التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ
١
يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَلاَ ٱلْهَدْيَ وَلاَ ٱلْقَلاۤئِدَ وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
٢
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلأَزْلاَمِ ذٰلِكُمْ فِسْقٌ ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٣
-المائدة

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
الغرض الجامع في السورة على ما يعطيه التدبُّر في مفتتحها ومختتمها، وعامة الآيات الواقعة فيها، والأحكام والمواعظ والقصص التي تضمنتها هو الدعوة إلى الوفاء بالعهود وحفظ المواثيق الحقة كائنة ما كانت، والتحذير البالغ عن نقضها وعدم الاعتناء بأمرها، وأن عادته تعالى جرت بالرحمة والتسهيل والتخفيف على من اتقى وآمن ثم اتقى وأحسن، والتشديد على من بغى واعتدى وطغا بالخروج عن ربقه العهد بالطاعة، وتعدّى حدود المواثيق المأخوذة عليه في الدين.
ولذلك ترى السورة تشتمل على كثير من أحكام الحدود والقصاص، وعلى مثل قصة المائدة، وسؤال المسيح، وقصة ابني آدم، وعلى الإشارة إلى كثير من مظالم بني إسرائيل ونقضهم المواثيق المأخوذة منهم، وعلى كثير من الآيات التي يمتنّ الله تعالى فيها على الناس بأُمور كإكمال الدين، وإتمام النعمة، وإحلال الطيّبات، وتشريع ما يطهّر الناس من غير أن يريد بهم الحرج والعسر.
وهذا هو المناسب لزمان نزول السورة إذ لم يختلف أهل النقل أنها آخر سورة مفصلة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أواخر أيام حياته وقد ورد في روايات الفريقين: أنها ناسخة غير منسوخة، والمناسب لذلك تأكيد الوصية بحفظ المواثيق المأخوذة لله تعالى على عباده وللتثبت فيها.
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } العقود جمع عقد وهو شدّ أحد شيئين بالآخر نوع شدّ يصعب معه انفصال أحدهما عن الآخر، كعقد الحبل والخيط بآخر من مثله، ولازمه التزام أحدهما الآخر، وعدم انفكاكه عنه، وقد كان معتبراً عندهم في الأمور المحسوسة أولاً ثم استعير فعمّم للأمور المعنوية كعقود المعاملات الدائرة بينهم من بيع أو إجارة أو غير ذلك، وكجميع العهود والمواثيق فاطلقت عليها الكلمة لثبوت أثر المعنى الذي عرفت أنه اللزوم والالتزام فيها.
ولما كان العقد - وهو العهد - يقع على جميع المواثيق الدينية التي أخذها الله من عباده من أركان وأجزاء كالتوحيد وسائر المعارف الأصلية والأعمال العبادية والأحكام المشروعة تأسيساً أو امضاء، ومنها عقود المعاملات وغير ذلك، وكان لفظ العقود أيضاً جمعاً محلى باللام لا جرم كان الأوجه حمل العقود في الآية على ما يعمّ كل ما يصدق عليه أنّه عقد.
وبذلك يظهر ضعف ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالعقود العقود التي يتعاقدها الناس بينهم كعقد البيع والنكاح والعهد، أو يعقدها الإنسان على نفسه كعقد اليمين.
وكذا ما ذكره بعض آخر: أن المراد بها العهود التي كان أهل الجاهلية عاهد بعضهم بعضاً فيها على النصرة والمؤازرة على من يقصدهم بسوء أو يبغي عليهم، وهذا هو الحلف الدائر بينهم.
وكذا ما ذكره آخرون: أن المراد بها المواثيق المأخوذة من أهل الكتاب بالعمل بما في التوراة والإنجيل. فهذه وجوه لا دليل على شيء منها من جهة اللفظ. على أن ظاهر الجمع المحلّى باللام وإطلاق العقد عرفاً بالنسبة إلى كل عقد وحكم لا يلائمها، فالحمل على العموم هو الأوجه.
(كلام في معنى العقد)
يدل الكتاب كما ترى من ظاهر قوله تعالى: { أوفوا بالعقود } على الأمر بالوفاء بالعقود، وهو بظاهره عام يشمل كل ما يصدق عليه العقد عرفاً مما يلائم الوفاء. والعقد هو كل فعل أو قول يمثل معنى العقد اللغوي، وهو نوع ربط شيء بشيء آخر بحيث يلزمه ولا ينفك عنه كعقد البيع الذي هو ربط المبيع بالمشتري ملكاً بحيث كان له أن يتصرف فيه ما شاء، وليس للبائع بعد العقد ملك ولا تصرّف، وكعقد النكاح الذي يربط المرأة بالرجل بحيث له أن يتمتع منها تمتع النكاح، وليس للمرأة أن تمتع غيره من نفسها، وكالعهد الذي يمكّن فيه العاهد المعهود له من نفسه فيما عهده وليس له أن ينقضه.
وقد أكد القرآن في الوفاء بالعقد والعهد بجميع معانيه وفي جميع معانيه وفي جميع مصاديقه وشدد فيه كل التشديد، وذم الناقضين للمواثيق ذماً بالغاً، وأوعدهم إيعاداً عنيفاً ومدح الموفين بعهدهم إذا عاهدوا في آيات كثيرة لا حاجة إلى نقلها.
وقد أرسلت الآيات القول فيه إرسالاً يدل على أن ذلك مما يناله الناس بعقولهم الفطرية، وهو كذلك.
وليس ذلك إلا لأن العهد والوفاء به مما لا غنى للإنسان في حياته عنه أبداً، والفرد والمجتمع في ذلك سيّان، وإنا لو تأملنا الحياة الاجتماعية التي للإنسان وجدنا جميع المزايا التي نستفيد منها وجميع الحقوق الحيوية الاجتماعية التي نطمئن إليها مبنية على أساس العقد الاجتماعي العام والعقود والعهود الفرعية التي تترتب عليه، فلا نملّك من أنفسنا للمجتمعين شيئاً ولا نملك منهم شيئاً إلا عن عقد عملي وإن لم نأت بقول فإنما القول لحاجة البيان، ولو صح للإنسان أن ينقض ما عقده وعهد به اختياراً لتمكنه منه بقوة أو سلطة أو بطش أو لعذر يعتذر به كان أول ما انتقض بنقضه هو العدل الاجتماعي، وهو الركن الذي يلوذ به ويأوي إليه الإنسان من اسارة الاستخدام والاستثمار.
ولذلك أكد الله سبحانه في حفظ العهد والوفاء به قال تعالى:
{ وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً } [الإسراء: 34] والآية تشمل العهد الفردي الذي يعاهد به الفرد الفرد مثل غالب الآيات المادحة للوفاء بالعهد والذامّة لنقضه كما تشمل العهد الاجتماعي الدائر بين قوم وقوم وأُمة وأُمة، بل الوفاء به في نظر الدين أهم منه بالعهد الفردي لأن العدل عنده أتم والبليّة في نقضه أعم.
ولذلك أتى الكتاب العزيز في أدق موارده وأهونها نقضاً بالمنع عن النقض بأصرح القول وأوضح البيان قال تعالى:
{ براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقضوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد } [التوبة:1 - 5] والآيات كما يدل سياقها نزلت بعد فتح مكة وقد أذل الله رقاب المشركين، وأفنى قوتهم وأذهب شوكتهم، وهي تعزم على المسلمين أن يطهروا الأرض التي ملكوها وظهروا عليها من قذارة الشرك، وتهدر دماء المشركين من دون أي قيد وشرط إلا أن يؤمنوا، ومع ذلك تستثني قوماً من المشركين بينهم وبين المسلمين عهد عدم التعرض، ولا تجيز للمسلمين أن يمسوهم بسوء حينما استضعفوا واستذلوا فلا مانع من ناحيتهم يمنع ولا دافع يدفع، كل ذلك احتراماً للعهد ومراعاة لجانب التقوى.
نعم على ناقض العهد بعد عقده أن ينقض العهد الذي نقضه ويتلقى هباءً باطلاً، اعتداء عليه بمثل ما اعتدى به، قال تعالى: { كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين } إلى أن قال
{ { لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة وأُولئك هم المعتدون فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون } [التوبة: 10ـ12]، وقال تعالى: { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله } [البقرة: 194]، وقال تعالى: { { ولا يجرمنّكم شنآن قوم أن صدّوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله } } [المائدة: 2]. وجملة الأمر أن الإسلام يرى حرمة العهد ووجوب الوفاء به على الإطلاق سواء انتفع به العاهد أو تضرر بعد ما أوثق الميثاق فإن رعاية جانب العدل الاجتماعي ألزم وأوجب من رعاية أي نفع خاص أو شخصي إلا أن ينقض أحد المتعاهدين عهده فللمتعاهد الآخر نقضه بمثل ما نقضه والاعتداء عليه بمثل ما اعتدى عليه، فإن في ذلك خروجاً عن رقيّة الاستخدام والاستعلاء المذمومة التي ما نهض ناهض الدين إلا لإماطتها.
ولعمري أن ذلك أحد التعاليم العالية التي أتى بها دين الإسلام لهداية الناس إلى رعاية الفطرة الانسانية في حكمها والتحفظ على العدل الاجتماعي الذي لا ينتظم سلك الاجتماع الانساني إلا على أساسه وإماطة مظلمة الاستخدام والاستثمار، وقد صرح به الكتاب العزيز وسار به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سيرته الشريفة، ولولا أن البحث بحث قرآني لذكرنا لك طرفاً من قصصه عليه أفضل الصلاة والسلام في ذلك، وعليك بالرجوع إلى الكتب المؤلفة في سيرته وتاريخ حياته.
وإذا قايست بين ما جرت عليه سنة الاسلام من احترام العهد وما جرت عليه سنن الأمم المتمدنة وغير المتمدنة ولا سيما ما نسمعه ونشاهده كل يوم من معاملة الأمم القوية مع الضعيفة في معاهداتهم ومعاقداتهم وحفظها لها ما درّت لهم أو استوجبته مصالح دولتهم ونقضها بما يسمى عذراً وجدت الفرق بين السَّنتين في رعاية الحق وخدمة الحقيقة.
ومن الحري بالدين ذاك وبسننهم ذلك، فإنما هناك منطقان: منطق يقول: إن الحق تجب رعايته كيفما كان وفي رعايته منافع المجتمع، ومنطق يقول: إن منافع الأمة تجب رعايتها بأي وسيلة اتفقت وإن دحضت الحق، وأول المنطقين منطق الدين، وثانيهما منطق جميع السنن الاجتماعية الهمجية أو المتمدنة من السنن الاستبدادية والديمقراطية والشيوعية وغيرها.
وقد عرفت مع ذلك أن الاسلام في عزيمته في ذلك لا يقتصر على العهد المصطلح بل يعمم حكمه إلى كل ما بنى عليه بناء ويوصي برعايته ولهذا البحث أذيال ستعثر عليها في مستقبل الكلام إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: { أُحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم } (الخ) الإحلال هو الإباحة والبهيمة اسم لكل ذي أربع من دواب البر والبحر على ما في المجمع، وعلى هذا فإضافة البهيمة إلى الأنعام من قبيل إضافة النوع إلى أصنافه كقولنا: نوع الإنسان وجنس الحيوان، وقيل: البهيمة جنين الأنعام، وعليه فالإضافة لاميّة. وكيف كان فقوله { أُحلت لكم بهيمة الأنعام } أي الأزواج الثمانية أي أكل لحومها، وقوله { إلا ما يتلى عليكم } إشارة إلى ما سيأتي من قوله { حرّمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهل لغير الله به } (الآية).
وقوله { غير محلي الصيد وأنتم حرم } حال من ضمير الخطاب في قوله { أُحلت لكم } ومفاده حرمة هذا الذي أُحل إذا كان اصطياده في حال الإِحرام، كالوحشي من الظباء والبقر والحمر إذا صيدت، وربما قيل: إنه حال من قوله { أوفوا } أو حال من ضمير الخطاب في قوله { يتلى عليكم } والصيد مصدر بمعنى المفعول، كما أن الحرم بضمتين جمع الحرام بمعنى المحرم اسم فاعل.
قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تحلّوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمِّين البيت الحرام يبتغون فضلاً من ربهم } خطاب مجدد للمؤمنين يفيد شدة العناية بحرمات الله تعالى.
والإحلال هو الإباحة الملازمة لعدم المبالاة بالحرمة والمنزلة، ويتعين معناه بحسب ما أُضيف إليه: فإحلال شعائر الله عدم احترامها وتركها، وإحلال الشهر الحرام عدم حفظ حرمته والقتال فيه، وهكذا.
والشعائر جمع شعيرة وهي العلامة، وكأن المراد بها أعلام الحج ومناسكه. والشهر الحرام ما حرمه الله من شهور السنة القمرية وهي: المحرّم ورجب وذو القعدة وذو الحجة. والهدي ما يساق للحج من الغنم والبقر والإبل. والقلائد جمع قلادة، وهي ما يقلد به الهدي في عنقه من نعل ونحوه ليعلم أنه هدي للحج فلا يتعرض له. والآمّين جمع آم اسم فاعل من أمَّ إذا قصد، والمراد به القاصدون لزيارة البيت الحرام. وقوله { يبتغون فضلاً }، حال من { آمّين } والفضل هو المال أو الربح المالي، فقد أُطلق عليه في قوله تعالى
{ { فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء } [آل عمران: 174] وغير ذلك أو هو الأجر الاخروي أو الأعم من المال والأجر.
وقد اختلفوا في تفسير الشعائر والقلائد وغيرهما من مفردات الآية على أقوال شتى، والذي آثرنا ذكره هو الأنسب لسياق الآية، ولا جدوى في التعرض لتفاصيل الأقوال.
قوله تعالى: { وإذا حللتم فاصطادوا } أمر واقع بعد الحظر لا يدل على أزيد من الإباحة بمعنى عدم المنع، والحل والإحلال - مجرداً ومزيداً فيه - بمعنى وهو الخروج من الإحرام.
