التفاسير

< >
عرض

وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ
٢٠
وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ
٢١
وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ
٢٢
فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ
٢٣
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ٱلْمُكْرَمِينَ
٢٤
إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ
٢٥
فَرَاغَ إِلَىٰ أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ
٢٦
فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ
٢٧
فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ
٢٨
فَأَقْبَلَتِ ٱمْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ
٢٩
قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْعَلِيمُ
٣٠
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا ٱلْمُرْسَلُونَ
٣١
قَالُوۤاْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ
٣٢
لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ
٣٣
مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ
٣٤
فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
٣٥
فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ ٱلْمُسْلِمِينَ
٣٦
وَتَرَكْنَا فِيهَآ آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ
٣٧
وَفِي مُوسَىٰ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ
٣٨
فَتَوَلَّىٰ بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ
٣٩
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي ٱلْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ
٤٠
وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلرِّيحَ ٱلْعَقِيمَ
٤١
مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَٱلرَّمِيمِ
٤٢
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حَتَّىٰ حِينٍ
٤٣
فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ
٤٤
فَمَا ٱسْتَطَاعُواْ مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ
٤٥
وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ
٤٦
وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَٰهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ
٤٧
وَٱلأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ ٱلْمَاهِدُونَ
٤٨
وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
٤٩
فَفِرُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
٥٠
وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
٥١
-الذاريات

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
تشير الآيات إلى عدة من آيات الله الدَّالة على وحدانيته في الربوبية ورجوع أمر التدبير في الأرض والسماء والناس وأرزاقهم إليه، ولازمه إمكان نزول الدين الإِلهي من طريق الرسالة بل وجوبه، ولازمه صدق الدعوة النبوية فيما تضمّنته من وعد البعث والجزاء وأن ما يوعدون لصادق وأن الدين لواقع، وقد مرَّت إشارة إلى خصوصية سلوك السورة في احتجاجها في البيان السابق.
قوله تعالى: { وفي الأرض آيات للموقنين } الاستنتاج الآتي في آخر هذه الآيات في قوله: { ففرُّوا إلى الله } إلى أن قال { ولا تجعلوا مع الله إلهاً آخر } الآية، يشهد على أن سوق هذه الآيات والدلائل لإِثبات وحدانيته تعالى في الربوبية لا لإِثبات أصل وجوده أو انتهاء الخلق إليه ونحو ذلك.
وفي الآية إشارة إلى ما تتضمنه الأرض من عجائب الآيات الدالة على وحدة التدبير القائمة بوحدانية مدبره من بر وبحر وجبال وتلال وعيون وأنهار ومعادن ومنافعها المتصلة بعضها ببعض الملائمة بعضها لبعض ينتفع بها ما عليها من النبات والحيوان في نظام واحد مستمر من غير اتفاق وصدفة، لائح عليها آثار القدرة والعلم والحكمة دالّ على أن خلقها وتدبير أمرها ينتهي إلى خالق مدبر قادر عليم حكيم.
فأي جانب قصد من جوانبها وأية وجهة وليت من جهات التدبير العام الجاري فيها كانت آية بيّنة وبرهاناً ساطعاً على وحدانية ربها لا شريك له ينجلي فيه الحق لأهل اليقين ففيها آيات للموقنين.
قوله تعالى: { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } معطوف على قوله: { في الأرض } أي وفي أنفسكم آيات ظاهرة لمن أبصر إليها وركز النظر فيها أفلا تبصرون.
والآيات التي في النفوس منها ما هي في تركّب الأبدان من أعضائها وأعضاء أعضائها حتى ينتهي إلى البسائط وما لها من عجائب الأفعال والآثار المتحدة في عين تكثرها المدبرة جميعاً لمدبر واحد، وما يعرضها من مختلف الأحوال كالجنينية والطفولية والرهاق والشباب والشيب.
