التفاسير

< >
عرض

آمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ
٧
وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ
٨
هُوَ ٱلَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَإِنَّ ٱللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ
٩
وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ٱلْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَـٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
١٠
مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ
١١
يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ ٱلْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
١٢
يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ
١٣
يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ وَلَـٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَٱرْتَبْتُمْ وَغرَّتْكُمُ ٱلأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَآءَ أَمْرُ ٱللَّهِ وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ
١٤
فَٱلْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ
١٥
-الحديد

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
أمر مؤكد بالإنفاق في سبيل الله وخاصة الجهاد على ما يؤيده قوله: { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل } الآية، ويتأيد بذلك ما قيل: إن قوله: { آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا } الخ، نزل في غزوة تبوك.
قوله تعالى: { آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه } الخ، المستفاد من سياق الآيات أن الخطاب في الآية للمؤمنين بالله ورسوله لا للكفار ولا للمؤمنين والكفار جميعاً كما قيل، وأمر الذين تلبَّسوا بالإيمان بالله ورسوله بالإيمان معناه الأمر بتحقيق الإيمان بترتيب آثاره عليه إذ لو كانت صفة من الصفات كالسخاء والعفة والشجاعة ثابتة في نفس الإنسان حقَّ ثبوتها لم يتخلف عنها أثرها الخاص ومن آثار الإيمان بالله ورسوله الطاعة فيما أمر الله ورسوله به.
ومن هنا يظهر أولاً: أن أمر المؤمن بالإيمان في الحقيقة أمر للمتحقق بمرتبة من الإيمان أن يتلبس بمرتبة هي أعلى منها، وهذا النوع من الأمر فيه إيماء إلى أن الذي عند المأمور من المأمور به لا يرضي الآمر كل الإرضاء.
وثانياً: أن قوله: { آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا } أمر بالإنفاق مع التلويح إلى أنه أثر صفة هم متلبسون بها فعليهم أن ينفقوا لما اتصفوا بها فيؤول إلى تعليل الإنفاق بإيمانهم.
وقوله: { وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه } استخلاف الإنسان جعله خليفة، والمراد به إما خلافتهم عن الله سبحانه يخلفونه في الأرض كما يشير إليه قوله:
{ { إني جاعل في الأرض خليفة } [البقرة: 30]، والتعبير عما بأيديهم من المال بهذا التعبير لبيان الواقع ولترغيبهم في الإنفاق فإنهم إذا أيقنوا أن المال لله وهم مستخلفون عليه وكلاء من ناحيته يتصرفون فيه كما أذن لهم سهل عليهم إنفاقه ولم تتحرَّج نفوسهم من ذلك.
وإما خلافتهم عمن سبقهم من الأجيال كما يخلف كل جيل سابقه، وفي التعبير به أيضاً ترغيب في الإنفاق فإنهم إذا تذكروا أن هذا المال كان لغيرهم فلم يدم عليهم علموا أنه كذلك لا يدوم لهم وسيتركونه لغيرهم وهان عليهم إنفاقه وسخت بذلك نفوسهم.
وقوله: { فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير } وعد للأجر على الإنفاق تأكيداً للترغيب، والمراد بالإيمان الإيمان بالله ورسوله.
قوله تعالى: { وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم } الخ، المراد بالإِيمان الإِيمان بحيث يترتب عليه آثاره ومنها الإِنفاق في سبيل الله - وإن شئت فقل: المراد ترتيب آثار ما عندهم من الإِيمان عليه -.
وقوله: { والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم } عبّر الرب بالرب وأضافه إليهم تلويحاً إلى علة توجه الدعوة والأمر كأنه قيل: يدعوكم لتؤمنوا بالله لأنه ربكم يجب عليكم أن تؤمنوا به.
