التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى ٱلْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
١٤
أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٥
ٱتَّخَذْوۤاْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ
١٦
لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
١٧
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ
١٨
ٱسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ ٱلشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ
١٩
إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـٰئِكَ فِي ٱلأَذَلِّينَ
٢٠
كَتَبَ ٱللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِيۤ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ
٢١
لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوۤاْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلَـٰئِكَ حِزْبُ ٱللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
٢٢
-المجادلة

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
تذكر الآيات قوماً من المنافقين يتولّون اليهود ويوادّونهم وهم يحادُّون الله ورسوله وتذمّهم على ذلك وتهدِّدهم بالعذاب والشقوة تهديداً شديداً، وتقطع بالآخرة أن الإيمان بالله واليوم الآخر يمنع عن موادَّة من يحادّ الله ورسوله كائناً من كان، وتمدح المؤمنين المتبرئين من أعداء الله وتعدهم إيماناً مستقراً وروحاً من الله وجنة ورضواناً.
قوله تعالى: { ألم ترَ إلى الذين تولَّوا قوماً غضب الله عليهم } الخ، القوم المغضوب عليهم هم اليهود، قال تعالى:
{ { من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبَدَ الطاغوت } [المائدة: 60]. وقوله: { ما هم منكم ولا منهم } ضمير { هم } للمنافقين وضمير { منهم } لليهود، والمعنى: أن هؤلاء المنافقين لتذبذبهم بين الكفر والإيمان ليسوا منكم ولا من اليهود، قال تعالى: { { مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء } [النساء: 143]. وهذه صفتهم بحسب ظاهر حالهم وأما بحسب الحقيقة فهم ملحقون بمن تولوهم، قال تعالى: { { ومن يتولَّهم منكم فإنه منهم } [المائدة: 51]، فلا منافاة بين قوله: { ما هم منكم ولا منهم } وقوله: { فإنه منهم }.
واحتمل بعضهم أن ضمير { هم } للقوم وهم اليهود وضمير { منهم } للموصول وهم المنافقون، والمعنى: تولوا اليهود الذين ليسوا منكم وأنتم مؤمنون ولا من هؤلاء المنافقين أنفسهم بل أجنبيون برآء من الطائفتين، وفيه نوع من الذمّ، وهو بعيد.
وقوله: { ويحلفون على الكذب وهم يعلمون } أي يحلفون لكم على الكذب أنهم منكم مؤمنون أمثالكم وهم يعلمون أنهم كاذبون في حلفهم.
قوله تعالى: { أعدَّ الله لهم عذاباً شديداً إنهم ساء ما كانوا يعملون } الإعداد التهيئة، وقوله: { إنهم ساء } الخ، تعليل للإعداد، وفي قوله: { كانوا يعملون } دلالة على أنهم كانوا مستمرين في عملهم مداومين عليه.
والمعنى: هيّأ الله لهم عذاباً شديداً لاستمرارهم على عملهم السيء.
قوله تعالى: { اتخذوا أيمانهم جُنّة فصدُّوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين } الأيمان جمع يمين وهو الحلف، والجنة السترة التي يتقى بها الشر كالترس، والمهين اسم فاعل من الإهانة بمعنى الإذلال والإخزاء.
والمعنى: اتخذوا أيمانهم سترة يدفعون بها عن نفوسهم التهمة والظنة كلما ظهر منهم أمر يريب المؤمنين فصرفوا أنفسهم وغيرهم عن سبيل الله وهو الإسلام فلهم - لأجل ذلك - عذاب مُذل مُخزٍ.
قوله تعالى: { لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً أُولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } أي إن الذي دعاهم إلى ما هم عليه متاع الحياة الدنيا الذي هو الأموال والأولاد لكنهم في حاجة إلى التخلص من عذاب خالد لا يقضيها لهم إلا الله سبحانه فهم في فقر إليه لا يغنيهم عنه أموالهم ولا أولادهم شيئاً فليؤمنوا به وليعبدوه.
قوله تعالى: { يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء } الخ، ظرف لما تقدم من قوله: { أعد الله لهم عذاباً شديداً } أو لقوله: { أُولئك أصحاب النار }، وقوله: { فيحلفون له كما يحلفون لكم } أي يحلفون لله يوم البعث كما يحلفون لكم في الدنيا.
