التفاسير

< >
عرض

ٱلرَّحْمَـٰنُ
١
عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ
٢
خَلَقَ ٱلإِنسَانَ
٣
عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ
٤
ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ
٥
وَٱلنَّجْمُ وَٱلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ
٦
وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلْمِيزَانَ
٧
أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي ٱلْمِيزَانِ
٨
وَأَقِيمُواْ ٱلْوَزْنَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ ٱلْمِيزَانَ
٩
وَٱلأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ
١٠
فِيهَا فَاكِهَةٌ وَٱلنَّخْلُ ذَاتُ ٱلأَكْمَامِ
١١
وَٱلْحَبُّ ذُو ٱلْعَصْفِ وَٱلرَّيْحَانُ
١٢
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
١٣
خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَٱلْفَخَّارِ
١٤
وَخَلَقَ ٱلْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ
١٥
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
١٦
رَبُّ ٱلْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ ٱلْمَغْرِبَيْنِ
١٧
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
١٨
مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ
١٩
بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ
٢٠
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٢١
يَخْرُجُ مِنْهُمَا ٱلُّلؤْلُؤُ وَٱلمَرْجَانُ
٢٢
فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٢٣
وَلَهُ ٱلْجَوَارِ ٱلْمُنشَئَاتُ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ
٢٤
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٢٥
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ
٢٦
وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ
٢٧
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٢٨
يَسْأَلُهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ
٢٩
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٣٠
-الرحمن

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
تتضمن السورة الإشارة إلى خلقه تعالى العالم بأجزائه من سماء وأرض وبرّ وبحر وإنس وجن ونظم أجزائه نظماً ينتفع به الثقلان الإنس والجن في حياتهما وينقسم بذلك العالم إلى نشأتين: نشأة دنيا ستفنى بفناء أهلها، ونشأة أُخرى باقية تتميز فيها السعادة من الشقاء والنعمة من النقمة.
وبذلك يظهر أن دار الوجود من دنياها وآخرتها ذات نظام واحد مؤتلف الأجزاء مرتبط الأبعاض قويم الأركان يصلح بعضه ببعض ويتم شطر منه بشطر.
فما فيه من عين وأثر، من نعمه تعالى وآلائه، ولذا يستفهمهم مرة بعد مرة استفهاماً مشوباً بعتاب بقوله: { فبأي آلاء ربكما تكذبان } فقد كررت الآية في السورة إحدى وثلاثين مرة.
ولذلك افتتحت السورة بذكره تعالى بصفة رحمته العامة الشاملة للمؤمن والكافر والدنيا والآخرة واختتمت بالثناء عليه بقوله: { تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام }.
والسورة يحتمل كونها مكية أو مدنية وإن كان سياقها بالسياق المكي أشبه وهي السورة الوحيدة في القرآن افتتحت بعد البسملة باسم من أسماء الله عز اسمه، وفي المجمع عن موسى بن جعفر عن آبائه عليهم السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
"لكل شيء عروس وعروس القرآن سورة الرحمن جلَّ ذكره" ، ورواه في الدر المنثور عن البيهقي عن علي صلى الله عليه وآله وسلم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله تعالى: { الرحمن علم القرآن } الرحمن كما تقدم في تفسير سورة الفاتحة صيغة مبالغة تدل على كثرة الرحمة ببذل النعم ولذلك ناسب أن يعم ما يناله المؤمن والكافر من نعم الدنيا وما يناله المؤمن من نعم الآخرة، ولعمومه ناسب أن يصدَّر به الكلام لاشتمال الكلام في السورة على أنواع النعم الدنيوية والأخروية التي ينتظم بها عالم الثقلين الإنس والجن.
ذكروا أن الرحمن من الأسماء الخاصة به تعالى لا يسمى به غيره بخلاف مثل الرحيم والراحم.
وقوله؛ { علَّم القرآن } شروع في عد النعم الإلهية، ولما كان القرآن أعظم النعم قدراً وشأناً وأرفعها مكاناً - لأنه كلام الله الذي يخط صراطه المستقيم ويتضمن بيان نهج السعادة التي هي غاية ما يأمله آمل ونهاية ما يسأله سائل - قدم ذكر تعليمه على سائر النعم حتى على خلق الإنس والجن اللذين نزل القرآن لأجل تعليمهما.
