التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
١٨
وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ
١٩
لاَ يَسْتَوِيۤ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ هُمُ ٱلْفَآئِزُونَ
٢٠
لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
٢١
هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ
٢٢
هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْمَلِكُ ٱلْقُدُّوسُ ٱلسَّلاَمُ ٱلْمُؤْمِنُ ٱلْمُهَيْمِنُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْجَبَّارُ ٱلْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ
٢٣
هُوَ ٱللَّهُ ٱلْخَالِقُ ٱلْبَارِىءُ ٱلْمُصَوِّرُ لَهُ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٢٤
-الحشر

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
الذي تتضمنه الآيات الكريمة كالنتيجة المأخوذة مما تقدم من آيات السورة فقد أُشير فيها إلى مشاقّة بني النضير من اليهود ونقضهم العهد وذاك الذي أوقعهم في خسران دنياهم وأُخراهم، وتحريض المنافقين لهم على مشاقة الله ورسوله وهو الذي أهلكهم، وحقيقة السبب في ذلك أنهم لم يراقبوا الله في أعمالهم ونسوه فأنساهم أنفسهم فلم يختاروا ما فيه خير أنفسهم وصلاح عاجلهم وآجلهم فتاهوا وهلكوا.
فعلى من آمن بالله ورسوله واليوم الآخر أن يذكر ربه ولا ينساه وينظر فيما يقدمه من العمل ليوم الرجوع إلى ربه فإن ما عمله محفوظ عليه يحاسبه به الله يومئذ فيجازيه عليه جزاء لازماً لا يفارقه.
وهذا هو الذي يرومه قوله: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدَّمت لغد } الآيات فتندب المؤمنين إلى أن يذكروا الله سبحانه ولا ينسوه وينظروا في أعمالهم التي على صلاحها وطلاحها يدور رحى حياتهم الآخرة فيراقبوا أعمالهم أن تكون صالحة خالصة لوجهه الكريم مراقبة مستمرة ثم يحاسبوا أنفسهم فيشكروا الله على ما عملوا من حسنة ويوبّخوها ويزجروها على ما اقترفت من سيئة ويستغفروا.
وذكر الله تعالى بما يليق بساحة عظمته وكبريائه من أسمائه الحسنى وصفاته العليا التي بيَّنها القرآن الكريم في تعليمه هو السبيل الوحيد الذي ينتهي بسالكه إلى كمال العبودية ولا كمال للإنسان فوقه.
وذلك أن الإنسان عبد محض ومملوك طلق لله سبحانه فهو مملوك من كل جهة مفروضة لا استقلال له من جهة كما أنه تعالى مالكه من كل جهة مفروضة له الاستقلال من كل جهة، وكمال الشيء محوضته في نفسه وآثاره فكمال الإنسان في أن يرى نفسه مملوكاً لله من غير استقلال وأن يتصف من الصفات بصفات العبودية كالخضوع والخشوع والذلة والاستكانة والفقر بالنسبة إلى ساحة العظمة والعزة والغنى وأن تجري أعماله وأفعاله على ما يريده الله لا ما يهواه نفسه من غير غفلة في شيء من هذه المراحل: الذات والصفات والأفعال.
ولا يتمُّ له النظر إلى ذاته وصفاته وأفعاله بنظرة التبعية المحضة والمملوكية الطلقة إلا مع التوجه الباطني إلى ربه الذي هو على كل شيء شهيد وبكل شيء محيط وهو القائم على كل نفس بما كسبت من غير أن يغفل عنه أو ينساه.
وعندئذ يطمئن قلبه كما قال تعالى:
{ { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } [الرعد: 28]، ويعرف الله سبحانه بصفات كماله التي تتضمنها أسماؤه الحسنى، ويظهر منه قبال ذلك صفات عبوديته وجهات نقصه من خضوع وخشوع وذلة وفقر وحاجة.