ومنها ما هي من حيث تعلق النفوس أعني الأرواح بها كالحواس من البصر والسمع والذوق والشمّ واللمس التي هي الطرق الأولية لاطّلاع النفوس على الخارج لتميز بذلك الخير من الشر والنافع من الضار لتسعى إلى ما فيه كمالها وتهرب مما لا يلائمها، وفي كل منها نظام وسيع جار فيه منفصل بذاته عن غيره كالبصر لا خبر عنده عما يعمله السمع بنظامه الجاري فيه وهكذا، والجميع مع هذا الانفصال والتقطع مؤتلفة تعمل تحت تدبير مدبر واحد هو النفس المدبرة والله من ورائهم محيط.
ومن هذا القبيل سائر القوى المنبعثة عن النفوس في الأبدان كالقوة الغضبية والقوة الشهوية وما لها من اللواحق والفروع فإنها على ما للواحد منها بالنسبة إلى غيره من البينونة وانفصال النظام الجاري فيه عن غيره واقعة تحت تدبير مدبر واحد تتعاضد جميع شعبها وتأتلف لخدمته.
ونظام التدبير الذي لكل من هذه المدبرات إنما وجد له حينما وجد وأول ما ظهر من غير فصل فليس مما عملت فيه خيرته وأوجده هو لنفسه عن فكر وروية أو بغيره فنظام تدبيره كنفسه من صانع صنعه وألزمه نظامه بتدبيره.
ومنها الآيات الروحانية الواقعة في عالم النفوس الظاهرة لمن رجع إليها وراقب الله سبحانه فيها من آيات الله التي لا يسعها وصف الواصفين وينفتح بها باب اليقين وتدرج المتطلع عليها في زمرة الموقنين فيرى ملكوت السماوات والأرض كما قال تعالى:
{ { وكذلك نُري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين } [الأنعام: 75]. قوله تعالى: { وفي السماء رزقكم وما توعدون } قيل: المراد بالسماء جهة العلو فإن كل ما علاك وأظلّك فهو سماء لغة، والمراد بالرزق المطر الذي ينزله الله على الأرض فيخرج به أنواع ما يقتاتونه ويلبسونه وينتفعون به وقد قال تعالى: { { وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها } [الجاثية: 5]، فسمّى المطر رزقاً فالمراد بالرزق سببه أو بتقدير مضاف أي سبب رزقكم.
وقيل: المراد أسباب الرزق السماوية من الشمس والقمر والكواكب واختلاف المطالع والمغارب الراسمة للفصول الأربعة وتوالي الليل والنهار وهي جميعاً أسباب الرزق فالكلام على تقدير مضاف أي أسباب رزقكم أو فيه تجوّز بدعوى أن وجود الأسباب فيها وجود ذوات الأسباب.
وقيل: المراد بكون الرزق فيها كون تقديره فيها، أو أن الأرزاق مكتوبة في اللوح المحفوظ فيها.
ويمكن أن يكون المراد به عالم الغيب فإن الأشياء ومنها الأرزاق تنزل من عند الله سبحانه وقد صرّح بذلك في أشياء كقوله تعالى:
{ { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } [الزمر: 6]، وقوله: { { وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد } [الحديد: 25]، وقوله على نحو العموم: { { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم } [الحجر: 21]، والمراد بالرزق كل ما ينتفع به الإِنسان في بقائه من مأكل ومشرب وملبس ومسكن ومنكح وولد وعلم وقوة وغير ذلك.
وقوله: { وما توعدون } عطف على { رزقكم } الظاهر أن المراد به الجنة لقوله تعالى:
{ { عندها جنة المأوى } [النجم: 15]، وقول بعضهم: إن المراد به الجنة والنار أو الثواب والعقاب لا يلائمه قوله تعالى: { { إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سمّ الخياط } [الأعراف: 40]. نعم تكرر في القرآن نسبة نزول العذاب الدنيوي إلى السماء كقوله: { { فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء } [البقرة: 59]، وغير ذلك.
وعن بعضهم أن قوله: { وما توعدون } مبتدأ خبر قوله: { فورب السماء والأرض إنه لحق } والواو للاستئناف وهو معنى بعيد عن الفهم.
