التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ ٱلْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهَا وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ
١٠١
قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ
١٠٢
-المائدة

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
الآيتان غير ظاهرتي الارتباط بما قبلهما، ومضمونهما غني عن الاتصال بشيء من الكلام يبين منهما ما لا تستقلان بإفادته فلا حاجة إلى ما تجشمه جمع من المفسرين في توجيه اتصالهما تارة بما قبلهما، وأخرى بأول السورة، وثالثة بالغرض من السورة فالصفح عن ذلك كله أولى.
قوله تعالى: { يا أيُّها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } الآية، الإِبداء الإِظهار، وساءه كذا خلاف سرَّه.
والآية تنهى المؤمنين عن أن يسألوا عن أشياء إن تبد لهم تسؤهم، وقد سكتت أولاً عن المسؤول من هو؟ غير أن قوله بعد: { وإن تسألوا عنها حين ينزَّل القرآن تبد لكم }، وكذا قوله في الآية التالية: { قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين } يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقصود بالسؤال مسؤول بمعنى أن الآية سيقت للنهي عن سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أشياء من شأنها كيت وكيت، وإن كانت العلة المستفادة من الآية الموجبة للنهي تفيد شمول النهي لغير مورد الغرض وهو أن يسأل الإِنسان ويفحص عن كل ما عفاه العفو الإِلهي، وضرب دون الاطلاع عليه بالأسباب العادية والطرق المألوفة ستراً فإن في الاطلاع على حقيقة مثل هذه الأمور مظنة الهلاك والشقاء كمن تفحص عن يوم وفاته أو سبب هلاكه أو عمر أحبته وأعزته أو زوال ملكه وعزته، وربما كان ما يطلع عليه هو السبب الذي يخترمه بالفناء أو يهدده بالشقاء.
فنظام الحياة الذي نظمه الله سبحانه ووضعه جارياً في الكون فأبدا أشياء وحجب أشياء لم يظهر ما أظهره إلاَّ لحكمة، ولم يخف ما أخفاه إلاَّ لحكمة أي إن التسبب إلى خفاء ما ظهر منها والتوسل إلى ظهور ما خفي منها يورث اختلال النظام المبسوط على الكون كالحياة الإِنسانية المبنية على نظام بدني مؤلف من قوى وأعضاء وأركان لو نقص واحد منها أو زيد شيء عليها أوجب ذلك فقدان أجزاء هامة من الحياة ثم يعتبر ذلك مجرى القوى والأعضاء الباقية، وربما أدى ذلك إلى بطلان الحياة بحقيقتها أو معناها.
ثم إن الآية أبهمت ثانياً أمر هذه الأشياء التي نهت عن السؤال عنها، ولم توضح من أمرها إلاَّ أنها بحيث إن تبد لهم تسؤهم "الخ"، ومما لا يرتاب فيه أن قوله: { إن تبد لكم تسؤكم } نعت للأشياء، وهي جملة شرطية تدل على تحقق وقوع الجزاء على تقدير وقوع الشرط، ولازمه أن تكون هذه أشياء تسؤهم إن أُبدئت لهم فطلب إبدائها وإظهارها بالمسألة طلب للمساءة.
فيستشكل بأن الإِنسان العاقل لا يطلب ما يسؤه، ولو قيل: لا تسألوا عن أشياء فيها ما إن تبد لكم تسؤكم، أو لا تسألوا عن أشياء لا تأمنون أن تسوءكم إن تبد لكم لم يلزم محذور.
ومن عجيب ما أُجيب به عن الإِشكال: أن من المقرر في قوانين العربية أن شرط "إن" مما لا يقطع بوقوعه، والجزاء تابع للشرط في الوقوع وعدمه فكان التعبير بقوله: { إن تبد لكم تسؤكم } دون { إذا أُبديت لكم تسؤكم } دالاً على أن احتمال إبدائها وكونها تسوء كاف في وجوب الانتهاء عن السؤال عنها، انتهى موضع الحاجة.
وقد أخطأ في ذلك، وليت شعري أي قانون من قوانين العربية يقرر أن يكون الشرط غير مقطوع الوقوع؟ ثم الجزاء بما هو جزاء متعلق الوجود بالشرط غير مقطوع لوقوع؟ وهل يفيد قولنا: إن جئتني أكرمتك إلاَّ القطع بوقوع الإِكرام على تقدير وقوع المجيء؟ فقوله: إن التعبير بالشرط يدل على أن احتمال إبدائها وكونه يسوء كاف في وجوب الانتهاء، انتهى. إنما يصح لو كان مفاد الشرط في الآية هو النهي عن السؤال عن أشياء يمكن أن تسوء إن أُبدئت وليس كذلك كما عرفت بل المفاد النهي عن السؤال أشياء يقطع بمساءتها إن ابدئت، فالإِشكال على حاله.
