كانت البيعة يوم الحديبية تحت شجرة سمرة بها بايعه صلى الله عليه وآله وسلم من معه من المؤمنين وقد ظهر به أن الظرف في قوله: { إذ يبايعونك } متعلق بقوله: { لقد رضي } واللام للقسم.
قوله تعالى: { فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزاً حكيماً } تفريع على قوله: { لقد رضي الله } الخ، والمراد بما في قلوبهم حسن النية وصدقها في مبايعتهم فإن العمل إنما يكون مرضياً عند الله لا بصورته وهيئته بل بصدق النية وإخلاصها.
فالمعنى: فعلم ما في قلوبهم من صدق النية وإخلاصها في مبايعتهم لك.
وقيل: المراد بما في قلوبهم الإِيمان وصحته وحب الدين والحرص عليه، وقيل: الهم والأنفة من لين الجانب للمشركين وصلحهم. والسياق لا يساعد على شيء من هذين الوجهين كما لا يخفى.
فإن قلت: المراد بما في قلوبهم ليس مطلق ما فيها بل نيَّتهم الصادقة المخلصة في المبايعة كما ذكر، وعلمه تعالى بنيتهم الموصوفة بالصدق والإِخلاص سبب يتفرع عليه رضاه تعالى عنهم لا مسبب متفرع على الرضا، ولازم ذلك تفريع الرضا على العلم بأن يقال: لقد علم ما في قلوبهم فرضي عنهم لا تفريع العلم على الرضا كما في الآية.
قلت: كما أن للمسبب تفرعاً على السبب من حيث التحقق والوجود كذلك للسبب - سواء كان تاماً أو ناقصاً - تفرع على المسبب من حيث الانكشاف والظهور، والرضا كما تقدم صفة فعل له تعالى منتزع عن مجموع علمه تعالى بالعمل الصالح وما يثيب به ويجزي صاحب العمل، والذي انتزع عنه الرضا في المقام هو مجموع علمه تعالى بما في قلوبهم وإنزاله السكينة عليهم وإثابتهم فتحاً قريباً ومغانم كثيرة يأخذونها.
فقوله: { فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة } الخ، تفريع على قوله: { لقد رضي الله عن المؤمنين } للدلالة على حقيقة هذا الرضا والكشف عن مجموع الأمور التي بتحققها يتحقق معنى الرضا.
ثم قوله: { فأنزل السكينة عليهم } متفرع على قوله: { فعلم ما في قلوبهم } وكذا ما عطف عليه من قوله: { وأثابهم فتحاً قريباً } الخ.
والمراد بالفتح القريب فتح خيبر على ما يفيده السياق وكذا المراد بمغانم كثيرة يأخذونها، غنائم خيبر، وقيل: المراد بالفتح القريب فتح مكة، والسياق لا يساعد عليه.
وقوله: { وكان الله عزيزاً حكيماً } أي غالباً فيما أراد متقناً لفعله غير مجازف فيه.
قوله تعالى: { وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجَّل لكم هذه } الخ، المراد بهذه المغانم الكثيرة المغانم التي سيأخذها المؤمنون بعد الرجوع من الحديبية أعمَّ من مغانم خيبر وغيرها فتكون الإِشارة بقوله: { فعجل لكم هذه } إلى المغانم المذكورة في الآية السابقة وهي مغانم خيبر نزلت منزلة الحاضرة لاقتراب وقوعها.
هذا على تقدير نزول الآية مع الآيات السابقة، وأما على ما قيل: إن الآية نزلت بعد فتح خيبر فأمر الإِشارة في قوله: { فعجل لكم هذه } ظاهر لكن المعروف نزول السورة بتمامها في مرجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الحديبية بينها وبين المدينة.
وقيل: الإِشارة بهذه إلى البيعة التي بايعوها تحت الشجرة وهو كما ترى.
وقوله: { وكف أيدي الناس عنكم } قيل: المراد بالناس قبيلتا أسد وغطفان هموا بعد مسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى خيبر أن يغيروا على أموال المسلمين وعيالهم بالمدينة فقذف الله في قلوبهم الرعب وكف أيديهم.
وقيل: المراد مالك بن عوف وعيينة بن حصين مع بني أسد وغطفان جاءوا لنصرة يهود خيبر فقذف الله في قلوبهم الرعب فرجعوا، وقيل: المراد بالناس أهل مكة ومن والاها حيث لم يقاتلوه صلى الله عليه وآله وسلم ورضوا بالصلح.