قوله تعالى: { فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون } النطق التكلم وضمير { إنه } راجع إلى ما ذكر من كون الرزق وما توعدون في السماء والحق هو الثابت المحتوم في القضاء الإِلهي دون أن يكون أمراً تبعياً أو اتفاقياً.
والمعنى: أُقسم برب السماء والأرض إن ما ذكرناه من كون رزقكم وما توعدونه من الجنة - وهو أيضاً من الرزق فقد تكرر في القرآن تسمية الجنة رزقاً كقوله:
{ { لهم مغفرة ورزق كريم } [الأنفال: 74]، وغير ذلك, في السماء لثابت مقضي مثل نطقكم وتكلمكم الذي هو حق لا ترتابون فيه.
وجوز بعضهم أن يكون ضمير { إنه } راجعاً إلى { ما توعدون } فقط أو إلى الرزق فقط أو إلى الله أو إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو إلى القرآن أو إلى الدين في قوله: { وإن الدين لواقع } أو إلى اليوم في قوله: { أيّان يوم الدين } أو إلى جميع ما تقدم من أول السورة إلى ها هنا، ولعل الأوجه رجوعه إلى ما ذكر في قوله: { وفي السماء رزقكم وما توعدون } كما قدمنا.
(كلام في تكافؤ الرزق والمرزوق)
الرزق بمعنى ما يرتزق به هو ما يمد شيئاً آخر في بقائه بانضمامه إليه أو لحوقه به بأي معنى كان كالغذاء الذي يمد الإِنسان في حياته وبقائه وبصيرورته جزء من بدنه وكالزوج يمدّ زوجه في إرضاء غريزته وبقاء نسله وعلى هذا القياس.
ومن البين: أن الأشياء المادية يرتزق بعضها ببعض كالإِنسان بالحيوان والنبات مثلاً فما يلحق المرزوق في بقائه من أطوار الكينونة ومختلف الأحوال كما أنها أطوار من الكون لاحقة به منسوبة إليه كذلك هي بعينها أطوار من الكون لاحقة بالرزق منسوبة إليه وإن كان ربما تغيرت الأسماء فكما أن الإِنسان يصير بالتغذي ذا أجزاء جديدة في بدنه كذلك الغذاء يصير جزء جديد من بدنه اسمه كذا.
ومن البين أيضاً: أن القضاء محيط بالكون مستوعب للأشياء يتعين به ما يجري على كل شيء في نفسه وأطوار وجوده، وبعبارة أُخرى سلسلة الحوادث بما لها من النظام الجاري مؤلفة من علل تامة ومعلولات ضرورية.
ومن هنا يظهر أن الرزق والمرزوق متلازمان لا يتفارقان فلا معنى لموجود يطرأ عليه طور جديد في وجوده بانضمام شيء أو لحوقه إلا مع وجود الشيء المنضم أو اللاحق المشترك معه في طوره ذلك فلا معنى لمرزوق مستمد في بقائه ولا رزق له، ولا معنى لرزق متحقق ولا مرزوق له كما لا معنى لزيادة الرزق على ما يحتاج إليه المرزوق، وكذا لبقاء مرزوق من غير رزق فالرزق داخل في القضاء الإِلهي دخولاً أولياً لا بالعرض ولا بالتبع وهو المعني بكون الرزق حقاً.
* * * قوله تعالى: { هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين } إشارة إلى قصة دخول الملائكة المكرمين على إبراهيم عليه السلام وتبشيرهم له ولزوجه ثم إهلاكهم قوم لوط، وفيها آية على وحدانية الربوبية كما تقدمت الإِشارة إليه.
وفي قوله: { هل أتاك حديث } تفخيم لأمر القصة و { المكرمين } - وهم الملائكة الداخلون على إبراهيم - صفة { ضيف } وإفراده لكونه في الأصل مصدراً لا يثنى ولا يجمع.
قوله تعالى: { إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال سلام قوم منكرون } الظرف متعلق بقوله في الآية السابقة: { حديث } و { سلاماً } مقول القول والعامل فيه محذوف أي قالوا: نسلّم عليك سلاماً.
