التفاسير

< >
عرض

أَفَعَيِينَا بِٱلْخَلْقِ ٱلأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ
١٥
وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ
١٦
إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ
١٧
مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ
١٨
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ
١٩
وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْوَعِيدِ
٢٠
وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ
٢١
لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ
٢٢
وَقَالَ قَرِينُهُ هَـٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ
٢٣
أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ
٢٤
مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ
٢٥
ٱلَّذِي جَعَلَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلشَّدِيدِ
٢٦
قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ وَلَـٰكِن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ
٢٧
قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِٱلْوَعِيدِ
٢٨
مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ
٢٩
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ
٣٠
وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ
٣١
هَـٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ
٣٢
مَّنْ خَشِيَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ
٣٣
ٱدْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلُخُلُودِ
٣٤
لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ
٣٥
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ
٣٦
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ
٣٧
وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ
٣٨

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
الآية الأولى متممة لما أورده في الآيات السابقة من الحجة على علمه وقدرته بما خلق السماء والأرض وما فيهما من خلق ودبَّر ذلك أكمل التدبير وأتمَّه وذلك كله هو الخلق الأول والنشأة الأولى. فتممَّ ذلك بقوله: { أفعيينا بالخلق الأول } واستنتج منه أن القادر على الخلق الأول العالم به قادر على خلق جديد ونشأة ثانية وعالم به لأنهما مثلان إذا جاز له خلق أحدهما جاز خلق الآخر وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن.
ثم أضرب عنه أنهم في التباس من خلق جديد مع مماثلة الخلقين ثم أشار إلى نشأة الإِنسان أول مرة وهو يعلم منه حتى خطرات قلبه وعليه رقباؤه يراقبونه أدق المراقبة ثم يجيئه سكرة الموت بالحق ثم البعث ثم دخول الجنة أو النار ثم أشار ثانياً إلى ما حلَّ بالقرون الماضية المكذبة من السخط الإِلهي وعذاب الاستئصال وهم أشد بطشاً من هؤلاء فمن جازاهم بالهلاك قادر على أن يجازي هؤلاء.
قوله تعالى: { أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد } العيّ عجز يلحق من تولى الأمر والكلام كذا، قال الراغب: يقال: أعياني كذا وعييت بكذا أي عجزت عنه والخلق الأول خلق هذه النشأة الطبيعية بنظامها الجاري ومنها الإِنسان في حياته الدنيا فلا وجه لقصر الخلق الأول في خلق السماء والأرض فقط كما مال إليه الرازي في التفسير الكبير ولا لقصره في خلق الإِنسان كما مال إليه بعضهم وذلك لأن الخلق الجديد يشمل السماء والأرض والإِنسان جميعاً كما قال تعالى:
{ { يوم تُبدَّل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار } [إبراهيم: 48]. والخلق الجديد خلق النشأة الثانية وهي النشأة الآخرة، والاستفهام للإِنكار.
والمعنى: أعجزنا عن الخلق الأول حتى نعجز عن الخلق الجديد؟ أي لم نعجز عن الخلق الأول وهو إبداؤه فلا نعجز عن الخلق الجديد وهو إعادته.
ولو أُخذ العيّ بمعنى التعب كما مال إليه بعضهم كان المعنى: هل تعبنا بسبب الخلق الأول حتى يتعذر أو يتعسَّر علينا الخلق الجديد؟ وذلك كما أن الإِنسان وسائر الحيوان إذا أتى بشيء من الفعل وأكثر منه انتهى به إلى التعب البدني فيكفّه ذلك عن الفعل بعد، فما لم يأت به من الفعل لكونه تعبان مثل ما أتى لكنه لا يؤتى به لأن الفاعل لا يستطيعه لتعبه وإن كان الفعل جائزاً متشابه الأمثال.
وهذا معنى لا بأس به لكن قيل: إن استعمال العيّ بمعنى العجز أفصح.
على أن سوق الحجة من طريق العجز يفيد استحالة الإِتيان ونفيها هو المطلوب بخلاف سوقها من طريق التعب فإنه يفيد تعسّره دون استحالة الإِتيان ومراد النافين للمعاد استحالته دون تعسره هذا.
وقوله: { بل هم في لبس من خلق جديد } اللبس هو الالتباس، والمراد بالخلق الجديد تبديل نشأتهم الدنيا من نشأة أخرى ذات نظام آخر وراء النظام الطبيعي الحاكم في الدنيا فإن في النشأة الأخرى وهي الخلق الجديد بقاء من غير فناء وحياة من غير موت ثم إن كان الإِنسان من أهل السعادة فله نعمة من غير نقمة وإن كان من أهل الشقاء ففي نقمة لا نعمة معها، والنشأة الأولى وهي الخلق الأول والنظام الحاكم فيها على خلاف ذلك.
