التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَىٰ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
٧
أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نُهُواْ عَنِ ٱلنَّجْوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ ٱلرَّسُولِ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ ٱللَّهُ وَيَقُولُونَ فِيۤ أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ
٨
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ ٱلرَّسُولِ وَتَنَاجَوْاْ بِٱلْبِرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
٩
إِنَّمَا ٱلنَّجْوَىٰ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ
١٠
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلْمَجَالِسِ فَٱفْسَحُواْ يَفْسَحِ ٱللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَانشُزُواْ يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
١١
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ ٱلرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٢
ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
١٣
-المجادلة

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
آيات في النجوى وبعض آداب المجالسة.
قوله تعالى: { ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض } الاستفهام إنكاري، والمراد بالرؤية العلم اليقيني على سبيل الاستعارة، والجملة تقدمة يعلل بها ما يتلوها من كونه تعالى مع أهل النجوى مشاركاً لهم في نجواهم.
قوله تعالى: { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم } إلى آخر الآية النجوى مصدر بمعنى التناجي وهو المسارة، وضمائر الإفراد لله سبحانه، والمراد بقوله: { رابعهم } و { سادسهم } جاعل الثلاثة أربعة وجاعل الخمسة ستة بمشاركته لهم في العلم بما يتناجون فيه ومعيته لهم في الإطلاع على ما يسارون فيه كما يشهد به ما احتفَّ بالكلام من قوله في أول الآية: { ألم تر أن الله يعلم } الخ، وفي آخرها من قوله: { إن الله بكل شيء عليم }.
وقوله: { ولا أدنى من ذلك ولا أكثر } أي ولا أقل مما ذكر من العدد ولا أكثر مما ذكر، وبهاتين الكلمتين يشمل الكلام عدد أهل النجوى أياً ما كان أما الأدنى من ذلك فالأدنى من الثلاثة الاثنان والأدنى من الخمسة الأربعة، وأما الأكثر فالأكثر من خمسة الستة فما فوقها.
ومن لطف سياق الآية ترتب ما أُشير إليه من مراتب العدد: الثلاثة والأربعة والخمسة والستة من غير تكرار فلم يقل: من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا أربعة إلا هو خامسهم وهكذا.
وقوله: { إلا هو معهم أينما كانوا } المراد به المعية من حيث العلم بما يتناجون به والمشاركة لهم فيه.
وبذلك يظهر أن المراد بكونه تعالى رابع الثلاثة المتناجين وسادس الخمسة المتناجين معيته لهم في العلم ومشاركته لهم في الاطلاع على ما يسارون لا مماثلته لهم في تتميم العدد فإن كلاً منهم شخص واحد جسماني يكون بانضمامه إلى مثله عدد الاثنين وإلى مثليه الثلاثة والله سبحانه منزه عن الجسمية بريء من المادية.
وذلك أن مقتضى السياق أن المستثنى من قوله: { ما يكون من نجوى } الخ، معنى واحد وهو أن الله لا يخفى عليه نجوى فقوله: { إلا هو رابعهم } { إلا هو سادسهم } في معنى قوله: { إلا هو معهم } وهو المعية العلمية أي أنه يشاركهم في العلم ويقارنهم فيه أو المعية الوجودية بمعنى أنه كلما فرض قوم يتناجون فالله سبحانه هناك سميع عليم.
وفي قوله: { أينما كانوا } تعميم من حيث المكان إذ لما كانت معيته تعالى لهم من حيث العلم لا بالاقتران الجسماني لم يتفاوت الحال ولم يختلف باختلاف الأمكنة بالقرب والبعد فالله سبحانه لا يخلو منه مكان وليس في مكان.
وبما تقدم يظهر أيضاً أن - ما تفيده الآية من معيته تعالى لأصحاب النجوى وكونه رابع الثلاثة منهم وسادس الخمسة منهم لا ينافي ما تقدم تفصيلاً في ذيل قوله تعالى:
{ { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } [المائدة: 72]، من أن وحدته تعالى ليست وحدة عددية بل وحدة أحدية يستحيل معها فرض غير معه يكون ثانياً له فالمراد بكونه معهم ورابعاً للثلاثة منهم وسادساً للخمسة منهم أنه عالم بما يتناجون به وظاهر مكشوف له ما يخفونه من غيرهم لا أن له وجوداً محدوداً يقبل العد يمكن أن يفرض له ثان وثالث وهكذا.