وقوله: { ولتكون آية للمؤمنين } عطف على مقدر أي وعدهم الله بهذه الإِثابة إثابة الفتح والغنائم الكثيرة المعجلة والمؤجلة لمصالح كذا وكذا ولتكون آية للمؤمنين أي علامة وأمارة تدلهم على أنهم على الحق وأن ربهم صادق في وعده ونبيهم صلى الله عليه وآله وسلم صادق في إنبائه.
وقد اشتملت السورة على عدة من أنباء الغيب فيها هدى للمتقين كقوله: { سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا } الخ، وقوله: { سيقول المخلفون إذا انطلقتم } الخ، وقوله: { قل للمخلفين من الأعراب ستدعون } الخ، وما في هذه الآيات من وعد الفتح والمغانم، وقوله بعد: { وأُخرى لم تقدروا عليها } الخ، وقوله بعد: { لقد صدق الله رسوله الرؤيا } الخ.
وقوله: { ويهديكم صراطاً مستقيماً } عطف على { تكون } أي وليهديكم صراطاً مستقيماً وهو الطريق الموصل إلى إعلاء كلمة الحق وبسط الدين، وقيل: هو الثقة بالله والتوكل عليه في كل ما تأتون وتذرون، وما ذكرناه أوفق للسياق.
قوله تعالى: { وأُخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شيء قديراً } أي وغنائم أُخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها إحاطة قدرة وكان الله على كل شيء قديراً.
فقوله: { أُخرى } مبتدأ و { لم تقدروا عليها } صفته وقوله: { قد أحاط الله بها } خبره الثاني وخبره الأول محذوف، وتقدير الكلام: وثمَّة غنائم أخرى قد أحاط الله بها.
وقيل: قوله: { أُخرى } في موضع نصب بالعطف على قوله: { هذه } والتقدير: وعجل لكم غنائم أخرى، وقيل: في موضع نصب بفعل محذوف، والتقدير: وقضى غنائم أخرى، وقيل: في موضع جر بتقدير رب والتقدير: ورب غنائم أخرى، وهذه وجوه لا يخلو شيء منها من وهن.
والمراد بالأخرى في الآية - على ما قيل - غنائم هوازن، وقيل: المراد غنائم فارس والروم، وقيل: المراد فتح مكة والموصوف محذوف، والتقدير: وقرية أخرى لم تقدروا عليها أي على فتحها، وأول الوجوه أقربها.
قوله تعالى: { ولو قاتلكم الذين كفروا لولَّوا الأدبار ثم لا يجدون ولياً ولا نصيراً } خبر آخر ينبئهم الله سبحانه ضعف الكفار عن قتال المؤمنين بأنفسهم وأن ليس لهم ولي يتولى أمرهم ولا نصير ينصرهم، ويتخلص في أنهم لا يقوون في أنفسهم على قتالكم ولا نصير لهم من الأعراب ينصرهم، وهذا في نفسه بشرى للمؤمنين.
قوله تعالى: { سنَّة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً } { سنة اللهِ } مفعول مطلق لفعل مقدَّر أي سن سنة الله أي هذه سنة قديمة له سبحانه أن يظهر أنبياءه والمؤمنين بهم إذا صدقوا في إيمانهم وأخلصوا نيَّاتهم على أعدائهم من الذين كفروا ولن تجد لسنة الله تبديلاً كما قال تعالى:
{ { كتب الله لأغلبنَّ أنا ورسلي } [المجادلة: 21]. ولم يصب المسلمون في شيء من غزواتهم إلا بما خالفوا الله ورسوله بعض المخالفة.
قوله تعالى: { وهو الذي كفَّ أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم } الخ، الظاهر أن المراد بكف أيدي كل من الطائفتين عن الأخرى ما وقع من الصلح بين الفئتين بالحديبية وهي بطن مكة لقربها منها واتصالها بها حتى قيل إن بعض أراضيها من الحرم وذلك أن كلاً من الفئتين كانت أعدى عدو للأخرى وقد اهتمت قريش بجمع المجموع من أنفسهم ومن الأحابيش، وبايع المؤمنون النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أن يقاتلوا، وعزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أن يناجز القوم، وقد أظفر الله النبي والذين آمنوا على الكفار حيث دخلوا أرضهم وركزوا أقدامهم في عقر دارهم فلم يكن ليتوهم بينهم إلا القتال لكن الله سبحانه كفّ أيدي الكفار عن المؤمنين وأيدي المؤمنين عن الكفار بعد إظفار المؤمنين عليهم وكان الله بما يعملون بصيراً.