والمعنى: إذا كنا خلقنا العالم بسمائه وأرضه وما فيهما ودبَّرناه أحسن تدبير لأول مرة بقدرتنا وعلمنا ولم نعجز عن ذلك علماً وقدرة فنحن غير عاجزين عن تجديد خلقه وهو تبديله خلقاً جديداً فلا ريب في قدرتنا ولا التباس بل هم في التباس لا سبيل لهم مع ذلك إلى الإِيمان بخلق جديد.
قوله تعالى: { ولقد خلقنا الإِنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } قال الراغب: الوسوسة الخطرة الرديئة وأصله من الوسواس وهو صوت الحلي والهمس الخفي. انتهى.
والمراد بخلق الإِنسان وجوده المتدرج المتحول خلقاً بعد خلق لا أول تكوينه إنساناً وإن عبَّر عنه بالماضي إذ قال: { ولقد خلقنا الإِنسان } إذ الإِنسان - وكذا كل مخلوق له حظ من البقاء - كما يحتاج إلى عطية ربه في أول وجوده كذلك يحتاج إليه في بقائه.
ولما ذكر من النكتة عطف قوله: { ونعلم ما توسوس به نفسه } وهو فعل مضارع مسوق للدلالة على الاستمرار على قوله: { ولقد خلقنا الإِنسان } وهو فعل ماض لكنه مستمر المعنى، وكذا قوله: { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } مفيد للثبوت والدوام والاستمرار باستمرار وجود الإِنسان.
وللآية اتصال بما تقدم من الاحتجاج على علمه وقدرته تعالى في الخلق الأول بقوله: { أفلم ينظروا إلى السماء } واتصال أيضاً بقوله تعالى في الآية السابقة: { بل هم في لبس من خلق جديد } فهي في سياق يذكر قدرته على الإِنسان بخلقه، وعلمه به بلا واسطة وبواسطة الملائكة الحفظة الكتبة.
فقوله: { ولقد خلقنا الإِنسان } - واللام للقسم - دالّ على القدرة عليه بإثبات الخلق.
وقوله: { ونعلم ما توسوس به نفسه } في ذكر أخفى أصناف العلم وهو العلم بالخطور النفساني الخفي إشارة إلى استيعاب العلم له كأنه قيل: ونعلم ظاهره وباطنه حتى ما توسوس به نفسه ومما توسوس به الشبهة في أمر المعاد: كيف يُبعث الإِنسان وقد صار بعد الموت تراباً متلاشي الأجزاء غير متميز بعضها من بعض.
وقد بان أن { ما } في { ما توسوس به } موصولة وضمير { به } عائد إليه والباء للآلة أو للسببية، ونسب الوسوسة إلى النفس دون الشيطان وإن كانت منسوبة إليه أيضاً لأن الكلام في إحاطة العلم بالإِنسان حتى بما في زوايا نفسه من هاجس ووسوسة.
وقوله: { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } الوريد عرق متفرق في البدن فيه مجاري الدم، وقيل: هو العرق الذي في الحلق، وكيف كان فتسميته حبلاً لتشبيهه به، وإضافة حبل الوريد بيانية.
والمعنى: نحن أقرب إلى الإِنسان من حبل وريده المخالط لأعضائه المستقر في داخل بدنه فكيف لا نعلم به وبما في نفسه؟.
وهذا تقريب للمقصود بجملة ساذجة يسهل تلقيها لعامة الأفهام وإلا فأمر قربه تعالى إليه أعظم من ذلك وأعظم فهو سبحانه الذي جعلها نفساً ورتب عليها آثارها فهو الواسطة بينها وبين نفسها وبينها وبين آثارها وأفعالها فهو أقرب إلى الإِنسان من كل أمر مفروض حتى في نفسه، ولكون هذا المعنى دقيقاً يشق تصوره على أكثر الأفهام عدل سبحانه إلى بيانه بنحو قوله: { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } وقريب منه بوجه قوله: { إن الله يحول بين المرء وقلبه }.
ولهم في معنى الآية وجوه كثيرة أُخر لا جدوى في نقلها والبحث عنها من أرادها فليراجع كتبهم.
قوله تعالى: { إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد } التلقي الأخذ والتلقن، والمراد بالمتلقيان على ما يفيده السياق الملكان الموكلان على الإِنسان اللذان يتلقيان عمله فيحفظانه بالكتابة.
وقوله: { عن اليمين وعن الشمال قعيد } تقديره عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد، والمراد باليمين والشمال يمين الإِنسان وشماله، والقعيد القاعد.