وحذف مفعول "علم" الأول وهو الإنسان أو الإنس والجن والتقدير علم الإنسان القرآن أو علم الإنس والجن القرآن، وهذا الاحتمال الثاني وإن لم يتعرضوا له لكنه أقرب الاحتمالين لأن السورة تخاطب في تضاعيف آياتها الجن كالإنس ولولا شمول التعليم في قوله: { علم القرآن } لهم لم يتم ذلك.
وقيل: المفعول المحذوف محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو جبرئيل والأنسب للسياق ما تقدم.
قوله تعالى: { خلق الإنسان علّمه البيان } ذكر خلق الإنسان وسيذكر خصوصية خلقه بقوله: { خلق الإنسان من صلصال كالفخار } والإنسان من أعجب مخلوقات الله تعالى أو هو أعجبها يظهر ذلك بقياس وجوده إلى وجود غيره من المخلوقات والتأمل فيما خط له من طريق الكمال في ظاهره وباطنه ودنياه وآخرته، قال تعالى:
{ { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } } [التين: 4-6]. وقوله: { علّمه البيان } البيان الكشف عن الشيء والمراد به الكلام الكاشف عما في الضمير، وهو من أعجب النعم وتعليمه للإنسان من عظيم العناية الإلهية المتعلقة به فليس الكلام مجرد إيجاد صوت مّا باستخدام الرئة وقصبتها والحلقوم ولا ما يحصل من التنوع في الصوت الخارج من الحلقوم باعتماده على مخارج الحروف المختلفة في الفم.
بل يجعل الإنسان بإلهام باطني من الله سبحانه الواحد من هذه الأصوات المعتمدة على مخرج من مخارج الفم المسمى حرفاً أو المركب من عدة من الحروف علامة مشيرة إلى مفهوم من المفاهيم يمثل به ما يغيب عن حس السامع وإدراكه فيقدر به على إحضار أي وضع من أوضاع العالم المشهود وإن جل ما جل أو دق ما دق من موجود أو معدوم ماض أو مستقبل، ثم على إحضار أي وضع من أوضاع المعاني غير المحسوسة التي ينالها الإنسان بفكره ولا سبيل للحس إليها يحضرها جميعاً لسامعه ويمثلها لحسّه كأنه يشخصها له بأعيانها.
ولا يتم للإنسان اجتماعه المدني ولا تقدم في حياته هذا التقدم الباهر إلا بتنبهه لوضع الكلام وفتحه بذلك باب التفهيم والتفهم، ولولا ذلك لكان هو والحيوان العجم سواء في جمود الحياة وركودها.
ومن أقوى الدليل على أن أهتداء الإنسان إلى البيان بإلهام إلهي له أصل في التكوين اختلاف اللغات باختلاف الأمم والطوائف في الخصائص الروحية والأخلاق النفسانية وبحسب اختلاف المناطق الطبيعية التي يعيشون فيها، قال تعالى:
{ { ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم } [الروم: 22]. وليس المراد بقوله: { علَّمه البيان } أن الله سبحانه وضع اللغات ثم علمها الإِنسان بالوحي إلى نبي من الأنبياء أو بالإِلهام فإن الإِنسان بوقوعه في ظرف الاجتماع مندفع بالطبع إلى اعتبار التفهيم والتفهم بالإِشارات والأصوات وهو التكلم والنطق لا يتم له الاجتماع المدني دون ذلك.
على أن فعله تعالى هو التكوين والإيجاد والرابطة بين اللفظ ومعناه اللغوي وضعية اعتبارية لا حقيقية خارجية بل الله سبحانه خلق الإنسان وفطره فطرة تؤديه إلى الاجتماع المدني ثم إلى وضع اللغة بجعل اللفظ علامة للمعنى بحيث إذا ألقى اللفظ إلى سامعه فكأنما يلقي إليه المعنى ثم إلى وضع الخط بجعل الأشكال المخصوصة علائم للألفاظ فالخط مكمل لغرض الكلام، وهو يمثل الكلام كما أن الكلام يمثل المعنى.
وبالجملة البيان من أعظم النعم والآلاء الربانية التي تحفظ لنوع الإنسان موقفه الإنساني وتهديه إلى كل خير.