ويتعقب ذلك أعماله الصالحة بدوام الحضور واستمرار الذكر، قال تعالى:
{ { واذكر ربك في نفسك تضرُّعاً وخيفة ودون الجهر من القول بالغدوِّ والآصال ولا تكن من الغافلين إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون } [الأعراف: 205-206] وقال: { { فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون } [فصلت: 38]. وإلى ما ذكرنا من معرفته تعالى بصفات كماله ومعرفة النفس بما يقابلها من صفات النقص والحاجة يشير بمقتضى السياق قوله: { لو أنزلنا هذا القرآن } إلى آخر الآيات.
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدَّمت لغد } إلى آخر الآية، أمر للمؤمنين بتقوى الله وبأمر آخر وهو النظر في الأعمال التي قدموها ليوم الحساب أهي صالحة فليرج بها ثواب الله أو طالحة فليخشَ عقاب الله عليها ويتدارك بالتوبة والإنابة وهو محاسبة النفس.
أما التقوى وقد فسّر في الحديث بالورع عن محارم الله فحيث تتعلق بالواجبات والمحرمات جميعاً كانت هي الاجتناب عن ترك الواجبات وفعل المحرمات.
وأما النظر فيما قدمت النفس لغد فهو أمر آخر وراء التقوى نسبته إلى التقوى كنسبة النظر الإصلاحي ثانياً من عامل في عمله أو صانع فيما صنعه لتكميله ورفع نواقصه التي غفل عنها أو أخطأ فيها حين العمل والصنع.
فعلى المؤمنين جميعاً أن يتقوا الله فيما وجّه إليهم من التكاليف فيطيعوه ولا يعصوه ثم ينظروا فيما قدموه من الأعمال التي يعيشون بها في غد بعد ما حوسبوا بها أصالح فيرجى ثوابه أم طالح فيخاف عقابه فيتوبوا إلى الله ويستغفروه.
وهذا تكليف عام يشمل كل مؤمن لحاجة الجميع إلى إصلاح العمل وعدم كفاية نظر بعضهم عن نظر الآخرين غير أن القائم به من أهل الإيمان في نهاية القلة بحيث يكاد يلحق بالعدم وإلى ذلك يلوح لفظ الآية { ولتنظر نفس }.
فقوله: { ولتنظر نفس ما قدَّمت لغد } خطاب عام لجميع المؤمنين لكن لما كان المشتغل بهذا النظر من بين أهل الإيمان بل من بين أهل التقوى منهم في غاية القلة بل يكاد يلحق بالعدم لاشتغالهم بأعراض الدنيا واستغراق أوقاتهم في تدبير المعيشة وإصلاح أمور الحياة ألقى الخطاب في صورة الغيبة وعلّقه بنفس مّا منكّرة فقال: { ولتنظر نفس } وفي هذا النوع من الخطاب مع كون التكليف عاماً بحسب الطبع عتاب وتقريع للمؤمنين مع التلويح إلى قلة من يصلح لامتثاله منهم.
وقوله: { ما قدَّمت لغد } استفهام من ماهية العمل الذي قدَّمت لغد وبيان للنظر، ويمكن أن تكون { ما } موصولة وهي وصلتها متعلقاً بالنظر.
والمراد بغد يوم القيامة وهو يوم حساب الأعمال وإنما عبّر عنه بغد للإشارة إلى قربه منهم كقرب الغد من أمسه، قال تعالى:
{ { إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً } [المعارج: 6-7]. والمعنى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله بطاعته في جميع ما يأمركم به وينهاكم عنه، ولتنظر نفس منكم فيما عملته من عمل ولترَ ما الذي قدمته من عملها ليوم الحساب أهو عمل صالح أو طالح وهل عملها الصالح صالح مقبول أو مردود.