وقوله: { وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين } تأكيد للتوبيخ المفهوم من أول الآية، وضمير "أخذ" لله سبحانه أو للرسول وعلى أي حال المراد بالميثاق المأخوذ هو الذي تدل عليه شهادتهم على وحدانية الله ورسالة رسوله يوم آمنوا به صلى الله عليه وآله وسلم من أنهم على السمع والطاعة.
وقيل: المراد بالميثاق هو الميثاق المأخوذ منهم في الذرّ، وعلى هذا فضمير { أخذ } لله سبحانه، وفيه أنه بعيد عن سياق الاحتجاج عليهم فإنهم غافلون عنه، على أن أخذ الميثاق في الذرّ لا يختص بالمؤمنين بل يعمُّ المنافقين والكفار.
قوله تعالى: { هو الذي ينزل على عبده آيات بيّنات ليخرجكم من الظلمات إلى النور } الخ، المراد بالآيات البينات آيات القرآن الكريم المبينة لهم ما عليهم من فرائض الدين، وفاعل { فليخرجكم } الضمير العائد إلى الله أو إلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ومرجع الثاني أيضاً هو الأول فالميثاق ميثاقه وقد أخذه بواسطة رسوله أو بغير واسطته كما أن الإيمان به وبرسوله إيمان به ولذلك قال في صدر الآية: { وما لكم لا تؤمنون بالله } فذكر نفسه ولم يذكر رسوله إشارة إلى أن الإيمان برسوله إيمان به.
وقوله: { وإن الله بكم لرءوف رحيم } في تذييل الآية برأفته تعالى ورحمته إشارة إلى أن الإيمان الذي يدعوهم إليه رسوله خير لهم وأصلح وهم الذين ينتفعون به دون الله ورسوله، ففيه تأكيد ترغيبهم على الإيمان والإنفاق.
قوله تعالى: { وما لكم أن لا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض } الميراث والتراث المال الذي ينتقل من الميت إلى من بقي بعده من ورّاثه، وإضافة الميراث إلى السماوات والأرض بيانية فالسماوات والأرض هي الميراث بما فيهما من الأشياء التي خلق منهما مما يمتلكه ذووا الشعور من سكنتهما فالسماوات والأرض شاملة لما فيهما مما خلق منهما ويتصرف فيها ذووا الشعور كالإنسان مثلاً بتخصيص ما يتصرفون فيه لأنفسهم وهو الملك الاعتباري الذي هداهم الله سبحانه إلى اعتباره فيما بينهم لينتظم بذلك جهات حياتهم الدنيا.
غير أنهم لا يبقون ولا يبقى لهم بل يذهبهم الموت المقدر بينهم فينتقل ما في أيديهم إلى من بعدهم وهكذا حتى يفنى الجميع ولا يبقى إلا هو سبحانه.
فالأرض مثلاً وما فيها وعليها من مال ميراث من جهة أن كل جيل من سكانها يرثها ممن قبله فكانت ميراثاً دائماً دائراً بينهم خلفاً عن سلف، وميراث من جهة أنهم سيفنون جميعاً ولا يبقى لها إلا الله الذي استخلفهم عليها.
ولله سبحانه ميراث السماوات والأرض بكلا المعنيين، أما الأول: فلأنه الذي يملكهم المال وهو المالك لما ملكهم، قال تعالى:
{ { لله ما في السماوات والأرض } [لقمان: 26]، وقال: { { ولله ملك السماوات والأرض } [النور: 42]، وقال: { { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } } [النور: 33]. وأما الثاني: فظاهر آيات القيامة كقوله تعالى: { { كل من عليها فان } [الرحمن: 26] وغيره، والذي يسبق إلى الذهن أن المراد بكونهما ميراثاً هو المعنى الثاني.
وكيف كان ففي الآية توبيخ شديد لهم على عدم إنفاقهم في سبيل الله من المال الذي لا يرثه بالحقيقة إلا هو تعالى ولا يبقى لهم ولا لغيرهم، والإظهار في موضع الإضمار في قوله: { ولله } لتشديد التوبيخ.