هذا ما هو الظاهر المتبادر من الآيتين، ولهم في معناهما أقوال: فقيل: الإنسان هو آدم عليه السلام والبيان الأسماء التي علمه الله إياها، وقيل: الإنسان محمد صلى الله عليه وآله وسلم والبيان القرآن أو تعليمه المؤمنين القرآن، وقيل: البيان الخير والشر علمهما الإنسان، وقيل: سبيل الهدى وسبيل الضلال إلى غير ذلك وهي أقوال بعيدة عن الفهم.
قوله تعالى: { الشمس والقمر بحسبان } الحسبان مصدر بمعنى الحساب، والشمس مبتدأ والقمر معطوف عليه، وبحسبان خبره، والجملة خبر بعد خبر لقوله: { الرحمن } والتقدير الشمس والقمر يجريان بحساب منه على ما قدر لهما من نوع الجري.
قوله تعالى: { والنجم والشجر يسجدان } قالوا: المراد بالنجم ما ينجم من النبات ويطلع من الأرض ولا ساق له، والشجر ما له ساق من النبات، وهو معنى حسن يؤيده الجمع والقرن بين النجم والشجر وإن كان ربما أوهم سبق ذكر الشمس والقمر كون المراد بالنجم هو الكواكب.
وسجود النجم والشجر انقيادهما للأمر الإلهي بالنشوء والنمو على حسب ما قدر لهما كما قيل، وأدق منه أنهما يضربان في التراب بأصولهما وأعراقهما لجذب ما يحتاجان إليه من المواد العنصرية التي يغتذيان بها وهذا السقوط على الأرض إظهاراً للحاجة إلى المبدأ الذي يقضي حاجتهما - وهو في الحقيقة الله الذي يربيهما كذلك - سجود منهما له تعالى.
والكلام في إعراب قوله: { والنجم والشجر يسجدان } وهو معطوف على الآية السابقة كالكلام في قوله: { الشمس والقمر بحسبان } والتقدير والنجم والشجر يسجدان له.
قال في الكشاف: فإن قلت: كيف اتصلت هاتان الجملتان بالرحمن يعني قوله: { الشمس والقمر } إلى قوله { يسجدان }؟ قلت: استغني فيهما عن الوصل اللفظي بالوصل المعنوي لما علم أن الحسبان حسبانه والسجود له لا لغيره.
وقال في وجه إخلاء الآيات السابقة - خلق الإنسان علَّمه البيان الشمس والقمر بحسبان - عن العاطف ما محصله أن هذه الجمل الأوُلَ واردة على سنن التعديد ليكون كل واحدة من الجمل مستقلة في تفريع الذين أنكروا الرحمن والآءه كما يبكّت منكر أيادي المنعم عليه من الناس بتعديدها عليه فيقال: زيد أغناك بعد فقر، أعزَّك بعد ذل، كثرك بعد قلة، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد فما تنكر من إحسانه؟
ثم رد الكلام إلى منهاجه بعد التبكيت في وصل ما يجب وصله للتناسب والتقارب بالعاطف فقيل: { والنجم والشجر يسجدان والسماء رفعها } الخ، انتهى.
قوله تعالى: { والسماء رفعها ووضع الميزان } المراد بالسماء إن كان جهة العلو فرفعها خلقها مرفوعة لا رفعها بعد خلقها وإن كان ما في جهة العلو من الأجرام فرفعها تقدير محالها بحيث تكون مرفوعة بالنسبة إلى الأرض بالفتق بعد الرتق كما قال تعالى:
{ { أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما } [الأنبياء: 30]، والرفع على أي حال رفع حسّي.
وإن كان المراد ما يشمل منازل الملائكة الكرام ومصادر الأمر الإلهي والوحي فالرفع معنوي أو ما يشمل الحسي والمعنوي.
وقوله: { ووضع الميزان } المراد بالميزان كل ما يوزن أي يقدر به الشيء أعم من أن يكون عقيدة أو قولاً أو فعلاً ومن مصاديقه الميزان الذي يوزن به الأثقال، قال تعالى:
{ { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط } [الحديد: 25]. فظاهره مطلق ما يميز به الحق من الباطل والصدق من الكذب والعدل من الظلم والفضيلة من الرذيلة على ما هو شأن الرسول أن يأتي به من عند ربه.
