التفاسير

< >
عرض

أَكُفَّٰرُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَٰئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِي ٱلزُّبُرِ
٤٣
أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ
٤٤
سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ
٤٥
بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَٱلسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ
٤٦
إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ
٤٧
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ
٤٨
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ
٤٩
وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِٱلْبَصَرِ
٥٠
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ
٥١
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي ٱلزُّبُرِ
٥٢
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ
٥٣
إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ
٥٤
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ
٥٥
-القمر

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
الآيات في معنى أخذ النتيجة مما أُعيد ذكره من الأنباء التي فيها مزدجر وهي نبأ الساعة المذكور أولاً ثم أنباء الأمم الهالكة المذكورة ثانياً فهي تنعطف أولاً على أنباء الأمم الهالكة فتخاطب قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن كفاركم ليسوا خيراً من أولئك الأمم الطاغية الجبارة وقد أهلكهم الله على أذلِّ وجه وأهونه ولا لكم براءة مكتوبة من عذاب الله، ولا أن جمعكم ينفعكم في الذبّ عن العقاب. ثم تنعطف إلى ما مرَّ من نبإ الساعة بأنها موعدهم الصعب إن أجرموا وكذَّبوا والساعة أدهى وأمرّ، ثم تشير إلى موطن المتقين يومئذ وعند ذلك تختتم السورة.
قوله تعالى: { أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر } الظاهر أنه خطاب لقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مسلم وكافر على ما تشعر به الإضافة في { كفاركم } والخيرية هي الخيرية في زينة الدنيا وزخارف حياتها كالمال والبنين أو من جهة الأخلاق العامة في مجتمعهم كالسخاء والشجاعة والشفقة على الضعفاء، والإشارة بأولئكم إلى الأقوام المذكورة أنباؤهم: قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون، والاستفهام للإنكار.
والمعنى: ليس الذين كفروا منكم خيراً من أولئكم الأمم المهلكين المعذبين حتى يشملهم العذاب دونكم.
ويمكن أن يكون خطاب { أكفاركم } لخصوص الكفار بعناية أنهم قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيهم كفار وهم هم.
وقوله: { أم لكم براءة في الزبر } ظاهره أيضاً عموم الخطاب، والزبر جمع زبور وهو الكتاب، وقد ذكروا أن المراد بالزبر الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء, والمعنى: بل ألكم براءة في الكتب السماوية التي نزلت من عند الله أنكم في أمن من العذاب والمؤاخذة وإن كفرتم وأجرمتم واقترفتم ما شئتم من الذنوب.
قوله تعالى: { أم يقولون نحن جميع منتصر } الجميع المجموع والمراد به وحدة مجتمعهم من حيث الإرادة والعمل، والانتصار الانتقام أو التناصر كما في خطابات يوم القيامة:
{ { ما لكم لا تناصرون } [الصافات: 25]، والمعنى: بل أيقولون أي الكفار نحن قوم مجتمعون متحدون ننتقم ممن أرادنا بسوء أو ينصر بعضنا بعضاً فلا ننهزم.
قوله تعالى: { سيهزم الجمع ويولون الدبر } اللام في { الجمع } للعهد الذكري وفي { الدبر } للجنس، وتولى الدبر الإدبار، والمعنى: سيهزم الجمع الذي يتبجَّحون به ويولون الأدبار ويفرُّون.
وفي الآية إخبار عن مغلوبية وانهزام لجمعهم، ودلالة على أن هذه المغلوبية انهزام منهم في حرب سيقدمون عليها، وقد وقع ذلك في غزاة بدر، وهذا من ملاحم القرآن الكريم.
قوله تعالى: { بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمرّ } "أدهى" اسم تفضيل من الدهاء وهو عظم البليَّة المنكرة التي ليس إلى التخلص منها سبيل، و "أمرَّ" اسم تفضيل من المرارة ضد الحلاوة، وفي الآية إضراب عن إيعادهم بالانهزام والعذاب الدنيوي إلى إيعادهم بما سيجري عليهم في الساعة وقد أُشير إلى نبإها في أول الأنباء الزاجرة، والكلام يفيد الترقّي.