وقد قدمنا في تفسير قوله تعالى:
{ { ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين } [الأنعام: 23] أن حلفهم على الكذب يوم القيامة مع ظهور حقائق الأمور يومئذ من ظهور ملكاتهم هناك لرسوخها في نفوسهم في الدنيا فقد اعتادوا فيها على إظهار الباطل على الحق بالأيمان الكاذبة وكما يعيشون يموتون وكما يموتون يبعثون.
ومن هذا القبيل سؤالهم الرد إلى الدنيا يومئذ، والخروج من النار وخصامهم في النار وغير ذلك مما يقصُّه القرآن الكريم، وهم يشاهدون مشاهدة عيان أن لا سبيل إلى شيء من ذلك واليوم يوم جزاء لا يوم عمل.
وأما قوله: { ويحسبون أنهم على شيء } أي مستقرون على شيء يصلح أن يستقر عليه ويتمكن فيه فيمكنهم الستر على الحق والمنع عن ظهور كذبهم بمثل الإنكار والحلف الكاذب.
فيمكن أن يكون قيداً لقوله: { كما يحلفون لكم } فيكون إشارة إلى وصفهم في الدنيا وأنهم يحسبون أن حلفهم لكم ينفعهم ويرضيكم، ويكون قوله: { ألا إنهم هم الكاذبون } قضاءً منه تعالى في حقهم بأنهم كاذبون فلا يصغى إلى ما يهذون به ولا يعتنى بما يحلفون به.
ويمكن أن يكون قيداً لقوله: { فيحلفون له } فيكون من قبيل ظهور الملكات يومئذ كما تقدم في معنى حلفهم آنفاً، ويكون قوله: { ألا إنهم هم الكاذبون } حكماً منه تعالى بكذبهم يوم القيامة أو مطلقاً.
قوله تعالى: { استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أُولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون } الاستحواذ الاستيلاء والغلبة، والباقي ظاهر.
قوله تعالى: { إن الذين يحادُّون الله ورسوله أولئك في الأذلِّين } تعليل لكونهم هم الخاسرين أي إنما كانوا خاسرين لأنهم يحادُّون الله ورسوله بالمخالفة والمعاندة والمحادُّون لله ورسوله في جملة الأذلِّين من خلق الله تعالى.
قيل: إنما كانوا في الأذلِّين لأن ذلة أحد المتخاصمين على مقدار عزة الآخر وإذ كانت العزة لله جميعاً فلا يبقى لمن حادَّه إلا الذلة محضاً.
قوله تعالى: { كتب الله لأغلبنَّ أنا ورسلي إن الله قوي عزيز } الكتابة هي القضاء منه تعالى.
وظاهر إطلاق الغلبة شمولها للغلبة من حيث الحجة ومن حيث التأييد الغيبي ومن حيث طبيعة الإيمان بالله ورسوله.
أما من حيث الحجة فإن الإنسان مفطور على صلاحية إدراك الحق والخضوع له فلو بيّن له الحق من السبيل التي يألفها لم يلبث دون أن يعقله وإذا عقله اعترفت له فطرته وخضعت له طوّيته وإن لم يخضع له عملاً اتباعاً لهوىً أو أي مانع يمنعه عن ذلك.
وأما الغلبة من حيث التأييد الغيبي والقضاء للحق على الباطل فيكفي فيها أنواع العذاب التي أنزلها الله تعالى على مكذبي الأمم الماضين كقوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وعلى آل فرعون وغيرهم ممن يشير تعالى إليهم بقوله:
{ { ثم أرسلنا رسلنا تترى كلما جاء أُمة رسولها كذَّبوه فأتبعنا بعضهم بعضاً وجعلناهم أحاديث فبُعداً لقوم لا يؤمنون } [المؤمنون: 44]، وعلى ذلك جرت السنة الإلهية وقد أجمل ذكرها في قوله: { { ولكل أُمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون } [يونس: 47]. وأما الغلبة من حيث طبيعة الإيمان بالله ورسوله فإن إيمان المؤمن يدعوه إلى الدفاع والذَّبِّ عن الحق والمقاومة تجاه الباطل مطلقاً وهو يرى أنه إن قَتَل فاز وإن قُتِل فاز فثباته على الدفاع غير مقيد بقيد ولا محدود بحدّ وهذا بخلاف من يدافع لا عن الحق بما هو حق بل عن شيء من المقاصد الدنيوية فإنه إنما يدافع لأجل نفسه فلو شاهد نفسه مشرفة على هلكة أو راكبة مخاطرة تولى منهزماً فهو إنما يدافع على شرط وإلى حد وهو سلامة النفس وعدم الإشراف على الهلكة ومن الضروري أن العزيمة المطلقة تغلب العزيمة المقيدة بقيد المحدودة بحد ومن الشاهد عليه غزوات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما أدَّت إليه من الفتح والظفر في عين أنها كانت سجالاً لكن لم تنتهِ إلا إلى تقدُّم المسلمين وغلبتهم.