قوله تعالى: { هم الذين كفروا وصدُّوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفاً أن يبلغ محلَّه } العكوف على أمر هو الإِقامة عليه، والمعكوف - كما في المجمع - الممنوع من الذهاب إلى جهة بالإِقامة في مكانه، ومنه الاعتكاف وهو الإِقامة في المسجد للعبادة.
والمعنى: المشركون مشركوا مكة هم الذين كفروا ومنعوكم عن المسجد الحرام ومنعوا الهدي - الذي سقتموه - حال كونه محبوساً من أن يبلغ محله أي الموضع الذي ينحر أو يذبح فيه وهو مكة التي ينحر أو يذبح فيها هدي العمرة كما أن هدي الحج ينحر أو يذبح في منى، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه من المؤمنين محرمين للعمرة ساقوا هدياً لذلك.
قوله تعالى: { ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرَّة بغير علم } الوطء الدوس، والمعرَّة المكروه، وقوله: { أن تطئوهم } بدل اشتمال من مدخول لولا، وجواب لولا محذوف، والتقدير: ما كفَّ أيديكم عنهم.
والمعنى: ولولا أن تدوسوا رجالاً مؤمنين ونساء مؤمنات بمكة وأنتم جاهلون بهم لا تعلمون فتصيبكم من قتلهم وإهلاكهم مكروه لما كفَّ الله أيديكم عنهم.
وقوله: { ليدخل الله في رحمته من يشاء } اللام متعلق بمحذوف، والتقدير: ولكن كفَّ أيديكم عنهم ليدخل في رحمته أولئك المؤمنين والمؤمنات غير المتميزين بسلامتهم من القتل وإياكم بحفظكم من إصابة المعرَّة.
وقيل: المعنى: ليدخل في رحمته من أسلم من الكفار بعد الصلح.
وقوله: { لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً } التزيل التفرق وضمير { تزيلوا } لجميع من تقدم ذكره من المؤمنين والكفار من أهل مكة أي لو تفرقوا بأن يمتاز المؤمنون من الكفار لعذبنا الذين كفروا من أهل مكة عذاباً أليماً لكن لم نعذبهم لحرمة من اختلط بهم من المؤمنين.
قوله تعالى: { إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية } إلى آخر الآية قال الراغب: وعبر عن القوة الغضبية إذا ثارت وكثرت بالحمية فيقال: حميت على فلان أي غضبت عليه قال تعالى: { حمية الجاهلية } وعن ذلك استعير قولهم: حميت المكان حمى انتهى.
والظرف في قوله: { إذ جعل } متعلق بقوله سابقاً: { وصدّوكم } وقيل: متعلق بقوله: { لعذبنا } وقيل: متعلق بالذكر المقدر، والجعل بمعنى الإِلقاء و { الذين كفروا } فاعلة والحمية مفعوله و { حمية الجاهلية } بيان للحمية والجاهلية وصف موضوع في موضع الموصوف والتقدير الملة الجاهلية.
ولو كان { جعل } بمعنى صيّر كان مفعوله الثاني مقدراً والتقدير إذ جعل الذين كفروا الحمية راسخة في قلوبهم ووضع الظاهر موضع الضمير في قوله: { جعل الذين كفروا } للدلالة على سبب الحكم.
ومعنى الآية: هم الذين كفروا وصدّوكم إذ ألقوا في قلوبهم الحمية حمية الملة الجاهلية.
وقوله: { فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } تفريع على قوله: { جعل الذين كفروا } ويفيد نوعاً من المقابلة كأنه قيل: جعلوا في قلوبهم الحمية فقابله الله سبحانه بإنزال السكينة على رسوله وعلى المؤمنين فاطمأنت قلوبهم ولم يستخفهم الطيش وأظهروا السكينة والوقار من غير أن يستفزهم الجهالة.
وقوله: { وألزمهم كلمة التقوى } أي جعلها معهم لا تنفكُّ عنهم، وهي على ما اختاره جمهور المفسرين كلمة التوحيد وقيل: المراد الثبات على العهد والوفاء به وقيل: المراد بها السكينة وقيل: قولهم: بلى في عالم الذرّ وهو أسخف الأقوال.