قوله تعالى: { ولايجرمنّكم شنآن قوم أن صدّوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا } يقال: جرمه يجرمه أي حمله، ومنه الجريمة للمعصية لأنها محمولة من حيث وبالها، وللعقوبة المالية وغيرها لأنها محمولة على المجرم. وذكر الراغب أن الأصل في معناها القطع. والشنآن العداوة والبغض. وقوله { أن صدّوكم } أي منعوكم بدل أو عطف بيان من الشنآن، ومحصل معنى الآية: ولا يحملنكم عداوة قوم وهو أن منعوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا عليهم بعدما أظهركم الله عليهم.
قوله تعالى: { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } المعنى واضح، وهذا أساس السنة الإسلامية، وقد فسر الله سبحانه البر في كلامه بالإيمان والاحسان في العبادات والمعاملات، كما مر في قوله تعالى:
{ { ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر } } [البقرة: 170] الآية، وقد تقدم الكلام فيه. والتقوى مراقبة أمر الله ونهيه، فيعود معنى التعاون على البر والتقوى إلى الاجتماع على الإيمان والعمل الصالح على أساس تقوى الله، وهو الصلاح والتقوى الاجتماعيان، ويقابله التعاون على الإثم الذي هو العمل السيِّء المستتبع للتأخر في أمور الحياة السعيدة، وعلى العدوان وهو التعدي على حقوق الناس الحقة بسلب الأمن من نفوسهم أو أعراضهم أو أموالهم وقد مر شطر من الكلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى: { { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا } } [آل عمران: 200] الآية، في الجزء الرابع من هذا الكتاب.
ثم أكد سبحانه نهيه عن الاجتماع على الإثم والعدوان بقوله: { واتقوا الله إن الله شديد العقاب } وهو في الحقيقة تأكيد على تأكيد.
قوله تعالى: { حرّمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهلّ لغير الله به } هذه الأربعة مذكورة فيما نزل من القرآن قبل هذه السورة كسورتي الأنعام والنحل وهما مكيّتان، وسورة البقرة وهي أول سورة مفصلة نازلة بالمدينة قال تعالى:
{ { قل لا أجد فيما أُوحي إليّ محرَّماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقاً أُهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم } [الأنعام: 145] وقال تعالى: { إنما حرّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم } } [البقرة: 173]. والآيات جميعاً - كما ترى - تحرّم هذه الأربعة المذكورة في صدر هذه الآية وتماثل الآية أيضاً في الاستثناء الواقع في ذيلها بقوله: { فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم } فآية المائدة بالنسبة إلى هذه المعاني المشتركة بينها وبين تلك مؤكدة لتلك الآيات.
بل النهي عنها وخاصة عن الثلاثة الأول أعني الميتة والدم ولحم الخنزير أسبق تشريعاً من نزول سورتي الأنعام والنحل المكيتين، فإن آية الأنعام تعلل تحريم الثلاثة أو خصوص لحم الخنزير بأنه رجس، فتدل على تحريم أكل الرجز، وقد قال تعالى في سورة المدثر - وهي من السور النازلة في أول البعثة -:
{ { والرجز فاهجر } } [المدثر: 5]. وكذلك ما عدّه تعالى بقوله { والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنطيحة وما أكل السبع } جميعاً من مصاديق الميتة بدليل قوله { إلا ما ذكيتم } فإنما ذكرت في الآية لنوع عناية بتوضيح أفراد الميتة ومزيد بيان للمحرمات من الأطعمة من غير أن تتضمن الآية فيها على تشريع حديث.
وكذلك ما عدّه الله تعالى بقوله { وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق } فإنهما وإن كانا أول ما ذكرا ذكرا في هذه السورة لكنه تعالى علل تحريمهما أو تحريم الثاني منهما - على احتمال ضعيف - بالفسق، وقد حرم الفسق في آية الأنعام، وكذا قوله { غير متجانف لإثم } يدل على تحريم ما ذكر في الآية لكونه إثماً، وقد دلت آية البقرة على تحريم الإِثم، وقال تعالى أيضاً:
{ وذروا ظاهر الإثم وباطنه } [الأنعام: 120]، وقال تعالى: { قل إنما حرّم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم } } [الأعراف: 32]. فقد اتضح وبان أن الآية لا تشتمل فيما عدّته من المحرمات على أمر جديد غير مسبوق بالتحريم فيما تقدم عليها من الآيات المكية أو المدنية المتضمنة تعداد محرمات الأطعمة من اللحوم ونحوها.
قوله تعالى: { والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم } المنخنقة هي البهيمة التي تموت بالخنق، وهو أعم من أن يكون عن اتفاق أو بعمل عامل اختياراً، ومن أن يكون بأي آلة ووسيلة كانت كحبل يشد على عنقها ويسد بضغطه مجرى تنفسها، أو بإدخال رأسها بين خشبتين، كما كانت هذه الطريقة وأمثالها دائرة بينهم في الجاهلية.
والموقوذة هي التي تضرب حتى تموت، والمتردية هي التي تردت أي سقطت من مكان عال كشاهق جبل أو بئر ونحوهما.
والنطيحة هي التي ماتت عن نطح نطحها به غيرها، وما أكل السبع هي التي أكلها أي أكل من لحمها السبع فإن الأكل يتعلق بالمأكول سواء أفنى جميعه أو بعضه والسبع هو الوحش الضاري كالأسد والذئب والنمر ونحوها.
وقوله { إلا ما ذكيتم } استثناء لما يقبل التذكية بمعنى فري الأوداج الاربعة منها كما إذا كانت فيها بقية من الحياة يدل عليها مثل حركة ذنب أو أثر تنفس ونحو ذلك، والاستثناء كما ذكرنا آنفاً متعلق بجميع ما يقبله من المعدودات من دون أن يتقيد بالتعلق بالأخير من غير دليل عليه.
وهذه الأمور الخمسة أعني المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع كل ذلك من أفراد الميتة ومصاديقها، بمعنى أن المتردية أو النطيحة مثلاً إنما تحرمان إذا ماتتا بالتردي والنطح، والدليل على ذلك قوله: { إلا ما ذكيتم } فإن من البديهي أنهما لا تؤكلان ما دامت الروح في جثمانهما، وإنما تؤكلان بعد زهوقهما وحينئذ فإما أن تذكيا أو لا، وقد استثنى الله سبحانه التذكية فلم يبق للحرمة إلا إذا ماتتا عن ترد أو نطح من غير تذكية، وأما لو تردت شاة - مثلاً - في بئر ثم أُخرجت سليمة مستقيمة الحال فعاشت قليلاً أو كثيراً ثم ماتت حتف أنفها أو ذكيت بذبح فلا تطلق عليها المتردية، يدل على ذلك السياق فإن المذكورات فيها ما إذا هلكت، واستند هلاكها إلى الوصف الذي ذكر لها كالانخناق والوقذ والتردي والنطح.
والوجه في تخصيص هذه المصاديق من الميتة بالذكر رفع ما ربما يسق إلى الوهم أنها ليست ميتة بناء على أنها أفراد نادرة منها، والذهن يسبق غالباً إلى الفرد الشائع، وهو ما إذا ماتت بمرض ونحوه من غير أن يكون لمفاجأة سبب من خارج، فصرح تعالى بهذه الأفراد والمصاديق النادرة بأسمائها حتى يرتفع اللبس وتتضح الحرمة.
قوله تعالى: { وما ذبح على النصب } قال الراغب في الفردات: نصب الشيء وضعه وضعاً ناتئاً كنصب الرمح والبناء والحجر، والنصيب الحجارة تنصب على الشيء، وجمعه نصائب ونصب، وكان للعرب حجارة تعبدها وتذبح عليها قال: { كأنهم إلى نصب يوفضون }، قال: { وما ذبح على النصب } وقد يقال في جمعه: أنصاب قال: { والأنصاب والأزلام }. والنُصب والنَصب: التعب.
فالمراد من النهي عن أكل لحوم ما ذبح على النصب أن يستنّ بسنن الجاهلية في ذلك، فإنهم كانوا نصبوا حول الكعبة أحجاراً يقدسونها ويذبحون عليها، وكان من سنن الوثنية.
قوله تعالى: { وأن تستقسموا بالأزلام } والأزلام هي القداح، والاستقسام بالقداح أن يؤخذ جزور - أو بهيمة أخرى - على سهام ثم يضرب بالقداح في تشخيص من له سهم ممن لا سهم له، وفي تشخيص نفس السهام المختلفة وهو الميسر، وقد مر شرحه عند قوله تعالى: { يسألونك عن الخمر والميسر } (الآية) في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
قال الراغب: القسم إفراز النصيب يقال: قسمت كذا قسماً وقسمة، وقسمة الميراث وقسمة الغنيمة تفريقهما على أربابهما، قال: { لكل باب منهم جزء مقسوم } { ونبئهم أن الماء قسمة بينهم } واستقسمته سألته أن يقسم، ثم قد يستعمل في معنى قسم قال: { وأن تستقسموا بالأزلام }، وما ذكره من كون استقسم بمعنى قسم إنما هو بحسب الانطباق مصداقاً، والمعنى بالحقيقة طلب القسمة بالأزلام التي هي آلات هذا الفعل، فاستعمال الآلة طلب لحصول الفعل المترتب عليها فيصدق الاستفعال. فالمراد بالاستقسام بالأزلام المنهي عنه على ظاهر السياق هو ضرب القداح على الجزور ونحوه للذهاب بما في لحمه من النصيب.
وأما ما ذكره بعضهم أن المراد بالاستقسام بالأزلام الضرب بالقداح لاستعلام الخير والشر في الأفعال، وتمييز النافع منها من الضار كمن يريد سفراً أو ازدواجاً أو شروعاً في عمل أو غير ذلك فيضرب بالقداح لتشخيص ما فيه الخير منها مما لا خير فيه - قالوا: وكان ذلك دائراً بين عرب الجاهلية، وذلك نوع من الطيرة، وسيأتي زيادة شرح له في البحث الروائي التالي - ففيه: أن سياق الآية يأبى عن حمل اللفظ على الاستقسام بهذا المعنى، وذلك أن الآية - وهي مقام عد محرمات الأطعمة، وقد أُشير إليها قبلاً في قوله: { إلا ما يتلى عليكم } - تعد من محرماتها عشراً، وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وما ذبح على النصب، ثم تذكر الاستقسام بالأزلام الذي من معناه قسمة اللحم بالمقامرة، ومن معناه استعلام الخير والشر في الأمور، فكيف يشك بعد ذلك السياق الواضح والقرائن المتوالية في تعيُّن حمل اللفظ على استقسام اللحم قماراً؟ وهل يرتاب عارف بالكلام في ذلك؟.
نظير ذلك أن العمرة مصدر بمعنى العمارة، ولها معنى آخر وهو زيارة البيت الحرام، فإذا أُضيف إلى البيت صح كل من المعنيين لكن لا يحتمل في قوله تعالى:
{ { وأتموا الحج والعمرة لله } [البقرة: 196] لا المعنى الأول، والأمثله في ذلك كثيرة.
وقوله: { ذلكم فسق } يحتمل الاشارة إلى جميع المذكورات، والاشارة إلى الأخيرين المذكورين بعد قوله: { إلا ما ذكيتم } لحيلولة الاستثناء، والاشارة إلى الأخير ولعل الأوسط خير الثلاثة.
قوله تعالى: { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون } أمر الآية في حلولها محلها ثم في دلالتها عجيب، فإنك إذا تأملت صدر الآية أعني قوله تعالى: { حرِّمت عليكم الميتة والدم } إلى قوله: { ذلكم فسق } وأضفت إليه ذيلها أعني قوله: { فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم } وجدته كلاماً تاماً غير متوقف في تمام معناه وإفادة المراد منه إلى شيء من قوله: { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } (الخ) أصلاً، وألفيته آية كاملة مماثلة لما تقدم عليها في النزول من الآيات الواقعة في سورة الأنعام والنحل والبقرة المبيّنة لمحرمات الطعام، ففي سورة البقرة:
{ { إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم } [البقرة: 173] ويماثله ما في سورتي الأنعام والنحل.
وينتج ذلك أن قوله: { اليوم يئس الذين كفروا } (الخ) كلام معترض موضوع في وسط هذه الآية غير متوقف عليه لفظ الآية في دلالتها وبيانها، سواء قلنا: إن الآية نازلة في وسط الآية فتخللت بينها من أول ما نزلت، أو قلنا: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي أمر كتاب الوحي بوضع الآية في هذا الموضع مع انفصال الآيتين واختلافهما نزولاً. أو قلنا: إنها موضوعة في موضعها الذي هي فيه عند التأليف من غير أن تصاحبها نزولاً، فإن شيئاً من هذه الاحتمالات لا يؤثر أثراً فيما ذكرناه من كون هذا الكلام المتخلل متعرضاً إذا قيس إلى صدر الآية وذيلها.
ويؤيد ذلك أن جل الروايات الواردة في سبب النزول - لو لم يكن كلها، وهي أخبار جمّة - يخص قوله: { اليوم يئس الذين كفروا } (الخ) بالذكر من غير أن يتعرض لأصل الآية أعني قوله: { حرّمت عليكم الميتة }، أصلاً وهذا يؤيد أيضاً نزول قوله: { اليوم يئس } (الخ) نزولاً مستقلاً منفصلاً عن الصدر والذيل، وأن وقوع الآية في وسط الآية مستند إلى تأليف النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو إلى تأليف المؤلفين بعده.
ويؤيده ما رواه في الدر المنثور عن عبد بن حميد عن الشعبي قال: نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية - وهو بعرفة -: { اليوم أكملت لكم دينكم } وكان إذا أعجبته آيات جعلهن صدر السورة، قال: وكان جبرئيل يعلمه كيف ينسك.