قوله تعالى: { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أُولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا } الخ، الاستواء بمعنى التساوي، وقسيم قوله: { من أنفق من قبل الفتح وقاتل } محذوف إيجازاً لدلالة قوله: { أُولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا } عليه.
والمراد بالفتح - كما قيل - فتح مكة أو فتح الحديبية وعطف القتال على الإِنفاق لا يخلو من إشعار بل دلالة على أن المراد بالإِنفاق في سبيل الله المندوب إليه في الآيات هو الإِنفاق في الجهاد.
وكأن الآية مسوقة لبيان أن الإِنفاق في سبيل الله كلما عجل إليها كان أحبّ عند الله وأعظم درجة ومنزلة وإلا فظاهر أن هذه الآيات نزلت بعد الفتح والقتال الذي بادروا إليه قبل الفتح وبعض المقاتل التي بعده.
وقوله: { وكلاً وعد الله الحسنى } أي وعد الله المثوبة الحسنى كل من أنفق وقاتل قبل الفتح أو أنفق وقاتل بعده وإن كانت الطائفة الأولى أعظم درجة من الثانية، وفيه تطييب لقلوب المتأخرين إنفاقاً وقتالاً أن لهم نيلاً من رحمته وليسوا بمحرومين مطلقاً فلا موجب لأن ييأسوا منها وإن تأخروا.
وقوله: { والله بما تعملون خبير } تذييل متعلق بجميع ما تقدم ففيه تشديد للتوبيخ وتقرير وتثبيت لقوله: { لا يستوي منكم } الخ، ولقوله: { وكلاً وعد الله الحسنى } ويمكن أن يتعلق بالجملة الأخيرة لكن تعلقه بالجميع أعم وأشمل.
قوله تعالى: { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له وله أجر كريم } قال الراغب: وسمي ما يدفع إلى الإِنسان من المال بشرط رد بدله قرضاً. انتهى، وقال في المجمع: وأصله القطع فهو قطعه عن مالكه بإذنه على ضمان رد مثله. قال: والمضاعفة الزيادة على المقدار مثله أو أمثاله. انتهى، وقال الراغب: الأجر والأجرة ما يعود من ثواب العمل دنيوياً كان أو أُخروياً قال: ولا يقال إلا في النفع دون الضر بخلاف الجزاء فإنه يقال في النفع والضر. انتهى ملخصاً.
وما يعطيه تعالى من الثواب على عمل العبد تفضل منه من غير استحقاق من العبد فإن العبد وما يأتيه من عمل ملك طلق له سبحانه ملكاً لا يقبل النقل والانتقال غير أنه اعتبر اعتباراً تشريعياً العبد مالكاً وملكه عمله، وهو المالك لما ملكه وهو تفضّل آخر ثم اختار ما أحبه من عمله فوعده ثواباً على عمله وسماه أجراً وجزاء وهو تفضل آخر، ولا ينتفع به في الدنيا والآخرة إلا العبد قال تعالى:
{ { للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم } [آل عمران: 172]، وقال: { { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون } [فصلت: 8]، وقال بعد وصف الجنة ونعيمها: { { إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكوراً } [الإنسان: 22]، وما وعده من الشكر وعدم المنّ عند إيتاء الثواب تمام التفضل.
وفي الآية حثّ بليغ على ما ندب إليه من الإِنفاق في سبيل الله حيث استفهم عن الذي ينفق منهم في سبيل الله ومثل إنفاقه بأنه قرض يقرضه الله سبحانه وعليه أن يرده ثم قطع أنه لا يرد مثله إليه بل يضاعفه ولم يكتف بذلك بل أضاف إليه أجراً كريماً في الآخرة والأجر الكريم هو المرضي في نوعه والأجر الأخروي كذلك لأنه غاية ما يتصور من النعمة عند غاية ما يتصور من الحاجة.