ولا يبعد أن يراد بها روح الإِيمان التي تأمر بالتقوى كما قال تعالى:
{ { أُولئك كتب في قلوبهم الإِيمان وأيدهم بروح منه } [المجادلة: 22]، وقد أطلق الله الكلمة على الروح في قوله: { { وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه } [النساء: 171]. وقوله: { وكانوا أحق بها وأهلها } أما كونهم أحق بها فلتمام استعدادهم لتلقّي هذه العطية الإِلهية بما عملوا من الصالحات فهم أحق بها من غيرهم، وأما كونهم أهلها فلأنهم مختصون بها لا توجد في غيرهم وأهل الشيء خاصته.
وقيل: المراد وكانوا أحق بالسكينة وأهلها، وقيل: إن في الكلام تقديماً وتأخيراً والأصل وكانوا أهلها وأحق بها وهو كما ترى.
وقوله: { وكان الله بكل شيء عليماً } تذييل لقوله: { وكانوا أحق بها وأهلها } أو لجميع ما تقدم، والمعنى على الوجهين ظاهر.
قوله تعالى: { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون } الخ، قيل: إن صدق وكذب مخففين يتعديان إلى مفعولين يقال: صدقت زيداً الحديث وكذبته الحديث، وإلى المفعول الثاني بفي يقال: صدقته في الحديث وكذبته فيه، ومثقلين يتعديان إلى مفعول واحد يقال: صدَّقته في حديثه وكذَّبته في حديثه.
واللام في { لقد صدق الله } للقسم، وقوله: { لتدخلن المسجد الحرام } جواب القسم.
وقوله: { بالحق } حال من الرؤيا والباء فيه للملابسة، والتعليق بالمشيئة في قوله: { إن شاء الله } لتعليم العباد والمعنى: أُقسم لقد صدق الله رسوله في الرؤيا التي أراه لتدخلن أيها المؤمنون المسجد الحرام إن شاء الله حال كونكم آمنين من شر المشركين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون المشركين.
وقوله: { فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً } { ذلك } إشارة إلى ما تقدم من دخولهم المسجد الحرام آمنين، والمراد بقوله: { من دون ذلك } أقرب من ذلك والمعنى: فعلم تعالى من المصلحة في دخولكم المسجد الحرام آمنين ما جهلتموه ولم تعلموه، ولذلك جعل قبل دخولكم كذلك فتحاً قريباً ليتيسَّر لكم الدخول كذلك.
ومن هنا يظهر أن المراد بالفتح القريب في هذه الآية فتح الحديبية فهو الذي سوَّى للمؤمنين الطريق لدخول المسجد الحرام آمنين ويسَّر لهم ذلك ولولا ذلك لم يمكن لهم الدخول فيه إلا بالقتال وسفك الدماء ولا عمرة مع ذلك لكن صلح الحديبية وما اشترط من شرط أمكنهم من دخول المسجد معتمرين في العام القابل.
ومن هنا تعرف أن قول بعضهم: إن المراد بالفتح القريب في الآية فتح خيبر بعيد من السياق، وأما القول بأنه فتح مكة فأبعد.
وسياق الآية يعطي أن المراد بها إزالة الريب عن بعض من كان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإن المؤمنين كانوا يزعمون من رؤيا رآها النبي صلى الله عليه وآله وسلم من دخولهم المسجد آمنين محلّقين رؤوسهم ومقصّرين، أنهم سيدخلونه كذلك في عامهم ذلك فلما خرجوا قاصدين مكة معتمرين فاعترضهم المشركون بالحديبية وصدُّوهم عن المسجد الحرام ارتاب بعضهم في الرؤيا فأزال الله ريبهم بما في الآية.
ومحصله: أن الرؤيا حقة أراها الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وقد صدق تعالى في ذلك، وستدخلون المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون، لكنه تعالى أخّره وقدّم عليه هذا الفتح وهو صلح الحديبية ليتيسر لكم دخوله لعلمه تعالى بأنه لا يمكن لكم دخوله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون إلا بهذا الطريق.
قوله تعالى: { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله } الخ، تقدم تفسيره في سورة التوبة الآية 33، وقوله: { وكفى بالله شهيداً } أي شاهداً على صدق نبوَّته والوعد أن دينه سيظهر على الدين كله أو على أن رؤياه صادقة، فالجملة تذييل ناظر إلى نفس الآية أو الآية السابقة.