والظرف في قوله: { إذ يتلقى المتلقيان } الظاهر أنه متعلق بمحذوف والتقدير اذكر إذ يتلقى المتلقيان، والمراد به الإِشارة إلى علمه تعالى بأعمال الإِنسان من طريق كتاب الأعمال من الملائكة وراء علمه تعالى بذاته من غير توسط الوسائط.
وقيل: الظرف متعلق بقوله في الآية السابقة: { أقرب } والمعنى: نحن أقرب إليه من حبل الوريد في حين يتلقى الملكان الموكلان عليه أعماله ليكتباها.
ولعل الوجه السابق أوفق للسياق فإن بناء هذا الوجه على كون العمدة في الغرض بيان أقربيته تعالى إليه وعلمه به والباقي مقصود لأجله، وظاهر السياق وخاصة بالنظر إلى الآية التالية كون كل من العلم من طريق القرب ومن طريق تلقي الملكين مقصوداً بالاستقلال.
وقيل: { إذ } تعليلية تعلل علمه تعالى المدلول عليه بقوله: { ونحن أقرب إليه } الخ، بمفاد مدخولها.
وفيه أن من البعيد من مذاق القرآن أن يستدل على علمه تعالى بعلم الملائكة أو بحفظهم وكتابتهم.
وقوله: { عن اليمين وعن الشمال قعيد } تمثيل لموقعهما من الإِنسان، واليمين والشمال جانبا الخير والشر ينتسب إليهما الحسنة والسيئة.
قوله تعالى: { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } اللفظ الرمي سمي به التكلم بنوع من التشبيه، والرقيب المحافظ، والعتيد المعد المهيأ للزوم الأمر.
والآية تذكر مراقبة الكتبة للإِنسان فيما يتكلم به من كلام، وهي بعد قوله: { إذ يتلقى المتلقيان } الخ، من ذكر الخاص بعد العام لمزيد العناية به.
قوله تعالى: { وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد } الحيد العدول والميل على سبيل الهرب، والمراد بسكرة الموت ما يعرض الإِنسان حال النزع إذ يشتغل بنفسه وينقطع عن الناس كالسكران الذي لا يدري ما يقول ولا ما يقال له.
وفي تقييد مجيء سكرة الموت بالحق إشارة إلى أن الموت داخل في القضاء الإِلهي مراد في نفسه في نظام الكون كما يستفاد من قوله تعالى:
{ { كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون } [الأنبياء: 35]، وقد مر تفسيره فالموت - وهو الانتقال من هذه الدار إلى دار بعدها - حق كما أن البعث حق والجنة حق والنار حق, وفي معنى كون الموت بالحق أقوال أُخر لا جدوى في نقلها والتعرض لها.
وفي قوله: { ذلك ما كنت منه تحيد } إشارة إلى أن الإِنسان يكره الموت بالطبع وذلك أن الله سبحانه زيَّن الحياة الدنيا والتعلق بزخارفها للإِنسان ابتلاء وامتحاناً، قال تعالى:
{ { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوكم أيُّكم أحسن عملاً وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً } [الكهف: 7 - 8]. قوله تعالى: { ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد } هذه نقلة ثانية إلى عالم الخلود بنفخ الصور بعد النقلة الأولى، والمراد بنفخ الصور النفخة الثانية المقيمة للساعة أو مجموع النفختين بإرادة مطلق النفخ.
والمراد بيوم الوعيد يوم القيامة الذي ينجز الله تعالى فيه وعيده على المجرمين من عباده.
قوله تعالى: { وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد } السياقة حث الماشية على المسير من خلفها بعكس القيادة فهي جلبها من أمامها.
فقوله: { وجاءت كل نفس } أي جاءت إلى الله وحضرت عنده لفصل القضاء، والدليل عليه قوله تعالى:
{ { إلى ربك يومئذٍ المساق } [القيامة: 30]. والمعنى: وحضرت عنده تعالى كل نفس معها سائق يسوقها وشاهد يشهد بأعمالها ولم يصرّح تعالى بكونهما من الملائكة أو بكونهما هما الكاتبين أو من غير الملائكة، غير أن السابق إلى الذهن من سياق الآيات أنهما من الملائكة، وسيجيء الروايات في ذلك.
وكذا لا تصريح بكون الشهادة منحصرة في هذا الشاهد المذكور في الآية بل الآيات الواردة في شهداء يوم القيامة تقضي بعدم الانحصار، وكذا الآيات التالية الذاكرة لاختصام الإِنسان وقرينه دالة على أن مع الإِنسان يومئذ غير السائق والشهيد.