ثم إن هاتين الجملتين أعني قوله: { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } وقوله: { اليوم أكملت لكم دينكم } متقاربتان مضموناً، مرتبطتان مفهوماً بلا ريب، لظهور ما بين يأس الكفار من دين المسلمين وبين إكمال دين المسلمين من الارتباط القريب، وقبول المضمونين لأن يمتزجا فيتركبّا مضموناً واحداً مرتبط الأجزاء، متصل الأطراف بعضها ببعض، مضافاً إلى ما بين الجملتين من الاتحاد في السياق.
ويؤيد ذلك ما نرى أن السلف والخلف من مفسري الصحابة والتابعين والمتأخرين إلى يومنا هذا أخذوا الجملتين متصلتين يتم بعضهما بعضاً، وليس ذلك إلا لأنهم فهموا من هاتين الجملتين ذلك، وبنوا على نزولهما معاً، واجتماعهما من حيث الدلالة على مدلول واحد.
وينتج ذلك أن هذه الآية المعترضة أعني قوله: { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } - إلى قوله -: { ورضيت لكم الإسلام ديناً } كلام واحد متصل بعض أجزائه ببعض مسوق لغرض واحد قائم بمجموع الجملتين من غير تشتت سواء قلنا بارتباطه بالآية المحيطة بها أو لم نقل، فإن ذلك لا يؤثر البتَّة في كون هذا المجموع كلاماً واحداً معترضاً لا كلامين ذوي غرضين، وأن اليوم المتكرر في قوله: { اليوم يئس الذين كفروا }، وفي قوله: { اليوم أكملت لكم دينكم }، أُريد به يوم واحد يئس فيه الكفار وأُكمل فيه الدين.
ثم ما المراد بهذا اليوم الواقع في قوله تعالى: { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم }؟ فهل المراد به زمان ظهور الاسلام ببعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته فيكون المراد أن الله أنزل إليكم الإسلام، وأكمل لكم الدين وأتم عليكم النعمة وأيأس منكم الكفار؟
لا سبيل إلى ذلك لأن ظاهر السياق أنه كان لهم دين كان الكفار يطمعون في إبطاله أو تغييره، وكان المسلمون يخشونهم على دينهم فأيأس الله الكافرين مما طمعوا فيه وآمن المسلمين وأنه كان ناقصاً فأكمله الله وأتم نعمته عليهم، ولم يكن لهم قبل الاسلام دين حتى يطمع فيه الكفار أو يكمله الله ويتم نعمته عليهم.
على أن لازم ما ذكر من المعنى أن يتقدم قوله: { اليوم أكملت }، على قوله: { اليوم يئس الذين كفروا }، حتى يستقيم الكلام في نظمه.
أو أن المراد باليوم هو ما بعد فتح مكة حيث أبطل الله فيه كيد مشركي قريش وأذهب شوكتهم، وهدم فيه بنيان دينهم، وكسر أصنامهم، فانقطع رجاؤهم أن يقوموا على ساق، ويضادوا الاسلام ويمانعوا نفوذ أمره وانتشار صيته؟
لا سبيل إلى ذلك أيضاً فإن الآية تدل على إكمال الدين وإتمام النعمة ولما يكمل الدين بفتح مكة - وكان في السنة الثامنة من الهجرة - فكم من فريضة نزلت بعد ذلك، وكم من حلال أو حرام شرع فيما بينه وبين رحلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
على أن قوله: { الذين كفروا } يعم جميع مشركي العرب ولم يكونوا جميعاً آئسين من دين المسلمين، ومن الدليل عليه أن كثيراً من المعارضات والمواثيق على عدم التعرض كانت باقية بعد على اعتبارها واحترامها، وكانوا يحجون حجة الجاهلية على سنن المشركين، وكانت النساء يحججن عاريات مكشوفات العورة حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً عليه السلام بآيات البراءة فأبطل بقايا رسوم الجاهلية.
أو أن المراد باليوم ما بعد نزول البراءة من الزمان حيث انبسط الاسلام على جزيرة العرب تقريباً، وعفت آثار الشرك، وماتت سنن الجاهلية فما كان المسلمون يرون في معاهد الدين ومناسك الحج أحداً من المشركين، وصفا لهم الأمر، وأبدلهم الله بعد خوفهم أمناً يعبدونه ولا يشركون به شيئاً؟
لا سبيل إلى ذلك فإن مشركي العرب وإن أيسوا من دين المسلمين بعد نزول آيات البراءة وطي بساط الشرك من الجزيرة وإعفاء رسوم الجاهلية إلا أن الدين لم يكمل بعد، وقد نزلت فرائض وأحكام بعد ذلك، ومنها ما في هذه السورة: (سورة المائدة)، وقد اتفقوا على نزولها في آخر عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفيها شيء كثير من أحكام الحلال والحرام والحدود والقصاص.
فتحصّل أنه لا سبيل إلى احتمال أن يكون المراد باليوم في الآية معناه الوسيع مما يناسب مفاد الآية بحسب بادئ النظر كزمان ظهور الدعوة الاسلامية أو ما بعد فتح مكة من الزمان، أو ما بعد نزول آيات البراءة فلا سبيل إلا أن يقال: إن المراد باليوم يوم نزول الآية نفسها، وهو يوم نزول السورة إن كان قوله: { اليوم يئس الذين كفروا }، معترضاً مرتبطاً بحسب المعنى بالآية المحيطة بها، أو بعد نزول سورة المائدة في أواخر عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك لمكان قوله تعالى: { اليوم أكملت }.
فهل المراد باليوم يوم فتح مكة بعينه؟ أو يوم نزول البراءة بعينه؟ يكفي في فساده ما تقدم من الإشكالات الواردة على الاحتمال الثاني والثالث المتقدمين.
أو أن المراد باليوم هو يوم عرفة من حجة الوداع كما ذكره كثير من المفسرين وبه ورد بعض الروايات؟ فما المراد من يأس الذين كفروا يومئذ من دين المسلمين فإن كان المراد باليأس من الدين يأس مشركي قريش من الظهور على دين المسلمين فقد كان ذلك يوم الفتح عام ثمانية لا يوم عرفة من السنة العاشرة، وإن كان المراد يأس مشركي العرب من ذلك فقد كان ذلك عند نزول البراءة وهو في السنة التاسعة من الهجرة، وإن كان المراد به يأس جميع الكفار الشامل لليهود والنصارى والمجوس وغيرهم - وذلك الذي يقتضيه إطلاق قوله: { الذين كفروا } - فهؤلاء لم يكونوا آئسين من الظهور على المسلمين بعد، ولما يظهر للإسلام قوة وشوكة وغلبة في خارج جزيرة العرب اليوم.
ومن جهة أُخرى يجب أن نتأمل فيما لهذا اليوم - وهو يوم عرفة تاسع ذي الحجة سنة عشر من الهجرة - من الشأن الذي يناسب قوله: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } في الآية.
فربما أمكن أن يقال: إن المراد به إكمال أمر الحج بحضور النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه فيه، وتعليمه الناس تعليماً عملياً مشفوعاً بالقول.
لكن فيه أن مجرد تعليمه الناس مناسك حجهم - وقد أمرهم بحج التمتع ولم يلبث دون أن صار مهجوراً، وقد تقدمه تشريع أركان الدين من صلاة وصوم وحج وزكاة وجهاد وغير ذلك - لا يصح أن يسمى إكمالاً للدين، وكيف يصح أن يسمى تعليم شيء من واجبات الدين إكمالاً لذلك الواجب فضلاً عن أن يسمى تعليم واجب من واجبات الدين لمجموع الدين؟.
على أن هذا الاحتمال يوجب انقطاع رابطة الفقرة الأولى أعني قوله: { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } بهذه الفقرة أعني قوله: { اليوم أكملت لكم دينكم } وأي ربط ليأس الكفار عن الدين بتعليم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حج التمتع للناس؟.
وربما أمكن أن يقال: إن المراد به إكمال الدين بنزول بقايا الحلال والحرام في هذا اليوم في سورة المائدة، فلا حلال بعده ولا حرام، وبإكمال الدين استولى اليأس على قلوب الكفار، ولاحت آثاره على وجوههم.
لكن يجب أن نتبصّر في تمييز هؤلاء الكفار الذين عبر عنهم في الآية بقوله: { الذين كفروا } على هذا التقدير وأنهم مَن هم؟ فإن أُريد بهم كفار العرب فقد كان الإسلام عمّهم يومئذ ولم يكن فيهم من يتظاهر بغير الإسلام وهو الإسلام حقيقة، فمن هم الكفار الآئسون.
وإن أُريد بهم الكفار من غيرهم كسائر العرب من الأمم والأجيال فقد عرفت آنفاً أنهم لم يكونوا آئسين يومئذ من الظهور على المسلمين.
ثم نتبصر في أمر انسداد باب التشريع بنزول سورة المائدة وانقضاء يوم عرفة فقد وردت روايات كثيرة لا يستهان بها عدداً بنزول أحكام وفرائض بعد اليوم كما في آية الصيف وآيات الربا، حتى أنه روي عن عمر أنه قال في خطبة خطبها: من آخر القرآن نزولاً آية الربا، وإنه مات رسول الله ولم يبينه لنا، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم، الحديث. وروى البخاري في الصحيح عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم آية الربا، إلى غير ذلك من الروايات.
وليس للباحث أن يضعِّف الروايات فيقدم الآية عليها، لأن الآية ليست بصريحة ولا ظاهرة في كون المراد باليوم فيها هذا اليوم بعينه وإنما هو وجه محتمل يتوقف في تعينه على انتفاء كل احتمال ينافيه، وهذه الأخبار لا تقصر عن الاحتمال المجرد عن السند.
أو يقال: ان المراد بإكمال الدين خلوص البيت الحرام لهم، وإجلاء المشركين عنه حتى حجه المسلمون وهم لا يخالطهم المشركون.
وفيه: أنه قد كان صفا الأمر للمسلمين فيما ذكر قبل ذلك بسنة، فما معنى تقييده باليوم في قوله: { اليوم أكملت لكم دينكم }؟ على أنه لو سلّم كون هذا الخلوص إتماماً للنعمة لم يسلّم كونه إكمالاً للدين، وأي معنى لتسمية خلوص البيت إكمالاً للدين، وليس الدين إلا مجموعة من عقائد وأحكام، وليس إكماله إلا أن يضاف إلى عدد أجزائها وأبعاضها عدد؟ وأما صفاء الجو لإجرائها، وارتفاع الموانع والمزاحمات عن العمل بها فليس يسمى إكمالاً للدين البتة. على أن إشكال يأس الكفار عن الدين على حاله.
ويمكن أن يقال: إن المراد من إكمال الدين بيان هذه المحرمات بياناً تفصيلياً ليأخذ به المسلمون، ويجتنبوها ولا يخشوا الكفار في ذلك لأنهم قد يئسوا من دينهم بإعزاز الله المسلمين، وإظهار دينهم وتغليبهم على الكفار.
توضيح ذلك أن حكمة الاكتفاء في صدر الإسلام بذكر المحرمات الأربعة أعني الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهل لغير الله به الواقعة في بعض السور المكية وترك تفصيل ما يندرج فيها مما كرهه الإسلام للمسلمين من سائر ما ذكر في هذه الآية إلى ما بعد فتح مكة إنما هي التدرج في تحريم هذه الخبائث والتشديد فيها كما كان التدريج في تحريم الخمر لئلا ينفر العرب من الإسلام، ولا يروا فيه حرجاً يرجون به رجوع من آمن فقرائهم وهم أكثر السابقين الأولين.
جاء هذا التفصيل للمحرمات بعد قوة الإسلام، وتوسعة الله على أهله وإعزازهم، وبعد أن يئس المشركون بذلك من نفور أهله منه، وزال طمعهم في الظهور عليهم، وإزالة دينهم بالقوة القاهرة، فكان المؤمنون أجدر بهم أن لا يبالوهم بالمداراة، ولا يخافوهم على دينهم وعلى أنفسهم.
فالمراد باليوم يوم عرفة من عام حجة الوداع، وهو اليوم الذي نزلت فيه هذه الآية المبينة لما بقي من الاحكام التي أبطل بها الإسلام بقايا مهانة الجاهلية وخبائثها وأوهامها، والمبشرة بظهور المسلمين على المشركين ظهوراً تاماً لا مطمع لهم في زواله، ولا حاجة معه إلى شيء من مداراتهم أو الخوف من عاقبة أمرهم.
فالله سبحانه يخبرهم في الآية أن الكفار أنفسهم قد يئسوا من زوال دينهم وأنه ينبغي لهم - وقد بدّلهم بضعفهم قوة، وبخوفهم أمناً، وبفقرهم غنى - أن لا يخشوا غيره تعالى، وينتهوا عن تفاصيل ما نهى الله عنه في الآية ففيها كمال دينهم. كذا ذكره بعضهم بتلخيص ما في النقل.
وفيه: أن هذا القائل أراد الجمع بين عدة من الاحتمالات المذكورة ليدفع بكل احتمال ما يتوجه إلى الاحتمال الآخر من الإشكال فتورّط بين المحاذير برمّتها وأفسد لفظ الآية ومعناها جميعاً.
فذهل عن أن المراد باليأس إن كان هو اليأس المستند إلى ظهور الإسلام وقوته وهو ما كان بفتح مكة أو بنزول آيات البراءة لم يصح أن يقال يوم عرفة من السنة العاشرة: { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } وقد كانوا يئسوا قبل ذلك بسنة أو سنتين، وإنما اللفظ الوافي له أن يقال: قد يئسوا كما عبر به القائل نفسه في كلامه في توضيح المعنى أو يقال: إنهم آئسون.
وذهل عن أن هذا التدرج الذي ذكره في محرمات الطعام، وقاس تحريمها بتحريم الخمر إن أُريد به التدرج من حيث تحريم بعض الافراد بعد بعض فقد عرفت أن الآية لا تشتمل على أزيد مما تشتمل عليه آيات التحريم السابقة نزولاً على هذه الآية أعني آيات البقرة والأنعام والنحل، وأن المنخنقة والموقوذة (الخ) من افراد ما ذكر فيها.