(بحث روائي)
في الدر المنثور في قوله تعالى: { لقد رضي الله عن المؤمنين } الآية، أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سلمة بن الأكوع قال: بينا نحن قائلون إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيها الناس البيعة البيعة نزل روح القدس، فثرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو تحت شجرة سمرة فبايعناه فذلك قول الله تعالى: { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } فبايع لعثمان إحدى يديه على الأخرى فقال الناس هنيئاً لابن عفان يطوف بالبيت ونحن ها هنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو مكث كذا وكذا سنة ما طاف حتى أطوف.
وفيه أخرج عبد بن حميد ومسلم وابن مردويه عن مغفل بن يسار قال: لقد رأيتني يوم الشجرة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يبايع الناس وأنا رافع غصناً من أغصانها عن رأسه ونحن أربع عشرة مائة ولم نبايعه على الموت ولكن بايعناه على أن لا نفرّ.
أقول: كون المؤمنين يومئذٍ أربع عشرة مائة مروي في روايات اخرى، وفي بعض الروايات ألف وثلاثمائة وفي بعضها إلى ألف وثمان مائة، وكذا كون البيعة على أن لا يفرُّوا وفي بعضها على الموت.
وفيه أخرج أحمد عن جابر ومسلم عن أُم بشر عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة.
وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: { فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم } قال: إنما أُنزلت السكينة على من علم منه الوفاء.
أقول: والرواية تخصص ما تقدم عليها ويدلّ عليه قوله تعالى فيما تقدم: { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً } فاشترط في الأجر - ويلازمه الاشتراط في الرضا - الوفاء وعدم النكث، وقد أورد القمي هذا المعنى في تفسيره وكأنه رواية.
وفي الدر المنثور أيضاً في قوله تعالى: { إذ جعل الذين كفروا } الآية أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن سهل بن حنيف أنه قال يوم صفين: اتهموا أنفسكم فلقد رأيتنا يوم الحديبية نرجئ الصلح الذي كان بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين المشركين ولو نرى قتالاً لقاتلنا.
فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى. قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى. قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا؟ ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ قال: يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبداً.
فرجع متغيظاً فلم يصبر حتى جاء أبا بكر فقال: يا أبا بكر ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى. قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى. قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال: يا ابن الخطاب إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبداً فنزلت سورة الفتح فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى عمر فأقرأه إياها فقال: يا رسول الله أو فتح هو؟ قال: نعم.
وفي كمال الدين بإسناده عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل: { لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً } قال: لو أخرج الله ما في أصلاب المؤمنين من الكافرين وما في أصلاب الكافرين من المؤمنين لعذبنا الذين كفروا.
أقول: وهذا المعنى مروي في روايات أُخر.
وبإسناده عن جميل قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قوله تعالى: { وألزمهم كلمة التقوى } قال: هو الإِيمان.
وفي الدر المنثور أخرج الترمذي وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن جرير والدارقطني في الأفراد وابن مردوية والبيهقي في الأسماء والصفات عن أُبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم { وألزمهم كلمة التقوى } قال: لا إله إلا الله.
أقول: وروي هذا المعنى أيضاً بطرق أُخرى عن علي وسلمة بن الأكوع وأبي هريرة، وروي أيضاً من طرق الشيعة كما في العلل بإسناده عن الحسن بن عبد الله عن آبائه عن جده الحسن بن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث يفسر فيه "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" قال صلى الله عليه وآله وسلم:
"وقوله: لا إله إلا الله يعني وحدانيته لا يقبل الله الأعمال إلا بها، وهي كلمة التقوى يثقل الله بها الموازين يوم القيامة"
]. وفي المجمع في قصة فتح خيبر قال: ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة من الحديبية مكث بها عشرين ليلة ثم خرج منها غادياً إلى خيبر.