وقوله: { ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة } أي يخبرهم بحقيقة ما عملوا من عمل ومنه نجواهم ومسارتهم.
وقوله: { إن الله بكل شيء عليم } تعليل لقوله: { ثم ينبئهم } الخ، وتأكيد لما تقدم من علمه بما في السماوات وما في الأرض، وكونه مع أصحاب النجوى.
والآية تصلح أن تكون توطئة وتمهيداً لمضمون الآيات التالية ولا يخلو ذيلها من لحن شديد يرتبط بما في الآيات التالية من الذم والتهديد.
قوله تعالى: { ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه } إلى آخر الآية سياق الآيات يدل على أن قوماً من المنافقين والذين في قلوبهم مرض من المؤمنين كانوا قد أشاعوا بينهم النجوى محادة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين يتناجون بينهم بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وليؤذوا بذلك المؤمنين ويحزنون وكانوا يصرون على ذلك من غير أن ينتهوا بنهي فنزلت الآيات.
فقوله: { ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه } ذم وتوبيخ غيابي لهم، وقد خاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يخاطبهم أنفسهم مبالغة في تحقير أمرهم وإبعاداً لهم عن شرف المخاطبة.
والمعنى: ألم تنظر إلى الذين نهوا عن التناجي بينهم بما يغمُّ المؤمنين ويحزنهم ثم يعودون إلى التناجي الذي نهوا عنه عودة بعد عودة، وفي التعبير بقوله: { يعودون } دلالة على الاستمرار، وفي العدول عن ضمير النجوى إلى الموصول والصلة حيث قيل: { يعودون لما نهوا عنه } ولم يقل "يعودون إليها" دلالة على سبب الذم والتوبيخ ومساءة العود لأنها أمر منهي عنه.
وقوله: { ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول } المقابلة بين الأمور الثلاثة: الإثم والعدوان ومعصية الرسول تفيد أن المراد بالإثم هو العمل الذى له أثر سيء لا يتعدى نفس عامله كشرب الخمر والميسر وترك الصلاة مما يتعلق من المعاصي بحقوق الله، والعدوان هو العمل الذي فيه تجاوز إلى الغير مما يتضرر به الناس ويتأذون مما يتعلق من المعاصي بحقوق الناس، والقسمان أعني الإثم والعدوان جميعاً من معصية الله، ومعصية الرسول مخالفته في الأمور التي هي جائزة في نفسها لا أمر ولا نهي من الله فيها لكن الرسول أمر بها أو نهى عنها لمصلحة الأُمة بما له ولاية أُمورهم والنبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم كما نهاهم عن النجوى وإن لم يشتمل على معصية.
كان ما تقدم من قوله: { الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه } ذماً وتوبيخاً لهم على نفس نجواهم بما أنها منهي عنها مع الغض عن كونها بمعصية أو غيرها، وهذا الفصل أعنى قوله: { ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول } ذم وتوبيخ لهم بما يشتمل عليه تناجيهم من المعصية بأنواعها وهؤلاء القوم هم المنافقون ومرضى القلوب كانوا يكثرون من النجوى بينهم ليغتمَّ بها المؤمنون ويحزنوا ويتأذوا.
وقيل: المنافقون واليهود كان يناجي بعضهم بعضاً ليحزنوا المؤمنين ويلقوا بينهم الوحشة والفزع ويوهنوا عزمهم لكن في شمول قوله: { الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه } لليهود خفاء.