وقوله: { واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون } أمر بالتقوى ثانياً و{ إن الله خبير } الخ، تعليل له وتعليل هذه التقوى بكونه تعالى خبيراً بالأعمال يعطي أن المراد بهذه التقوى المأمور بها ثانياً هي التقوى في مقام المحاسبة والنظر فيها من حيث إصلاحها وإخلاصها لله سبحانه وحفظها عما يفسدها، وأما قوله في صدر الآية: { اتقوا الله } فالمراد به التقوى في أصل إتيان الأعمال بقصرها في الطاعات وتجنُّب المعاصي.
ومن هنا تبيَّن أن المراد بالتقوى في الموضعين مختلف فالأولى هي التقوى في أصل إتيان الأعمال، والثانية هي التقوى في الأعمال المأتيَّة من حيث إصلاحها وإخلاصها.
وظهر أيضاً أن قول بعضهم: إن الأولى للتوبة عما مضى من الذنوب والثانية لاتقاء المعاصي في المستقبل غير سديد ومثله ما قيل: إن الأولى في أداء الواجبات والثانية في ترك المحرمات، ومثله ما قيل: إن الأمر الثاني لتأكيد الأمر الأول فحسب.
قوله تعالى: { ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم } الخ، النسيان زوال صورة المعلوم عن النفس بعد حصولها فيها مع زوال مبدئه ويتوسع فيه مطلق على مطلق الإعراض عن الشيء بعدم ترتيب الأثر عليه قال تعالى:
{ { وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين } [الجاثية: 34]. والآية بحسب لب معناها كالتأكيد لمضمون الآية السابقة كأنه قيل: قدموا ليوم الحساب والجزاء عملاً صالحاً تحيى به أنفسكم ولا تنسوه. ثم لما كان سبب نسيان النفس نسيان الله تعالى إذ بنسيانه تعالى تنسى أسماؤه الحسنى وصفاته العليا التي ترتبط بها صفات الإنسان الذاتية من الذلة والفقر والحاجة فيتوهم الإنسان نفسه مستقلة في الوجود ويخيل إليه أن له لنفسه حياة وقدرة وعلماً وسائر ما يتراءى له من الكمال، ونظراؤه في الاستقلال سائر الأسباب الكونية الظاهرية تؤثر فيه وتتأثر عنه.
وعند ذلك يعتمد على نفسه وكان عليه أن يعتمد على ربه ويرجو ويخاف الأسباب الظاهرية وكان عليه أن يرجو ويخاف ربه، يطمئن إلى غير ربه وكان عليه أن يطمئن إلى ربه.
وبالجملة ينسى ربه والرجوع إليه ويعرض عنه بالإقبال إلى غيره، ويتفرع عليه أن ينسى نفسه فإن الذي يخيل إليه من نفسه أنه موجود مستقل الوجود يملك ما ظهر فيه من كمالات الوجود وإليه تدبير أمره مستمداً مما حوله من الأسباب الكونية وليس هذا هو الإنسان بل الإنسان موجود متعلق الوجود جهل كله عجز كله ذلة كله فقر كله وهكذا، وما له من الكمال كالوجود والعلم والقدرة والعزة والغنى وهكذا فلربه وإلى ربه انتهاؤه ونظراؤه في ذلك سائر الأسباب الكونية.
والحاصل لما كان سبب نسيان النفس نسيان الله تعالى حول النهي عن نسيان النفس في الآية إلى النهي عن نسيانه تعالى لأن انقطاع المسبب بانقطاع سببه أبلغ وآكد، ولم يقنع بمجرد النهي الكلي عن نسيانه بأن يقال: ولا تنسوا الله فينسيكم أنفسكم بل جرى بمثل إعطاء الحكم بالمثال ليكون أبلغ في التأثير وأقرب إلى القبول فنهاهم أن يكونوا كالذين نسوا الله مشيراً به إلى من تقدم ذكرهم من يهود بني النضير وبني قينقاع ومن حاله حالهم في مشاقة الله ورسوله.
فقال: { ولا تكونوا كالذين نسوا الله } ثم فرع عليه قوله: { فأنساهم أنفسهم } تفريع المسبب على سببه ثم عقبه بقوله: { أُولئك هم الفاسقون } فدل على أنهم فاسقون حقاً خارجون عن زي العبودية.