ذكر ابن إسحاق بإسناده إلى أبي مروان الأسلمي عن أبيه عن جده قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى خيبر حتى إذا كنا قريباً منها وأشرفنا عليها قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"قفوا فوقف الناس فقال اللهم رب السماوات السبع وما أظللن ورب الأرضين السبع وما أقللن ورب الشياطين وما أضللن إنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها ونعوذ بك من شرّ هذه القرية وشر أهلها وشرَّ ما فيها. أقدموا بسم الله"
]. وعن سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى خيبر فسرنا ليلاً فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع: ألا تسمعنا من هنيهاتك وكان عامر رجلاً شاعراً فجعل يقول:

لا هم لولا أنت ما حجينا ولا تصدّقنــا ولا صلينـا
فاغفـر فداء لك ما اقتنينا وثبّـــت الأقدام إن لاقينا
وأنزلـن سكينــــة علينـا إنـا إذا صيـــح بنــا أتينا
وبالصياح عوّلوا علينـا

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من هذا السائق؟ قالوا: عامر قال: يرحمه الله. قال عمر وهو على جمل له وجيب: يا رسول الله لولا أمتعتنا به، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما استغفر لرجل قط يخصه إلا استشهد.
قالوا: فلما جدَّ الحرب وتصافَّ القوم خرج يهودي وهو يقول:

قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرّب
إذا الحروب أقبلت تلهّب

فبرز إليه عامر وهو يقول

قد علمت خيبر أني عامر شاكي السلاح بطل مغامر

فاختلفا ضربتين فوقع سيف اليهودي في ترس عامر وكان سيف عامر فيه قصر فتناول به ساق اليهودي ليضربه فرجع ذباب سيفه فأصاب عين ركبة عامر فمات منه.
قال سلمة: فإذا نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقولون: بطل عمل عامر قتل نفسه. قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أبكي فقلت: قالوا: إن عامراً بطل عمله، فقال: من قال ذلك؟ قلت: نفر من أصحابك، فقال: كذب أولئك بل أُوتي من الأجر مرتين.
قال: فحاصرناهم حتى أصابنا مخمصة شديدة ثم إن الله فتحها علينا، وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطى اللواء عمر بن الخطاب ونهض من نهض معه من الناس فلقوا أهل خيبر فانكشف عمر وأصحابه فرجعوا إلى رسول الله يجبّنه أصحابه ويجبّنهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذته الشقيقة فلم يخرج إلى الناس فقال حين أفاق من وجعه: ما فعل الناس بخيبر؟ فاخبر فقال: لأُعطينَّ الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرّار غير فرّار لا يرجع حتى يفتح الله على يديه.
وروى البخاري ومسلم عن قتيبة بن سعيد قال: حدثنا يعقوب عن عبد الرحمن الاسكندراني عن أبي حازم قال: أخبرني سعد بن سهل أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم خيبر: لاعطينَّ هذه الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله. قال: فبات الناس يدركون بجملتهم أنهم يعطاها؟ فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلهم يرجون أن يعطاها.
فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقالوا: يا رسول الله هو يشتكي عينيه. قال: فأرسلوا إليه فأتي به فبصق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عينيه فبرأ كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول الله اقاتلهم حتى يكونوا مثلنا. قال: أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإِسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم.
قال سلمة: فبرز مرحب وهو يقول: قد علمت خيبر أني مرحب... الأبيات، فبرز له علي وهو يقول:

أنا الذي سمَّتني أُمي حيدره كليث غابات كريه المنظره
أُوفيهم بالصاع كسل السندره

فضرب مرحباً ففلق رأسه فقتله وكان الفتح على يده.
أورده مسلم في صحيحه.
وروى أبو عبد الله الحافظ بإسناده عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: خرجنا مع علي حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم فضربه رجل من اليهود فطرح ترسه من يده فتناول علي باب الحصن فتترّس به عن نفسه فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه ثم ألقاه من يده، فلقد رأيتني في نفر مع سبعة أنا ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما استطعنا أن نقلبه.
وبإسناده عن ليث بن أبي سليم عن أبي جعفر محمد بن علي قال: حدثني جابر بن عبد الله أن علياً حمل الباب يوم خيبر حتى صعد المسلمون عليه فاقتحموها، وأنه حرّك بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلاً.
قال: وروي من وجه آخر عن جابر: ثم اجتمع عليه سبعون رجلاً فكان جهدهم أن أعادوا الباب.
وبإسناده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان علي يلبس في الحر والشتاء القباء المحشو الثخين وما يبالي الحر فأتاني أصحابي فقالوا: إنا رأينا من أمير المؤمنين شيئاً فهل رأيت؟ فقلت: وما هو؟ قالوا: رأيناه يخرج علينا في الحر الشديد في القباء المحشوّ الثخين وما يبالي الحر، ويخرج علينا في البرد الشديد في الثوبين الخفيفين وما يبالي البرد فهل سمعت في ذاك شيئاً؟ فقلت: لا فقالوا: فسل لنا أباك عن ذلك فإنه يسمر معه فسألته فقال: ما سمعت في ذلك شيئاً.