قوله تعالى: { لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد } وقوع الآية في سياق آيات القيامة واحتفافها بها يقضي بكونها من خطابات يوم القيامة، والمخاطب بها هو الله سبحانه، والذي خوطب بها هو الإِنسان المذكور في قوله: { وجاءت كل نفس }, وعليه فالخطاب عام متوجه إلى كل إنسان إلا أن التوبيخ والتقريع اللائح من سياق الآية ربما استدعى اختصاص الخطاب بمنكري المعاد، أضف إلى ذلك، كون الآيات مسوقة لرد منكري المعاد في قولهم: { ءإذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد }.
والإِشارة بقوله: { هذا } إلى ما يشاهده يومئذ ويعاينه من تقطّع الأسباب وبوار الأشياء ورجوع الكل إلى الله الواحد القهار، وقد كان تعلق الإِنسان في الدنيا بالأسباب الظاهرية وركونه إليها أغفله عن ذلك حتى إذا كشف الله عنه حجاب الغفلة فبدت له حقيقة الأمر فشاهد ذلك مشاهدة عيان لا علماً فكرياً.
ولذا خوطب بقوله: { لقد كنت } في الدنيا { في غفلة } أحاطت بك { من هذا } الذي تشاهده وتعاينه وإن كان في الدنيا نصب عينيك لا يغيب لكن تعلقك بذيل الأسباب أذهلك وأغفلك عنه { فكشفنا عنك غطاءك } اليوم { فبصرك } وهو البصيرة وعين القلب { اليوم } وهو يوم القيامة { حديد } أي نافذ يبصر ما لم يكن يبصره في الدنيا.
ويتبين بالآية أولاً: أن معرّف يوم القيامة أنه يوم ينكشف فيه غطاء الغفلة عن الإِنسان فيشاهد حقيقة الأمر، وفي هذا المعنى وما يقرب منه آيات كثيرة كقوله تعالى:
{ { والأمر يومئذٍ لله } [الانفطار: 19]، وقوله: { { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } [غافر: 16]، إلى غير ذلك من الآيات.
وثانياً: أن ما يشاهده الإِنسان يوم القيامة موجود مهيَّأ له وهو في الدنيا غير أنه في غفلة منه، وخاصة يوم القيامة أنه يوم انكشاف الغطاء ومعاينة ما وراءه، وذلك لأن الغفلة إنما يتصور فيما يكون هناك أمر موجود مغفول عنه، والغطاء يستلزم أمراً وراءه وهو يغطيه ويستره، وعدم حدَّة البصر إنما ينفع فيما إذا كان هناك مبصر دقيق لا ينفذ فيه البصر.
ومن أسخف القول ما قيل: إن الآية خطاب منه تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، والمعنى: لقد كنت قبل الرسالة في غفلة من هذا الذي نوحي إليك فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد يدرك الوحي أو يبصر ملك الوحي فيتلقى الوحي، وذلك لأن السياق لا يساعده ولا لفظ الآية ينطبق عليه.
قوله تعالى: { وقال قرينه هذا ما لديَّ عتيد } لا يخلو السياق من ظهور في أن المراد بهذا القرين الملك الموكل به فإن كان هو السائق كان معنى قوله: { هذا ما لدي عتيد } هذا الإِنسان الذي هو عندي حاضر، وإن كان هو الشهيد كان المعنى هذا - وهو يشير إلى أعماله التي حمل الشهادة عليها - ما عندي من أعماله حاضر مهيأ.
وقيل: المراد بالقرين الشيطان الذي يصاحبه ويغويه، ومعنى كلامه على هذا هذا الإِنسان هو الذي توليت أمره وملكته حاضر مهيأ لدخول جهنم.
قوله تعالى: { ألقيا في جهنم كل كفار عنيد مناع للخير معتد مريب } الكفار اسم مبالغة من الكفر، والعنيد المعاند للحق المستمر على عناده، والمعتدي المتجاوز عن الحد المتخطئ للحق، والمريب الشاك أو المشكك في أمر البعث.
وبين هذه الصفات المعدودة شبه الاستلزام فإن كثرة الكفر بردّ الإِنسان كل حق يواجهه تنتج العناد مع الحق والإِصرار عليه، والإِصرار على العناد يوجب المنع عن أكثر الخيرات إذ لا خير إلا في الحق ومن ناحيته، وهو يستلزم الخروج عن حد الحق إلى الباطل وتجاوز الإِنسان عن حد العبودية إلى الاستكبار والطغيان ويستلزم تشكيك الناس في ما يرومونه من دين الحق.