وإن أُريد به التدرج من حيث البيان الإجمالي والتفصيلي خوفاً من امتناع الناس من القبول ففي غير محله، فإن ما ذكر بالتصريح في السور السابقة على المائدة أعني الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهل لغير الله به أغلب مصداقاً، وأكثر ابتلاءً، وأوقع في قلوب الناس من أمثال المنخنقة والموقوذة وغيرها، وهي أُمور نادرة التحقق وشاذة الوجود، فما بال تلك الأربعة وهي أهم وأوقع وأكثر يصرح بتحريمها من غير خوف من ذلك ثم يتّقى من ذكرها ما لا يعبأ بأمره بالإضافة إليها فيتدرج في بيان حرمتها، ويخاف من التصريح بها؟.
على أن ذلك لو سلّم لم يكن إكمالاً للدين وهل يصح ان يسمى تشريع الإحكام ديناً؟ وإبلاغها وبيانها إكمالاً للدين؟ ولو سلّم فإنما ذلك إكمال لبعض الدين وإتمام لبعض النعمة لا للكل والجميع، وقد قال تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } فأطلق القول من غير تقييد.
على أنه تعالى قد بيّن أحكاماً كثيرة في أيام كثيرة، فما بال هذا الحكم في هذا اليوم خص بالمزية فسماه الله أو سمّى بيانه تفصيلا بإشمال الدين وإتمام النعمة؟.
أو أن المراد بإكمال الدين إكماله بسد باب التشريع بعد هذه الآية المبيّنة لتفصيل محرمات الطعام، فما شأن الاحكام النازلة ما بين نزول المائدة ورحلة النبي صلى الله عليه ووآله وسلم؟ بل ما شأن سائر الاحكام النازلة بعد هذه الآية في سورة المائدة؟ تأمّل فيه.
وبعد ذلك كله ما معنى قوله تعالى: { ورضيت لكم الإسلام ديناً } - وتقديره: اليوم رضيت (الخ) - لو كان المراد بالكلام الامتنان بما ذكر في الآية من المحرمات يوم عرفة من السنة العاشرة؟ وما وجه اختصاص هذا اليوم بأن الله سبحانه رضي فيه الاسلام ديناً، ولا أمر يختص به اليوم مما يناسب هذا الرضى؟.
وبعد ذلك كله يرد على هذا الوجه أكثر الاشكالات الواردة على الوجوه السابقة أو ما يقرب منها مما تقدم بيانه، ولا نطيل بالإعادة.
أو أن المراد باليوم واحد من الأيام التي بين عرفة وبين ورود النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة على بعض الوجوه المذكورة في معنى يأس الكفار ومعنى إكمال الدين.
وفيه من الإشكال ما يرد على غيره على التفصيل المتقدّم.
فهذا شطر من البحث عن الآية بحسب السير فيما قيل أو يمكن أن يقال في توجيه معناها، ولنبحث عنها من طريق آخر يناسب طريق البحث الخاص بهذا الكتاب.
قوله: { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم } - واليأس يقابل الرجاء، والدين إنما نزل من عند الله تدريجاً - يدل على أن الكفار قد كان لهم مطمع في دين المسلمين وهو الإسلام، وكانوا يرجون زواله بنحو منذ عهد وزمان، وأن أمرهم ذلك كان يهدد الاسلام حيناً بعد حين، وكان الدين منهم على خطر يوماً بعد يوم، وأن ذلك كان من حقه أن يحذر منه ويخشاه المؤمنون.
فقوله: { فلا تخشوهم }، تأمين منه سبحانه للمؤمنين مما كانوا منه على خطر، ومن تسرّبه على خشية، قال تعالى:
{ ودّت طائفة من أهل الكتاب لو يضلّونكم } [آل عمران: 69]، وقال تعالى: { { ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم ومن بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير } } [البقرة: 109]. الكفار لم يكونوا يتربصون الدوائر بالمسلمين إلا لدينهم، ولم يكن يضيق صدورهم وينصدع قلوبهم إلا من جهة أن الدين كان يذهب بسؤددهم وشرفهم واسترسالهم في اقتراف كل ما تهواه طباعهم، وتألفه وتعتاد به نفوسهم، ويختم على تمتعهم بكل ما يشتهون بلا قيد وشرط.
فقد كان الدين هو المبغوض عندهم دون أهل الدين إلا من جهة دينهم الحق فلم يكن في قصدهم إبادة المسلمين وإفناء جمعهم بل إطفاء نور الله وتحكيم أركان الشرك المتزلزلة المضطربة به، ورد المؤمنين كفاراً كما مر في قوله: { لو يردونكم كفاراً } (الآية) قال تعالى:
{ { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متمّ نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون } } [الصف: 8 ـ 9]. وقال تعالى: { { فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون } } [غافر: 14]. ولذلك لم يكن لهم همّ إلا أن يقطعوا هذه الشجرة الطيبة من أصلها، ويهدموا هذا البنيان الرفيع من أُسّه بتفتين المؤمنين وتسرية النفاق في جماعتهم وبث الشبه والخرافات بينهم لإفساد دينهم.
وقد كانوا يأخذون بادئ الأمر يفتّرون عزيمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويستمحقون همّته في الدعوة الدينية بالمال والجاه، كما يشير إليه قوله تعالى:
{ { وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد } [ص: 6] أو بمخالطة أو مداهنة، كما يشير إليه قوله: { { ودّوا لو تدهن فيدهنون } [القلم: 1]، وقوله: { { ولولا أن ثبّتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً } [الإسراء: 74]، وقوله: { { قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد } [الكافرون:1 - 3] على ما ورد في أسباب النزول.
وكان آخر ما يرجونه في زوال الدين، وموت الدعوة المحقة، أنه سيموت بموت هذا القائم بأمره ولا عقب له، فإنهم كانوا يرون أنه ملك في صورة النبوّة، وسلطنة في لباس الدعوة والرسالة، فلو مات أو قتل لانقطع أثره ومات ذكره وذكر دينه على ما هو المشهود عادة من حال السلاطين والجبابرة أنهم مهما بلغ أمرهم من التعالي والتجبر وركوب رقاب الناس فإن ذكرهم يموت بموتهم، وسننهم وقوانينهم الحاكمة بين الناس وعليهم تدفن معهم في قبورهم، يشير إلى رجائهم هذا قوله تعالى:
{ { إن شانئك هو الأبتر } [الكوثر: 3] على ما ورد في أسباب النزول.
فقد كان هذه وأمثالها أماني تمكّن الرجاء من نفوسهم، وتطمعهم في إطفاء نور الدين، وتزيّن لأوهامهم ان هذه الدعوة الطاهرة ليست إلا أُحدوثة ستكذبه المقادير ويقضي عليها ويعفو أثرها مرور الأيام والليالي، لكن ظهور الاسلام تدريجاً على كل ما نازله له من دين وأهله، وانتشار صيته، واعتلاء كلمته بالشوكة والقوة قضى على هذه الأماني فيئسوا من إفساد عزيمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإيقاف همّته عند بعض ما كان يريده، وتطميعه بمال أو جاه.
قوة الاسلام وشوكته أيأستهم من جميع تلك الاسباب: - أسباب الرجاء - إلا واحداً، وهو أنه صلى الله عليه وآله وسلم مقطوع العقب لا ولد له يخلفه في أمره، ويقوم على ما قام عليه من الدعوة الدينية فسيموت دينه بموته، وذلك أن من البديهي أن كمال الدين من جهة أحكامه ومعارفه - وإن بلغ ما بلغ - لا يقوى بنفسه على حفظ نفسه، وأن سنة من السنن المحدثة والأديان المتبعة لا تبقى على نضارتها وصفائها لا بنفسها ولا بانتشار صيتها ولا بكثرة المنتحلين بها، كما أنها لا تنمحي ولا تنطمس بقهر أو جبر أو تهديد أو فتنة أو عذاب أو غير ذلك إلا بموت حملتها وحفظتها والقائمين بتدبير أمرها.
ومن جميع ما تقدم يظهر ان تمام يأس الكفار إنما كان يتحقق عند الاعتبار الصحيح بأن ينصب الله لهذا الدين من يقوم مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حفظه وتدبير أمره، وإرشاد الأُمة القائمة به فيتعقب ذلك يأس الذين كفروا من دين المسلمين لما شاهدوا خروج الدين عن مرحلة القيام بالحامل الشخصي إلى مرحلة القيام بالحامل النوعي، ويكون ذلك إكمالاً للدين بتحويله من صفة الحدوث إلى صفة البقاء، وإتماماً لهذه النعمة، وليس يبعد أن يكون قوله تعالى:
{ { ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير } [البقرة: 109] باشتماله على قوله: { حتى يأتي }، اشارة إلى هذا المعنى.
وهذا يؤيد ما ورد من الروايات أن الآية نزلت يوم غدير خم، وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة سنة عشر من الهجرة في أمر ولاية علي عليه السلام، وعلى هذا فيرتبط الفقرتان أوضح الارتباط، ولا يرد عليه شيء من الإشكالات المتقدمة.
ثم إنك بعد ما عرفت معنى اليأس في الآية تعرف أن اليوم في قوله: { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } ظرف متعلق بقوله: { يئس } وأن التقديم للدلالة على تفخيم أمر اليوم، وتعظيم شأنه، لما فيه من خروج الدين من مرحلة القيام بالقيّم الشخصي إلى مرحلة القيام بالقيّم النوعي، ومن صفة الظهور والحدوث إلى صفة البقاء والدوام.
ولا يقاس الآية بما سيأتي من قوله: { اليوم أُحل لكم الطيبات } (الآية) فإن سياق الآيتين مختلف فقوله: { اليوم يئس }، في سياق الاعتراض، وقوله: { اليوم أُحل }، في سياق الاستئناف، والحكمان مختلفان: فحكم الآية الأولى تكويني مشتمل على البشرى من وجه والتحذير من وجه آخر، وحكم الثانية تشريعي منبئ عن الامتنان. فقوله: { اليوم يئس }، يدل على تعظيم أمر اليوم لاشتماله على خير عظيم الجدوى وهو يأس الذين كفروا من دين المؤمنين، والمراد بالذين كفروا - كما تقدمت الإشارة إليه - مطلق الكفار من الوثنيين واليهود والنصارى وغيرهم لمكان الإطلاق.
وأما قوله: { فلا تخشوهم واخشون } فالنهي إرشادي لا مولوي، معناه أن لا موجب للخشية بعد يأس الذين كنتم في معرض الخطر من قبلهم - ومن المعلوم أن الإنسان لا يهم بأمر بعد تمام اليأس من الحصول عليه ولا يسعى إلى ما يعلم ضلال سعيه فيه - فأنتم في أمن من ناحية الكفار، ولا ينبغي لكم مع ذلك الخشية منهم على دينكم فلا تخشوهم واخشوني.
ومن هنا يظهر أن المراد بقوله: { واخشون } بمقتضى السياق أن اخشوني فيما كان عليكم أن تخشوهم فيه لولا يأسهم وهو الدين ونزعه من أيديكم، وهذا نوع تهديد للمسلمين كما هو ظاهر، ولهذا لم نحمل الآية على الامتنان.
ويؤيد ما ذكرنا أن الخشية من الله سبحانه واجب على أي تقدير من غير أن يتعلق بوضع دون وضع، وشرط دون شرط، فلا وجه للإضراب من قوله: { فلا تخشوهم } إلى قوله: { واخشون } لولا أنها خشية خاصة في مورد خاص.
ولا تقاس الآية بقوله تعالى:
{ فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } [آل عمران: 175] لأن الأمر بالخوف من الله في تلك الآية مشروط بالإيمان، والخطاب مولوي، ومفاده أنه لا يجوز للمؤمنين أن يخافوا الكفار على أنفسهم بل يجب أن يخافوا الله سبحانه وحده.
فالآية تنهاهم عما ليس لهم بحق وهو الخوف منهم على أنفسهم سواء أُمروا بالخوف من الله أم لا، ولذلك يعلل ثانياً الأمر بالخوف من الله بقيد مشعر بالتعليل، وهو قوله: { إن كنتم مؤمنين }، وهذا بخلاف قوله: { فلا تخشوهم واخشون } فإن خشيتهم هذه خشية منهم على دينهم، وليست بمبغوضة لله سبحانه لرجوعها إلى ابتغاء مرضاته بالحقيقة، بل إنما النهي عنها لكون السبب الداعي إليها - وهو عدم يأس الكفار منه - قد ارتفع وسقط أثره فالنهي عنه إرشادي، فكذا الأمر بخشية الله نفسه، ومفاد الكلام أن من الواجب أن تخشوا في أمر الدين، لكن سبب الخشية كان إلى اليوم مع الكفار فكنتم تخشونهم لرجائهم في دينكم وقد يئسوا اليوم وانتقل السبب إلى ما عند الله فاخشوه وحده. فافهم ذلك.
فالآية لمكان قوله: { فلا تخشوهم واخشون } لا تخلو عن تهديد وتحذير، لأن فيه أمراً بخشية خاصة دون الخشية العامة التي تجب على المؤمن على كل تقدير وفي جميع الأحوال، فلننظر في خصوصية هذه الخشية، وأنه ما هو السبب الموجب لوجوبها والأمر بها؟.
لا إشكال في أن الفقرتين أعني قوله: { اليوم يئس }، وقوله: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي }، في الآية مرتبطتان مسوقتان لغرض واحد، وقد تقدم بيانه، فالدين الذي أكمله الله اليوم، والنعمة التي أتمها اليوم - وهما أمر واحد بحسب الحقيقة - هو الذي كان يطمع فيه الكفار ويخشاهم فيه المؤمنون فأيأسهم الله منه وأكمله وأتمه، ونهاهم عن أن يخشوهم فيه، فالذي أمرهم بالخشية من نفسه فيه هو ذاك بعينه وهو أن ينزع الله الدين من أيديهم، ويسلبهم هذه النعمة الموهوبة.