فدخل على علي فسمر معه ثم سأله عن ذلك فقال: أو ما شهدت خيبر؟ قلت: بلى. قال: أفما رأيت رسول الله حين دعا أبا بكر فعقد له ثم بعثه إلى القوم فانطلق فلقي القوم ثم جاء بالناس وقد هزم ثم بعث إلى عمر فعقد له ثم بعثه إلى القوم فانطلق فلقي القوم فقاتلهم ثم رجع وقد هزم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لاعطينّ الراية اليوم رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه كرّاراً غير فرّار فدعاني وأعطاني الراية ثم قال: اللهم أكفه الحر والبرد فما وجدت بعد ذلك حراً ولا برداً، وهذا كله منقول من كتاب دلائل النبوة للإِمام أبي بكر البيهقي.
قال الطبرسي: ثم لم يزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفتح الحصون حصناً حصناً ويحوز الأموال حتى انتهوا إلى حصن الوطيح والسلالم وكان آخر حصون خيبر افتتح، وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بضع عشرة ليلة.
قال ابن إسحاق: ولما افتتح القموص حصن أبي الحقيق أُتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصفية بنت حيى بن أخطب وباخرى معها فمر بهما بلال - وهو الذي جاء بهما - على قتلى من قتلى يهود فلما رأتهم التي معها صفية صاحت وصكت وجهها وحثت التراب على رأسها فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: اعزبوا عني هذه الشيطانة، وأمر بصفية فحيزت خلفه وألقى عليها رداءه فعرف المسلمون أنه قد اصطفاها لنفسه، وقال لبلال لما رأى من تلك اليهودية ما رأى: أنزعت منك الرحمة يا بلال حيث تمرّ بامرأتين على قتلى رجالهما؟ .
وكانت صفية قد رأت في المنام - وهي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق - أن قمراً وقع في حجرها فعرضت رؤياها على زوجها فقال: ما هذا إلا أنك تتمنين ملك الحجاز محمداً ولطم وجهها لطمة اخضرّت عينها منها فاتي بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبها أثر منها فسألها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما هو؟ فأخبرته.
وأرسل ابن أبي الحقيق إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنزل فاكلمك؟ قال: نعم. فنزل وصالح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حقن دماء من في حصونهم من المقاتلة وترك الذريّة لهم، ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم ويخلون بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين ما كان لهم من مال وأرض على الصفراء والبيضاء والكراع والخلقة وعلى البز إلا ثوباً على ظهر إنسان، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كتمتموني شيئاً فصالحوه على ذلك.
فلما سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسألونه أن يسيرهم ويحقن دماءهم ويخلون بينه وبين الأموال ففعل وكان ممن مشى بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبينهم في ذلك محيصة بن مسعود أحد بني حارثة.
فلما نزل أهل خيبر على ذلك سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يعاملهم الأموال على النصف، وقالوا: نحن أعلم بها منكم وأعمر لها فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على النصف على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم, وصالحه أهل فدك على مثل ذلك فكانت أموال خيبر فيئاً بين المسلمين وكانت فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب.
ولما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم وهي ابنة أخي مرحب شاة مصلية, وقد سألت أي عضو أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقيل لها: الذراع فأكثرت فيها السم وسمّت سائر الشاة ثم جاءت بها فلما وضعتها بين يديه تناول الذراع فأخذها ولاك منها مضغة وانتهش منها ومعه بشر بن البراء بن معرور فتناول عظماً فانتهش منه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ارفعوا أيديكم فإن كتف هذه الشاة يخبرني أنها مسمومة ثم دعاها فاعترفت فقال: ما حملك على ذلك؟ فقالت: بلغت من قومي ما لم يخف عليك فقلت: إن كان نبياً فسيخبر وإن كان ملكاً استرحت منه فتجاوز عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومات بشر بن البراء من أكلته التي أكل.
قال: ودخلت أُم بشر بن البراء على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تعوده في مرضه الذي توفي فيه فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يا أُم بشر ما زالت أُكلة خيبر التي أكلت بخيبر مع ابنك تعاودني فهذا أوان قطعت أبهري, وكان المسلمون يرون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مات شهيداً مع ما أكرمه الله به من النبوة.