والخطاب في الآية منه تعالى، وظاهر سياق الآيات أن المخاطب به هما الملكان الموكلان السائق والشهيد، واحتمل بعضهم أن يكون الخطاب إلى ملكين من ملائكة النار وخزنتها.
قوله تعالى: { الذي جعل مع الله إلهاً آخر فألقياه في العذاب الشديد } العدول في ذكر صفة الشرك عن الإِيجاز إلى الإِطناب حيث لم يقل: مشرك وقال: { الذي جعل } الخ، للإِشارة إلى أن هذه الصفة أعظم المعاصي وأُم الجرائم التي أتى بها والصفات الرذيلة التي عدّت له من الكفر والعناد ومنع الخير والاعتداء والإِرابة.
وقوله: { فألقياه في العذاب الشديد } تأكيد لما تقدم من الأمر بقوله: { ألقيا } الخ، ويلوّح إلى تشديد الأمر من جهة الشرك، ولذا عقَّبه بقوله: { في العذاب الشديد }.
قوله تعالى: { قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد } المراد بهذا القرين قرينه من الشياطين بلا شك، وقد تكرر في كلامه تعالى ذكر القرين من الشيطان وهو الذي يلازم الإِنسان ويوحي إليه ما يوحي من الغواية والضلال، قال تعالى:
{ { ومن يعشُ عن ذكر الرحمن نقيِّض له شيطاناً فهو له قرين وإنهم ليصدُّونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين } [الزخرف: 36 - 38]. فقوله: { قال قرينه } أي شيطانه الذي يصاحبه ويغويه { ربنا } أضاف الرب إلى نفسه والإِنسان الذي هو قرينه لأنهما في مقام الاختصام { ما أطغيته } أي ما أجبرته على الطغيان { ولكن كان في ضلال بعيد } أي متهيئاً مستعداً لقبول ما ألقيته إليه تلقَّاه باختياره فما أنا بمسؤول عن ذنبه في طغيانه.
وقد تقدم في سورة الصافات تفصيل اختصام الظالمين وأزواجهم في قوله:
{ { احشروا الذين ظلموا وأزواجهم } [الصافات: 22]، إلى آخر الآيات.
قوله تعالى: { قال لا تختصموا لديَّ وقد قدَّمت إليكم بالوعيد } القائل هو الله سبحانه يخاطبهم وكأنه خطاب واحد لعامة المشركين الطاغين وقرنائهم ينحلّ إلى خطابات جزئية لكل إنسان وقرينه بمثل قولنا: لا تختصما لديَّ، الخ.
وقوله: { وقد قدَّمت إليكم بالوعيد } حال من فاعل { لا تختصموا } و { بالوعيد } مفعول { قدَّمت } والباء للوصلة.
والمعنى: لا تختصموا لديَّ فلا نفع لكم فيه بعد ما أبلغتكم وعيدي لمن أشرك وظلم، والوعيد الذي قدَّمه إليهم مثل قوله تعالى لإِبليس:
{ { اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفوراً } [الإسراء: 63]، وقوله: { { فالحق والحق أقول لأملأنَّ جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } [ص: 84 - 85]. أو قوله: { { لأملأنَّ جهنم من الجنة والناس أجمعين } [السجدة: 13]. قوله تعالى: { ما يبدَّل القول لديَّ وما أنا بظلاّم للعبيد } الذي يعطيه السياق أن تكون الآية استئنافاً بمنزلة الجواب عن سؤال مقدر كأن قائلاً يقول: هب إنك قد قدَّمت فهلاَّ غيّرته وعفوت؟ فأجيب بقوله: { ما يبدَّل القول لديّ } والمراد بالقول مطلق القضاء المحتوم الذي قضى به الله، وقد قضى لمن مات على الكفر بدخول جهنم وينطبق بحسب المورد على الوعيد الذي أوعده الله لإِبليس ومن تبعه.
فقد بان أن الجملة مستأنفة، والمراد بتبديل القول تغيير القضاء المحتوم، و { لدي } متعلق بالتبديل، هذا ما يعطيه السياق، وقد ذكر بعضهم في هذه الجملة وإعراب مفرداتها ومعنى تبديل القول وجوهاً واحتمالات كثيرة بعيدة عن الفهم لا تزيد في الكلام إلا تعقيداً فأغمضنا عن إيرادها.
وقوله: { وما أنا بظلام للعبيد } متمم لمعنى الجملة السابقة أي لا يبدل قولي فأنتم معذبون لا محالة ولست أظلم عبيدي في عذابهم على طبق ما قدمت إليهم بالوعيد لأنهم مستحقون لذلك بعد إتمام الحجة.