والمعنى: وليس الانهزام والعذاب الدنيوي تمام عقوبتهم بل الساعة التي أشرنا إلى نبإها هي موعدهم والساعة أدهى من كل داهية وأمرّ من كل مُرّ.
قوله تعالى: { إن المجرمين في ضلال وسعر } جمع سعير وهي النار المسعّرة وفي الآية تعليل لما قبلها من قوله: { والساعة أدهى وأمر }, والمعنى: إنما كانت الساعة أدهى وأمر لهم لأنهم مجرمون والمجرمون في ضلال عن موطن السعادة وهو الجنة ونيران مسعرة.
قوله تعالى: { يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مسّ سقر } السحب جر الإنسان على وجهه، و "يوم" ظرف لقوله: { في ضلال وسعر }، و "سقر" من أسماء جهنم ومسّها هو إصابتها لهم بحرِّها وعذابها.
والمعنى: كونهم في ضلال وسعر في يوم يجرّون في النار على وجوههم يقال لهم: ذوقوا ما تصيبكم جهنم بحرِّها وعذابها.
قوله تعالى: { إنا كل شيء خلقناه بقدر } "كل شيء" منصوب بفعل مقدر يدل عليه "خلقناه" والتقدير خلقنا كل شيء خلقناه، و "بقدر" متعلق بقوله: "خلقناه" والباء للمصاحبة، والمعنى: إنا خلقنا كل شيء مصاحباً لقدر.
وقدر الشيء هو المقدار الذي لا يتعداه والحد والهندسة التي لا يتجاوزه في شيء من جانبي الزيادة والنقيصة، قال تعالى:
{ { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم } [الحجر: 21]، فلكل شيء حد محدود في خلقه لا يتعداه وصراط ممدود في وجوده يسلكه ولا يتخطاه.
والآية في مقام التعليل لما في الآيتين السابقتين من عذاب المجرمين يوم القيامة كأنه قيل: لماذا جوزي المجرمون بالضلال والسعر يوم القيامة وأُذيقوا مس سقر؟ فأجيب بقوله: { إنا كل شيء خلقناه بقدر } ومحصله أن لكل شيء قدراً ومن القدر في الإِنسان أن الله سبحانه خلقه نوعاً متكاثر الأفراد بالتناسل اجتماعياً في حياته الدنيا يتزود من حياته الدنيا الداثرة لحياته الآخرة الباقية، وقدر أن يرسل إليهم رسولاً يدعوهم إلى سعادة الدنيا والآخرة فمن استجاب الدعوة فاز بالسعادة ودخل الجنة وجاور ربه، ومن ردَّها وأجرم فهو في ضلال وسعر.
ومن الخطأ أن يقال: إن الجواب عن السؤال بهذا النحو من المصادرة الممنوعة في الاحتجاج فإن السؤال عن مجازاته تعالى إياهم بالنار لإجرامهم في معنى السؤال عن تقديره ذلك، فمعنى السؤال: لمَ قدَّر الله للمجرمين المجازاة بالنار؟ ومعنى الجواب: أن الله قدَّر للمجرمين المجازاة بالنار، أو معنى السؤال: لمَ يدخلهم الله النار؟ ومعنى الجواب: أن الله يدخلهم النار وذلك مصادرة بيِّنة.
وذلك لأن بين فعلنا وبين فعله تعالى فرقاً فإنا نتبع في أفعالنا القوانين والأصول الكلية المأخوذة من الكون الخارجي والوجود العيني، وهي الحاكمة علينا في إرادتنا وأفعالنا، فإذا أكلنا لجوع أو شربنا لعطش فإنما نريد بذلك الشبع والري لما حصَّلنا من الكون الخارجي أن الأكل يفيد الشبع والشرب يفيد الري وهو الجواب لو سئلنا عن الفعل.
