التفاسير

< >
عرض

قُل لاَّ يَسْتَوِي ٱلْخَبِيثُ وَٱلطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ ٱلْخَبِيثِ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
١٠٠
-المائدة

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
الآية كأنها مستقلة مفردة لعدم ظهور اتصالها بما قبلها وارتباط ما بعدها بها فلا حاجة إلى التمحل في بيان اتصالها بما قبلها، وإنما تشتمل على مثل كلي ضربه الله سبحانه لبيان خاصة يختص بها الدين الحق من بين سائر الأديان والسير العامة الدائرة، وهي أن الاعتبار بالحق وإن كان قليلاً أهله وشاردة فئته، والركون إلى الخير والسعادة وإن أعرض عنه الأكثرون ونسيه الأقوون؛ فإن الحق لا يعتمد في نواميسه إلاَّ على العقل السليم، وحاشا العقل السليم أن يهدي إلاَّ إلى صلاح المجتمع الإِنساني فيما يشد أزره من أحكام الحياة وسبل المعيشة الطيبة سواء وافق أهواء الأكثرين أو خالف، وكثيراً ما يخالف؛ فهو ذا النظام الكوني وهو محتد الآراء الحقة لا يتبع شيئاً من أهوائهم، ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض.
قوله تعالى: { قل لا يستوي الخبيث والطيّب ولو أعجبك كثرة الخبيث } كأن المراد بعدم استواء الخبيث والطيب أن الطيب خير من الخبيث، وهو أمر بيِّن فيكون الكلام مسوقاً للكناية، وذلك أن الطيّب بحسب طبعه وبقضاء من الفطرة أعلى درجة وأسمى منزلة من الخبيث؛ فلو فرض انعكاس الأمر وصيرورة الخبيث خيراً من الطيّب لعارض يعرضه كان من الواجب أن يتدرج الخبيث في الرقي والصعود حتى يصل إلى حد يحاذي الطيّب في منزلته ويساويه ثم يتجاوزه فيفوقه فإذا نفي استواء الخبيث والطيّب كان ذلك أبلغ في نفي خيرية الخبيث من الطيّب.
ومن هنا يظهر وجه تقديم الخبيث على الطيّب، فإن الكلام مسوق لبيان أن كثرة الخبيث لا تصيره خيراً من الطيّب، وإنما يكون ذلك بارتفاع الخبيث من حضيض الرداءة والخسة إلى أوج الكرامة والعزة حتى يساوي الطيّب في مكانته ثم يعلو عليه ولو قيل: لا يستوي الطيب والخبيث كانت العناية الكلامية متعلقة ببيان أن الطيّب لا يكون أردىء وأخس من الخبيث، وكان من الواجب حينئذٍ أن يذكر بعده أمر قلة الطيّب مكان كثرة الخبيث فافهم ذلك.
والطيّب والخباثة على ما لهما من المعنى وصفان حقيقيان لأشياء حقيقية خارجية كالطعام الطيّب أو الخبيث والأرض الطيّبة أو الخبيثة قال تعالى:
{ والبلد الطيّب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلاَّ نكداً } [الأعراف: 58]، وقال تعال: { والطيبات من الرزق } [الأعراف: 31]، وإن اطلق الطيب والخباثة أحياناً على شيء من الصفات الوضعية الاعتبارية كالحكم الطيّب أو الخبيث والخلق الطيّب أو الخبيث فإنما ذلك بنوع من العناية.
هذا ولكن تفريع قوله: { فاتقوا الله يا أُولي الألباب لعلَّكم تفلحون } على قوله: { لا يستوي الخبيث والطيب } "الخ" والتقوى من قبيل الأفعال أو التروك، وطيبها وخباثتها عنائية مجازية، وإرسال الكلام أعني قوله: { لا يستوي } الخ، إرسال المسلمات أقوى شاهد على أن المراد بالطيّب والخباثة إنما هو الخارجي الحقيقي منهما فيكون الحجة ناجحة، ولو كان المراد هو الطيب والخبيث من الأعمال والسير لم يتضح ذاك الاتضاح فكل طائفة ترى أن طريقتها هي الطريقة الطيبة، وما يخالف أهواءها ويعارض مشيئتها هو الخبيث.
فالقول مبني على معنى آخر بيّنه الله سبحانه في مواضع من كلامه، وهو أن الدين مبني على الفطرة والخلقة، وان ما يدعو إليه الدين هو الطيب من الحياة، وما ينهى عنه هو الخبيث، وان الله لم يحل إلاَّ الطيبات ولم يحرم إلاَّ الخبائث قال تعالى:
{ { فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم } [الروم: 30]، وقال: { { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } } [الأعراف: 157]. وقال: { { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } } [الأعراف: 31]. فقد تحصَّل أن الكلام أعني قوله: { لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث }، مثل مضروب لبيان أن قواعد الدين ركبت على صفات تكوينية في الأشياء من طيب أو خباثة مؤثرة في سبيل السعادة والشقاوة الإِنسانيتين، ولا يؤثر فيها قلة ولا كثرة فالطيب طيب وإن كان قليلاً، والخبيث خبيث وإن كان كثيراً.
فمن الواجب على كل ذي لب يميز الخبيث من الطيب، ويقضي بأن الطيب خير من الخبيث، وأن من الواجب على الإِنسان أن يجتهد في إسعاد حياته، ويختار الخير على الشر أن يتقي الله ربه بسلوك سبيله، ولا يغتر بانكباب الكثيرين من الناس على خبائث الأعمال ومهلكات الأخلاق والأحوال، ولا يصرفه الأهواء عن اتباع الحق بتوليه أو تهويل لعله يفلح بركوب السعادة الإِنسانية.
قوله تعالى: { فاتقوا الله يا أُولي الألباب لعلَّكم تفلحون } تفريع على المثل المضروب في صدر الآية، ومحصل المعنى أن التقوى لما كان متعلقه الشرائع الإِلهية التي تبتني هي أيضاً على طيبات وخبائث تكوينية في رعاية أمرها سعادة الإِنسان وفلاحه على ما لا يرتاب في ذلك ذو لب وعقل فيجب عليكم يا أُولي الألباب أن تتقوا الله بالعمل بشرائعه لعلَّكم تفلحون.