وقوله: { وإذا جاءوك حيّوك بما لم يحيك به الله } فإن الله حيَّاه بالتسليم وشرع له ذلك تحية من عند الله مباركة طيبة وهم كانوا يحيونه بغيره. قالوا: هؤلاء هم اليهود كانوا إذا أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: السام عليك - والسام هو الموت - وهم يوهمون أنهم يقولون: السلام عليك، ولا يخلو من شيء فإن الضمير في { جاءوك } و{ حيوك } للموصول في قوله: { الذين نهوا عن النجوى } وقد عرفت أن في شموله لليهود خفاء.
وقوله: { ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول } معطوف على { حيوك } أو حال وظاهره أن ذلك منهم من حديث النفس مضمرين ذلك في قلوبهم، وهو تحضيض بداعي الطعن والتهكم فيكون من المنافقين إنكاراً لرسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على طريق الكناية والمعنى: أنهم يحيونك بما لم يحيّك به الله وهم يحدثون أنفسهم بدلالة قولهم ذلك - ولولا يعذبهم الله به - على أنك لست برسول من الله ولو كنت رسوله لعذبهم بقولهم.
وقيل: المراد بقوله: { ويقولون في أنفسهم } يقولون فيما بينهم بتحديث بعض منهم لبعض ولا يخلو من بعد.
وقد ردَّ الله عليهم احتجاجهم بقولهم: { لولا يعذبنا الله بما نقول } بقوله: { حسبهم جهنم يصلونها وبئس المصير } أي إنهم مخطئون في نفيهم العذاب فهم معذبون بما أُعدَّ لهم من العذاب وهو جهنم التي يدخلونها ويقاسون حرَّها وكفى بها عذاباً لهم.
وكأن المنافقين ومن يلحق بهم لما لم ينتهوا بهذه المناهي والتشديدات نزل قوله تعالى:
{ { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينَّك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً. ملعونين أين ما ثُقفوا أُخذوا وقُتِّلوا تقتيلاً } [الأحزاب: 60-61] الآيات.
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول } الخ، لا يخلو سياق الآيات من دلالة على أن الآية نزلت في رفع الخطر وقد خوطب فيها المؤمنون فأجيز لهم النجوى واشترط عليهم أن لا يكون تناجياً بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وأن يكون تناجياً بالبر والتقوى والبر وهو التوسع في فعل الخير يقابل العدوان، والتقوى مقابل الإثم ثم أكد الكلام بالأمر بمطلق التقوى بإنذارهم بالحشر بقوله: { واتقوا الله الذي إليه تحشرون }.
قوله تعالى: { إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارِّهم شيئاً إلا بإذن الله } الخ، المراد بالنجوى - على ما يفيده السياق - هو النجوى الدائرة في تلك الأيام بين المنافقين ومرضى القلوب وهي من الشيطان فإنه الذي يزيّنها في قلوبهم ليتوسل بها إلى حزنهم ويشوّش قلوبهم ليوهمهم أنها في نائبة حلَّت بهم وبليَّة أصابتهم.
ثم طيَّب الله سبحانه قلوب المؤمنين بتذكيرهم أن الأمر إلى الله سبحانه وأن الشيطان أو التناجي لا يضرُّهم شيئاً إلا بإذن الله فليتوكلوا عليه ولا يخافوا ضرّه وقد نصَّ سبحانه في قوله:
{ { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } [الطلاق: 3] أنه يكفي من توكل عليه، واستنهضهم على التوكل بأنه من لوازم إيمان المؤمن فإن يكونوا مؤمنين فليتوكلوا عليه فهو يكفيهم. وهذا معنى قوله: { وليس بضارِّهم شيئاً إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون }.
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسَّحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم } الخ، التفسُّح الاتساع وكذا الفسح، والمجالس جمع مجلس اسم مكان، والاتساع في المجلس أن يتسع الجالس ليسع المكان غيره وفسح الله له أن يوسع له في الجنة.
والآية تتضمن أدباً من آداب المعاشرة، ويستفاد من سياقها أنهم كانوا يحضرون مجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيجلسون ركاماً لا يدع لغيرهم من الواردين مكاناً يجلس فيه فادَّبوا بقوله: { إذا قيل لكم تفسَّحوا } الخ، والحكم عام وإن كان مورد النزول مجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم توسَّعوا في المجالس ليسع المكان معكم غيركم فتوسَّعوا وسَّع الله لكم في الجنة.
