التفاسير

< >
عرض

وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَٰبَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىٰ نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنتُمْ وَلاَ ءَابَآؤُكُمْ قُلِ ٱللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ
٩١
وَهَـٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلأَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ
٩٢
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ ٱللَّهُ وَلَوْ تَرَىۤ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ ٱلْمَوْتِ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ بَاسِطُوۤاْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوۤاْ أَنْفُسَكُمُ ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ
٩٣
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقْنَٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَٰكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ
٩٤
إِنَّ ٱللَّهَ فَالِقُ ٱلْحَبِّ وَٱلنَّوَىٰ يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ ٱلْمَيِّتِ مِنَ ٱلْحَيِّ ذٰلِكُمُ ٱللَّهُ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ
٩٥
فَالِقُ ٱلإِصْبَاحِ وَجَعَلَ ٱلْلَّيْلَ سَكَناً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ حُسْبَاناً ذٰلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ
٩٦
وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلنُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَٰتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا ٱلآيَٰتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
٩٧
وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَٰحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا ٱلآيَٰتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ
٩٨
وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ ٱلنَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّٰتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَٰبِهٍ ٱنْظُرُوۤاْ إِلِىٰ ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذٰلِكُمْ لأَيَٰتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
٩٩
وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ ٱلْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَٰتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَٰنَهُ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ
١٠٠
بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَٰحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
١٠١
ذٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ خَٰلِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَٱعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ
١٠٢
لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَٰرَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ
١٠٣
قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ
١٠٤
وَكَذٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
١٠٥
-الأنعام

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
الآيات لا تخلو عن ارتباط بما قبلها فإنها تفتتح بالمحاجة في خصوص إنزال الكتاب على أهل الكتاب إذ ردوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقولهم: { ما أنزل الله على بشر من شيء }، والآيات السابقة تعد إيتاء الكتاب من لوازم الهداية الإِلهية التي أكرم بها أنبياءه.
فقد بدأت الكلام بمحاجة أهل الكتاب ثم تذكر أن أظلم الظلم أن يشرك بالله افتراء عليه أو يظلم في باب النبوة بإنكار ما هو حق منها أو دعوى ما ليس بحق منها كالذي قال: سأنزل مثل ما أنزل الله.
ثم تذكر الآيات ما يؤول إليه أمر هؤلاء الظالمين عند مسألة الموت إذا غشيتهم غمراته والملائكة باسطوا أيديهم، ثم تتخلص إلى ذكر آيات توحيده تعالى وذكر أشياء من أسمائه الحسنى وصفاته العليا.
قوله تعالى: { وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } قدر الشيء وقدره بالتحريك كميته من عظم أو صغر ونحوهما يقال: قدرت الشيء قدراً وقدّرته بالتشديد تقديراً إذا بيّنت كمية الشيء وهندسته المحسوسة ثم توسع فيه فاستعمل في المعاني غير المحسوسة فقيل: قدر فلان عند الناس وفي المجتمع أي عظمته في أعين الناس ووزنه في مجتمعهم وقيمته الاجتماعية.
وإذ كان تقدير الشيء وتحديده بحدود لا ينفك غالباً عن وصفه بأوصافه المبينة لحاله المستتبعة لعرفانه أُطلق القدر والتقدير على الوصف وعلى المعرفة بحال الشيء - على نحو الاستعارة - فيقال قدر الشيء وقدره أي وصفه، ويقال: قدر الشيء وقدّره أي عرفه، فاللغة تبيح هذه الاستعمالات جميعاً.
ولما كان الله سبحانه لا يحيط بذاته المتعالية حس ولا وهم ولا عقل وإنما يعرف معرفة ما بما يليق بساحة قدسه من الأوصاف وينال من عظمته ما دلت عليه آياته وأفعاله صح استعمال القدر فيه تعالى بكل من المعاني السابقة فيقال: ما قدروا الله حق قدره أي ما عظموه بما يليق بساحته من العظمة أو ما وصفوه حق وصفه أو ما عرفوه حق معرفته. فالآية بحسب نفسها تحتمل كلاً من المعاني الثلاثة أو جميعها بطريق الالتزام لكن الأنسب بالنظر إلى الآيات السابقة الواصفة لهدايته تعالى أنبياءه المستعقبة لإِيتائهم الكتاب والحكم والنبوة، وعنايته الكاملة بحفظ كلمة الحق ونعمة الهداية بين الناس زماناً بعد زمان وجيلاً بعد جيل أن تحمل على المعنى الأول فإن في إنكار إنزال الوحي حطاً لقدره تعالى وإخراجاً له من منزلة الربوبية المعتنية بشؤون عباده وهدايتهم إلى هدفهم من السعادة والفلاح.