وقوله: { قال سلام } قول ومقول و { سلام } مبتدأ محذوف الخبر والتقدير سلام عليكم، وفي إتيانه بالجواب جملة اسمية دالة على الثبوت تحية منه عليه السلام بما هو أحسن من تحيتهم بقولهم: سلاماً فإنه جملة فعلية دالة على الحدوث.
وقوله: { قوم منكرون } الظاهر أنه حكاية قول إبراهيم في نفسه، ومعناه أنه لما رآهم استنكرهم وحدَّث نفسه أن هؤلاء قوم منكرون، ولا ينافي ذلك ما وقع في قوله تعالى:
{ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم } [هود: 70] حيث ذكر نكره بعد تقريب العجل الحنيذ إليهم فإن ما في هذه السورة حديث نفسه به وما في سورة هود ظهوره في وجهه بحيث يشاهد منه ذلك.
وهذا المعنى أوجه من قول جمع من المفسرين: إنه حكاية قوله عليه السلام لهم والتقدير أنتم قوم منكرون.
قوله تعالى: { فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين } الروغ الذهاب على سبيل الاحتيال على ما قاله الراغب وقال غيره: هو الذهاب إلى الشيء في خفية، والمعنى الأول يرجع إلى الثاني.
والمراد بالعجل السمين المشوي منه بدليل قوله: { فقرّبه إليهم } أو الفاء فصيحة والتقدير فجاء بعجل سمين فذبحه وشوّاه وقرّبه إليهم.
قوله تعالى: { فقرّبه إليهم قال ألا تأكلون } عرض الأكل على الملائكة وهو يحسبهم بشراً.
قوله تعالى: { فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف } الخ الفاء فصيحة والتقدير فلم يمدوا إليه أيديهم فلما رأى ذلك نكرهم وأوجس منهم خيفة، والايجاس الإِحساس في الضمير والخيفة بناء نوع من الخوف أي أضمر منهم في نفسه نوعاً من الخوف.
وقوله: { قالوا لا تخف } جيء بالفصل لا بالعطف لأنه في معنى جواب سؤال مقدّر كأنه قيل: فماذا كان بعد ايجاس الخيفة فقيل: قالوا: لا تخف وبشّروه بغلام عليم فبدلوا خوفه أمنة وسروراً والمراد بغلام عليم إسماعيل أو إسحاق وقد تقدم الخلاف فيه.
قوله تعالى: { فأقبلت امرأته في صرّة فصكّت وجهها وقالت عجوز عقيم } في المجمع الصرّة شدّة الصياح وهو من صرير الباب ويقال للجماعة صرّة أيضاً. قال: والصك الضرب باعتماد شديد انتهى.
والمعنى: فأقبلت إمرأة إبراهيم عليه السلام - لما سمعت البشارة - في ضجة وصياح فلطمت وجهها وقالت: أنا عجوز عقيم فكيف ألد؟ أو المعنى هل عجوز عقيم تلد غلاماً؟
وقيل: المراد بالصرّة الجماعة وأنها جاءت إليهم في جماعة فصكّت وجهها وقالت ما قالت، والمعنى الأول أوفق للسياق.
قوله تعالى: { قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم } الإِشارة بكذلك إلى ما بشّروها به بما لها ولزوجها من حاضر الوضع هي عجوز عقيم وبعلها شيخ مسه الكبر فربها حكيم لا يريد ما يريد إلا بحكمة، عليم لا يخفى عليه وجه الأمر.
قوله تعالى: { قال فما خطبكم أيها المرسلون } إلى قوله { للمسرفين } الخطب الأمر الخطير الهام، والحجارة من الطين الطين المتحجر، والتسويم تعليم الشيء بمعنى جعله ذا علامة من السومة بمعنى العلامة.
والمعنى: { قال } إبراهيم عليه السلام { فما خطبكم } والشأن الخطير الذي لكم { أيها المرسلون } من الملائكة { قالوا } أي الملائكة لإِبراهيم { إنَّا أرسلنا إلى قوم مجرمين } وهم قوم لوط { لنرسل عليهم حجارة من طين } طيناً متحجراً سماه الله سجيلاً { مسومة } معلمة { عند ربك للمسرفين } تختص بهم لإِهلاكهم، والظاهر أن اللام في المسرفين للعهد.