ومن وجه آخر: لا ظلم في مجازاتهم بالعذاب فإنهم إنما يجزون بأعمالهم التي قدموها في أعمالهم ردت إليهم كما هو ظاهر قوله تعالى:
{ { يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون } [التحريم: 7]. وما في قوله: { وما أنا بظلام } من نفي الظلم الكثير لا يستوجب جواز الظلم اليسير فإنه تعالى لو ظلم في شيء من الجزاء كان ظلماً كثيراً لكثرة أمثاله فإن الخطاب لكل إنسان مشرك ظالم مع قرينه، وهم كثيرون فهو سبحانه لو ظلم في شيء من الجزاء لكان ظلاماً.
قوله تعالى: { يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد } خطاب منه تعالى لجهنم وجواب منها، وقد اختلف في حقيقة هذا التكليم والتكلم فقيل: الخطاب والجواب بلسان الحال ويرده أنه لو كان بلسان الحال لم يختص به تعالى بل كان لكل من يشاهدها على تلك الحال أن يسألها عن امتلائها فتجيبه بقولها: هل من مزيد؟ فليس لتخصيص الخطاب به تعالى نكتة ظاهرة.
وقيل: حقيقة الخطاب لخزنة جهنم والجواب منهم وإن كانا نسبا إلى جهنم وفيه أنه خلاف الظاهر لا يصار إليه إلا بدليل.
وقيل: الخطاب والجواب على ظاهره، ولا دليل يدل على عدم الجواز، وقد أخبر الله سبحانه عن تكليم الأيدي والأرجل والجلود وغيرها، وهو الوجه وقد تقدم في تفسير سورة فصلت أن العلم والشعور سار في جميع الموجودات.
وقوله: { هل امتلأت } استفهام تقريري، وكذا قوله حكاية عنها: { هل من مزيد } ولعل إيراد هذا السؤال والجواب للإشارة إلى أن قهره وعذابه لا يقصر عن الإِحاطة بالمجرمين وإيفاء ما يستحقونه من الجزاء قال تعالى:
{ { وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } [العنكبوت: 54]. واستشكل بأنه مناف لصريح قوله تعالى: { لأملأن جهنم } الآية وأُجيب بأن الامتلاء قد يراد به أنه لا يخلو شيء من طبقاتها من السكنة كما يقال: البلد ممتلئ بأهله. على أنه يمكن أن يكون هذا القول منها قبل دخول جميع أهل النار فيها.
وقيل: الاستفهام في قوله: { هل من مزيد } للإِنكار والمعنى: لا مزيد أي لا مكان فيّ يزيد على من أُلقي في من المجرمين فقد امتلأت فيكون إشارة إلى ما قضى به في قوله:
{ لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } [السجدة: 13]، وقوله: { هل امتلأت } في معنى أن يقال: { هل حق القول مني لأملأن جهنم }، وقوله: { هل من مزيد } تقرير وتصديق له.
وربما أيد هذا الوجه قوله تعالى قبل: { ما يبدل القول لدي } على تقدير أن يراد بالقول قوله تعالى: { لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين }.
قوله تعالى: { وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد } شروع في وصف حال المتقين يوم القيامة، والإِزلاف التقريب، و { غير بعيد } على ما قيل صفة لظرف محذوف والتقدير في مكان غير بعيد.
والمعنى: وقربت الجنة يومئذ للمتقين حال كونها في مكان غير بعيد أي هي بين أيديهم لا تكلف لهم في دخولها.
قوله تعالى: { هذا ما توعدون لكل أوَّاب حفيظ } الإِشارة إلى ما تقدم من الثواب الموعود، والأواب من الأوب بمعنى الرجوع، والمراد كثرة الرجوع إلى الله بالتوبة والطاعة، والحفيظ هو الذي يدوم على حفظ ما عهد الله إليه من أن يترك فيضيع، وقوله: { لكل أوّاب حفيظ } خبر بعد خبر لهذا أو حال.
قوله تعالى: { من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب } بيان لكل أوَّاب والخشية بالغيب الخوف من عذاب الله حال كونه غائباً غير مرئي له، والإِنابة هو الرجوع، والمجيء إلى ربه بقلب منيب أن يتم عمره بالإِنابة فيأتي ربه بقلب متلبس بالإِنابة.
قوله تعالى: { ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود } خطاب للمتقين أي يقال لهم: ادخلوا بسلام أي بسلامة وأمن من كل مكروه وسوء، أو بسلام من الله وملائكته عليكم، وقوله: { ذلك يوم الخلود } بشرى يبشرون بها.