والآية وإن كانت تنهي عن نسيانه تعالى المتفرع عليه نسيان النفس لكنها بورودها في سياق الآية السابقة تأمر بذكر الله ومراقبته.
فقد بان من جميع ما تقدم في الآيتين أن الآية الأولى تأمر بمحاسبة النفس والثانية تأمر بالذكر والمراقبة.
قوله تعالى: { لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون } قال الراغب: الفوز الظفر بالخير مع حصول السلامة، انتهى. والسياق يشهد بأن المراد بأصحاب النار هم الناسون لله وبأصحاب الجنة هم الذاكرون لله المراقبون.
والآية حجة تامة على وجوب اللحوق بالذاكرين لله المراقبين له دون الناسين، تقريرها أن هناك قبيلين لا ثالث لهما وهما الذاكرون لله والناسون له لا بد للإنسان أن يلحق بأحدهما وليسا بمساويين حتى يتساوى اللحوقان ولا يبالي الإنسان بأيهما لحق؟ بل هناك راجح ومرجوح يجب اختيار الراجح على المرجوح والرجحان لقبيل الذاكرين لأنهم الفائزون لا غير فالترجيح لجانبهم فمن الواجب لكل نفس أن يختار اللحوق بقبيل الذاكرين.
قوله تعالى: { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله } الخ، في المجمع: التصدع التفرق بعد التلاؤم ومثله التفطر انتهى.
والكلام مسوق سوق المثل مبني على التخييل والدليل عليه قوله في ذيل الآية: { وتلك الأمثال نضربها للناس } الخ.
والمراد تعظيم أمر القرآن بما يشتمل عليه من حقائق المعارف وأُصول الشرائع والعبر والمواعظ والوعد والوعيد وهو كلام الله العظيم، والمعنى: لو كان الجبل مما يجوز أن ينزل عليه القرآن فأنزلناه عليه لرأيته - مع ما فيه من الغلظة والقسوة وكبر الجسم وقوة المقاومة قبال النوازل - متأثراً متفرقاً من خشية الله فإذا كان هذا حال الجبل بما هو عليه فالإنسان أحق بأن يخشع لله إذا تلاه أو تُلي عليه، وما أعجب حال أهل المشاقة والعناد لا تلين قلوبهم له ولا يخشعون ولا يخشون.
والالتفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة في قوله: { من خشية الله } للدلالة على علة الحكم فإنما يخشع ويتصدع الجبل بنزول القرآن لأنه كلام الله عز اسمه.
وقوله: { وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون } من وضع الحكم الكلي موضع الجزئي للدلالة على أن الحكم ليس ببدع في مورده بل جارٍ سارٍ في موارد أخرى كثيرة.
فقوله: { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل } الخ، مثل ضربه الله للناس في أمر القرآن لتقريب عظمته وجلالة قدره بما أنه كلام لله تعالى وبما يشتمل عليه من المعارف رجاء أن يتفكر فيه الناس فيتلقوا القرآن بما يليق به من التلقي ويتحققوا بما فيه من الحق الصريح ويهتدوا إلى ما يهدي إليه من طريق العبودية التي لا طريق إلى كمالهم وسعادتهم وراءها، ومن ذلك ما ذكر في الآيات السابقة من المراقبة والمحاسبة.
قوله تعالى: { هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم } هذه الآية والآيتان بعدها وإن كانت مسوقة لتعداد قبيل من أسمائه تعالى الحسنى والإشارة إلى تسميته تعالى بكل اسم أحسن وتنزهه بشهادة ما في السماوات والأرض لكنها بانضمامها إلى ما مرَّ من الأمر بالذكر تفيد أن على الذاكرين أن يذكروه بأسمائه الحسنى فيعرفوا أنفسهم بما يقابلها من أسماء النقص، فافهم ذلك.