قوله تعالى: { فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين } إلى قوله { العذاب الأليم } الفاء فصيحة وقد أوجز بحذف ما في القصة من ذهاب الملائكة إلى لوط وورودهم عليه وهمَّ القوم بهم حتى إذا أخرجوا آل لوط من القرية، وقد فصلت القصة في غير موضع من كلامه تعالى.
فقوله: { فأخرجنا } الخ بيان إهلاكهم بمقدمته، وضمير { فيها } للقرية المفهومة من السياق، و { بيت من المسلمين } بيت لوط، وقوله: { وتركنا فيها آية } إشارة إلى إهلاكهم وجعل أرضهم عاليها سافلها، والمراد بالترك الإِبقاء كناية وقد بيّنت هذه الخصوصيات في سائر كلامه تعالى.
والمعنى: فلما ذهبوا إلى لوط وكان من أمرهم ما كان { أخرجنا من كان فيها } في القرية { من المؤمنين فما وجدنا غير بيت } واحد { من المسلمين } وهم آل لوط { وتركنا فيها } في أرضهم بقلبها وإهلاكهم { آية } دالة على ربوبيتنا وبطلان الشركاء { للذين يخافون العذاب الأليم } من الناس.
قوله تعالى: { وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين } عطف على قوله: { وتركنا فيها آية } والتقدير وفي موسى آية، والمراد بسلطان مبين الحجج الباهرة التي كانت معه من الآيات المعجزة.
قوله تعالى: { فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون } التولي الإِعراض والباء في قوله: { بركنه } للمصاحبة، والمراد بركنه جنوده كما يؤيده الآية التالية، والمعنى: أعرض مع جنوده، وقيل: الباء للتعدية، والمعنى: جعل ركنه متولين معرضين.
وقوله: { وقال ساحر أو مجنون } أي قال تارة هو مجنون كقوله:
{ { إن رسولكم الذي أُرسل إليكم لمجنون } [الشعراء: 27]، وقال اخرى: هو ساحر كقوله: { { إن هذا لساحر عليم } [الشعراء: 34]. قوله تعالى: { فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليمِّ وهو مليم } النبذ طرح الشيء من غير أن يعتدّ به، واليمّ البحر، والمليم الآتي بما يلام عليه من ألامَ بمعنى أتى بما يلام عليه كأغرب إذا أتى بأمر غريب.
والمعنى: فأخذناه وجنوده وهم ركنه وطرحناهم في البحر والحال أنه أتى من الكفر والجحود والطغيان بما يلام عليه، وإنما خصَّ فرعون بالملامة مع أن الجميع يشاركونه فيها لأنه إمامهم الذي قادهم إلى الهلاك، قال تعالى:
{ { يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار } [هود: 98]. وفي الكلام من الإِيماء إلى عظمة القدرة وهول الأخذ وهوان أمر فرعون وجنوده ما لا يخفى.
قوله تعالى: { وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم } عطف على ما تقدمه أي وفي عاد أيضاً آية إذ أرسلنا عليهم أي أطلقنا عليهم الريح العقيم.
والريح العقيم هي الريح التي عقمت وامتنعت من أن تأتي بفائدة مطلوبة من فوائد الرياح كتنشئة سحاب أو تلقيح شجر أو تذرية طعام أو نفع حيوان أو تصفية هواء كما قيل وإنما أثرها الإِهلاك كما تشير إليه الآية التالية.
قوله تعالى: { ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم } { ما تذر } أي "ما تترك"، والرميم الشيء الهالك البالي كالعظم البالي السحيق، والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: { وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين } إلى قوله { منتصرين } عطف على ما تقدمه أي وفي ثمود أيضاً آية إذ قيل لهم: تمتعوا حتى حين، والقائل نبيهم صالح عليه السلام إذ قال لهم:
{ { تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب } [هود: 65] قال لهم ذلك لما عقروا الناقة فأمهلهم ثلاثة أيام ليرجعوا فيها عن كفرهم وعتوّهم لكن لم ينفعهم ذلك وحقَّ عليهم كلمة العذاب.
