التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
١١
لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ
١٢
لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ ٱللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ
١٣
لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ
١٤
كَمَثَلِ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
١٥
كَمَثَلِ ٱلشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ ٱكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنكَ إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ
١٦
فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي ٱلنَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلظَّالِمِينَ
١٧
-الحشر

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
إشارة إلى حال المنافقين ووعدهم لبني النضير بالنصر إن قوتلوا والخروج معهم إن أُخرجوا وتكذيبهم فيما وعدوا.
قوله تعالى: { ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب } الخ، الإخوان كالإخوة جمع أخ والأُخوة الاشتراك في الانتساب إلى أب ويتوسع فيه فيستعمل في المشتركين في اعتقاد أو صداقة ونحو ذلك، ويكثر استعمال الإخوة في المشتركين في النسبة إلى أب واستعمال الإخوان في المشتركين في اعتقاد ونحوه على ما قيل.
والاستفهام في الآية للتعجيب، والمراد بالذين نافقوا عبد الله بن أُبيّ وأصحابه، والمراد بإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب بنو النضير على ما يؤيده السياق فإن مفاد الآيات أنهم كانوا قوماً من أهل الكتاب دار أمرهم بين الخروج والقتال بعد قوم آخر كذلك وليس إلا بني النضير بعد بني قينقاع.
وقوله: { لئن أُخرجتم لنخرجنَّ معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً وإن قوتلتم لننصرنكم } مقول قول المنافقين، واللام في { لئن أخرجتم } للقسم أي نقسم لئن أخرجكم المسلمون من دياركم لنخرجنَّ من ديارنا معكم ملازمين لكم ولا نطيع فيكم أي في شأنكم أحداً يشير علينا بمفارقتكم أبداً، وإن قاتلكم المسلمون لننصرنكم عليهم.
وقوله: { والله يشهد إنهم لكاذبون } تكذيب لوعد المنافقين، وتصريح بأنهم لا يفون بوعدهم.
قوله تعالى: { لئن أُخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم } تكذيب تفصيلي لوعدهم بعد تكذيبه الإجمالي بقوله: { والله يشهد إنهم لكاذبون } وقد كرر فيه لام القسم، والمعنى: أُقسم لئن أُخرج بنو النضير لا يخرج معهم المنافقون، وأُقسم لئن قوتلوا لا ينصرونهم.
قوله تعالى: { ولئن نصروهم ليولّنَّ الأدبار ثم لا ينصرون } إشارة إلى أن نصرهم على تقدير وقوعه منهم - ولن يقع أبداً - لا يدوم ولا ينفعهم بل يولون الأدبار فراراً ثم لا ينصرون بل يهلكون من غير أن ينصرهم أحد.
قوله تعالى: { لأنتم أشدُّ رهبة في صدورهم من الله } الخ، ضمائر الجمع للمنافقين، والرهبة الخشية، والآية في مقام التعليل لقوله: { ولئن نصروهم ليولّنَّ الأدبار } أي ذلك لأنهم يرهبونكم أشد من رهبتهم لله فلا يقاومونكم لو قاتلتم ولا يثبتون لكم.
وعلل ذلك بقوله: { ذلك بأنهم قوم لا يفقهون } والإشارة بذلك إلى كون رهبتهم للمؤمنين أشد من رهبتهم لله أي رهبتهم لكم كذلك لأنهم قوم لا يفهمون حق الفهم ولو فقهوا حقيقة الأمر بان لهم أن الأمر إلى الله تعالى وليس لغيره من الأمر شيء سواء في ذلك المسلمون وغيرهم، ولا يقوى غيره تعالى على عمل خير أو شر أو نافع أو ضار إلا بحول منه تعالى وقوة فلا ينبغي أن يرهب إلا هو عز وجل.
قوله تعالى: { لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر } بيان لأثر رهبتهم وجبنهم جميعاً والمعنى: لا يقاتلكم بنو النضير والمنافقون جميعاً بأن يبرزوا بل في قرى حصينة محكمة أو من وراء جدر من غير بروز.
وقوله: { بأسهم بينهم شديد } أي هم فيما بينهم شديدوا البطش غير أنهم إذا برزوا لحربكم وشاهدوكم يجبنون بما ألقى الله في قلوبهم من الرعب.
وقوله: { تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى } أي تظن أنهم مجتمعون في أُلفة واتحاد والحال أن قلوبهم متفرقة غير متحدة وذلك أقوى عامل في الخزي والخذلان. ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ولو عقلوا لاتحدوا ووحدوا الكلمة.
قوله تعالى: { كمثل الذين من قبلهم قريباً ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم } الوبال العاقبة السيئة وقوله: { قريباً } قائم مقام الظروف منصوب على الظرفية أي في زمان قريب.
وقوله: { كمثل } الخ، خبر مبتدأ محذوف والتقدير "مثلهم كمثل" الخ، والمعنى: مثلهم أي مثل بني النضير من اليهود في نقضهم العهد ووعد المنافقين لهم بالنصر كذباً ثم الجلاء مثل الذين من قبلهم في زمان قريب وهم بنو قينقاع رهط آخر من يهود المدينة نقضوا العهد بعد غزوة بدر فأجلاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أذرعات وقد كان وعدهم المنافقون أن يكلموا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهم ويمنعوه من إجلائهم فغدروا بهم فذاق بنو قينقاع وبال أمرهم ولهم في الآخرة عذاب أليم وقيل: المراد بالذين من قبلهم كفار مكة يوم بدر وما تقدم أنسب للسياق.