وقيل: المراد بالميزان العدل أي وضع الله العدل بينكم لتسوّوا به بين الأشياء بإعطاء كل ذي حق حقه.
وقيل: المراد الميزان الذي يوزن به الأثقال والمعنى الأول أوسع وأشمل.
قوله تعالى: { ألاَّ تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان } الظاهر أن المراد بالميزان الميزان المعروف وهو ميزان الأثقال، فقوله: { ألا تطغوا } الخ على تقدير أن يراد بالميزان في الآية السابقة أيضاً ميزان الأثقال، وهو بيان وضع الميزان، والمعنى أن معنى وضعنا الميزان بينكم هو أن اعدلوا في وزن الأثقال ولا تطغوا فيه.
وعلى تقدير أن يراد به مطلق التقدير الحق أو العدل هو استخراج حكم جزئي من حكم كلي، والمعنى أن لازم ما وضعناه من التقدير الحق أو العدل بينكم هو أن تزنوا الأثقال بالقسط ولا تطغوا فيه.
وعلى أي حال الظاهر أن { أن } في قوله: { أن لا تطغوا } تفسيرية، و { لا تطغوا } نهي عن الطغيان في الميزان و { أقيموا الوزن بالقسط } أمر معطوف عليه، والقسط العدل و { لا تخسروا الميزان } نهي آخر مبين لقوله: { لا تطغوا } الخ، ومؤكد له, والاخسار في الميزان التطفيف به بزيادة أو نقيصة بحيث يخسر البائع أو المشتري.
وأما جعل { أن } ناصبة و { لا تطغوا } نفياً، والتقدير: لئلا تطغوا، فيحتاج إلى تكلف توجيه في عطف الإنشاء على الإخبار في قوله: { وأقيموا الوزن } الخ.
قوله تعالى: { والأرض وضعها للأنام } الأنام الناس، وقيل: الإِنس والجن، وقيل: كل ما يدبُّ على الأرض، وفي التعبير في الأرض بالوضع قبال التعبير في السماء بالرفع لطف ظاهر.
قوله تعالى: { فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام } المراد بالفاكهة الثمرة غير التمر، والأكمام جمع كم بضم الكاف وكسرها وعاء التمر وهو الطلع، وأما كم القميص فهو مضموم الكاف لا غير كما قيل.
قوله تعالى: { والحب ذو العصف والريحان } معطوف على قوله: { فاكهة } أي وفيها الحب والريحان، والحب ما يقتات به كالحنطة والشعير والأرز، والعصف ما هو كالغلاف للحب وهو قشره، وفسّر بورق الزرع مطلقاً وبورق الزرع اليابس، والريحان النبات الطيب الرائحة.
قوله تعالى: { فبأي آلاء ربكما تكذبان } الآلاء جمع إلى بمعنى النعمة.
والخطاب في الآية لعامة الثقلين: الجن والإنس ويدل على ذلك توجيه الخطاب اليهما صريحاً فيما سيأتي من قوله: { سنفرغ لكم أيها الثقلان } وقوله: { يا معشر الجن والإنس } الخ، وقوله: { يرسل عليكما شواظ } الخ، فلا يصغى إلى قول من قال: إن الخطاب في الآية للذكر والأنثى من بني آدم، ولا إلى قول من قال: إنه من خطاب الواحد بخطاب الاثنين ويفيد تكرر الخطاب نحو يا شرطي اضربا عنقه أي اضرب عنقه اضرب عنقه.
وتوجيه الخطاب إلى عالمي الجن الإنس هو المصحح لعدِّ ما سنذكره من شدائد يوم القيامة وعقوبات المجرمين من أهل النار من آلائه ونعمه تعالى، فإن سوق المسيئين وأهل الشقوة في نظام الكون إلى ما تقتضيه شقوتهم ومجازاتهم بتبعات أعمالهم من لوازم صلاح النظام العام الجاري في الكل الحاكم على الجميع فذلك نعمة بالقياس إلى الكل وإن كان نقمة بالنسبة إلى طائفة خاصة منهم وهم المجرمون وهذا نظير ما نجده في السنن والقوانين الجارية في المجتمعات فإن التشديد على أهل البغي والفساد مما يتوقف عليه حياة المجتمع وبقاؤه وليس يتنعم به أهل الصلاح خاصة كما أن إثابة أهل الصلاح بالثناء الجميل والأجر الحسن كذلك.