وقوله: { فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون } العتوّ - على ما ذكره الراغب - النبوّ عن الطاعة فينطبق على التمرد، والمراد بهذا العتوّ العتوّ عن الأمر والرجوع إلى الله أيام المهلة فلا يستشكل بأن عتوّهم عن أمر الله كان مقدماً على تمتعهم - كما يظهر من تفصيل القصة - والآية تدل على العكس.
وقوله: { فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون } هذا لا ينافي ما في موضع آخر من ذكر الصيحة بدل الصاعقة كقوله:
{ { وأخذ الذين ظلموا الصيحة } [هود: 67] لجواز تحققهما معاً في عذابهم.
وقوله: { فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين } لا يبعد أن يكون { استطاعوا } مضمناً معنى تمكنوا، و { من قيام } مفعوله أي ما تمكنوا من قيام من مجلسهم ليفروا من عذاب الله وهو كناية عن أنهم لم يمهلوا حتى بمقدار أن يقوموا من مجلسهم.
وقوله: { وما كانوا منتصرين } عطف على { ما استطاعوا } أي ما كانوا منتصرين بنصرة غيرهم ليدفعوا بها العذاب عن أنفسهم، ومحصل الجملتين أنهم لم يقدروا على دفع العذاب عن أنفسهم لا بأنفسهم ولا بناصر ينصرهم.
قوله تعالى: { وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوماً فاسقين } عطف على القصص السابقة، و { قوم نوح } منصوب بفعل محذوف والتقدير وأهلكنا قوم نوح من قبل عاد وثمود إنهم كانوا فاسقين عن أمر الله.
فهناك أمر ونهي كلف الناس بهما من قبل الله سبحانه وهو ربهم ورب كل شيء دعاهم إلى الدين الحق بلسان رسله فما جاء به الأنبياء عليهم السلام حق من عند الله ومما جاءوا به الوعد بالبعث والجزاء.
قوله تعالى: { والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون } رجوع إلى السياق السابق في قوله: { وفي الأرض آيات للموقنين } الخ، والأيد القدرة والنعمة، وعلى كل من المعنيين يتعين لقوله: { وإنا لموسعون } ما يناسبه من المعنى.
فالمعنى على الأول: والسماء بنيناها بقدرة لا يوصف قدرها وإنا لذو واسعة في القدرة لا يعجزها شيء، وعلى الثاني: والسماء بنيناها مقارناً بناؤها لنعمة لا تقدّر بقدر وإنا لذو واسعة وغنى لا تنفد خزائننا بالإِعطاء والرزق نرزق من السماء من نشاء فنوسع الرزق كيف نشاء.
ومن المحتمل أن يكون { موسعون } من أوسع في النفقة أي كثرها فيكون المراد توسعة خلق السماء كما تميل إليه الأبحاث الرياضية اليوم.
قوله تعالى: { والأرض فرشناها فنعم الماهدون } الفرش البسط وكذا المهد أي والأرض بسطناها وسطحناها لتستقروا عليها وتسكنوها فنعم الباسطون نحن، وهذا الفرش والبسط لا ينافي كروية الأرض.
قوله تعالى: { ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون } الزوجان المتقابلان يتم أحدهما بالآخر: فاعل ومنفعل كالذكر والأنثى، وقيل: المراد مطلق المتقابلات كالذكر والانثى والسماء والأرض والليل والنهار والبر والبحر والإِنس والجن وقيل: الذكر والأنثى.
وقوله: { لعلكم تذكرون } أي تتذكرون أن خالقها منزه عن الزوج والشريك واحد موحَّد.
قوله تعالى: { ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ولا تجعلوا مع الله إلهاً آخر إني لكم منه نذير مبين } في الآيتين تفريع على ما تقدم من الحجج على وحدانيته في الربوبية والأُلوهية، وفيها قصص عدة من الأمم الماضين كفروا بالله ورسله فانتهى بهم ذلك إلى عذاب الاستئصال.