وبالجملة أفعالنا تابعة للقواعد الكلية والضوابط العامة المنتزعة عن الوجود العيني المتفرعة عليه، وأما فعله تعالى فهو نفس الوجود العيني، والأصول العقلية الكلية مأخوذة منه متأخرة عنه محكومة له فلا تكون حاكمة فيه متقدمة عليه، قال تعالى:
{ { لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون } [الأنبياء: 23]، وقال: { { إن الله يفعل ما يشاء } [الحج: 18]، وقال: { { الحق من ربك } [البقرة: 147]. فلا سؤال عن فعله تعالى بلم بمعنى السؤال عن السبب الخارجي إذ لا سبب دونه يعينه في فعله، ولا بمعنى السؤال عن الأصل الكلي العقلي الذي يصحح فعله إذ الأصول العقلية منتزعة عن فعله متأخرة عنه.
نعم وقع في كلامه سبحانه تعليل الفعل بأحد ثلاثة أوجه:
أحدها: تعليل الفعل بما يترتب عليه من الغايات والفوائد العائدة إلى الخلق لا إليه، لكنه تعليل للفعل لا لكونه فعلاً له سبحانه بل لكونه أمراً واقعاً في صف الأسباب والمسببات كما في قوله تعالى:
{ { ولتجدنَّ أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسِّيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون } [المائدة: 82]، وقال: { وضربت عليهم الذلَّة والمسكنة } [البقرة: 61] إلى أن قال { { ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } } [البقرة: 61]. الثاني: تعليل فعله تعالى بشيء من أسمائه وصفاته المناسبة له كتعليله تعالى مضامين كثير من الآيات في كلامه بمثل قوله: { إن الله غفور رحيم } { وهو العزيز الحكيم } { وهو اللطيف الخبير } إلى غير ذلك وهو شائع في القرآن الكريم، وإذا أجدت التأمل في موارده وجدتها من تعليل الفعل بما له من صفة خاصة بصفة عامة لفعله تعالى فإن أسماءه تعالى الفعلية منتزعة عن فعله العام فتعليل فعل خاص بصفة من صفاته واسم من أسمائه تعليل الوجه الخاص في الفعل بالوجه العام فيه كقوله تعالى: { { وكأيّن من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم } [العنكبوت: 60]، يعلل قضاء حاجة الدواب والإنسان إلى الرزق المسؤل بلسان حاجتها بأنه سميع عليم أي إنه خلق كل شيء والحال أن مسائلهم مسموعة له وأحوالهم معلومة عنده وهما صفتا فعله العام، وقوله: { { فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم } [البقرة: 37]، يعلل توبته على آدم بأنه تواب رحيم أي صفة فعله هي التوبة والرحمة.
الثالث: تعليل فعله الخاص بفعله العام ومرجعه في الحقيقة إلى الوجه الثاني كقوله: { إن المجرمين في ضلال وسعر } إلى أن قال { إنا كل شيء خلقناه بقدر } فإن القدر وهو كون الشيء محدوداً لا يتخطى حده في مسير وجوده فعل عام له تعالى لا يخلو عنه شيء من الخلق فتعليل العذاب بالقدر من تعليل فعله الخاص بفعله العام وبيان أنه مصداق من مصاديق القدر إذ كان من المقدر في الإنسان أن لو أجرم بردّ دعوة النبوة عذّب ودخل النار يوم القيامة، وكقوله:
{ { وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً } [مريم: 71]، يعلل الورود بالقضاء وهو فعل له عام والورود خاص بالنسبة إليه.
فتبين أن ما في كلامه من تعليل فعل من أفعاله إنما هو من تعليل الفعل الخاص بصفته العامة والعلة علة للإثبات لا للثبوت، وليس من المصادرة في شيء.
قوله تعالى: { وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر } قال في المجمع: اللمح النظر بالعجلة وهو خطف البصر. انتهى.
والمراد بالأمر ما يقابل النهي لكنه الأمر التكويني بإرادة وجود الشيء، قال تعالى:
{ { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } [يس: 82] فهو كلمة كن ولعله لكونه كلمة اعتبر الخبر مؤنثاً فقيل: { إلا واحدة }.
والذي يفيده السياق أن المراد بكون الأمر واحدة أنه لا يحتاج في مضيّه وتحقق متعلقه إلى تعدد وتكرار بل أمر واحد بإلقاء كلمة كن يتحقق به المتعلق المراد كلمح بالبصر من غير تأنٍّ ومهل حتى يحتاج إلى الأمر ثانياً وثالثاً.