ويتلو هذا الجواب في الضعف قول بعضهم - على ما في بعض الروايات: إن المراد بقوله: { أشياء إن تبد لكم تسؤكم } ما ربما يهواه بعض النفوس من الاطلاع على بعض المغيبات كالآجال وعواقب الأُمور وجريان الخير والشر والكشف عن كل مستور مما لا يخلو العلم به طبعاً من أن يتضمن ما يسوء الإِنسان ويحزنه كسؤال الرجل عن باقي عمره، وسبب موته، وحسن عاقبته، وعن أبيه من هو؟ وقد كان دائراً بينهم في الجاهلية.
فالمراد بقوله: { لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } هو النهي عن السؤال عن هذه الأمور التي لا يخلو انكشاف الحال فيها غالباً أن يشتمل على ما يسوء الإِنسان ويحزنه كظهور أن الأجل قريب، أو أن العاقبة وخيمة، أو أن أباه في الواقع غير من يدعى إليه.
فهذه أُمور يتضمن غالباً مساءة الإِنسان وحزنه، ولا يؤمن من أن يجاب إذا سئل عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما لا يرتضيه السائل فيدعوه الاستكبار النفساني وأنفة العصبية أن يكذب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما يجيب به فيكفر بذلك كما يشير إليه قوله تعالى في الآية التالية: { قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين }.
وهذا الوجه وإن كان سليماً في بادئ النظر لكنه لا يلائم قوله تعالى: { وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم } سواء قلنا: إن مفاده تجويز السؤال عن هذه الأشياء حين نزول القرآن، أو تشديد النهي عنه حين نزول القرآن بالدلالة على أن المجيب - وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم - في غير حال نزول القرآن في سعة من أن لا يجيب عن هذه الأسئلة رعاية لمصلحة السائلين؛ لكنها أعني الأشياء المسؤول عنها مكشوفة الحقيقة مرفوع عنها الحجاب لا محالة فلا تسألوا عنها حين ينزل القرآن البتة.
أما عدم ملاءمته على المعنى الأول فلأن السؤال عن هذه الأشياء لما اشتمل على المفسدة بحسب طبعه فلا معنى لتجويزه حال نزول القرآن، والمفسدة هي المفسدة.
وأما على المعنى الثاني فلأن حال نزول القرآن وإن كان حال البيان والكشف عن ما يحتاج إلى الكشف والإِبداء غير أن هذه الخصيصة مرتبطة بحقائق المعارف وشرائع الأحكام وما يجري مجراها، وأما تعيين أجل زيد وكيفية وفاة عمرو، وتشخيص من هو أبو فلان؟ ونحو ذلك فهي مما لا يرتبط به البيان القرآني، فلا وجه لتذييل النهي عن السؤال عن أشياء كذا وكذا بنحو قوله: { وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم } وهو ظاهر.
فالأوجه في الجواب ما يستفاد من كلام آخرين أن الآية الثانية: { قد سألها قوم من قبلكم } الخ، وكذا قوله: { وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم } تدل على أن المسؤول عنها أشياء مرتبطة بالأحكام المشرعة كالخصوصيات الراجعة إلى متعلقات الأحكام مما ربما يستقصى في البحث عنه والإِصرار في المداقة عليه، ونتيجة ذلك ظهور التشديد ونزول التحريج كلما أُمعن في السؤال وأُلح على البحث كما قصَّه الله سبحانه في قصة البقرة عن بني إسرائيل حيث شدد الله سبحانه بالتضييق عليهم كلما بالغوا في السؤال عن نعوت البقرة التي أُمروا بذبحها.
ثم إن قوله تعالى: { عفا الله عنها } الظاهر أنه جملة مستقلة مسوقة لتعليل النهي في قوله: { لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } لا كما ذكروه: أنه وصف لأشياء، وأن في الكلام تقديماً وتأخيراً، والتقدير: لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها إن تبد لكم تسؤكم } "الخ".
وهذا التعبير - أعني تعدية العفو بعن - أحسن شاهد على أن المراد بالأشياء المذكورة هي الأمور الراجعة إلى الشرائع والأحكام، ولو كانت من قبيل الأمور الكونية كان كالمتعين أن يقال: عفاها الله.
وكيف كان فالتعليل بالعفو يفيد أن المراد بالأشياء هي الخصوصيات الراجعة إلى الأحكام والشرائع والقيود والشرائط العائدة إلى متعلقاتها، وأن السكوت عنها ليس لأنها مغفول عنها أو مما اهمل أمرها بل لم يكن ذلك إلاَّ تخفيفاً من الله سبحانه لعباده وتسهيلاً كما قال: { والله غفور حليم } فما يقترحونه من السؤال عن خصوصياته تعرض منهم للتضييق والتحريج وهو مما يسوؤهم ويحزنهم البتة فإن في ذلك رداً للعفو الإِلهي الذي لم يكن البتة إلاَّ للتسهيل والتخفيف، وتحكيم صفتي المغفرة والحلم الإِلهيين.