وقد بيّن الله سبحانه أن لا سبب لسلب النعمة إلا الكفر بها، وهدد الكفور أشد التهديد، قال تعالى:
{ { ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم } [الأنفال: 53] وقال تعالى: { { ومن يبدّل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب } [البقرة: 211] وضرب مثلاً كلياً لنعمه وما يؤول إليه أمر الكفر بها فقال: { { وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون } } [النحل: 212]. فالآية أعني قوله: { اليوم يئس } إلى قوله { ديناً } تؤذن بأن دين المسلمين في أمن من جهة الكفار، مصون من الخطر المتوجه من قبلهم، وأنه لا يتسرب إليه شيء من طوارق الفساد والهلاك إلا من قبل المسلمين أنفسهم، وأن ذلك إنما يكون بكفرهم بهذه النعمة التامة، ورفضهم هذا الدين الكامل المرضي، ويومئذ يسلبهم الله نعمته ويغيرها إلى النقمة، ويذيقهم لباس الجوع والخوف، وقد فعلوا وفعل.
ومن أراد الوقوف على مبلغ صدق هذه الآية في ملحمتها المستفادة من قوله: { فلا تخشوهم واخشون } فعليه أن يتأمل فيما استقر عليه حال العالم الاسلامي اليوم ثم يرجع القهقرى بتحليل الحوادث التاريخية حتى يحصل على أُصول القضايا وأعراقها.
ولآيات الولاية في القرآن ارتباط تام بما في هذه الآية من التحذير والإيعاد، ولم يحذّر الله العباد عن نفسه في كتابه إلا في باب الولاية، فقال فيها مرة بعد مرة:
{ { ويحذركم الله نفسه } [آل عمران: 28] وتعقيب هذا البحث أزيد من هذا خروج عن طور الكتاب.
قوله تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } الإكمال والإتمام متقاربا المعنى، قال الراغب: كمال الشيء حصول ما هو الغرض منه. وقال: تمام الشيء انتهاؤه إلى حد لا يحتاج إلى شيء خارج عنه، والناقص ما يحتاج إلى شيء خارج عنه.
ولك أن تحصل على تشخيص معنى اللفظين من طريق آخر، وهو ان آثار الأشياء التي لها آثار على ضربين: فضرب منها ما يترتب على الشيء عند وجود جميع اجزائه - إن كان له أجزاء - بحيث لو فقد شيئاً من أجزائه أو شرائطه لم يترتب عليه ذلك الأمر كالصوم فإنه يفسد إذا أُخل بالإمساك في بعض النهار، ويسمى كون الشيء على هذا الوصف بالتمام، قال تعالى:
{ { ثم أتموا الصيام إلى الليل } [البقرة: 187]، وقال: { { وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً } } [الأنعام: 115]. وضرب آخر: الأثر الذي يترتب على الشيء من غير توقف على حصول جميع أجزائه، بل أثر المجموع كمجموع آثار الأجزاء، فكلما وجد جزء ترتب عليه من الأثر ما هو بحسبه، ولو وجد الجميع ترتب عليه كل الأثر المطلوب منه، قال تعالى: { { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة } [البقرة: 196] وقال: { { ولتكملوا العدة } [البقرة: 185] فإن هذا العدد يترتب الأثر على بعضه كما يترتب على كله، ويقال: تم لفلان أمره وكمل عقله، ولا يقال: تمّ عقله وكمل أمره.
وأما الفرق بين الإكمال والتكميل، وكذا بين الإتمام والتتميم فإنما هو الفرق بين بابي الإفعال والتفعيل، وهو إن الإفعال بحسب الأصل يدل على الدفعة والتفعيل على التدريج، وإن كان التوسع الكلامي أو التطور اللغوي ربما يتصرف في البابين بتحويلهما إلى ما يبعد من مجرى المجرد أو من أصلهما كالإحسان والتحسين، والإصداق والتصديق، والامداد والتمديد والافراط والتفريط، وغير ذلك، فإنما هي معان طرأت بحسب خصوصيات الموارد ثم تمكنت في اللفظ بالاستعمال.
وينتج ما تقدم أن قوله: { أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } يفيد أن المراد بالدين هو مجموع المعارف والأحكام المشرّعة وقد أُضيف إلى عددها اليوم شيء وأن النعمة أياً ما كانت أمر معنوي واحد كأنه كان ناقصاً غير ذي أثر فتمم وترتب عليه الأثر المتوقع منه.
والنعمة بناء نوع وهي ما يلائم طبع الشيء من غير امتناعه منه، والأشياء وإن كانت بحسب وقوعها في نظام التدبير متصلة مرتبطة متلائماً بعضها مع بعض، وأكثرها أو جميعها نعمٌ إذا أُضيفت إلى بعض آخر مفروض كما قال تعالى:
{ { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } [إبراهيم: 34] وقال: { { وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة } } [لقمان: 20]. إلا انه تعالى وصف بعضها بالشر والخسة واللعب واللهو وأوصاف أُخر غير ممدوحة كما قال: { { ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين } [آل عمران: 178]، وقال: { وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان } [العنكبوت: 64]، وقال: { { لا يغرّنك تقلّب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد } } [آل عمران: 196] إلى غير ذلك.
والآيات تدل على أن هذه الأشياء المعدودة نعماً إنما تكون نعمة إذا وافقت الغرض الإِلهي من خلقتها لأجل الانسان، فإنها إنما خلقت لتكون إمداداً إلهياً للإنسان يتصرف فيها في سبيل سعادته الحقيقية، وهي القرب منه سبحانه بالعبودية والخضوع للربوبية، قال تعالى:
{ { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } } [الذاريات: 56]. فكل ما تصرَّف فيه الإنسان للسلوك به إلى حضرة القرب من الله وابتغاء مرضاته فهو نعمة، وإن انعكس الأمر عاد نقمة في حقه، فالأشياء في نفسها عُزل، وإنما هي نعمة لاشتمالها على روح العبودية، ودخولها من حيث التصرف المذكور تحت ولاية الله التي هي تدبير الربوبية لشؤون العبد، ولازمه أن النعمة بالحقيقة هي الولاية الإلهية، وأن الشيء إنما يصير نعمة إذا كان مشتملاً على شيء منها، قال تعالى: { { الله وليّ الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور } [البقرة: 257]، وقال تعالى: { { ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم } } [محمد: 11] وقال في حق رسوله: { { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلّموا تسليماً } } [النساء: 65] إلى غير ذلك.
فالاسلام وهو مجموع ما نزل من عند الله سبحانه ليعبده به عباده دين، وهو من جهة اشتماله - من حيث العمل به - على ولاية الله وولاية رسوله وأولياء الأمر بعده نعمة.
ولا يتم ولاية الله سبحانه أي تدبيره بالدين لأمور عباده إلا بولاية رسوله، ولا ولاية رسوله إلا بولاية أُولي الأمر من بعده، وهي تدبيرهم لأمور الأُمة الدينية بإذن من الله، قال تعالى:
{ { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأُولي الأمر منكم } [النساء: 59] وقد مر الكلام في معنى الآية، وقال: { إنما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون } [المائدة: 55] وسيجيء الكلام في معنى الآية إن شاء الله تعالى.
فمحصّل معنى الآية: اليوم - وهو اليوم الذي يئس فيه الذين كفروا من دينكم - أكملت لكم مجموع المعارف الدينية التي أنزلتها إليكم بفرض الولاية، وأتممت عليكم نعمتي وهي الولاية التي هي إدارة أُمور الدين وتدبيرها تدبيراً إلهياً، فإنها كانت إلى اليوم ولاية الله ورسوله، وهي إنما تكفي ما دام الوحي ينزل، ولا تكفي لما بعد ذلك من زمان انقطاع الوحي، ولا رسول بين الناس يحمي دين الله ويذب عنه بل من الواجب أن ينصب من يقوم بذلك، وهو ولي الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القيّم على أُمور الدين والأمة.
فالولاية مشروعة واحدة، كانت ناقصة غير تامة حتى إذا تمت بنصب ولي الأمر بعد النبي.
وإذا كمل الدين في تشريعه، وتمت نعمة الولاية فقد رضيت لكم من حيث الدين الاسلام الذي هو دين التوحيد الذي لا يعبد فيه إلا الله ولا يطاع فيه - والطاعة عبادة - إلا الله ومن أمر بطاعته من رسول أو ولي.
فالآية تنبئ عن أن المؤمنين اليوم في أمن بعد خوفهم، وأن الله رضي لهم أن يتديّنوا بالاسلام الذي هو دين التوحيد فعليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً بطاعة غير الله أو من أمر بطاعته. وإذا تدبرت قوله تعالى:
{ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكّنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون } [النور: 55] ثم طبقت فقرات الآية على فقرات قوله تعالى: { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } (الخ) وجدت آية سورة المائدة من مصاديق إنجاز الوعد الذي يشتمل عليه آية سورة النور على أن يكون قوله: { يعبدونني لا يشركون بي شيئاً } مسوقاً سوق الغاية كما ربما يشعر به قوله: { ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون }.
وسورة النور قبل المائدة نزولاً كما يدل عليه اشتمالها على قصة الإفك وآية الجلد وآية الحجاب وغير ذلك.
قوله تعالى: { فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم } المخمصة هي المجاعة، والتجانف هو التمايل من الجنف بالجيم وهو ميل القدمين إلى الخارج مقابل الحنف بالحاء الذي هو ميلهما إلى الداخل.
وفي سياق الآية دلالة أولاً على أن الحكم ثانوي اضطراري، وثانياً على أن التجويز والإباحة مقدر بمقدار يرتفع به الاضطرار ويسكن به ألم الجوع، وثالثاً على أن صفة المغفرة ومثلها الرحمة كما تتعلق بالمعاصي المستوجبة للعقاب كذلك يصح أن تتعلق بمنشأها، وهو الحكم الذي يستتبع مخالفته تحقُّق عنوان المعصية الذي يستتبع العقاب.
(بحث علمي في فصول ثلاثة)
1- العقائد في أكل اللحم: لا ريب أن الإِنسان كسائر الحيوان والنبات مجهز بجهاز التغذي يجذب به إلى نفسه من الأجزاء المادية ما يمكنه أن يعمل فيه ما ينضم بذلك إلى بدنه وينحفظ به بقاؤه، فلا مانع له بحسب الطبع من أكل ما يقبل الازدراد والبلع إلا أن يمتنع منه لتضرر أو تنفر.
أما التضرّر فهو كأن يجد المأكول يضر ببدنه ضراً جسمانياً لمسموميّة ونحوها فيمتنع عندئذ عن الأكل، أو يجد الأكل يضرّ ضراً معنوياً كالمحرمات التي في الأديان والشرائع المختلفة، وهذا القسم امتناع عن الأكل فكريّ.
واما التنفر فهو الاستقذار الذي يمتنع معه الطبع عن القرب منه كما أن الإنسان لا يأكل مدفوع نفسه لاستقذاره إياه، وقد شوهد ذلك في بعض الاطفال والمجانين، ويلحق بذلك ما يستند إلى عوامل اعتقادية كالمذهب أو السنن المختلفة الرائجة في المجتمعات المتنوعة مثل أن المسلمين يستقذرون لحم الخنزير، والنصارى يستطيبونه، ويتغذى الغربيون من أنواع الحيوانات أجناساً كثيرة يستقذرها الشرقيّون كالسرطان والضفدع والفأر وغيرها، وهذا النوع من الامتناع امتناع بالطبع الثاني والقريحة المكتسبة.
فتبيّن أن الإنسان في التغذي باللحوم على طرائق مختلفة ذات عرض عريض من الاسترسال المطلق إلى الامتناع، وأن استباحته ما استباح منها اتباع للطبع كما أن امتناعه عما يمتنع عنه إنما هو عن فكر أو طبع ثانويّ.
وقد حرّمت سنّة بوذا أكل لحوم الحيوانات عامة، وهذا تفريط يقابله في جانب الافراط ما كان دائراً بين أقوام متوحشين من افريقية وغيرها أنهم كانوا يأكلون أنواع اللحوم حتى لحم الإنسان.
وقد كانت العرب تأكل لحوم الانعام وغيرها من الحيوان حتّى أمثال الفأر والوزغ، وتأكل من الانعام ما قتلته بذبح ونحوه، وتأكل غير ذلك كالميتة بجميع أقسامها كالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطحية وما أكل السبع، وكان القائل منهم يقول: ما لكم تأكلون ممّا قتلتموه ولا تأكلون ممّا قتله الله؟! كما ربما يتفوه بمثله اليوم كثيرون؟ يقول قائلهم: ما الفارق بين اللحم واللحم إذا لم يتضرّر به بدن الإنسان ولو بعلاج طبِّي فنّي فجهاز التغذي لا يفرق بين هذا وذاك؟.
وكانت العرب أيضاً تأكل الدم، كانوا يملؤون المعى من الدم ويشوونه ويطعمونه الضيف، وكانوا إذا اجدبوا جرحوا ابلهم بالنصال وشربوا ما ينزل من الدم، وأكل الدم رائج اليوم بين كثير من الأمم غير المسلمة.
وأهل الصين من الوثنية أوسع منهم سنَّة، فهم - على ما ينقل - يأكلون أصناف الحيوان حتى الكلب والهر، وحتى الديدان والأصداف وسائر الحشرات.
وقد أخذ الإسلام في ذلك طريقاً وسطاً فأباح من اللحوم ما تستطيبه الطباع المعتدلة من الإِنسان، ثمّ فسَّره في ذوات الأربع بالبهائم كالضأن والمعز والبقر والإِبل على كراهية في بعضها كالفرس والحمار، وفي الطير - بغير الجوارح - مما له حوصلة ودفيف ولا مخلب له، وفي حيوان البحر ببعض أنواع السمك على التفصيل المذكور في كتب الفقه.
ثم حرم دماءها وكل ميتة منها وما لم يذكّ بالإهلال به لله عزّ اسمه، والغرض في ذلك أن تحيا سنّة الفطرة، وهي إقبال الإنسان على أصل أكل اللحم، ويحترم الفكر الصحيح والطبع المستقيم اللذين يمتنعان من تجويز ما فيه الضرر نوعاً، وتجويز ما يستقذر ويتنفَّر منه.