وتشبيه الأمر من حيث تحقق متعلقه بلمح البصر لا لإفادة أن زمان تأثيره قصيرٍ كزمان تحقق اللمح بالبصر بل لإفادة أنه لا يحتاج في تأثيره إلى مضيّ زمان ولو كان قصيراً فإن التشبيه باللمح بالبصر في الكلام يكنى به عن ذلك، فأمره تعالى وهو إيجاده وإرادة وجوده لا يحتاج في تحققه إلى زمان ولا مكان ولا حركة كيف لا؟ ونفس الزمان والمكان والحركة إنما تحققت بأمره تعالى.
والآية وإن كانت بحسب مؤدَّاها في نفسها تعطي حقيقة عامة في خلق الأشياء وأن وجودها من حيث إنه فعل الله سبحانه كلمح البصر وإن كان من حيث إنه وجود لشيء كذا تدريجياً حاصلاً شيئاً فشيئاً.
إلا أنها بحسب وقوعها في سياق إيعاد الكفار بعذاب يوم القيامة ناظرة إلى إتيان الساعة وأن أمراً واحداً منه تعالى يكفي في قيام الساعة وتجديد الخلق بالبعث والنشور فتكون متممة لما أُقيم من الحجة بقوله: { إنا كل شيء خلقناه بقدر }.
فيكون مفاد الآية الأولى أن عذابهم بالنار على وفق الحكمة ولا محيص عنه بحسب الإرادة الإلهية لأنه من القدر، ومفاد هذه الآية أن تحقق الساعة التي يعذبون فيها بمضي هذه الإرادة وتحقق متعلقها لا مؤنة فيه عليه سبحانه لأنه يكفي فيه أمر واحد منه تعالى كلمح بالبصر.
قوله تعالى: { ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدَّكر } الأشياع جمع شيعة والمراد - كما قيل - الأشباه والأمثال في الكفر وتكذيب الأنبياء من الأمم الماضية.
والمراد بالآية والآيتين بعدها تأكيد الحجة السابقة التي أُقيمت على شمول العذاب لهم لا محالة.
ومحصل المعنى: أن ليس ما أنذرناكم به من عذاب الدنيا وعذاب الساعة مجرد خبر أخبرناكم به ولا قول ألقيناه إليكم فهذه أشياعكم من الأمم الماضية شرع فيهم بذلك فقد أهلكناهم وهو عذابهم في الدنيا وسيلقون عذاب الآخرة فإن أعمالهم مكتوبة مضبوطة في كتب محفوظة عندنا سنحاسبهم بها ونجازيهم بما عملوا.
قوله تعالى: { وكل شيء فعلوه في الزبر وكل صغير وكبير مستطر } الزبر كتب الأعمال وتفسيره باللوح المحفوظ سخيف، والمراد بالصغير والكبير صغير الأعمال وكبيرها على ما يفيده السياق.
قوله تعالى: { إن المتقين في جنات ونهر } أي في جنات عظيمة الشأن بالغة الوصف ونهر كذلك، قيل: المراد بالنهر الجنس، وقيل: النهر بمعنى السعة.
قوله تعالى: { في مقعد صدق عند مليك مقتدر } المقعد المجلس، والمليك صيغة مبالغة للملك على ما قيل، وليس من إشباع كسر لام الملك، والمقتدر القادر العظيم القدرة وهو الله سبحانه.
والمراد بالصدق صدق المتقين في إيمانهم وعملهم أُضيف إليه المقعد لملابسةٍ مّا ويمكن أن يراد به كون مقامهم وما لهم فيه صدقاً لا يشوبه كذب فلهم حضور لا غيبة معه، وقرب لا بُعد معه، ونعمة لا نقمة معها، وسرور لا غمَّ معه، وبقاء لا فناء معه.
ويمكن أن يراد به صدق هذا الخبر من حيث إنه تبشير ووعد جميل للمتقين، وعلى هذا ففيه نوع مقابلة بين وصف عاقبة المتقين والمجرمين حيث أُوعد المجرمون بالعذاب والضلال وقرر ذلك بأنه من القدر ولن يتخلف، ووعد المتقون بالثواب والحضور عند ربهم المليك المقتدر وقرر ذلك بأنه صدق لا كذب فيه.