ولم تقف الفتوحات الإسلامية ولا تفرَّقت جموع المسلمين أيادي سبأ إلا بفساد نيّاتهم وتبديل سيرة التقوى والإخلاص لله وبسط الدين الحق من بسط السلطة وتوسعة المملكة
{ { ذلك بأن الله لم يكُ مغيِّراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } [الأنفال: 53] وقد اشترط الله عليهم حين أكمل دينهم وأمّنهم من عدوهم أن يخشوه إذ قال: { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشوني }.
ويكفي في تسجيل هذه الغلبة قوله تعالى فيما يخاطب المؤمنين:
{ { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } } [آل عمران: 139]. قوله تعالى: { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادُّون من حادَّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } الخ، نفي وجدان قوم على هذه الصفة كناية عن أن الإيمان الصادق بالله واليوم الآخر لا يجامع موادَّة أهل المحادَّة والمعاندة من الكفار ولو قارن أي سبب من أسباب المودة كالأبوة والبنوة والأخوة وسائر أقسام القرابة فبين الإيمان وموادة أهل المحادة تضادّ لا يجتمعان لذلك.
وقد بان أن قوله: { ولو كانوا آباءهم } الخ، إشارة إلى أسباب المودة مطلقاً وقد خصَّت مودة النسب بالذكر لكونه أقوى أسباب المودة من حيث ثباته وعدم تغيره.
وقوله: { أولئك كتب في قلوبهم الإِيمان } الإشارة إلى القوم بما ذكر لهم من الصفة، والكتابة الإثبات بحيث لا يتغير ولا يزول والضمير لله وفيه نص على أنهم مؤمنون حقاً.
وقوله: { وأيّدهم بروح منه } التأييد التقوية، وضمير الفاعل في { أيّدهم } لله تعالى وكذا ضمير { منه } و "من" ابتدائية، والمعنى: وقوّاهم الله بروح من عنده تعالى، وقيل: الضمير للإيمان، والمعنى: وقوّاهم الله بروح من جنس الإيمان يحيي بها قلوبهم، ولا بأس به.
وقيل: المراد بالروح جبرائيل، وقيل: القرآن، وقيل: المراد بها الحجة والبرهان، وهذه وجوه ضعيفة لا شاهد لها من جهة اللفظ.
ثم الروح - على ما يتبادر من معناها - هي مبدأ الحياة التي تترشح منها القدرة والشعور فإبقاء قوله: { وأيَّدهم بروح منه } على ظاهره يفيد أن للمؤمنين وراء الروح البشرية التي يشترك فيها المؤمن والكافر روحاً أخرى تفيض عليهم حياة أخرى وتصاحبها قدرة وشعور جديدان، وإلى ذلك يشير قوله تعالى:
{ { أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها } [الأنعام: 122]، وقوله: { { من عمل صالحاً من ذكر أو أُنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حياة طيبة } [النحل: 97]. وما في الآية من طيب الحياة يلازم طيب أثرها وهو القدرة والشعور المتفرع عليهما الأعمال الصالحة، وهما المعبر عنهما في آية الأنعام المذكورة آنفاً بالنور ونظيرها قوله: { { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به } [الحديد: 28]. وهذه حياة خاصة كريمة لها آثار خاصة ملازمة لسعادة الإنسان الأبدية وراء الحياة المشتركة بين المؤمن والكافر التي لها آثار مشتركة فلها مبدأ خاص وهو روح الإيمان التي تذكرها الآية وراء الروح المشتركة بين المؤمن والكافر.
وعلى هذا فلا موجب لما ذكروا أن المراد بالروح نور القلب وهو نور العلم الذي يحصل به الطمأنينة وأن تسميته روحاً مجاز مرسل لأنه سبب للحياة الطيبة الأبدية أو من الاستعارة لأنه في ملازمته وجوه العلم الفائض على القلب - والعلم حياة القلب كما أن الجهل موته - يشبه الروح المفيض للحياة. انتهى.