وقوله: { وإذا قيل انشزوا فانشزوا } يتضمن أدباً آخر، والنشوز - كما قيل - الارتفاع عن الشيء بالذهاب عنه، والنشوز عن المجلس أن يقوم الإنسان عن مجلسه ليجلس فيه غيره إعظاماً له وتواضعاً لفضله.
والمعنى: وإذا قيل لكم قوموا ليجلس مكانكم من هو أفضل منكم في علم أو تقوى فقوموا.
وقوله: { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أُوتوا العلم درجات } لا ريب في أن لازم رفعه تعالى درجة عبد من عباده مزيد قربه منه تعالى، وهذا قرينة عقلية على أن المراد بهؤلاء الذين أُوتوا العلم العلماء من المؤمنين فتدلُّ الآية على انقسام المؤمنين إلى طائفتين: مؤمن ومؤمن عالم، والمؤمن العالم أفضل وقد قال تعالى:
{ { هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } [الزمر: 9]. ويتبين بذلك أن ما ذكر من رفع الدرجات في الآية مخصوص بالذين أُوتوا العلم ويبقى لسائر المؤمنين من الرفع الرفع درجة واحدة ويكون التقدير يرفع الله الذين آمنوا منكم درجة ويرفع الذين أُوتوا العلم منكم درجات.
وفي الآية من تعظيم أمر العلماء ورفع قدرهم ما لا يخفى. وأكد الحكم بتذييل الآية بقوله: { والله بما تعملون خبير }.
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة } الخ، أي إذا أردتم أن تناجوا الرسول فتصدقوا قبلها.
وقوله: { ذلك خير لكم وأطهر } تعليل للتشريع نظير قوله:
{ { وأن تصوموا خير لكم } [البقرة: 184]، ولا شك أن المراد بكونها خيراً لهم وأطهر أنها خير لنفوسهم وأطهر لقلوبهم ولعل الوجه في ذلك أن الأغنياء منهم كانوا يكثرون من مناجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يظهرون بذلك نوعاً من التقرب إليه والاختصاص به وكان الفقراء منهم يحزنون بذلك وينكسر قلوبهم فأمروا أن يتصدقوا بين يدي نجواهم على فقرائهم بما فيها من ارتباط النفوس وإثارة الرحمة والشفقة والمودة وصلة القلوب بزوال الغيظ والحنق.
وفي قوله: { ذلك } التفات إلى خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين خطابين للمؤمنين وفيه تجليل لطيف له صلى الله عليه وآله وسلم حيث إن حكم الصدقة مرتبط بنجواه صلى الله عليه وآله وسلم والالتفات إليه فيما يرجع إليه من الكلام مزيد عناية به.
وقوله: { فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم } أي فإن لم تجدوا شيئاً تتصدقون به فلا يجب عليكم تقديمها وقد رخص الله لكم في نجواه وعفا عنكم إنه غفور رحيم فقوله: { فإن الله غفور رحيم } من وضع السبب موضع المسبب.
وفيه دلالة على رفع الوجوب عن المعدمين كما أنه قرينة على إرادة الوجوب في قوله: { فقدموا } الخ، ووجوبه على الموسرين.
قوله تعالى: { ءأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات } الخ، الآية ناسخة لحكم الصدقة المذكور في الآية السابقة، وفيه عتاب شديد لصحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين حيث إنهم تركوا مناجاته صلى الله عليه وآله وسلم خوفاً من بذل المال بالصدقة فلم يناجه أحد منهم إلا عليّ عليه السلام فإنه ناجاه عشر نجوات كلما ناجاه قدم بين يدي نجواه صدقة ثم نزلت الآية ونسخت الحكم.
والإشفاق الخشية، وقوله: { أن تقدموا } الخ، مفعوله والمعنى: أخشيتم التصدق وبذل المال للنجوى، واحتمل أن يكون المفعول محذوفاً والتقدير أخشيتم الفقر لأجل بذل المال.