والمثل على أي حال مثل لبني النضير لا للمنافقين على ما يعطيه السياق.
قوله تعالى: { كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك } الخ، ظاهر السياق أنه مثل للمنافقين في غرورهم بني النضير بوعد النصر ثم خذلانهم عند الحاجة.
وظاهر السياق يفيد أن المراد بالشيطان والإنسان الجنس والإشارة إلى غرور الشيطان للإنسان بدعوته إلى الكفر بتزيين أمتعة الحياة له وتسويل الإعراض عن الحق بمواعيده الكاذبة والأماني السرابية حتى إذا طلعت له طلائع الآخرة وعاين أن ما اغتر به من أماني الحياة الدنيا لم يكن إلا سراباً يغره وخيالاً يلعب به تبرأ منه الشيطان ولم يف بما وعده وقال: إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين.
وبالجملة مثل المنافقين في دعوتهم بني النضير إلى مخالفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووعدهم النصر ثم الغدر بهم وخلف الوعد كمثل هذا الشيطان في دعوة الإنسان إلى الكفر بمواعيده الكاذبة ثم تبريه منه بعد الكفر عند الحاجة.
وقيل: المراد بالتمثيل الإشارة إلى قصة برصيصا العابد الذي زين له الشيطان الفجور ففجر بامرأة ثم كفر وسيأتي القصة في البحث الروائي التالي إن شاء الله.
وقيل: المثل السابق المذكور في قوله: { كمثل الذين من قبلهم قريباً } مثل كفار مكة يوم بدر - كما تقدم - والمراد بالإنسان في هذا المثل أبو جهل وبقول الشيطان له اكفر ما قصه الله تعالى بقوله في القصة:
{ { وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب } [الأنفال: 48]. وعلى هذا الوجه فقول الشيطان: { إني أخاف الله رب العالمين } قول جدي لأنه كان يخاف تعذيب الملائكة النازلين لنصرة المؤمنين ببدّر وأما على الوجهين الأولين فهو نوع من الاستهزاء والإخزاء.
قوله تعالى: { فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين } الظاهر أن ضمائر التثنية للشيطان والإنسان المذكورين في المثل ففي الآية بيان عاقبة الشيطان في غروره الإنسان وإضلاله والإنسان في اغتراره به وضلاله، وإشارة إلى أن ذلك عاقبة المنافقين في وعدهم لبني النضير وغدرهم بهم وعاقبة بني النضير في اغترارهم بوعدهم الكاذب وإصرارهم على المشاقة والمخالفة، ومعنى الآية ظاهر.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن إسحاق وابن المنذر وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس أن رهطاً من بني عوف بن الحارث منهم عبد الله بن أُبي بن سلول ووديعة بن مالك وسويد وداعس بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا وتمنعوا فإنا لا نسلمكم وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن خرجتم خرجنا معكم فتربصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا وقذف الله الرعب في قلوبهم.
فسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة ففعل فكان الرجل منهم يهدم بيته فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به فخرجوا إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام.
أقول: والرواية تخالف ما في عدة من الروايات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي عرض لهم أن يخرجوا بما تحمله الإبل من الأموال فلم يقبلوا ثم رضوا بذلك بعد أيام فلم يقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن يخرجوا بأنفسهم وأهليهم من غير أن يحملوا شيئاً فخرجوا كذلك وجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكل ثلاثة منهم بعيراً وسقاء.
وفيه أخرج ابن مردويه عن ابن عباس { ألم تر إلى الذين نافقوا } قال: عبد الله بن أُبي بن سلول ورفاعة بن تابوت وعبد الله بن نبتل وأوس بن قيظي. { وإخوانهم } بنو النضير.
أقول: المراد به عد بعضهم فلا ينافي ما في الرواية السابقة.
وفيه أخرج ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن عبيد بن رفاعة الدارمي يبلغ به النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كان راهب في بني إسرائيل فأخذ الشيطان جارية فحنقها فألقى في قلوب أهلها أن دواءها عند الراهب فأتي بها الراهب فأبى أن يقبلها فلم يزالوا به حتى قبلها فكانت عنده.
فأتاه الشيطان فوسوس له وزين له فلم يزل به حتى وقع عليها فلما حملت وسوس له الشيطان فقال: الآن تفتضح يأتيك أهلها فاقتلها فإن أتوك فقل: ماتت فقتلها ودفنها فأتى الشيطان أهلها فوسوس إليهم وألقى في قلوبهم أنه أحبلها ثم قتلها فأتاه أهلها فسألوه فقال: ماتت فأخذوه.
فأتاه الشيطان فقال: أنا الذي ألقيت في قلوب أهلها، وأنا الذي أوقعتك في هذا فأطعني تنج واسجد لي سجدتين فسجد له سجدتين فهو الذي قال الله: { كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر } الآية.
أقول: والقصة مشهورة رويت مختصرة ومفصلة في روايات كثيرة.