قوله تعالى: { يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم } الخ، اليوم ظرف لقوله: { له أجر كريم } والمراد به يوم القيامة، والخطاب في { ترى } للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو لكل سامع يصح خطابه، والظاهر أن الباء في { بأيمانهم } بمعنى في.
والمعنى: لمن أقرض الله قرضاً حسناً أجر كريم يوم ترى أنت يا رسول الله - أو كل من يصح منه الرؤية - المؤمنين بالله ورسوله والمؤمنات يسعى نورهم أمامهم وفي أيمانهم واليمين هو الجهة التي منها سعادتهم.
والآية مطلقة تشمل مؤمني جميع الأمم ولا تختص بهذه الأُمة، والتعبير عن إشراق النور بالسعي يشعر بأنهم ساعون إلى درجات الجنة التي أعدها الله سبحانه لهم وتستنير لهم جهات السعادة ومقامات القرب واحدة بعد واحدة حتى يتم لهم نورهم كما قال تعالى:
{ { وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً } [الزمر: 73]، وقال: { { يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً } [مريم: 85]، وقال: { { يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا } [التحريم: 8]. وللمفسرين في تفسير مفردات الآية أقوال مختلفة أغمضنا عنها لعدم دليل من لفظ الآية عليها، وسيوافيك ما في الروايات المأثورة في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.
وقوله: { بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } حكاية ما يقال للمؤمنين والمؤمنات يوم القيامة، والقائل الملائكة بأمر من الله والتقدير يقال لهم: { بشراكم } الخ، والمراد بالبشرى ما يبشر به وهو الجنة والباقي ظاهر.
وقوله: { ذلك هو الفوز العظيم } كلام الله سبحانه والإشارة إلى ما ذكر من سعي النور والبشرى أو من تمام قول الملائكة والإشارة إلى الجنات والخلود فيها.
قوله تعالى: { يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم } إلى آخر الآية، النظر إذا تعدَّى بنفسه أفاد معنى الانتظار والإمهال، وإذا عدّي بإلى نحو نظر إليه كان بمعنى إلقاء البصر نحو الشيء وإذا عدّي بفي كان بمعنى التأمل، والاقتباس أخذ قبس من النار.
والسياق يفيد أنهم اليوم في ظلمة أحاطت بهم سرادقها وقد أُلجئوا إلى المسير نحو دارهم التي يخلدون فيها غير أن المؤمنين والمؤمنات يسيرون بنورهم الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم فيبصرون الطريق ويهتدون إلى مقاماتهم، وأما المنافقون والمنافقات فهم مغشيون بالظلمة لا يهتدون سبيلاً وهم مع المؤمنين كما كانوا في الدنيا معهم ومعدودين منهم فيسبق المؤمنون والمؤمنات إلى الجنة ويتأخر عنهم المنافقون والمنافقات في ظلمة تغشاهم فيسألون المؤمنين والمؤمنات أن ينتظروهم حتى يلحقوا بهم ويأخذوا قبساً من نورهم ليستضيئوا به في طريقهم.
وقوله: { قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً } القائل به إما الملائكة أو قوم من كمّل المؤمنين كأصحاب الأعراف.
وكيف كان فهو من الله وبإذنه، والخطاب بقوله: { ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً } قيل: إنه خطاب مبني على التهكّم والاستهزاء كما كانوا يستهزؤون في الدنيا بالمؤمنين، والأظهر على هذا أن يكون المراد بالوراء الدنيا، ومحصل المعنى: ارجعوا إلى الدنيا التي تركتموها وراء ظهوركم وعملتم فيها ما عملتم على النفاق، والتمسوا من تلك الأعمال نوراً فإنما النور نور الأعمال أو الإيمان ولا إيمان لكم ولا عمل.