قال بعضهم: جمع الصدقات لما أن الخوف لم يكن في الحقيقة من تقديم صدقة واحدة لأنه ليس مظنة الفقر بل من استمرار الأمر وتقديم صدقات.
وقوله: { فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } الخ، أي فإذا لم تفعلوا ما كلفتم به ورجع الله اليكم العفو والمغفرة فأثبتوا على امتثال سائر التكاليف من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
ففي قوله: { وتاب الله عليكم } دلالة على كون ذلك منهم ذنباً ومعصية غير أنه تعالى غفر لهم ذلك.
وفي كون قوله: { فأقيموا الصلاة } الخ، متفرعاً على قوله: { فإذ لم تفعلوا } الخ، دلالة على نسخ حكم الصدقة قبل النجوى.
وفي قوله: { وأطيعوا الله ورسوله } تعميم لحكم الطاعة لسائر التكاليف بإيجاب الطاعة المطلقة، وفي قوله: { والله خبير بما تعملون } نوع تشديد يتأكد به حكم وجوب طاعة الله ورسوله.
(بحث روائي)
في المجمع وقرأ حمزة ورويس عن يعقوب "ينتجون" والباقون "يتناجون" ويشهد لقراءة حمزة قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في علي عليه السلام - لما قال له بعض أصحابه: أتناجيه دوننا -؟ ما أنا انتجيته بل الله انتجاه.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد وعبد بن حميد والبزار وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان بسند جيد عن ابن عمر أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سام عليك يريدون بذلك شتمه ثم يقولون في أنفسهم: { لولا يعذبنا الله بما نقول } فنزلت هذه الآية { وإذا جاءوك حيّوك بما لم يحيِّك به الله }.
وفيه أخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في هذه الآية قال: كان المنافقون يقولون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سام عليك فنزلت.
أقول: وهذه الرواية أقرب إلى التصديق من سابقتها لما تقدم في تفسير الآية، وفي رواية القمي في تفسيره أنهم كانوا يحيّونه بقولهم: أنعم صباحاً وأنعم مساء، وهو تحية أهل الجاهلية.
وفي المجمع في قوله تعالى: { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أُوتوا العلم درجات } وقد ورد أيضاً في الحديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال:
"فضل العالم على الشهيد درجة، وفضل الشهيد على العابد درجة، وفضل النبي على العالم درجة، وفضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على سائر خلقه، وفضل العالم على سائر الناس كفضلي على أدناهم"
. رواه جابر بن عبد الله.
أقول: وذيل الرواية لا يخلو من شيء فإن ظاهر رجوع الضمير في "أدناهم" إلى الناس اعتبار مراتب في الناس فمنهم الأعلى ومنهم المتوسط، وإذا كان فضل العالم على سائر الناس وفيهم الأعلى رتبة كفضل النبي على أدنى الناس كان العالم أفضل من النبي وهو كما ترى.
اللهم إلا أن يكون الأدنى بمعنى الأقرب والمراد بأدناهم أقربهم من النبي وهو العالم كما يلوح من قوله: وفضل النبي على العالم درجة، فيكون المفاد أن فضل العالم على سائر الناس كفضلي على أقربهم مني وهو العالم.
وفي الدر المنثور أخرج سعيد بن منصور وابن راهويه وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه عن علي قال: إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها بعدي آية النجوى { يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدِّموا بين يدي نجواكم صدقة } كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم فكنت كلما ناجيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدّمت بين يدي نجواي درهماً ثم نسخت فلم يعمل بها أحد فنزلت { ءأشفقتم أن تقدِّموا بين يدي نجواكم صدقات } الآية.
وفي تفسير القمي بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن قول الله عز وجل: { إذا ناجيتم الرسول فقدِّموا بين يدي نجواكم صدقة } قال: قدم علي بن أبي طالب عليه السلام بين يدي نجواه صدقة ثم نسخها بقوله: { ءأشفقتم أن تقدِّموا بين يدي نجواكم صدقات }.
أقول: وفي هذا المعنى روايات أُخر من طرق الفريقين.