(بحث روائي)
في كمال الدين بإسناده إلى علي بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن الرقى أتدفع من القدر شيئاً؟ فقال: هي من القدر.
وقال: إن القدرية مجوس هذه الأُمة وهم الذين أرادوا أن يصفوا الله بعدله فأخرجوه من سلطانه وفيهم نزلت هذه الآية: { يوم يُسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر }.
أقول: المراد بالقدرية النافون للقدر وهم المعتزلة القائلون بالتفويض، وقوله: إنهم مجوس هذه الأُمة ذلك لقولهم: إن خالق الأفعال الاختيارية هو الإنسان والله خالق لما وراء ذلك فأثبتوا إلهين اثنين كما أثبتت المجوس إلهين اثنين: خالق الخير وخالق الشر.
وقوله: أرادوا أن يصفوا الله بعدله فأخرجوه من سلطانه، وذلك أنهم قالوا بخلق الإنسان لأفعاله فراراً عن القول بالجبر المنافي للعدل فأخرجوا الله من سلطانه على أعمال عباده بقطع نسبتها عنه تعالى.
وقوله: وفيهم نزلت هذه الآية، الخ، المراد به جري الآيات فيهم دون كونهم سبباً للنزول ومورداً له لما عرفت في تفسير الآيات من كونها عامة بحسب السياق، وفي نزول الآيات فيهم روايات أخرى مروية عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام، ومن طرق أهل السنة أيضاً روايات في هذا المعنى عن ابن عباس وابن عمر ومحمد بن كعب وغيرهم.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"إن لكل أُمة مجوساً وإن مجوس هذه الأُمة الذين يقولون: لا قدر" . الخبر.
أقول: ورواه في ثواب الأعمال بإسناده عن الصادق عن آبائه عن علي عليه السلام ولفظه: لكل أُمة مجوس ومجوس هذه الأُمة الذين يقولون: لا قدر.
وفيه أخرج ابن مردويه بسند رواه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"النهر الفضاء والسعة ليس بنهر جار"
]. وفيه أخرج أبو نعيم عن جابر قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً في مسجد المدينة فذكر بعض أصحابه الجنة فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "يا أبا دجانة أما علمت أن من أحبَّنا وابتلي بمحبتنا أسكنه الله تعالى معنا؟ ثم تلا { في مقعد صدق عند مليك مقتدر }
"
]. وفي روح المعاني في قوله: { في مقعد صدق } الآية، وقال جعفر الصادق رضي الله عنه: مدح المكان بالصدق فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق.
(كلام في القدر)
القدر وهو هندسة الشيء وحدّ وجوده مما تكرر ذكره في كلامه تعالى فيما تكلم فيه في أمر الخلقة، قال تعالى:
{ { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم } [الحجر: 21]، وظاهره أن القدر ملازم للإنزال من الخزائن الموجودة عنده تعالى، وأما نفس الخزائن وهي من إبداعه تعالى لا محالة فهي غير مقدرة بهذا القدر الذي يلازم الإنزال، والإنزال إصداره إلى هذا العالم المشهود كما يفيده قوله: { { وأنزلنا الحديد } [الحديد: 25]، وقوله: { { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } [الزمر: 6]. ويؤيد ذلك ما ورد من تفسير القدر بمثل العرض والطول وسائر الحدود والخصوصيات الطبيعية الجسمانية كما في المحاسن عن أبيه عن يونس عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: لا يكون إلا ما شاء الله وأراد وقدَّر وقضى. قلت: فما معنى قدَّر؟ قال: تقدير الشيء من طوله وعرضه. قلت: فما معنى قضى؟ قال: إذا قضى أمضاه فذلك الذي لا مردَّ له.
وروى هذا المعنى عن أبيه عن ابن أبي عمير عن محمد بن إسحاق عن الرضا عليه السلام في خبر مفصل وفيه: فقال: أو تدري ما قدر؟ قال: لا، قال: هو الهندسة من الطول والعرض والبقاء. الخبر.