ويؤيد ذلك ما ورد من نظير اللفظ في قوله تعالى:
{ { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } [الزمر: 67]. وقوله تعالى: { { إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب، ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز } } [الحج: 73] أي وقوته وعزته وضعف غيره وذلته تقتضيان أن لا يحط قدره ولا يسوي هو وما يدعون من دونه بتسمية الجميع آلهة وأرباباً فالأنسب بالآية هو المعنى الأول وإن لم يمتنع المعنيان الآخران، وأما تفسير { ما قدروا الله حق قدره } بأن المراد: ما أعطوه من القدرة ما هو حقها كما فسره بعضهم فأبعد المعاني المحتملة من مساق الآية.
ولما قيد قوله تعالى: { وما قدروا الله حق قدره } بالظرف الذي في قوله: { إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } أفاد ذلك أن اجتراءهم على الله سبحانه وعدم تقديرهم حق قدره إنما هو من حيث إنهم نفوا إنزال الوحي والكتاب منه تعالى على بشر فدل ذلك على أن من لوازم الألوهية وخصائص الربوبية أن ينزل الوحي والكتاب لغرض هداية الناس إلى مستقيم الصراط والفوز بسعادة الدنيا والآخرة فهي الدعوى.
وقد أشار تعالى إلى إثبات هذه الدعوى والحجاج له بقوله: { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } الخ، وبقوله: { وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم } والأول من القولين احتجاج بكتاب من الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء عليهم السلام الثابتة نبوتهم بالمعجزات الباهرة التي أتوا بها ففيه تمسك بوجود الهداية الإِلهية المتصلة المحفوظة بين الناس بالأنبياء عليهم السلام نوح ومن بعده، وهي التي وصفها الله تعالى في الآيات السابقة من قوله: { وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر } إلى قوله { إن هو إلا ذكرى للعالمين }.
والثاني من القولين احتجاج بوجود معارف وأحكام إلهية بين الناس ليس من شأنها أن تترشح من الإِنسان الاجتماعي من حيث مجتمعه بما له من العواطف والأفكار التي تهديه إلى ما يصلح حياته من الغذاء والمسكن واللباس والنكاح وجلب المنافع ودفع المضار والمكاره فهذه الأمور التي في مجرى التمتع بالماديات هي التي يتوخاها الإِنسان بحسب طبعه الحيواني، وأما المعارف الإِلهية والأخلاق الفاضلة الطيبة والشرائع الحافظة بالعمل بها لهما فليست من الأمور التي ينالها الإِنسان الاجتماعي بشعوره الاجتماعي وأنّى للشعور الاجتماعي ذلك؟ وهو إنما يبعث الإِنسان إلى استخدام جميع الوسائل التي يمكنه أن يتوسل بها إلى مآربه في الحياة الأرضية، ومقاصده في المأكل والمشرب والمنكح والملبس والمسكن وما يتعلق بها ثم يدعوه إلى أن يكسر مقاومة كل ما يقاومه في طريق تمتعه إن قدر على ذلك أو يصطلحه على التعاضد والاشتراك في المنافع ورعاية العدل في توزيعها إن لم يقدر عليه، وهو سرّ كون الإِنسان اجتماعياً مدنياً كما تبين في أبحاث النبوة في البحث عن قوله تعالى:
{ { كان الناس أُمة واحدة فبعث الله النبيين } [البقرة: 213] الآية في الجزء الثاني من الكتاب، وسنزيده وضوحاً إن شاء الله.
وبالجملة فالآية أعني قوله تعالى: { وما قدروا الله حق قدره } تدل بما لها من الضمائم على أن من لوازم الألوهية أن تهدي الإِنسان إلى مستقيم الصراط ومنزل السعادة بإنزال الكتاب والوحي على بعض أفراده، وتستدل على ذلك بوجود بعض الكتب المنزلة من الله في طريق الهداية أولاً، وبوجود ما يدل على تعاليم إلهية بينهم لا ينالها الإِنسان بما عنده من العقل الاجتماعي ثانياً.
قوله تعالى: { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً } القراءة الدائرة تجعلونه بصيغة الخطاب والمخاطبون به اليهود لا محالة، وقرئ { يجعلونه } بصيغة الغيبة، والمخاطب المسؤول عنه بقوله: { من أنزل الكتاب } الخ، حينئذ اليهود أو مشركوا العرب على ما قيل، والمراد بجعل الكتاب قراطيس وهي جمع قرطاس إما جعله في قراطيس بالكتابة فيها، وإما جعله نفس القراطيس بما فيها من الكتابة فالصحائف والقراطيس تسمى كتاباً كما تسمى الألفاظ المدلول عليها بالكتابة كتاباً.