وبانضمامها إلى الآية السابقة وما فيها من قوله: { من خشية الله } تفيد تعليل خشوع الجبل وتصدُّعه من خشية الله كأنه قيل: وكيف لا وهو الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة، إلى آخر الآيات.
وقوله: { هو الله الذي لا إله إلا هو } يفيد الموصول والصلة معنى اسم من أسمائه وهو وحدانيته تعالى في أُلوهيته ومعبوديته، وقد تقدم بعض ما يتعلق بالتهليل في تفسير قوله تعالى:
{ { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو } [البقرة: 163]. وقوله: { عالم الغيب والشهادة } الشهادة هي المشهود الحاضر عند المدرك والغيب خلافها وهما معنيان إضافيان فمن الجائز أن يكون شيء شهادة بالنسبة إلى شيء وغيباً بالنسبة إلى آخر ويدور الأمر مدار نوع من الإحاطة بالشيء حساً أو خيالاً أو عقلاً أو وجوداً وهو الشهادة وعدمها وهو الغيب، وكل ما فرض من غيب أو شهادة فهو من حيث هو محاط له تعالى معلوم فهو تعالى عالم الغيب والشهادة وغيره لا علم له بالغيب لمحدودية وجوده وعدم إحاطته إلا ما علّمه تعالى كما قال: { { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول } [الجن: 26-27]، وأما هو تعالى فغيب على الإطلاق لا سبيل إلى الإحاطة به لشيء أصلاً كما قال: { ولا يحيطون به علماً }.
وقوله: { هو الرحمن الرحيم } قد تقدم الكلام في معنى الاسمين في تفسير سورة الفاتحة.
قوله تعالى: { هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدُّوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر } الخ، الملك هو المالك لتدبير أمر الناس والحكم فيهم، والقدُّوس مبالغة في القدس وهو النزاهة والطهارة، والسلام من يلاقيك بالسلامة والعافية من غير شرّ وضرّ، والمؤمن الذي يعطي الأمن، والمهيمن الفائق المسيطر على الشيء.
والعزيز الغالب الذي لا يغلبه شيء أو من عنده ما عند غيره من غير عكس، والجبار مبالغة من جبر الكسر أو الذي تنفذ إرادته ويجبر على ما يشاء، والمتكبر الذي تلبَّس بالكبرياء وظهر بها.
وقوله: { سبحان الله عما يشركون } ثناء عليه تعالى كما في قوله:
{ { وقالوا اتخذ الله ولداً سبحانه[البقرة: 116]. قوله تعالى: { هو الله الخالق البارئ المصوِّر } إلى آخر الآية، الخالق هو الموجد للأشياء عن تقدير، والبارئ المنشىء للأشياء ممتازاً بعضها من بعض، والمصور المعطي لها صوراً يمتاز بها بعضها من بعض، والأسماء الثلاثة تتضمن معنى الإيجاد باعتبارات مختلفة وبينها ترتب فالتصوير فرع البرء والبرء فرع الخلق وهو ظاهر.
وإنما صدَّر الآيتين السابقتين بقوله: { الذي لا إله إلا هو } فوصف به { الله } وعقبه بالأسماء بخلاف هذه الآية إذ قال: { هو الله الخالق } الخ.
لأن الأسماء الكريمة المذكورة في الآيتين السابقتين وهي أحد عشر اسماً من لوازم الربوبية ومالكية التدبير التي تتفرع عليها الألوهية والمعبودية بالحق وهي على نحو الأصالة والاستقلال لله سبحانه وحده لا شريك له في ذلك فاتصافه تعالى وحده بها يستوجب اختصاص الألوهية واستحقاق المعبودية به تعالى.
فالأسماء الكريمة بمنزلة التعليل لاختصاص الألوهية به تعالى كأنه قيل لا إله إلا هو لأنه عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم، ولذا أيضاً ذيل هذه الأسماء بقوله ثناء عليه: { سبحان الله عما يشركون } رداً على القول بالشركاء كما يقوله المشركون.