قوله تعالى: { لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد } يمكن أن يكون { فيها } متعلقاً بيشاؤون أو بمحذوف هو حال من الموصول، والتقدير: حال كون ما يشاؤون فيها أو من الضمير المحذوف الراجع إلى الموصول، والتقدير: ما يشاؤونه حال كونه فيها، والأول أوفق لسعة كرامتهم عند الله سبحانه.
والمحصل: أن أهل الجنة وهم في الجنة يملكون كل ما تعلقت به مشيئتهم وإرادتهم كائناً ما كان من غير تقييد واستثناء فلهم كل ما أمكن أن يتعلق به الإِرادة والمشيئة لو تعلقت.
وقوله: { ولدينا مزيد } أي ولهم عندنا ما يزيد على ذلك - على ما يفيده السياق - وإذا كان لهم كل ما أمكن أن تتعلق به مشيئتهم مما يتعلق به علمهم من المطالب والمقاصد فالمزيد على ذلك أمر أعظم مما تتعلق به مشيئتهم لكونه فوق ما يتعلق به علمهم من الكمال.
وقيل: المراد بالمزيد الزيادة على ما يشاؤون من جنس ما يشتهون فإذا شاءوا رزقاً أُعطوا منه أكثر مما شاءوا وأفضل وأعجب كما ورد عن بعضهم أنه تمرّ بهم السحابة فتقول: ماذا تريدون فامطره عليكم فلا يريدون شيئاً إلا أمطرته عليهم.
وفيه أنه تقييد لإِطلاق الكلام من غير مقيد فإن ظاهر قوله: { لهم ما يشاؤون فيها } أنهم يملكون كل ما يمكنهم أن يشاءوا لا تملكهم ما شاءوه بالفعل فالمزيد وراء ما يمكن أن تتعلق به مشيئتهم.
وقيل: المراد أنه يضاعف لهم الحسنة بعشر أمثالها وفيه ما في سابقه.
قوله تعالى: { وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشاً فنقَّبوا في البلاد هل من محيص } التنقيب السير، المحيص المحيد والمنجا.
وفي الآية تذييل الاحتجاج بخلق الإِنسان والعلم به وبيان سيره إلى الله بالتخويف والإِنذار نظير ما جرى عليه الكلام في صدر السورة من الاحتجاج على المعاد وتذييله بالتخويف والإِنذار في قوله: { كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرسّ وثمود } الخ.
والمعنى: وكثيراً ما أهلكنا قبل هؤلاء المشركين من قرن هم أي أهل ذلك القرن أشد بطشاً منهم أي من هؤلاء المشركين فساروا ببطشهم في البلاد ففتحوها وتحكّموا عليها هل من محيد ومنجا من إهلاك الله وعذابه؟
قوله تعالى: { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد } القلب ما يعقل به الإِنسان فيميز الحق من الباطل والخير من الشر والنافع من الضار، فإذا لم يعقل ولم يميز فوجوده بمنزلة عدمه إذ ما لا أثر له فوجوده وعدمه سواء، وإلقاء السمع هو الاستماع كأن السمع شيء يلقى إلى المسموع فيناله ويدركه والشهيد الحاضر المشاهد.
والمعنى: إن فيما أخبرنا به من الحقائق وأشرنا إليه من قصص الأمم الهالكة لذكرى يتذكر بها من كان يتعقل فيدرك الحق ويختار ما فيه خيره ونفعه أو استمع إلى حق القول ولم يشتغل عنه بغيره والحال أنه شاهد حاضر يعي ما يسمعه.
والترديد بين من كان له قلب ومن استمع شهيداً لمكان أن المؤمن بالحق أحد رجلين إما رجل ذو عقل يمكنه أن يتناول الحق فيتفكر فيه ويرى ما هو الحق فيذعن به، وإما رجل لا يقوى على التفكر حتى يميز الحق والخير والنافع فعليه أن يستمع القول فيتبعه، وأما من لا قلب له يعقل به ولا يسمع شهيداً على ما يقال له ويلقى إليه من الرسالة والإِنذار فجاهل متعنت لا قلب له ولا سمع، قال تعالى:
{ { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } } [الملك: 10]. قوله تعالى: { ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب } اللغوب التعب والنصب، والمعنى ظاهر.
(بحث روائي)
في التوحيد بإسناده إلى عمرو بن شمر عن جابر بن يزيد قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عز وجل: { أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد } قال: يا جابر تأويل ذلك أن الله عز وجل إذا أفنى هذا الخلق وهذا العالم وسكن أهل الجنة الجنة وأهل النار النار جدد الله عالماً غير هذا العالم وجدد خلقاً من غير فحولة ولا إناث يعبدونه ويوحدونه وخلق لهم أرضاً غير هذه الأرض تحملهم، وسماء غير هذه السماء تظلهم.