ويمكن أن يجعل هذا وجهاً على حياله من غير معنى الاستهزاء بأن يكون قوله: { ارجعوا } أمراً بالرجوع إلى الدنيا واكتساب النور بالإيمان والعمل الصالح وليسوا براجعين ولا يستطيعون فيكون الأمر بالرجوع كالأمر بالسجود المذكور في قوله تعالى:
{ { يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون * خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون } [القلم: 42-43]. وقيل: المراد ارجعوا إلى المكان الذي قسم فيه النور والتمسوا من هناك فيرجعون فلا يجدون شيئاً فينصرفون إليهم وقد ضُرب بينهم بسور، وهذا خدعة منه تعالى يخدعهم بها كما كانوا في الدنيا يخادعونه كما قال: { { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم } [النساء: 142]. قوله تعالى: { فضُرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب } سور المدينة حائطها الحاجز بينها وبين الخارج منها، والضمير في { فضُرب بينهم بسور } راجع إلى المؤمنين والمنافقين جميعاً أي ضرب بين المؤمنين وبين المنافقين بسور حاجز يحجز إحدى الطائفتين عن الأخرى.
قيل: السور هو الأعراف وهو غير بعيد وقد تقدمت إشارة إليه في تفسير قوله تعالى:
{ { وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال } [الأعراف: 46]، وقيل: السور غير الأعراف.
وقوله: { له باب } أي للسور باب وهذا يشبه حال المنافقين في الدنيا فقد كانوا فيها بين المؤمنين لهم اتصال بهم وارتباط وهم مع ذلك محجوبون عنهم بحجاب. على أنهم يرون أهل الجنة ويزيد بذلك حسرتهم وندامتهم.
وقوله: { باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب } { باطنه } مبتدأ وجملة { فيه الرحمة } مبتدأ وخبر وهي خبر { باطنه } وكذا { ظاهره } مبتدأ وجملة { من قبله العذاب } مبتدأ وخبر هي خبره، وضميرا "فيه ومن قبله" للباطن والظاهر.
ويظهر من كون باطن السورة فيه رحمة وظاهره من قبله العذاب أن السور محيط بالمؤمنين وهم في داخله والمنافقون في الخارج منه.
وفي اشتمال داخله الذي يلي المؤمنين على الرحمة وظاهره الذي يلي المنافقين على العذاب مناسبة لحال الإيمان في الدنيا فإنه نعمة لأهل الإخلاص من المؤمنين يبتهجون بها ويلتذون وعذاب لأهل النفاق يتحرجون من التلبس به ويتألمون منه.
قوله تعالى: { ينادونهم ألم نكن معكم } إلى آخر الآية استئناف في معنى جواب السؤال كأنه قيل: فماذا يفعل المنافقون والمنافقات بعد ضرب السور ومشاهدة العذاب من ظاهره؟ فقيل: ينادونهم الخ.
والمعنى: ينادي المنافقون والمنافقات المؤمنين والمؤمنات بقولهم: { ألم نكن معكم } يريدون به كونهم في الدنيا مع المؤمنين والمؤمنات في ظاهر الدين.
وقوله: { قالوا بلى } إلى آخر الآية جواب المؤمنين والمؤمنات لهم والمعنى: { قالوا } أي قال المؤمنون والمؤمنات جواباً لهم { بلى } كنتم في الدنيا معنا { ولكنكم فتنتم } أي محنتم وأهلكتم { أنفسكم وتربصتم } الدوائر بالدين وأهله { وارتبتم } وشككتم في دينكم { وغرتكم الأماني } ومنها أُمنيتكم أن الدين سيطفأ نوره ويتركه أهله { حتى جاء أمر الله } وهو الموت { وغركم بالله الغرور } بفتح الغين وهو الشيطان.