2- كيف أمر بقتل الحيوان والرحمة تأباه؟ ربما يسأل السائل فيقول: إن الحيوان ذو روح شاعرة بما يشعر به الانسان من ألم العذاب ومرارة الفناء والموت وغريزة حب الذات التي تبعثنا إلى الحذر من كل مكروه والفرار من ألم العذاب والموت تستدعي الرحمة لغيرنا من أفراد النوع لأنه يؤلمهم ما يؤلمنا، ويشق عليهم ما يشق علينا، والنفوس سواء.
وهذا القياس جار بعينه في سائر أنواع الحيوان، فكيف يسوغ لنا أن نعذبهم بما نتعذب به، ونبدل لهم حلاوة الحياة من مرارة الموت، ونحرمهم نعمة البقاء التي هي أشرف نعمة؟ والله سبحانه أرحم الراحمين، فكيف يسع رحمته أن يأمر بقتل حيوان ليلتذ به إنسان وهما جميعاً في أنهما خلقه سواء؟.
والجواب عنه أنه من تحكيم العواطف على الحقائق والتشريع إنما يتبع المصالح الحقيقية دون العواطف الوهمية.
توضيح ذلك أنك إذا تتبعت الموجودات التي تحت مشاهدتك بالميسور مما عندك وجدتها في تكوّنها وبقائها تابعة لناموس التحول، فما من شيء إلاَّ وفي إمكانه أن يتحول إلى آخر، وأن يتحول الآخر إليه بغير واسطة أو بواسطة، لا يوجد واحد إلا ويعدم آخر، ولا يبقى هذا إلا ويفنى ذاك، فعالم المادة عالم التبديل والتبدل، وإن شئت فقل: عالم الآكل والمأكول.
فالمركّبات الأرضية تأكل الأرض بضمها إلى أنفسها وتصويرها بصورة تناسبها أو تختص بها ثم الأرض تأكلها وتفنيها.
ثم النبات يتغذى بالارض ويستنشق الهواء ثم الأرض تأكله وتجزّئه إلى أجزائه الأصلية وعناصره الأولية، ولا يزال أحدهما يراجع الآخر.
ثم الحيوان يتغذى بالنبات والماء ويستنشق الهواء، وبعض أنواعه يتغذى ببعض كالسباع تأكل لحوم غيرها بالاصطياد، وجوارح الطير تأكل أمثال الحمام والعصافير لا يسعها بحسب جهاز التغذي الذي يخصها إلا ذلك، وهي تتغذى بالحبوب وأمثال الذباب والبق والبعوض وهي تتغذى بدم الإنسان وسائر الحيوان ونحوه، ثم الأرض تأكل الجميع.
فنظام التكوين وناموس الخلقة الذي له الحكومة المطلقة المتبعة على الموجودات هو الذي وضع حكم التغذي باللحوم ونحوها، ثم هدى أجزاء الوجود إلى ذلك، وهو الذي سوّى الانسان تسوية صالحة للتغذي بالحيوان والنبات جميعاً. وفي مقدَّم جهازه الغذائي أسنانه المنضودة نضداً صالحاً للقطع والكسر والنهش والطحن من ثنايا ورباعيات وأنياب وطواحن، فلا هو مثل الغنم والبقر من الأنعام لا تستطيع قطعاً ونهشاً، ولا هو كالسباع لا تستطيع طحناً ومضغاً.
ثم القوة الذائقة المعدّة في فمه التي تستلذ طعم اللحوم ثم الشهوة المودعة في سائر أعضاء هضمه جميع هذه تستطيب اللحوم وتشتهيها. كل ذلك هداية تكوينية وإباحة من مؤتمر الخلقة، وهل يمكن الفرق بين الهداية التكوينية، وإباحة العمل المهدي إليه بتسليم أحدهما وإنكار الآخر؟.
والاسلام دين فطري لا همّ له إلا إحياء آثار الفطرة التي أعفتها الجهالة الإنسانية، فلا مناص من أن يستباح به ما تهدي إليه الخلقة وتقضي به الفطرة.
وهو كما يحيي بالتشريع هذا الحكم الفطري يحيي أحكاماً أُخرى وضعها واضع التكوين، وهو ما تقدم ذكره من الموانع من الاسترسال في حكم التغذي أعني حكم العقل بوجوب اجتناب ما فيه ضرر جسماني أو معنوي من اللحوم، وحكم الاحساسات والعواطف الباطنية بالتحذر والامتناع عما يستقذره ويتنفر منه الطباع المستقيمة، وهذان الحكمان أيضاً ينتهي أُصولهما إلى تصرف من التكوين، وقد اعتبرهما الاسلام فحرّم ما يضر نماء الجسم، وحرّم ما يضر بمصالح المجتمع الانساني، مثل ما أُهل به لغير الله، وما اكتسب من طريق الميسر والاستقسام بالازلام ونحو ذلك، وحرم الخبائث التي تستقذرها الطباع.
وأما حديث الرحمة المانعة من التعذيب والقتل فلا شك أن الرحمة موهبة لطيفة تكوينية أُودعت في فطرة الانسان وكثير مما اعتبرنا حاله من الحيوان، إلا أن التكوين لم يوجدها لتحكم في الأمور حكومة مطلقة وتطاع طاعة مطلقة، فالتكوين نفسه لا يستعمل الرحمة استعمالاً مطلقاً، ولو كان ذلك لم يوجد في دار الوجود أثر من الآلام والأسقام والمصائب وأنواع العذاب.
ثم الرحمة الانسانية فى نفسها ليست خلقاً فاضلاً على الإطلاق كالعدل، ولو كان كذلك لم يحسن أن نؤاخذ ظالماً على ظلمه أو نجازي مجرماً على جرمه ولا أن نقابل عدواناً بعدوان، وفيه هلاك الارض ومن عليها.
ومع ذلك لم يهمل الإسلام أمر الرحمة بما أنها من مواهب التكوين، فأمر بنشر الرحمة عموماً، ونهى عن زجر الحيوان في القتل، ونهى عن قطع أعضاء الحيوان المذبوح وسلخه قبل زهاق روحه - ومن هذا الباب تحريم المنخنقة والموقوذة - ونهى عن قتل الحيوان وآخر ينظر إليه، ووضع للتذكية أرفق الأحكام بالحيوان المذبوح وأمر بعرض الماء عليه، ونحو ذلك مما يوجد تفصيله في كتب الفقه.
ومع ذلك كله الإسلام دين التعقُّل لا دين العاطفة فلا يقدم حكم العاطفة على الأحكام المُصلحة لنظام المجتمع الانساني ولا يعتبر منه إلا ما اعتبره العقل، ومرجع ذلك إلى اتباع حكم العقل.
وأما حديث الرحمة الإلهية وأنه تعالى أرحم الراحمين، فهو تعالى غير متّصف بالرحمة بمعنى رقة القلب أو التأثر الشعوري الخاص الباعث للراحم على التلطف بالمرحوم، فإن ذلك صفة جسمانية مادية تعالى عن ذلك علواً كبيراً، بل معناها إفاضته تعالى الخير على مستحقه بمقدار ما يستحقه، ولذلك ربما كان ما نعده عذاباً رحمة منه تعالى وبالعكس، فليس من الجائز في الحكمة أن يبطل مصلحة من مصالح التدبير في التشريع اتباعاً لما تقترحه عاطفة الرحمة الكاذبة التي فينا، أو يساهل في جعل الشرائع محاذية للواقعيات.
فتبيّن من جميع ما مر أن الإسلام يحاكي في تجويز أكل اللحوم وفي القيود التي قيّد بها الإباحة والشرائط التي اشترطها جميعاً أمر الفطرة: فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم!.
3- لماذا بنى الاسلام على التذكية؟ وهذا سؤال آخر على السؤال المتقدم، وهو أنّا سلمنا أن أكل اللحوم مما تبيحه الفطرة والخلقة فهلاَّ اقتصر في ذلك بما يحصل على الصدقة ونحوها بأن يقتصر في اللحوم بما يهيؤه الموت العارض حتف الأنف، فيجمع في ذلك بين حكم التكوين بالجواز، وحكم الرحمة بالإمساك عن تعذيب الحيوان وزجره بالقتل أو الذبح من غير أن يعدل عن ذلك إلى التذكية والذبح؟.
وقد تبيّن الجواب عنه مما تقدم في الفصل الثاني، فإن الرحمة بهذا المعنى غير واجب الاتبَّاع بل اتّباعه يفضي إلى إبطال أحكام الحقائق. وقد عرفت أن الإسلام مع ذلك لم يأل جهداً في الأمر بإعمال الرحمة قدر ما يمكن في هذا الباب حفظاً لهذه الملكة اللطيفة بين النوع.
على أن الاقتصار على إباحة الميتة وأمثالها مما لا ينتج التغذي به إلا فساد المزاج ومضار الأبدان هو بنفسه خلاف الرحمة، وبعد ذلك كله لا يخلو عن الحرج العام الواجب نفيه.
(بحث روائي)
في تفسير العياشي عن عكرمة عن ابن عباس قال: ما نزلت آية: { يا أيها الذين آمنوا } إلا وعلي شريفها وأميرها، ولقد عاتب الله أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم في غير مكان وما ذكر عليّاً إلا بخير.
أقول: وروى في تفسير البرهان عن موفق بن أحمد، عن عكرمة، عن ابن عباس مثله إلى قوله: وأميرها. ورواه أيضاً العياشي عن عكرمة. وقد نقلنا الحديث سابقاً عن الدر المنثور. وفي بعض الروايات عن الرضا عليه السلام قال: ليس في القرآن { يا أيها الذين آمنوا } إلا في حقنا. وهو من الجري أو من باطن التنزيل.
وفيه: عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله: { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } قال: العهود.
أقول: ورواه القمي أيضاً في تفسيره عنه.
وفي التهذيب مسنداً عن محمد بن مسلم، سألت أحدهما عليهما السلام عن قول الله عزّ وجلّ: { أُحلت لكم بهيمة الأنعام } فقال: الجنين في بطن أُمه إذا أشعر وأوبر فذكاته ذكاة أُمه الذي عنى الله تعالى.
أقول: والحديث مروي في الكافي والفقيه عنه عن أحدهما، وروى هذا المعنى العياشي في تفسيره عن محمد بن مسلم عن أحدهما، وعن زرارة عن الصادق عليه السلام، ورواه القمي في تفسيره، ورواه في المجمع عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تحلّوا شعائر الله } (الآية) الشعائر: الإحرام والطواف والصلاة في مقام إبراهيم والسعي بين الصفا والمروة، والمناسك كلها من شعائر الله، ومن الشعائر إذا ساق الرجل بدنة في حج ثم أشعرها أي قطع سنامها أو جلدها أو قلدها ليعلم الناس أنها هدي فلا يتعرض لها أحد. وإنما سميت الشعائر ليشعر الناس بها فيعرفوها، وقوله: { ولا الشهر الحرام } وهو ذو الحجة وهو من الأشهر الحرم، وقوله: { ولا الهدي } وهو الذي يسوقه إذا أحرم المحرم، وقوله: { ولا القلائد } قال: يقلدها النعل التي قد صلى فيها. قوله: { ولا آمِّين البيت الحرام } قال: الذين يحجون البيت.
وفي المجمع: قال أبو جعفر الباقر عليه السلام: نزلت هذه الآية في رجل من بني ربيعة يقال له: الحُطَم.
قال: وقال السدي: أقبل الحطم بن هند البكري حتى أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحده وخلّف خيله خارج المدينة فقال: إلى ما تدعو -؟ وقد كان النبي عليه السلام قال لاصحابه: يدخل عليكم اليوم رجل من بني ربيعة يتكلم بلسان شيطان - فلما أجابه النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أنظرني لعلي أسلم ولي من أشاوره، فخرج من عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"لقد دخل بوجه كافر، وخرج بعقب غادر" ، فمر بسرح من سروح المدينة فساقه وانطلق به وهو يرتجز ويقول:

قـــد لفهـا الليل بسواق حطم ليـــس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم باتوا نيامـــاً وابن هند لم ينم
بات يقاسيهـــــا غلام كالزلم خدلج الساقــين ممسوح القدم

ثم أقبل من عام قابل حاجاً قد قلد هدياً فأراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبعث إليه فنزلت هذه الآية: { ولا آمِّين البيت الحرام }.
قال: وقال ابن زيد: نزلت يوم الفتح في ناس يأمون البيت من المشركين يهلون بعمرة، فقال المسلمون: يا رسول الله إن هؤلاء مشركون مثل هؤلاء دعنا نغير عليهم فأنزل الله تعالى الآية.
أقول: روى الطبري القصة عن السدّي وعكرمة، والقصة الثانية عن ابن زيد وروى في الدر المنثور القصة الثانية عن ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم وفيه: أنه كان يوم الحديبية. والقصتان جميعاً لا توافقان ما هو كالمتسلم عليه عند المفسرين وأهل النقل أن سورة المائدة نزلت في حجة الوداع، إذ لو كان كذلك كان قوله:
{ { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } [التوبة: 28]، وقوله: { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [التوبة: 5] الآيتان جميعاً نازلتين قبل قوله: { ولا آمّين البيت الحرام } ولا محل حينئذ للنهي عن التعرض للمشركين إذا قصدوا البيت الحرام.
ولعل شيئاً من هاتين القصتين أو ما يشابههما هو السبب لما نقل عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: أن قوله: { ولا آمّين البيت الحرام } منسوب بقوله: { واقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } (الآية) وقوله: { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام } (الآية)، وقد وقع حديث النسخ في تفسير القمي، وظاهره انه رواية.