فيرجع مفاد قوله: { لا تسألوا عن أشياء } الخ، إلى نحو قولنا: يا أيُّها الذين آمنوا لا تسألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أشياء مسكوت عنها في الشريعة عفا الله عنها ولم يتعرض لبيانها تخفيفاً وتسهيلاً فإنها بحيث تبين لكم إن تسألوا عنها حين نزول القرآن، وتسوؤكم إن أُبدئت لكم وبينت.
وقد تبيّن مما مرَّ أولاً: أن قوله تعالى: { وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم } من تتمة النهي كما عرفت، لا لرفع النهي عن السؤال حين نزول القرآن كما ربما قيل.
وثانياً: أن قوله تعالى: { عفا الله عنها } جملة مستقلة مسوقة لتعليل النهي عن السؤال فتفيد فائدة الوصف من غير أن يكون وصفاً بحسب التركيب الكلامي.
وثالثاً: وجه تذييل الكلام بقوله: { والله غفور حليم } مع كون الكلام مشتملاً على النهي غير الملائم لصفتي المغفرة والحلم فالاسمان يعودان إلى مفاد العفو المذكور في قوله: { عفا الله عنها } دون النهي الموضوع في الآية.
قوله تعالى: { قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين } يقال: سأله وسأل عنه بمعنى، و "ثم" يفيد التراخي بحسب الرتبة الكلامية دونه بحسب الزمان. والباء في قوله: { بها } متعلقة بقوله: { كافرين } على ما هو ظاهر الآية من كونها مسوقة للنهي عن السؤال عمّا يتعلق بقيود الأحكام والشرائع المسكوت عنها عند التشريع، فالكفر كفر بالأحكام من جهة استلزامها تحرج النفوس عنها وتضيق القلوب من قبولها، ويمكن أن تكون الباء للسببية ولا يخلو عن بعد.
والآية وإن أَبهمت القوم المذكورين ولم تعرّفهم لكن في القرآن الكريم ما يمكن أن تنطبق عليه الآية من القصص كقصة المائدة من قصص النصارى وقصص أُخرى من قوم موسى وغيرهم.
(بحث روائي)
في الدر المنثور: أخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
"يا أيُّها الناس كتب الله عليكم الحج فقام عكاشة بن محصن الأسدي فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ قال: أما إني لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت ثم تركتم لضللتم اسكتوا عني ما سكت عنكم، فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فأنزل الله: { يا أيُّها الذين آمنوا لا تسألواعن أشياء إن تبد لكم تسؤكم }" إلى آخر الآية.
أقول: وروى القصة عن أبي هريرة وأبي أمامة وغيرهما عدة من الرواة، ورويت في المجمع وغيره من كتب الخاصة، وهي تنطبق على ما قدمناه في البيان المتقدم.
وفيه أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله تعالى: { يا أيُّها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء } الآية، قال: غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام فقام خطيباً فقال:
"سلوني فإنكم لا تسألوني عن شيء إلاَّ أنبأتكم به، فقام إليه رجل من قريش من بني سهم يقال له: عبد الله بن حذاقة - وكان يطعن فيه - فقال: يا رسول الله من أبي؟ فقال: أبوك فلان فدعاه لأبيه فقام إليه عمر فقبل رجله وقال: يا رسول الله رضينا بالله رباً وبك نبياً وبالقرآن إماماً فاعف عنا عفا الله عنك، فلم يزل به حتى رضي، فيومئذٍ قال: الولد للفراش وللعاهر الحجر" ، وأنزل عليه: { قد سألها قوم من قبلكم }.
أقول: والرواية مروية بعدة طرق على اختلاف في متونها، وقد عرفت فيما تقدم أنها غير قابلة الانطباق على الآية.
وفيه أيضاً: أخرج ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن ثعلبة الخشني قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن الله حد حدوداً فلا تعتدوها، وفرض لكم فرائض فلا تضيعوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وترك أشياء في غير نسيان ولكن رحمة منه لكم فاقبلوها ولا تبحثوا عنها"
]. وفي المجمع والصافي عن علي عليه السلام قال: إن الله افترض عليكم فرائض فلا تضيعوها وحد لكم حدوداً فلا تعتدوها، ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها، وسكت لكم عن أشياء ولم يدعها نسياناً فلا تتكلفوها.
وفي الكافي بإسناده عن أبي الجارود قال: قال أبو جعفر عليه السلام: إذا حدثتكم بشيء فاسألوني عنه من كتاب الله، ثم قال في بعض حديثه: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن القيل والقال، وفساد المال، وكثرة السؤال، فقيل له: يا ابن رسول الله أين هذا من كتاب الله؟ قال: إن الله عز وجل يقول: { لا خير في كثير من نجواهم إلاَّ من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس } وقال: { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً } وقال: { لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم }.
وفي تفسير العياشي عن أحمد بن محمد قال: كتبت إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام وكتب في آخره: أَوَلم تنهوا عن كثرة المسائل؟ فأبيتم أن تنتهوا، إيَّاكم وذلك؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم فقال الله تبارك وتعالى: { يا أيُّها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء } إلى قوله تعالى: { كافرين }.