وأما قوله: { هو الله الخالق البارئ المصور } فالمذكور فيه من الأسماء يفيد معنى الخلق والإيجاد واختصاص ذلك به تعالى لا يستوجب اختصاص الألوهية به كما يدل عليه أن الوثنيين قائلون باختصاص الخلق والإيجاد به تعالى وهم مع ذلك يدعون من دونه أرباباً وآلهة ويثبتون له شركاء.
وأما وقوع اسم الجلالة في صدر الآيات الثلاث جميعاً فهو علم للذات المستجمع لجميع صفات الكمال يرتبط به ويجري عليه جميع الأسماء وفي التكرار مزيد تأكيد وتثبيت للمطلوب.
وقوله: { له الأسماء الحسنى } إشارة إلى بقية الأسماء الحسنى عن آخرها لكون الأسماء جمعاً محلى باللام وهو يفيد العموم.
وقوله: { يسبح له ما في السماوات والأرض } أي جميع ما في العالم من المخلوقات حتى نفس السماوات والأرض وقد تقدم توضيح معنى الجملة مراراً.
ثم ختم الآيات بقوله: { وهو العزيز الحكيم } أي الغالب غير المغلوب الذي فعله متقن لا مجازفة فيه فلا يعجزه فيما شرعه ودعا إليه معصية العاصين ولا مشاقة المعاندين ولا يضيع عنده طاعة المطيعين وأجر المحسنين.
والعناية إلى ختم الكلام بالاسمين والإشارة بذلك إلى كون القرآن النازل من عنده كلام عزيز حكيم هو الذي دعا إلى تكرار اسمه العزيز وذكره مع الحكيم مع تقدم ذكره بين الأسماء.
وقد وصف القرآن أيضاً بالعزة والحكمة كما قال:
{ { وإنه لكتاب عزيز } [فصلت: 41]. وقال: { { والقرآن الحكيم } [يس: 2].
(بحث روائي)
في المجمع في قوله تعالى: { عالم الغيب والشهادة } عن أبي جعفر عليه السلام قال: الغيب ما لم يكن والشهادة ما قد كان.
أقول: وهو تفسير ببعض المصاديق، وقد أوردنا أحاديث عنهم عليهم السلام في معنى اسم الجلالة والاسمين الرحمن الرحيم في ذيل تفسير البسملة من سورة الفاتحة.
وفي التوحيد بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام في حديث: لم يزل حياً بلا حياة وملكاً قادراً قبل أن ينشىء شيئاً وملكاً جباراً بعد إنشائه للكون.
أقول: قوله: لم يزل حياً بلا حياة أي بلا حياة زائدة على الذات، وقوله: لم يزل ملكاً قادراً قبل أن ينشىء شيئاً إرجاع للملك وهو من صفات الفعل إلى القدرة وهي من صفات الذات ليستقيم تحققه قبل الإيجاد.
وفي الكافي بإسناده عن هشام الجواليقي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله: { سبحان الله } ما يعني به؟ قال: تنزيه.
وفي نهج البلاغة: والخالق لا بمعنى حركة ونصب.
أقول: وقد أوردنا عدة من الروايات في الأسماء الحسنى وإحصائها في البحث عن الأسماء الحسنى في الجزء الثامن من الكتاب.
وفي النبوي المشهور: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا قبل أن توزنوا وتجهزوا للعرض الأكبر.
وفي الكافي بإسناده إلى أبي الحسن الماضي عليه السلام قال: ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم فإن عمل حسناً ازداد لله شكراً وإن عمل سيئاً استغفر الله وتاب إليه.
أقول: وفيما يقرب من هذا المعنى روايات أُخر، وقد أوردنا روايات عنهم عليهم السلام في معنى ذكر الله في ذيل تفسير قوله تعالى:
{ { فاذكروني أذكركم } [البقرة: 152] الآية، وقوله: { { يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً } [الأحزاب: 41]، فليراجعها من شاء.