فما في النار من عذاب وعقاب لأهلها وما في الجنة من كرامة وثواب آلاء ونعم على معشر الجن والإنس كما أن الشمس والقمر والسماء المرفوعة والأرض الموضوعة والنجم والشجر وغيرها آلاء ونعم على أهل الدنيا.
ويظهر من الآية أن للجن تنعماً في الجملة بهذه النعم المعدودة في خلال الآيات كما للإنس وإلا لم يصح إشراكهم مع الإنس في التوبيخ.
قوله تعالى: { خلق الإنسان من صلصال كالفخار } الصلصال الطين اليابس الذي يتردد منه الصوت إذا وطئ، والفخار الخزف.
والمراد بالإنسان نوعه والمراد بخلقه من صلصال كالفخار انتهاء خلقه إليه، وقيل: المراد بالإنسان آدم عليه السلام.
قوله تعالى: { وخلق الجان من مارج من نار } المارج هو اللهب الخالص من النار، وقيل: اللهب المختلط بسواد، والكلام في الجان كالكلام في الإنسان فالمراد به نوع الجن، وعدّهم مخلوقين من النار باعتبار انتهاء خلقتهم إليها، وقيل: المراد بالجان أبو الجن.
قوله تعالى: { رب المشرقين ورب المغربين } المراد بالمشرقين مشرق الصيف ومشرق الشتاء، وبذلك تحصل الفصول الأربعة وتنتظم الأرزاق، وقيل: المراد بالمشرقين مشرق الشمس والقمر وبالمغربين مغرباهما.
قوله تعالى: { مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان } المرج الخلط والمرج الإرسال، يقال: مرجه أي خلطه ومرجه أي أرسله والمعنى الأول أظهر، والظاهر أن المراد بالبحرين العذب الفرات والملح الأُجاج، قال تعالى:
{ { وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أُجاج ومن كلٍّ تأكلون لحماً طرياً وتستخرجون حلية تلبسونها } [فاطر: 12]. وأمثل ما قيل في الآيتين أن المراد بالبحرين جنس البحر المالح الذي يغمر قريباً من ثلاثة أرباع الكرة الأرضية من البحار المحيطة وغير المحيطة، والبحر العذب المدخر في مخازن الأرض التي تنفجر الأرض عنها فتجري العيون والأنهار الكبيرة فتصب في البحر المالح، ولا يزالان يلتقيان، وبينهما حاجز وهو نفس المخازن الأرضية والمجاري يحجز البحر المالح أن يبغي على البحر العذب فيغشيه ويبدله بحراً مالحاً وتبطل بذلك الحياة، ويحجز البحر العذب أن يزيد في الانصباب على البحر المالح فيبدله ماء عذباً فتبطل بذلك مصلحة ملوحته من تطهير الهواء وغيره.
ولا يزال البحر المالح يمدُّ البحر العذب الأمطار التي تأخذها منه السحب فتمطر على الأرض وتدخرها المخازن الأرضية والبحر العذب يمدُّ البحر المالح بالانصباب عليه.
فمعنى الآيتين - والله أعلم - خلط البحرين العذب الفرات والملح الاجاج حال كونهما مستمرين في تلاقيهما بينهما حاجز لا يطغيان بأن يغمر أحدهما الآخر فيذهب بصفته من العذوبة والملوحة فيختل نظام الحياة والبقاء.
قوله تعالى: { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } أي من البحرين العذب والمالح جميعاً وذلك من فوائدهما التي ينتفع بها الإِنسان، وقد تقدم فيه الكلام في تفسير قوله تعالى:
{ { وما يستوي البحران } [فاطر: 12] الآية.
قوله تعالى: { وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام } الجواري جمع جارية وهي السفينة، والمنشآت اسم مفعول من الإنشاء وهو إحداث الشيء وتربيته، والأعلام جمع علم بفتحتين وهو الجبل.