ومن هنا يظهر أن المراد بكل شيء في قوله:
{ { وخلق كل شيء فقدَّره تقديراً } [الفرقان: 2]، وقوله: { { إنا كل شيء خلقناه بقدر } [القمر: 49]، وقوله: { { وكل شيء عنده بمقدار } [الرعد: 8]، وقوله: { { الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } [طه: 50]، الأشياء الواقعة في عالمنا المشهود، من الطبيعيات الواقعة تحت الخلق والتركيب، أو أن للتقدير مرتبتين: مرتبة تعم جميع ما سوى الله وهي تحديد أصل الوجود بالإمكان والحاجة هذا يعم جميع الموجودات ما خلا الله سبحانه، قال تعالى: { { وكان الله بكل شيء محيطاً } } [النساء: 126]. ومرتبة تخص عالمنا المشهود وهي تحديد وجود الأشياء الموجودة فيه من حيث وجودها وآثار وجودها وخصوصيات كونها بما أنها متعلقة الوجود والآثار بأمور خارجة من العلل والشرائط فيختلف وجودها وأحوالها باختلاف عللها وشرائطها فهي مقلوبة بقوالب من داخل وخارج تعين لها من العرض والطول والشكل والهيئة وسائر الأحوال والأفعال ما يناسبها.
فالتقدير يهدي هذا النوع من الموجودات إلى ما قدّر لها في مسير وجودها، قال تعالى:
{ { الذي خلق فسوّى والذي قدّر فهدى } [الأعلى: 2-3]، أي هدى ما خلقه إلى ما قدر له، ثم أتمّ ذلك بإمضاء القضاء، وفي معناه قوله في الإنسان: { { من نطفة خلقه فقدّره ثم السبيل يسَّره } [عبس: 19-20]، ويشير بقوله: { ثم السبيل يسَّره } إلى أن التقدير لا ينافي اختيارية أفعاله الاختيارية.
وهذا النوع من القدر في نفسه غير القضاء الذي هو الحكم البتي منه تعالى بوجوده
{ { والله يحكم لا معقّب لحكمه } [الرعد: 41]، فربما قدر ولم يعقبه القضاء كالقدر الذي يقتضيه بعض العلل والشرائط الخارجة ثم يبطل لمانع أو باستخلاف سبب آخر، قال تعالى: { { يمحو الله ما يشاء ويثبت } [الرعد: 36]، وقال: { { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } [البقرة: 106]، وربما قدر وتبعه القضاء كما إذا قدر من جميع الجهات باجتماع جميع علله وشرائطه وارتفاع موانعه.
وإلى ذلك يشير قوله عليه السلام في خبر المحاسن السابق: إذا قضى أمضاه فذلك الذي لا مردَّ له، وقريب منه ما في عدة من أخبار القضاء والقدر ما معناه أن القدر يمكن أن يتخلف وأما القضاء فلا يردّ.
وعن علي عليه السلام بطرق مختلفة كما في التوحيد بإسناده عن ابن نباتة أن أمير المؤمنين عليه السلام عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر فقيل له: يا أمير المؤمنين تفرُّ من قضاء الله؟ قال: أفرُّ من قضاء الله إلى قدر الله عز وجل.
وأما النوع الأول من الموجودات الذي قدره حد وجوده من إمكانه وحاجته فحسب فالقدر والقضاء فيه واحد ولا يتخلف القدر فيه عن التحقق البتة.
والبحث العقلي يؤيد ما تقدم فإن الأمور التي لها علل مركبة من فاعل ومادة وشرائط ومعدات وموانع فإن لكل منها تأثيراً في الشيء بما يسانخه فهو كالقالب الذي يقلب به الشيء فيأخذ لنفسه هيئة قالبه وخصوصيته وهذا هو قدره ثم العلة التامة إذا اجتمعت أجزاؤه أعطته ضرورة الوجود، وهذه هي القضاء الذي لا مردَّ له، وقد تقدم في تفسير أول سورة الإسراء كلام في القضاء لا يخلو من نفع في هذا البحث، فليرجع إليه.