ومع ذلك كله تأخُّر سورة المائدة نزولاً يدفع ذلك كله، وقد ورد من طرق أئمة أهل البيت عليهما السلام: أنها ناسخة غير منسوخة على أن قوله تعالى فيها: { اليوم أكملت لكم دينكم } (الآية) يأبى أن يطرأ على بعض آيها نسخ وعلى هذا يكون مفاد قوله: { ولا آمّين البيت الحرام } كالمفسَّر بقوله بعد: { ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا }، أي لا تذهبوا بحرمة البيت بالتعرض لقاصديه لتعرض منهم لكم قبل هذا، ولا غير هؤلاء ممن صدوكم قبلاً عن المسجد الحرام أن تعتدوا عليهم بإثم كالقتل. أو عدوان كالذي دون القتل من الظلم بل تعاونوا على البر والتقوى.
وفي الدر المنثور: أخرج أحمد وعبد بن حميد في هذه الآية يعني قوله: { وتعاونوا على البر } (الآية) والبخاري في تاريخه عن وابصة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا لا اريد أن ادع شيئاً من البر والإثم إلا سألته عنه فقال لي:
"يا وابصة اخبرك عما جئت تسأل عنه أم تسأل؟ قلت يا رسول الله اخبرني قال: جئت لتسأل عن البر والإثم، ثم جمع أصابعه الثلاث فجعل ينكت بها في صدري ويقول: يا وابصة استفت قلبك استفت نفسك البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في القلب، وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك"
]. وفيه: أخرج أحمد وعبد بن حميد وابن حبان والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي أمامة: أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الإثم فقال: ما حاك في نفسك فدعه. قال: فما الإيمان؟ قال: من ساءته سيئته وسرّته حسنته فهو مؤمن.
وفيه: أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في الأدب ومسلم والترمذي والحاكم والبيهقي في الشعب عن النواس بن سمعان قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن البر والإثم فقال:
"البر حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطّلع عليه الناس"
]. أقول: الروايات - كما ترى - تبتني على قوله تعالى: { { ونفس وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها } الشمس: 7 - 8] وتؤيد ما تقدم من معنى الإثم.
وفي المجمع: واختلف في هذا (يعني قوله: ولا آمّين البيت الحرام) فقيل: منسوخ بقوله: { اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } عن أكثر المفسرين، وقيل: ما نسخ من هذه السورة شيء، ولا من هذه الآية، لأنه لا يجوز أن يُبتدأ المشركون في الأشهر الحرم بالقتال إلا إذا قاتلوا. ثم قال: وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام.
وفي الفقيه: بإسناده عن أبان بن تغلب عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر صلوات الله عليهما أنه قال: الميّتة والدم ولحم الخنزير معروف، وما أُهل لغير الله به يعني ما ذبح على الأصنام، وأما المنخنقة فإن المجوس كانوا لا يأكلون الذبائح ويأكلون الميتة، وكانوا يخنقون البقر والغنم فإذا خنقت وماتت أكلوها، والموقوذة كانوا يشدون أرجلها ويضربونها حتى تموت فإذا ماتت أكلوها، والمتردية كانوا يشدون عينها ويلقونها عن السطح فإذا ماتت أكلوها، والنطيحة كانوا يتناطحون بالكباش فإذا مات أحدهما أكلوه، وما أكل السبع إلا ما ذكيتم فكانوا يأكلون ما يقتله الذئب والأسد والدب فحرّم الله عزّ وجلّ ذلك، وما ذبح على النصب كانوا يذبحون لبيوت النيران، وقريش كانوا يعبدون الشجر والصخر فيذبحون لهما، وأن تستقسموا بالازلام ذلكم فسق قال: كانوا يعمدون إلى جزور فيجتزّون عشرة أجزاء ثم يجتمعون عليه فيخرجون السهام فيدفعونها إلى رجل والسهام عشرة، وهي: سبعة لها أنصباء، وثلاثة لا أنصباء لها.
فالتي لها أنصباء، الفذ والتوأم والمسبل والنافس والحلس والرقيب والمعلّى، فالفذ له سهم، والتوأم له سهمان، والمسبل له ثلاثة أسهم، والنافس له أربعة أسهم، والحلس له خمسة أسهم، والرقيب له ستة أسهم، والمعلّى له سبعة أسهم.
والتي لا أنصباء لها: السفيح، والمنيح، والوغد، وثمن الجزور على من لم يخرج له من الانصباء شيء وهو القمار فحرّمه الله.
أقول: وما ذكر في الرواية في تفسير المنخنقة والموقوذة والمتردية من قبيل البيان بالمثال كما يظهر من الرواية التالية، وكذا ذكر قوله: { إلا ما ذكيتم } مع قوله: { وما أكل السبع } وقوله: { ذلكم فسق } مع قوله: { وأن تستقسموا بالأزلام } لا دلالة فيه على التقييد.
وفي تفسير العياشي: عن عيّوق بن قسوط عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله: { المنخنقة } قال: التي تنخنق في رباطها { والموقوذة } المريضة التي لا تجد ألم الذبح ولا تضطرب ولا تخرج لها دم { والمتردية } التي تردّى من فوق بيت أو نحوه { والنطيحة } التي تنطح صاحبها.
وفيه: عن الحسن بن علي الوشّاء عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: سمعته يقول: المتردية والنطيحة وما أكل السبع إن أدركت ذكاته فكله.
وفيه: عن محمد بن عبد الله عن بعض أصحابه قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: جعلت فداك لم حرم الله الميتة والدم ولحم الخنزير؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى لم يحرم ذلك على عباده وأحل لهم ما سواه من رغبة منه - تبارك وتعالى - فيما حرم عليهم، ولا زهد فيما أحل لهم، ولكنه خلق الخلق، وعلم ما يقوم به أبدانهم وما يصلحهم فأحله وأباحه تفضلاً منه عليهم لمصلحتهم، وعلم ما يضرهم فناههم عنه وحرّمه عليهم ثم أباحه للمضطر وأحله لهم في الوقت الذي لا يقوم بدنه إلا به فأمره أن ينال منه بقدر البلغة لا غير ذلك.
ثم قال: أما الميتة فإنه لا يدنو منها أحد ولا يأكلها إلا ضعف بدنه، ونحل جسمه، ووهنت قوته، وانقطع نسله، ولا يموت آكل الميتة إلا فجأة.
وأما الدم فإنه يورث الكلب، وقسوة القلب، وقلة الرأفة والرحمة، لا يؤمن أن يقتل ولده ووالديه، ولا يؤمن على حميمه، ولا يؤمن على من صحبه.
وأما لحم الخنزير فإن الله مسخ قوماً في صورة شتَّى شبه الخنزير والقرد والدب وما كان من الأمساخ ثم نهى عن أكل مثله لكى لا ينقع بها ولا يستخف بعقوبته.
وأما الخمر فإنه حرمها لفعلها وفسادها، وقال: إن مدمن الخمر كعابد وثن ويورثه ارتعاشاً ويذهب بنوره، ويهدم مروّته، ويحمله على أن يكسب على المحارم من سفك الدماء وركوب الزنا، ولا يؤمن إذا سكر أن يثب على حرمه وهو لا يعقل ذلك، والخمر لم يؤد شاربها إلا إلى كل شر.
(بحث روائي آخر)
في غاية المرام: عن أبي المؤيد موفق بن أحمد في كتاب فضائل علي، قال: أخبرني سيد الحفّاظ شهردار بن شيرويه بن شهردار الديلمي فيما كتب إلي من همدان، أخبرنا ابو الفتح عبدوس بن عبد الله بن عبدوس الهمداني كتابة، حدثنا عبد الله بن إسحاق البغوي، حدثنا الحسين بن عليل الغنوي، حدثنا محمد بن عبد الرحمن الزراع، حدثنا قيس بن حفص، حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أبو هريرة عن أبي سعيد الخدري: إن النبي صلى الله عليه وسلم يوم دعا الناس إلى غدير خم أمر بما تحت الشجرة من شوك فقم، وذلك يوم الخميس يوم دعا الناس إلى علي وأخذ بضبعه ثم رفعها حتى نظر الناس إلى بياض إبطيه ثم لم يفترقا حتى نزلت هذه الآية: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضا الرب برسالتي والولاية لعلي" ، ثم قال: "اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله"
]. وقال حسّان بن ثابت: أتأذن لي يا رسول الله أن أقول أبياتاً؟ قال: قل ينزله الله تعالى، فقال حسان بن ثابت:

يناديهـــــم يــــوم الغديـــــــر نبيهم بخــــمّ وأسمــــع بالنبـــي مناديــــاً
بأنـــي مولاكــــم نعـــــم ووليكـــم فقالوا ولم يبـــدوا هنـــــاك التعاميا
إلهــك مولانـــا وأنـــت ولينــــــــا ولا تجدن في الخلق للأمر عاصيا
فقال لــــه قـــــم يا علي فإننــــــي رضيتك من بعـــدي إمامـاً وهاديا

وعن كتاب نزول القرآن في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب للحافظ أبي نعيم رفعه إلى قيس بن الربيع، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري مثله، وقال في آخر الأبيات:

فمــــن كنـــت مولاه فهذا وليه فكونوا له أنصار صدق مواليا
هنــــاك دعـــا اللهم وال وليه وكــن للـذي عادى علياً معادياً

وعن نزول القرآن أيضاً يرفعه إلى علي بن عامر عن أبي الحجاف عن الأعمش عن عضة قال: نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم في علي بن أبي طالب: { يا أيها الرسول بلغ ما أُنزل إليك } وقد قال الله تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً }.
وعن إبراهيم بن محمد الحمويني قال: أنبأني الشيخ تاج الدين أبو طالب علي ابن الحسين بن عثمان بن عبد الله الخازن، قال: أنبأنا الإمام برهان الدين ناصر بن أبي المكارم المطرزي إجازة، قال: أنبأنا الإمام اخطب خوارزم أبو المؤيد موفق بن أحمد المكي الخوارزمي، قال: أنبأني سيد الحفاظ في ما كتب إلى من همدان، أنبأنا الرئيس أبو الفتح كتابة، حدثنا عبد الله بن إسحاق البغوي، نبأنا الحسن بن عقيل الغنوي، نبأنا محمد بن عبد الله الزرَّاع، نبأنا قيس بن حفص قال: حدثني علي بن الحسين العبدي عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري، وذكر مثل الحديث الأول.
وعن الحمويني أيضاً عن سيد الحفاظ وأبو منصور شهردار بن شيرويه بن شهردار الديلمي، قال: أخبرنا الحسن بن أحمد بن الحسن الحداد المقرئ الحافظ عن أحمد بن عبد الله بن أحمد، قال: نبأنا محمد بن أحمد بن علي، قال: نبأنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، قال: نبأنا يحيى الحماني، قال: حدثنا قيس بن الربيع عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري، وذكر مثل الحديث الأول.
قال: قال الحمويني عقيب هذا الحديث: هذا حديث له طرق كثيرة إلى أبي سعيد سعد بن مالك الخدري الأنصاري.
وعن المناقب الفاخرة للسيد الرضي -رحمه الله - عن محمد بن إسحاق، عن أبي جعفر، عن أبيه عن جده قال: لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حجة الوداع نزل أرضاً يقال له: ضوجان، فنزلت هذه الآية: { يا أيها الرسول بلِّغ ما أُنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس } فلما نزلت عصمته من الناس نادى: الصلاة جامعة فاجتمع الناس إليه، وقال: من أولى منكم بأنفسكم؟ فضجوا بأجمعهم فقالوا: الله ورسوله فأخذ بيد علي بن أبي طالب، وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله لأنه مني وأنا منه، وهو مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي. وكانت آخر فريضة فرضها الله تعالى على أُمة محمد ثم أنزل الله تعالى على نبيه: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً }.
قال أبو جعفر: فقبلوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل ما أمرهم الله من الفرائض في الصلاة والصوم والزكاة والحج، وصدقوه على ذلك.
قال ابن إسحاق: قلت لأبي جعفر: ما كان ذلك؟ قال: لتسع عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة عشرة عند منصرفه من حجة الوداع، وكان بين ذلك وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم مائة يوم وكان سمع رسول الله بغدير خم اثنا عشر.
وعن المناقب لابن المغازلي يرفعه إلى أبي هريرة قال: من صام يوم عشر من ذي الحجة كتب الله له صيامه ستين شهراً، وهو يوم غدير خم، بها أخذ النبي بيعة علي ابن أبي طالب، وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره، فقال له عمر بن الخطاب: بخّ بخّ لك يا ابن أبي طالب اصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة، فأنزل الله تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت }.
وعن المناقب لابن مردويه وكتاب سرقات الشعر للمرزباني عن أبي سعيد الخدري مثل ما تقدم عن الخطيب.
أقول: وروى الحديثين في الدر المنثور عن أبي سعيد وأبي هريرة ووصف سنديهما بالضعف. وقد روي بطرق كثيرة تنتهي من الصحابة (لو دقق فيها) إلى عمر ابن الخطاب وعلي بن أبي طالب ومعاوية وسمرة: ان الآية نزلت يوم عرفة من حجة الوداع وكان يوم الجمعة، والمعتمد منها ما روي عن عمر فقد رواه عن الحميدي وعبد بن حميد وأحمد البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن حبان والبيهقي في سننه عن طارق بن شهاب عن عمر، وعن ابن راهويه في مسنده وعبد بن حميد عن أبي العالية عن عمر، وعن ابن جرير عن قبيصة بن أبي ذؤيب عن عمر، وعن البزاز عن ابن عباس، والظاهر أنه يروي عن عمر.
ثم أقول: أما ما ذكره من ضعف سندي الحديثين فلا يجديه في ضعف المتن شيئاً فقد أوضحنا في البيان المتقدم أن مفاد الآية الكريمة لا يلائم غير ذلك من جميع الاحتمالات والمعاني المذكورة فيها، فهاتان الروايتان وما في معناهما هي الموافقة للكتاب من بين جميع الروايات فهى المتعينة للأخذ.