وعدّ الجواري مملوكة له تعالى مع كونها من صنع الإنسان لأن الأسباب العاملة في إنشائها من خشب وحديد وسائر أجزائها التي تتركب منها والإنسان الذي يركِّبها وشعوره وفكره وإرادته كل ذلك مخلوق له ومملوك فما ينتجه عملها من ملكه.
فهو تعالى المنعم بها للإنسان ألهمه طريق صنعها والمنافع المترتبة عليها وسبيل الانتفاع بمنافعها الجمَّة.
قوله تعالى: { كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } ضمير "عليها" للأرض أي كل ذي شعور وعقل على الأرض سيفنى وفيه تسجيل الزوال والدثور على الثقلين.
وإنما أتى باللفظ الدال على أُولي العقل - كل من عليها - ولم يقل: كل ما عليها كذلك لأن الكلام مسرود في السورة لتعداد نعمه وآلائه تعالى للثقلين في نشأتيهم الدنيا والآخرة.
وظهور قوله: { فان } في الاستقبال كما يستفاد أيضاً من السياق يعطي أن قوله: { كل من عليها فان } يشير إلى انقطاع أمد النشأة الدنيا وارتفاع حكمها بفناء من عليها وهم الثقلان وطلوع النشأة الأخرى عليهم، وكلاهما أعني فناء من عليها وطلوع نشأة الجزاء عليهم من النعم والآلاء لأن الحياة الدنيا حياة مقدمية لغرض الآخرة والانتقال من المقدمة إلى الغرض والغاية نعمة.
وبذلك يندفع قول من قال: أي نعمة في الفناء حتى يجعل من النعم ويعد من الآلاء.
ومحصل الجواب أن حقيقة هذا الفناء الرجوع إلى الله بالانتقال من الدنيا كما تفسره آيات كثيرة في كلامه تعالى وليس هو الفناء المطلق.
وقوله: { ويبقى وجه ربك } وجه الشيء ما يستقبل به غيره ويقصده به غيره، وهو فيه سبحانه صفاته الكريمة التي تتوسط بينه وبين خلقه فتنزل بها عليهم البركات من خلق وتدبير كالعلم والقدرة والسمع والبصر والرحمة والمغفرة والرزق وقد تقدم في تفسير سورة الأعراف كلام مبسوط في كون أسمائه وصفاته تعالى وسائط بينه وبين خلقه.
وقوله: { ذو الجلال والإكرام } في الجلال شيء من معنى الاعتلاء والترفع المعنوي على الغير فيناسب من الصفات ما فيه شائبة الدفع والمنع كالعلو والتعالي والعظمة والكبرياء والتكبر والإحاطة والعزة والغلبة.
ويبقى للإكرام من المعنى ما فيه نعت البهاء والحسن الذي يجذب الغير ويُوّلهه كالعلم والقدرة والحياة والرحمة والجود والجمال والحسن ونحوها وتسمى صفات الجمال كما تسمى القسم الأول صفات الجلال وتسمى الأسماء أيضاً على حسب ما فيها من صفات الجمال أو الجلال بأسماء الجمال أو الجلال.
فذو الجلال والإكرام اسم من الأسماء الحسنى جامع بمفهومه بين أسماء الجمال وأسماء الجلال جميعاً.
والمسمى به بالحقيقة هو الذات المقدسة كما في قوله في آخر السورة: { تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام } لكن أُجري في هذه الآية - ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام - على الوجه، وهو إما لكونه وصفاً مقطوعاً عن الوصفية للمدح، والتقدير هو ذو الجلال والإكرام، وإما لأن المراد بالوجه كما تقدم هو صفته الكريمة واسمه المقدس وإجراء الاسم على الاسم مآله إلى إجراء الاسم على الذات.
ومعنى الآية على تقدير أن يراد بالوجه ما يستقبل به الشيء غيره وهو الاسم - ومن المعلوم أن بقاء الاسم فرع بقاء المسمى -: ويبقى ربك عز اسمه بما له من الجلال والإكرام من غير أن يؤثر فناؤهم فيه أثراً أو يُغيّر منه شيئاً.