والآية - كما ترى - تفيد أن المنافقين والمنافقات يستنصرون المؤمنين والمؤمنات على ما هم فيه من الظلمة متوسلين بأنهم كانوا معهم في الدنيا ثم تفيد أن المؤمنين والمؤمنات يجيبون بأنهم كانوا معهم لكن قلوبهم كانت لا توافق ظاهر حالهم حيث يفتنون أنفسهم ويتربصون ويرتابون وتغرهم الأماني ويغرهم بالله الغرور، وهذه الصفات الخبيثة آفات القلوب فكانت القلوب غير سليمة ولا ينفع يوم القيامة إلا القلب السليم قال تعالى:
{ { يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم } [الشعراء: 88-89]. قوله تعالى: { فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا } تتمة كلام المؤمنين والمؤمنات يخاطبون به المنافقين والمنافقات ويضيفون إليهم الكفار وهم المعلنون لكفرهم أنهم رهناء أعمالهم كما قال تعالى: { { كل نفس بما كسبت رهينة } [المدثر: 38]، لا يؤخذ منهم فدية يخلصون بها أنفسهم والفدية أحد الأمرين اللذين بهما التخلص من الرهانة والآخر ناصر ينصر فينجي وقد نفوه بقولهم: { مأواكم النار } الخ.
فقوله: { مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير } ينفي أيّ ناصر ينصرهم وينجيهم من النار غير النار على ما يفيده قوله: { هي مولاكم } من الحصر، والمولى هو الناصر والجملة مسوقة للتهكم.
ويمكن أن يكون المولى بمعنى من يلي الأمر فإنهم كانوا يدعون لحوائجهم من المأكل والمشرب والملبس والمنكح والمسكن غير الله سبحانه وحقيقته النار فاليوم مولاهم النار وهي التي تعدّ لهم ذلك فمأكلهم من الزقوم ومشربهم من الحميم وملبسهم من ثياب قطعت من النار وقرناؤهم الشياطين ومأواهم النار على ما أخبر الله سبحانه به في آيات كثيرة من كلامه.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام الحديبية حتى إذا كان بعسفان قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
"يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم قلنا: من هم يا رسول الله أقريش؟ قال: لا ولكنهم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوباً. قلنا: أهم خير منا يا رسول الله؟ قال: لو كان لأحدهم جبل من ذهب فأنفقه ما أدرك مد أحدكم ولا نصيفه ألا إن هذا فصل ما بيننا وبين الناس { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل }" الآية.
أقول: روي هذا المعنى بغير واحد من الطرق بألفاظ متقاربة وهي مشتملة على الآية ويشكل بأن ظاهر سياق الآيات أنها نزلت بعد الفتح والمراد به إما الحديبية أو فتح مكة فلا تنطبق على ما قبل الفتح.
وفيه أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة قال: لما نزلت هذه الآية { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل } قال أبو الدحداح: والله لأُنفقنَّ اليوم نفقة أُدرك بها من قبلي ولا يسبقني بها أحد بعدي فقال: اللهم كل شيء يملكه أبو الدحداح فإن نصفه لله حتى بلغ فرد نعله ثم قال: وهذا.
وفي تفسير القمي في قوله: { يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم } قال: يقسم النور بين الناس يوم القيامة على قدر أيمانهم يقسّم للمنافق فيكون نوره بين إبهام رجله اليسرى فينظر نوره ثم يقول للمؤمنين: مكانكم حتى أقتبس من نوركم فيقول المؤمنون لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً ويضرب بينهم بسور له باب فينادون من وراء السور للمؤمنين: { ألم نكن معكم قالوا: بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم } قال: بالمعاصي { وتربصتم وارتبتم } قال: أي شككتم وتربصتم.
وقوله: { فاليوم لا يؤخذ منكم فدية } قال: والله ما عنى بذلك اليهود والنصارى وما عنى به إلا أهل القبلة ثم قال: { مأواكم النار هي مولاكم } قال: هي أولى بكم.
أقول: يعني بأهل القبلة المنافقين منهم.
وفي الكافي بإسناده عن أبان بن تغلب قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: تجنبوا المنى فإنها تذهب بهجة ما خولتم وتستصغرون بها مواهب الله جل وعز عندكم وتعقبكم الحسرات فيما وهمتم به أنفسكم.