وقوله: { ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } وعد جميل ووصف لحياتهم الآخرة الطيبة.
وقوله: { رضي الله عنهم ورضوا عنه } استئناف يعلل قوله: { ويدخلهم جنات } الخ، ورضا الله سبحانه عنهم رحمته لهم لإخلاصهم الإيمان له ورضاهم عنه وابتهاجهم بما رزقهم من الحياة الطيبة والجنة.
وقوله: { أُولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون } تشريف لهؤلاء المخلصين في إيمانهم بأنهم حزبه تعالى كما أن أُولئك المنافقين الموالين لأعداء الله حزب الشيطان وهؤلاء مفلحون كما أن أُولئك خاسرون.
وفي قوله: { ألا إن حزب الله } وضع الظاهر موضع الضمير ليجري الكلام مجرى المثل السائر.
(بحث روائي)
في المجمع في قوله تعالى: { كتب الله لأغلبنَّ أنا ورسلي } روي أن المسلمين قالوا لما رأوا ما يفتح الله عليهم من القرى: ليفتحنَّ الله علينا الروم وفارس فقال المنافقون: أتظنون أن فارس والروم كبعض القرى التي غلبتم عليها؟ فأنزل الله هذه الآية.
أقول: الظاهر أنه من قبيل تطبيق الآية على القصة ونظائره كثيرة، ولذا ورد في قوله تعالى: { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر } أنه نزل في أبي عبيدة بن الجراح قتل أباه يوم بدر وفي بعضها أنه نزل في أبي بكر سبّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فصكّه أبو بكر صكّة سقط على الأرض فنزلت الآية. وفي عبد الرحمن بن ثابت بن قيس بن الشماس استأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يزور خاله من المشركين فأذن له فلما قدم قرأ عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن حوله من المسلمين الآية.
وهذه روايات لا يلائمها ما في الآيات من الاتصال الظاهر.
وفي الدر المنثور أخرج الطيالسي وابن أبي شيبة عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله"
]. وفي الكافي بإسناده إلى أبان بن تغلب عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما من مؤمن إلا ولقلبه أُذنان في جوفه: أُذن ينفث فيها الوسواس الخناس وأُذن ينفث فيها الملك فيؤيد الله المؤمن بالملك فذلك قوله: { وأيَّدهم بروح منه }.
أقول: ليس معناه تفسير الروح بالملك بل الملك يصاحب الروح ويعمل به، قال تعالى:
{ { ينزِّل الملائكة بالروح من أمره } [النحل: 2]. وفيه بإسناده إلى ابن بكير قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: في قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا زنا الرجل فارقه روح الإيمان. قال: هو قوله: { وأيَّدهم بروح منه } ذلك الذي يفارقه.
وفيه بإسناده إلى محمد بن سنان عن أبي خديجة قال: دخلت على أبي الحسن عليه السلام فقال لي: إن الله تبارك وتعالى أيَّد المؤمن بروح تحضره في كل وقت يحسن فيه ويتقي وتغيب عنه في كل وقت يذنب فيه ويعتدي فهي معه تهتزّ سروراً عند إحسانه وتسيخ في الثرى عند إساءته، فتعاهدوا عباد الله نعمه بإصلاحكم أنفسكم تزدادوا يقيناً وتربحوا نفيساً ثميناً، رحم الله امرءً همَّ بخير فعمله أو همَّ بشرّ فارتدع عنه. ثم قال: نحن نؤيد الروح بالطاعة لله والعمل له.
أقول: قد تبين مما تقدم في ذيل الآية أن هذه الروح من مراتب الروح الإنساني ينالها المؤمن عندما يستكمل الإيمان فليست مفارقة له كما أن الروح النباتية والحيوانية والإنسانية المشتركة بين المؤمن والكافر من مراتب روحه غير مفارقة له غير أنها تبتدئ هيئة حسنة في النفس ربما زالت لعروض هيئة سيئة تضادّها ثم ترجع إذا زالت الموانع المضادة حتى إذا استقرت ورسخت وتصوّرت النفس بها ثبتت ولم تتغير.
وبذلك يظهر أن المراد بقوله عليه السلام: بروح تحضره، وقوله: فهي معه، حضور صورتها حضور الهيئة العارضة القابلة للزوال، وبقوله: تسيخ في الثرى زوال الهيئة على طريق الاستعارة، وكذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الرواية السابقة: فارقه روح الإيمان.