على أن هذه الأحاديث الدالة على نزول الآية في مسألة الولاية - وهي تزيد على عشرين حديثاً من طرق أهل السنة والشيعة - مرتبطة بما ورد في سبب نزول قوله تعالى:
{ يا أيها الرسول بلغ ما أُنزل إليك من ربك } [المائدة: 67] الآية، وهي تربو على خمسة عشر حديثاً رواها الفريقان، والجميع مرتبط بحديث الغدير: "من كنت مولاه فعلي مولاه" وهو حديث متواتر مروي عن جم غفير من الصحابة، اعترف بتواتره جمع كثير من علماء الفريقين.
ومن المتفق عليه أن ذلك كان في منصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى المدينة. وهذه الولاية (لو لم تحمل على الهزل والتهكم) فريضة من الفرائض كالتولي والتبري اللذين نص عليهما القرآن في آيات كثيرة، وإذا كان كذلك لم يجز أن يتأخر جعلها عن نزول الآية أعني قوله: { اليوم أكملت }، فالآية إنما نزلت بعد فرضها من الله سبحانه، ولا اعتماد على ما ينافي ذلك من الروايات لو كانت منافية.
وأما ما رواه من الرواية فقد عرفت ما ينبغي أن يقال فيها غير أن ها هنا أمراً يجب التنبه له، وهو أن التدبر في الآيتين الكريمتين: { يا أيها الرسول بلغ ما أُنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته } (الآية) على ما سيجيء من بيان معناه، وقوله: { اليوم أكملت لكم دينكم } (الآية) والأحاديث الواردة من طرق الفريقين فيهما وروايات الغدير المتواترة، وكذا دراسة أوضاع المجتمع الاسلامي الداخلية في أواخر عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والبحث العميق فيها يفيد القطع بأن أمر الولاية كان نازلاً قبل يوم الغدير بأيام، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتقي الناس في إظهاره، ويخاف أن لا يتلقوه بالقبول أو يسيوا القصد إليه فيختل أمر الدعوة، فكان لا يزال يؤخر تبليغه الناس من يوم إلى غد حتى نزل قوله: { يا أيها الرسول بلغ } (الآية) فلم يمهل في ذلك.
وعلى هذا فمن الجائز أن ينزل الله سبحانه معظم السورة وفيه قوله: { اليوم أكملت لكم دينكم } (الآية) وينزل معه أمر الولاية كل ذلك يوم عرفة فأخر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيان الولاية إلى غدير خم، وقد كان تلا آيتها يوم عرفة، وأما اشتمال بعض الروايات على نزولها يوم الغدير فليس من المستبعد أن يكون ذلك لتلاوته صلى الله عليه وآله وسلم الآية مقارنة لتبليغ أمر الولاية لكونها في شأنها.
وعلى هذا فلا تنافي بين الروايات أعني ما دل على نزول الآية في أمر الولاية، وما دل على نزولها يوم عرفة كما روي عن عمر وعلي ومعاوية وسمرة، فإن التنافي إنما كان يتحقق لو دل أحد القبيلين على النزول يوم غدير خم، والآخر على النزول على يوم عرفة.
وأما ما في القبيل الثاني من الروايات أن الآية تدل على كمال الدين بالحج وما أشبهه فهو من فهم الراوي لا ينطبق به الكتاب ولا بيان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعتمد عليه.
وربما استفيد هذا الذي ذكرناه مما رواه العياشي في تفسيره عن جعفر بن محمد ابن محمد الخزاعي عن أبيه قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول لما نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عرفات يوم الجمعة أتاه جبرئيل فقال له: إن الله يقرؤك السلام، ويقول لك: قل لأمتك: اليوم أكملت دينكم بولاية علي بن أبي طالب واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام ديناً ولست أُنزل عليكم بعد هذا، قد أنزلت عليكم الصلاة والزكاة والصوم والحج، وهي الخامسة، ولست أقبل عليكم بعد هذه الأربعة إلا بها.
على ان فيما نقل عن عمر من نزول الآية يوم عرفة إشكالاً آخر، وهو أنها جميعاً تذكر أن بعض أهل الكتاب - وفي بعضها أنه كعب - قال لعمر: إن في القرآن آية لو نزلت مثلها علينا معشر اليهود لاتخذنا اليوم الذي نزلت فيه عيداً، وهي قوله: { اليوم أكملت لكم دينكم } (الآية) فقال له عمر: والله إني لأعلم اليوم وهو يوم عرفة من حجة الوداع.
ولفظ ما رواه ابن راهويه وعبد بن حميد عن أبي العالية هكذا: قال: كانوا عند عمر فذكروا هذه الآية، فقال رجل من أهل الكتاب: لو علمنا أي يوم نزلت هذه الآية لاتخذناه عيداً، فقال عمر الحمد لله الذي جعله لنا عيداً واليوم الثاني، نزلت يوم عرفة واليوم الثاني يوم النحر فأكمل لنا الأمر فعلمنا أن الأمر بعد ذلك في انتقاص.
وما يتضمنه آخر الرواية مروي بشكل آخر ففي الدر المنثور: عن ابن أبي شيبة وابن جرير عن عنترة قال: لما نزلت { اليوم أكملت لكم دينكم } وذلك يوم الحج الأكبر بكى عمر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ما يبكيك؟ قال: ابكاني أنّا كنا في زيادة من ديننا فأما إذ كمل فإنه لم يكمل شيء قط إلا نقص، فقال: صدقت.
ونظيره الرواية بوجه رواية أُخرى رواها أيضاً في الدر المنثور عن أحمد عن علقمة ابن عبد الله المزني قال: حدثني رجل قال: كنت في مجلس عمر بن الخطاب فقال عمر لرجل من القوم: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينعت الاسلام؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"إن الاسلام بدئ جذعاً ثم ثنياً ثم رباعياً ثم سدسياً ثم بازلاً" ]. قال عمر: فما بعد البزول إلا النقصان.
فهذه الروايات - كما ترى - تروم بيان أن معنى نزول الآية يوم عرفة إلفات نظر الناس إلى ما كانوا يشاهدونه من ظهور أمر الدين واستقلاله بمكة في الموسم، وتفسير إكمال الدين وإتمام النعمة بصفاء جو مكة ومحوضة الأمر للمسلمين يومئذ فلا دين يعبد به يومئذ هناك إلا دينهم من غير أن يخشوا أعداءهم ويتحذروا منهم.
وبعبارة أُخرى المراد بكمال الدين وتمام النعمة كمال ما بأيديهم يعملون به من غير أن يختلط بهم أعداؤهم أو يكلفوا بالتحذر منهم دون الدين بمعنى الشريعة المجعولة عند الله من المعارف والأحكام، وكذا المراد بالإسلام ظاهر الاسلام الموجود بأيديهم في مقام العمل. وإن شئت فقل: المراد بالدين صورة الدين المشهودة من أعمالهم، وكذا في الاسلام، فإن هذا المعنى هو الذي يقبل الانتقاص بعد الازدياد.
وأما كليات المعارف والأحكام المشرّعة من الله فلا يقبل الانتقاص بعد الازدياد الذي يشير إليه قوله في الرواية: "إنه لم يكمل شيء قط إلا نقص" فإن ذلك سنة كونية تجري أيضاً في التاريخ والاجتماع بتبع الكون، وأما الدين فإنه غير محكوم بأمثال هذه السنن والنواميس إلا عند من قال: إن الدين سنّة اجتماعية متطوّرة متغيرة كسائر السنن الاجتماعية.
إذا عرفت ذلك علمت أنه يرد عليه أولاً: ما ذكر من معنى كمال الدين لا يصدق عليه قوله تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم } وقد مرّ بيانه.
وثانياً: أنه كيف يمكن أن يعد الله سبحانه الدين بصورته التي كان يترائى عليها كاملاً وينسبه إلى نفسه امتناناً بمجرد خلوّ الأرض من ظاهر المشركين، وكون المجتمع على ظاهر الاسلام فارغاً من أعدائهم المشركين، وفيهم من هو أشد من المشركين إضراراً وإفساداً، وهم المنافقون على ما كانوا عليه من المجتمعات السرية والتسرب في داخل المسلمين، وإفساد الحال، وتقليب الأمور، والدس في الدين، وإلقاء الشبه، فقد كان لهم نبأ عظيم تعرّض لذلك آيات جمّة من القرآن كسورة المنافقين وما في سور البقرة والنساء والمائدة والأنفال والبراءة والأحزاب وغيرها.
فليت شعري أين صار جمعهم؟ وكيف خمدت أنفاسهم؟ وعلى أي طريق بطل كيدهم وزهق باطلهم؟ وكيف يصح مع وجودهم أن يمتن الله يومئذ على المسلمين بإكمال ظاهر دينهم، وإتمام ظاهر النعمة عليهم، والرضا بظاهر الإِسلام بمجرد أن دفع من مكة أعداءهم من المسلمين، والمنافقون أعدى منهم وأعظم خطراً وأمرّ أثراً! وتصديق ذلك قوله تعالى يخاطب نبيه فيهم:
{ { هم العدو فاحذرهم } } [المنافقون: 4]. وكيف يمتن الله سبحانه ويصف بالكمال ظاهر دين هذا باطنه، أو يذكر نعمه بالتمام وهي مشوبة بالنقمة، أو يخبر برضاه صورة إسلام هذا معناه! وقد قال تعالى: { { وما كنت متخذ المضلّين عضداً } الكهف: 51]. وقال في المنافقين: - ولم يرد إلا دينهم - { فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين } [التوبة: 96]. والآية بعد هذا كله مطلقة لم تقيّد شيئاً من الإكمال والإتمام والرضا ولا الدين والاسلام والنعمة بجهة دون جهة.
فإن قلت: الآية - كما تقدمت الاشارة إليه - إنجاز للوعد الذي يشتمل عليه قوله تعالى:
{ { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدِّلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً } [النور: 55] الآية.
فالآية كما ترى - تعدهم بتمكين دينهم المرضي لهم، ويحاذي ذلك من هذه الآية قوله: { أكملت لكم دينكم } وقوله: { ورضيت لكم الإسلام ديناً } فالمراد بإكمال دينهم المرضي تمكينه لهم أي تخليصه من مزاحمة المشركين، وأما المنافقون فشأنهم شأن آخر غير المزاحمة، وهذا هو المعنى الذي تشير إليه روايات نزولها يوم عرفة، ويذكر القوم أن المراد به تخليص الأعمال الدينية والعاملين بها من المسلمين من مزاحمة المشركين.
قلت: كون آية: { اليوم أكملت }، من مصاديق إنجاز ما وعد في قوله: { وعد الله الذين آمنوا } (الآية) وكذا كون قوله في هذه الآية: { أكملت لكم دينكم }، محاذياً لقوله: { وليمكّننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم }، في تلك الآية ومفيداً معناه كل ذلك لا ريب فيه.
إلا أن آية سورة النور تبدأ بقوله: { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات } وهم طائفة خاصة من المسلمين ظاهر أعمالهم يوافق باطنها، وما في مرتبة أعمالهم من الدين يحاذي وينطبق على ما عند الله سبحانه من الدين المشرّع، فتمكين دينهم المرضي لله سبحانه لهم إكمال ما في علم الله وإرادته من الدين المرضي بإفراغه في قالب التشريع، وجمع أجزائه عندهم بالإنزال ليعبدوه بذلك بعد إياس الذين كفروا من دينهم.
وهذا ما ذكرناه: أن معنى إكماله الدين إكماله من حيث تشريع الفرائض فلا فريضة مشرّعة بعد نزول الآية لا تخليص أعمالهم وخاصة حجّهم من أعمال المشركين وحجهم، بحيث لا تختلط أعمالهم بأعمالهم. وبعبارة أُخرى يكون معنى إكمال الدين رفعه إلى أعلى مدارج الترقي حتى لا يقبل الانتقاص بعد الازدياد.
وفي تفسير القمي قال: حدثني أبي، عن صفوان بن يحيى، عن العلاء، عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: آخر فريضة أنزلها الولاية ثم لم ينزل بعدها فريضة ثم أنزل: { اليوم أكملت لكم دينكم } بكراع الغميم، فأقامها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالجحفة فلم ينزل بعدها فريضة.
أقول: وروى هذا المعنى الطبرسي في المجمع عن الإمامين: الباقر والصادق ورواه العياشي في تفسيره عن زرارة عن الباقر عليه السلام.
وفي أمالي الشيخ بإسناده، عن محمد بن جعفر بن محمد، عن أبيه أبي عبد الله عليه السلام، عن علي أمير المؤمنين عليه السلام قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:
"بناء الإسلام على خمس خصال: على الشهادتين، والقرينتين" ]. قيل له: أما الشهادتان فقد عرفنا فما القرينتان؟ قال: "الصلاة والزكاة فإنه لا تقبل إحداهما إلا بالأخرى، والصيام وحج بيت الله من استطاع إليه سبيلاً، وختم ذلك بالولاية" فأنزل الله عزّ وجلّ: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإِسلام ديناً }.
وفي روضة الواعظين للفتال، ابن الفارسي عن أبي جعفر عليه السلام وذكر قصة خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم للحج ثم نصبه علياً للولاية عند منصرفه إلى المدينة ونزول الآية، وفيه خطبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الغدير وهي خطبة طويلة جداً.
أقول: روى مثله الطبرسي في الاحتجاج بإسناد متصل عن الحضرمي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، وروى نزول الآية في الولاية أيضاً الكليني في الكافي والصدوق في العيون جميعاً مسنداً عن عبد العزيز بن مسلم عن الرضا عليه السلام، وروى نزولها فيها أيضاً الشيخ في أماليه بإسناده عن ابن أبي عمير عن المفضل بن عمر عن الصادق عن جده أمير المؤمنين عليه السلام، وروى ذلك أيضاً الطبرسي في المجمع بإسناده عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري، وروى ذلك الشيخ في أماليه بإسناده عن إسحاق بن إسماعيل النيسابوري عن الصادق عن آبائه عن الحسن بن على عليهم السلام وقد تركنا إيراد الروايات على طولها إيثاراً للاختصار فمن أرادها فليراجع محالها والله الهادي.