فالمراد بالفرار إلى الله الانقطاع إليه من الكفر والعقاب الذي يستتبعه، بالإِيمان به تعالى وحده واتخاذه إلهاً معبوداً لا شريك له.
وقوله: { ولا تجعلوا مع الله إلهاً آخر } كالتفسير لقوله: { ففروا إلى الله } أي المراد بالإِيمان به الإِيمان به وحده لا شريك له في الأُلوهية والمعبودية.
وقد كرر قوله: { إني لكم منه نذير مبين } لتأكيد الإِنذار، والآيتان محكيتان عن لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في قوله تعالى: { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } قال: خلقك سميعاً بصيراً، تغضب مرة وترضى مرة، وتجوع مرة وتشبع مرة، وذلك كله من آيات الله.
أقول: ونسبه في المجمع إلى الصادق عليه السلام.
وفي التوحيد بإسناده إلى هشام بن سالم قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام فقيل له: بما عرفت ربك؟ قال: بفسخ العزم ونقض الهمّ، عزمت ففسخ عزمي، وهممت فنقض همي.
أقول: ورواه في الخصال عنه عن أبيه عن جده عن أمير المؤمنين عليهم السلام.
وفي الدر المنثور أخرج الخرائطي في مساوي الأخلاق عن علي بن أبي طالب { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } قال: سبيل الغائط والبول.
أقول: الرواية كالروايتين السابقتين مسوقة لبيان بعض المصاديق من طرق المعرفة.
وفيه أخرج ابن النقور والديلمي عن علي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: { وفي السماء رزقكم وما توعدون } قال:
"المطر"
]. أقول: وروى نحواً منه القمي في تفسيره مرسلاً ومضمراً.
وفي إرشاد المفيد عن علي عليه السلام في حديث: اطلبوا الرزق فإنه مضمون لطالبه.
وفي التوحيد بإسناده إلى أبي البختري قال: حدثني جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب عليهم السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: يا علي: إن اليقين أن لا ترضي أحداً على سخط الله، ولا تحمدنَّ أحداً على ما آتاك الله، ولا تذمَّّنَّ أحداً على ما لم يؤتك الله فإن الرزق لا يجرُّه حرص حريص، ولا يصرفه كره كاره. الحديث...
وفي المجمع { فأقبلت امرأته في صرّة } وقيل: في جماعة. عن الصادق عليه السلام.
وفي الدر المنثور أخرج الفاريابي وابن المنذر عن علي بن أبي طالب قال: الريح العقيم النكباء.
وفي التوحيد بإسناده إلى محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عليه السلام فقلت: قول الله عز وجل { يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيديّ }؟ فقال: اليد في كلام العرب القوة والنعمة، قال الله: { واذكر عبدنا داوود ذا الأيد }، وقال: { والسماء بنيناها بأيدٍ } أي بقوة، وقال: { وأيّدهم بروح منه } أي بقوة، ويقال: لفلان عندي يد بيضاء أي نعمة.
وفي التوحيد بإسناده إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام خطبة طويلة وفيها: بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، وبتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له، وبمضادّته بين الأشياء عرف أن لا ضدَّ له، وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له، ضادّ النور بالظلمة، واليبس بالبلل، والخشن باللين، والصرد بالحرور، مؤلفاً بين متعادياتها، مفرقاً بين متدانياتها، دالة بتفريقها على مفرّقها، وبتأليفها على مؤلفها وذلك قوله: { من كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون }.
ففرق بين قبل وبعد ليعلم أن لا قبل له ولا بعد له، شاهدة بغرائزها أن لا غريزة لمغرزها، مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقتها، حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه وبين خلقه.
وفي المجمع في قوله تعالى: { ففرّوا إلى الله } وقيل: معناه حجوّا. عن الصادق عليه السلام.
أقول: { ورواه في الكافي وفي المعاني بالإِسناد عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام ولعله من التطبيق.