لعلك ترى أن الله إنما خلق هذا العالم الواحد أو ترى أن الله لم يخلق بشراً غيركم بلى والله لقد خلق ألف ألف عالم وألف ألف آدم أنت في آخر تلك العوالم وأُولئك الآدميّين.
أقول: وروي في الخصال الشطر الأول من الحديث بإسناده عن محمد بن مسلم عنه عليه السلام، ولعل المراد بكون ما ذكر تأويل الآية أنه مما ينطبق عليه.
وعن جوامع الجامع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
"كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على شماله، وصاحب اليمين أمير على صاحب الشمال: فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشراً وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر"
]. أقول: وفي معناها روايات أُخرى، وروي ست ساعات بدل سبع ساعات.
وفي نهج البلاغة { وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد } سائق يسوقها إلى محشرها وشاهد يشهد عليها بعملها.
وفي المجمع وروى أبو القاسم الحسكاني بالإِسناد عن الأعمش قال: حدَّثنا أبو المتوكل التاجر عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"إذا كان يوم القيامة يقول الله لي ولعلي: ألقيا في النار من أبغضكما، وأدخلا في الجنة من أحبكما وذلك قوله: { ألقيا في جهنم كل كفار عنيد }"
]. أقول: ورواه شيخ الطائفة في أماليه بإسناده عن أبي سعيد الخدري عنه صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي الدنيا في ذكر الموت وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:
"إن ابن آدم لفي غفلة عما خلق له إن الله إذا أراد خلقه قال للملك: اكتب رزقه. اكتب أثره. اكتب أجله شقيّاً أم سعيداً ثم يرتفع ذلك الملك ويبعث الله ملكاً فيحفظه حتى يدرك ثم يرتفع ذلك الملك.
ثم يوكل الله به ملكين يكتبان حسناته وسيئاته فإذا حضره الموت ارتفع ذلك الملكان وجاء ملك الموت ليقبض روحه فإذا أُدخل قبره رد الروح في جسده وجاءه ملكا القبر فامتحناه ثم يرتفعان.
فإذا قامت الساعة انحط عليه ملك الحسنات وملك السيئات فبسطا كتاباً معقوداً في عنقه ثم حضرا معه واحد سائق وآخر شهيد. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن قدامكم لأمراً عظيماً لا تقدرونه فاستعينوا بالله العظيم"
]. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: { يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد } قال: هو استفهام لأن الله وعد النار أن يملأها فتمتلئ النار ثم يقول لها: هل امتلأت؟ وتقول: هل من مزيد؟ على حد الاستفهام أي ليس فيّ مزيد.
أقول: بناؤه على كون الاستفهام إنكارياً.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول: هل من مزيد؟ حتى تضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط وعزَّتك وكرمك.
ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقاً آخر فيسكنهم في قصور الجنة"
]. أقول: وضع القدم على النار وقولها: قط قط مروي في روايات كثيرة من طرق أهل السنة.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: { لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد } قال: النظر إلى رحمة الله.
وفي الدر المنثور أخرج البزاز وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه واللالكائي في السنة والبيهقي في البعث والنشور عن أنس في قوله تعالى: { ولدينا مزيد } قال: يتجلى لهم الرب عز وجل.
وفي الكافي بعض أصحابنا رفعه عن هشام بن الحكم قال: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر عليه السلام: يا هشام إن الله يقول في كتابه: { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب } يعني عقل.
وفي الدر المنثور أخرج الخطيب في تاريخه عن العوام بن حوشب قال: سألت أبا مجلز عن الرجل يجلس فيضع إحدى رجليه على الأخرى فقال: لا بأس به إنما كره ذلك اليهود زعموا أن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استراح يوم السبت فجلس تلك الجلسة فأنزل الله { ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسَّنا من لغوب }.
أقول: وروي هذا المعنى عن الضحاك وقتادة، وروى هذا المعنى المفيد في روضة الواعظين في رواية ضعيفة، وأصل تقسيم خلق الأشياء إلى ستة من أيام الأسبوع واقع في التوارة، والقرآن وإن كرر ذكر خلق الأشياء في ستة أيام لكنه لم يذكر كون هذه الأيام هي أيام الأسبوع ولا لوَّح إليه.
وعلى هذه الروايات اعتمد من قال: إن الآية مدنية، ولا دلالة في ردِّها قول اليهود أن تكون نازلة بالمدينة, وفي الآيات المكية ما تعرَّض سبحانه فيه لشأن اليهود كما في سورة الأعراف وغيرها.