وعلى تقدير أن يراد بالوجه ما يقصده به غيره ومصداقه كل ما ينتسب إليه تعالى فيكون مقصوداً بنحو للمتوجه إليه كأنبيائه وأوليائه ودينه وثوابه وقربه وسائر ما هو من هذا القبيل فالمعنى: ويبقى بعد فناء أهل الدنيا ما هو عنده تعالى وهو من صقعه وناحيته كأنواع الجزاء والثواب والقرب منه، قال تعالى:
{ { ما عندكم ينفد وما عند الله باق } [النحل: 96]. وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: { { كل شيء هالك إلا وجهه } [القصص: 88] من الكلام بعض ما لا يخلو من نفع في المقام.
قوله تعالى: { يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن } سؤالهم سؤال حاجة فهم في حاجة من جميع جهاتهم إليه تعالى متعلقوا الوجودات به متمسكون بذيل غناه وجوده، قال تعالى:
{ { أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني } [فاطر: 15], وقال في هذا المعنى من السؤال: { { وآتاكم من كل ما سألتموه } [إبراهيم: 34]. وقوله: { كل يوم هو في شأن } تنكير { شأن } للدلالة على التفرق والاختلاف فالمعنى: كل يوم هو تعالى في شأن غير ما في سابقه ولاحقه من الشأن فلا يتكرر فعل من أفعاله مرتين ولا يماثل شأن من شؤونه شأناً آخر من جميع الجهات وإنما يفعل على غير مثال سابق وهو الإبداع، قال تعالى: { { بديع السماوات والأرض } [الأنعام: 101]. ومعنى ظرفية اليوم إحاطته تعالى في مقام الفعل على الأشياء فهو سبحانه في كل زمان وليس في زمان وفي كل مكان وليس في مكان ومع كل شيء ولا يداني شيئاً.
(بحث روائي)
في الكافي روى محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الرحمن على الناس سكتوا فلم يقولوا شيئاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"الجن كانوا أحسن جواباً منكم لما قرأت عليهم { فبأي آلاء ربكما تكذبان } قالوا: لا ولا بشيء من آلاء ربنا نكذّب"
]. أقول: وروى هذا المعنى في الدر المنثور عن عدة من أصحاب الجوامع - وصححه - عن ابن عمر عنه صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي العيون بإسناده عن الرضا عليه السلام فيما سأل الشامي علياً عليه السلام، وفيه: سأله عن اسم أبي الجن فقال: شومان وهو الذي خلق من مارج من نار.
وفي الاحتجاج عن علي عليه السلام في حديث وأما قوله: { رب المشرقين ورب المغربين } فإن مشرق الشتاء على حدة ومشرق الصيف على حدة، أما تعرف ذلك من قرب الشمس وبُعدها؟
أقول: وروى هذا المعنى القمي في تفسيره مرسلاً مضمراً.
وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: { مرج البحرين يلتقيان } قال: علي وفاطمة { بينهما برزخ لا يبغيان } قال: النبي صلى الله عليه وآله وسلم { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } قال:
"الحسن والحسين"
]. أقول: ورواه أيضاً عن ابن مردويه عن أنس بن مالك مثله، ورواه في مجمع البيان عن سلمان الفارسي وسعيد بن جبير وسفيان الثوري. وهو من البطن.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: { كل من عليها فان } قال: من على وجه الأرض { ويبقى وجه ربك } قال: دين ربك، وقال علي بن الحسين عليه السلام نحن الوجه الذي يؤتى الله منه.
وفي مناقب ابن شهر آشوب قوله: { ويبقى وجه ربك } قال الصادق عليه السلام: نحن وجه الله.
أقول: وفي معنى هاتين الروايتين غيرهما، وقد تقدم ما يوجه به تفسير الوجه بالدين وبالإمام.
وفي الكافي في خطبة لعلي عليه السلام: الحمد لله الذي لا يموت ولا ينقضي عجائبه لأنه كل يوم هو في شأن من إحداث بديع لم يكن.
وفي تفسير القمي في الآية قال: يحيي ويميت ويزيد وينقص.
وفي المجمع عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: { كل يوم هو في شأن } قال:
"من شأنه أن يغفر ذنباً، ويفرِّج كرباً، ويرفع قوماً، ويضع آخرين"
]. أقول: ورواه عنه في الدر المنثور، وروى ما في معناه عن ابن عمر عنه صلى الله عليه وآله وسلم ولفظه يغفر ذنباً ويفرِّج كرباً.