وقوله: { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } الخ. جواب عن قولهم المحكي بقوله تعالى: { إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } والآية وإن لم تعيّن القائلين بهذا القول من هم؟ إلا أن الجواب بما فيه من الخصوصية لا يدع ريباً في أن المخاطبين بهذا الجواب هم اليهود فالقائلون: { ما أنزل الله على بشر من شيء } هم اليهود أيضاً، وذلك أن الآية تحتج على هؤلاء القائلين بكتاب موسى عليه السلام والمشركون لا يعترفون به ولا يقولون بنزوله من عند الله، وإنما القائلون به أهل الكتاب، وأيضاً الآية تذمهم بأنهم يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيراً، وهذا أيضاً من خصائص اليهود على ما نسبه القرآن إليهم دون المشركين.
على أن قوله بعد ذلك: { وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم } على ظاهر معناه الساذج لا يصلح أن يخاطب به غير اليهود من المشركين أو المسلمين كما تقدم وسيجيء إن شاء الله تعالى.
وأما أن اليهود كانوا مؤمنين بنبوة الأنبياء موسى ومن قبله عليهم السلام وبنزول كتب سماوية كالتوراة وغيرها فلم يك يتأتّى لهم أن يقولوا: ما أنزل الله على بشر من شيء لمخالفته أُصول معتقداتهم فيدفعه: أن أكون ذلك مخالفاً للأصل الذي عندهم لا يمنع أن يتفوه به بعضهم تعصباً على الإِسلام أو تهييجاً للمشركين على المسلمين أو يقول ذلك عن مسألة سألها المشركون عن حال كتاب كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعي نزوله عليه من جانب الله سبحانه، وقد قالوا في تأييد وثنية مشركي العرب على أهل التوحيد من المسلمين: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً، فرجحوا قذارة الشرك على طهارة التوحيد وأساس دينهم التوحيد حتى أنزل الله:
{ { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً } [النساء: 51]. وقولهم - وهو أبين سفهاً من سابقه - اغتياظاً على النصارى: إن إبراهيم عليه السلام كان يهودياً حتى نزل فيهم قوله تعالى: { يا أهل الكتاب لِمَ تحاجون في إبراهيم وما أُنزلت التوراة والإِنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون } إلى أن قال { { ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين } [آل عمران: 67] إلى غير ذلك من أقوالهم المناقضة لاصولهم الثابتة المحكية في القرآن الكريم.
ومن كان هذا شأنه لم يبعد أن ينفي نزول كتاب سماوي على بشر لداع من الدواعي الفاسدة الباعثة له على إنكار ما يستضر بثبوته أو تلقين الغير باطلاً يعلم ببطلانه لينتفع به في بعض مقاصده الباطلة.
وأما قول من قال: إن القرآن لم يعتن بأمر أهل الكتاب في آياته النازلة بمكة وإنما كانت الدعوة بمكة قبل الهجرة إلى المشركين للابتلاء بجماعتهم والدار دارهم، ففيه أن ذلك لا يوجب السكوت عنهم من رأس والدين عام ودعوته شاملة لجميع الناس والقرآن ذكر للعالمين وهم والمشركون جيران يمس بعضهم بعضاً دائماً وقد جاء ذكر أهل الكتاب في بعض السور المكية من غير دليل ظاهر على كون الآية مدنية كقوله تعالى:
{ { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم } [العنكبوت: 46] وقوله: { { وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } [النحل: 118] وقد ذكر في سورة الأعراف كثير من مظالم بني إسرائيل مع كون السورة مكية.
ومن المستبعد أن تدوم الدعوة الإِسلامية سنين قبل الهجرة وفي داخل الجزيرة طوائف من اليهود والنصارى فلا يصل خبرها إليهم أو يصل إليهم فيسكتوا عنها ولا يقولوا شيئاً لها أو عليها وقد هاجر جماعة من المسلمين إلى الحبشة وقرأوا سورة مريم المكية عليهم وفيها قصة عيسى ونبوته.
وأما قول من قال: إن السورة - يعني سورة الأنعام - إنما نزلت في الاحتجاج على المشركين في توحيد الله سبحانه وعامة الخطابات الواردة فيها متوجهة إليهم فلا مسوغ لإِرجاع الضمير في قوله: { إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } إلى اليهود بل المتعين إرجاعه إلى مشركي العرب لأن الكلام في سياق الخبر عنهم، ولم يجر لليهود ذكر في هذه السورة فلا يجوز أن تصرف الآية عما يقتضيه سياقها من أولها إلى هذا الموضع بل إلى أخرها بغير حجة من خبر صحيح أو عقل فالأرجح قراءة { يجعلونه } الخ، بياء الغيبة على معنى أن اليهود يجعلونه فهو حكاية عنهم ذكرت في خطاب مشركي العرب.
وأما مشكلة أن المشركين ما كانوا يذعنون بكون التوراة كتاباً سماوياً فكيف يحاجون بها فقد أجاب عنه بعضهم: أن المشركين كانوا يعلمون أن اليهود أصحاب التوراة المنزلة على موسى عليه السلام فمن الممكن أن يحاجوا من هذه الجهة.
فيه: أن سياق السورة فيما تقدم من الآيات وإن كان لمحاجة المشركين لكن لا لأنهم هم بأعيانهم فالبيان القرآني لا يعتني بشخص أو أشخاص لأنفسهم بل لأنهم يستكبرون عن الخضوع للحق وينكرون أُصول الدعوة التي هي التوحيد والنبوة والمعاد فالمنكرون لهذه الحقائق أو لبعضها هم المعنيون بالاحتجاجات الموردة فيها فما المانع من أن يذكر فيها بعض هفوات اليهود لو استلزم إنكار النبوة ونزول الكتاب لدخوله في غرض السورة، ووقوعه في صف هفوات المشركين في إنكار أُصول الدين الإِلهي وإن كان كان القائل به من غير المشركين وعبدة الأَصنام، ولعله مما لقّنوه بعض المشركين ابتغاء للفتنة فقد ورد في بعض الآثار أن المشركين ربما سألوهم عن حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وربما بعثوا إليهم الوفود لذلك.
على أن قوله: { وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم } كما سيأتي لا يصح أن يخاطب به غير اليهود كما لا يصح أن يخاطب غير اليهود بقوله تعالى: { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس } والقول بأن مشركي العرب كانوا يعلمون أن اليهود هم أصحاب توراة موسى غير مقنع قطعاً فإن العلم بأن اليهود أصحاب التوراة لا يصحح الاحتجاج بنزول التوراة من عند الله سبحانه وخاصة مع وصفها بأنها نور وهدى للناس فالاعتقاد بالنزول من عند الله غير العلم بأن اليهود تدّعي ذلك والمصحح للخطاب هو الأول دون الثاني.
وأما قراءة { يجعلونه } الخ، فالوجه أن تحمل على الالتفات مع إبقاء الخطاب في قوله { من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى }، وقوله: { وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم } لليهود.
وقد حاول بعضهم دفع الإِشكالات الواردة على جعل الخطاب في الآية للمشركين مع تصحيح القراءتين جميعاً فقال ما ملخصه: إن الآية نزلت في ضمن السورة بمكة كما قرأها ابن كثير وأبو عمرو - يجعلونه قراطيس بصيغة الغيبة - محتجة على مشركي مكة الذين أنكروا الوحي استبعاداً لأن يخاطب الله البشر بشيء، وقد اعترفوا بكتاب موسى وأرسلوا الوفد إلى أحبار اليهود مذعنين بأنهم أهل الكتاب الأول العالمون بأخبار الأنبياء.
فهو تعالى يقول لنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم: قل لهؤلاء الذين ما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء كقولهم: أبعث الله بشراً رسولاً: { من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً } انقشعت به ظلمات الكفر والشرك الذي ورثته بنو إسرائيل عن المصريين { وهدى للناس } أي الذين أنزل عليهم بما علمهم من الأحكام والشرائع الإِلهية فكانوا على النور والهدى إلى أن اختلفوا فيه ونسوا حظاً مما ذكروا به فصاروا باتباع الأهواء { تجعلونه قراطيس تبدونها } فيما وافق { ويخفون كثيراً } مما لا يوافق أهواءهم.
قال: والظاهر أن الآية كانت تقرأ هكذا بمكة وكذا بالمدينة إلى أن أخفى أحبار اليهود حكم الرجم وكتموا بشارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإلى أن قال بعضهم: ما أنزل الله على بشر من شيء كما قال المشركون من قبلهم - إن صحت الروايات بذلك - فعند ذلك كان غير مستبعد ولا مخل بالسياق أن يلقن الله تعالى رسوله أن يقرأ هذه الجمل بالمدينة على مسمع اليهود وغيرهم بالخطاب لليهود فيقول: { تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً } مع عدم نسخ القراءة الأولى.
قال: وبهذا الاحتمال المؤيد بما ذكر من الوقائع يتجه تفسير القراءتين بغير تكلف ما، ويزول كل إشكال عرض للمفسرين في تفسيرهما، انتهى كلامه ملخصاً.
وأنت خبير بأن إشكال خطاب المشركين بما لا يعترفون به باق على حاله وكذا إشكال خطاب غير اليهود بقوله: { وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم } على ما أشرنا إليه، وكذا تخصيصه قوله تعالى: { نوراً وهدى للناس } باليهود فقط وكذا قوله إن اليهود قالوا في المدينة: { ما أنزل الله على بشر من شيء } كر على ما فر منه.
على أن قوله: إن الله لقن رسوله أن يقرأ الآية عليهم ويخاطبهم بقوله: { تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً } مما لا دليل عليه فإن أراد بهذا التلقين وحياً جديداً بالخطاب كالوحي الأول بالغيبة كانت الآية نازلة مرتين مرة في ضمن السورة وهي إحدى آياته ومرة في المدينة غير داخلة في آيات السورة ولا جزء منها، وإن أراد بالتلقين غير الوحي بنزول جبرئيل بها لم تكن الآية آية ولا القراءة قراءة وإن أريد به أن الله فهم رسوله نوعاً من التفهيم أن لفظ { تجعلونه قراطيس } الخ، النازل عليه في ضمن سورة الأنعام بمكة يسع الخطاب والغيبة جميعاً وأن القراءتين جميعاً صحيحتان مقصودتان كما ربما يقوله من ينهي القراءات المختلفة إلى قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو القراءة عليه ونحوهما ففيه الالتزام بورود جميع الإِشكالات السابقة كما هو ظاهر.
واعلم أن هذه الأبحاث إنما تتأتّى على تقدير كون الآية نازلة بمكة، وأما على ما وقع في بعض الروايات من أن الآية نزلت بالمدينة فلا محل لأكثرها.
قوله تعالى: { وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم } المراد بهذا العلم الذي علموه ولم يكونوا يعلمونه هم ولا آباؤهم ليس هو العلم العادي بالنافع والضار في الحياة مما جهز الإِنسان بالوسائل المؤدية إليه من حس وخيال وعقل فإن الكلام واقع في سياق الاحتجاج مربوط به ولا رابطة بين حصول العلوم العادية للإِنسان من الطرق المودعة فيه وبين المدعي وهو أن من لوازم الألوهية أن تهدي الإِنسان إلى سعادته وتنزل على بعض أفراده الوحي والكتاب.
وليس المراد بها أن الله أفاض عليكم العلم بأشياء ما كان لكم من أنفسكم أن تعلموا كما يفيده قوله تعالى:
{ { وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة } [السجدة: 9] وقوله: { { الذي علم بالقلم، علم الإِنسان ما لم يعلم } [العلق: 4 - 5]، فإن السياق كما عرفت ينافي ذلك.
فالمراد بالآية تعليم ما ليس في وسع الإِنسان بحسب الطرق المألوفة عنده التي جهز بها أن ينال علمه. وليس إلا ما أوحاه الله سبحانه إلى أنبيائه وحملة وحيه بكتاب أو بغير كتاب من المعارف الإِلهية والأحكام والشرائع فإنها هي التي لا تسع الوسائل العادية التي عند عامة الإِنسان أن تنالها.
ومن هنا يظهر أن المخاطبين بهذا الكلام أعني قوله: { وعلمتم ما لم تعلموا } الخ، ليسوا هم المشركين إذا لم يكن عندهم من معارف النبوة والشرائع الإِلهية شيء بين يعرفونه ويعترفون به والذى كانوا ورثوه من بقايا آثار النبوة من أسلاف أجيالهم ما كانوا ليعترفوا به حتى يصح الاحتجاج به عليهم من غير بيان كاف وقد وصفهم الله بالجهل في أمثال قوله:
{ { وقال الذين لا يعلمون لو لا يكلمنا الله } [البقرة: 118]. فالخطاب متوجه إلى غير المشركين، وليس بموجه إلى المسلمين أما أولاً: فلأن السياق سياق الاحتجاج، ولو كان الخطاب متوجهاً إليهم لكان اعتراضاً في سياق الاحتجاج من غير نكتة ظاهرة.
وأما ثانياً: فلما فيه من تغيير مورد الخطاب، والعدول من خطاب المخاطبين بقوله: { من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } الخ، إلى خطاب غيرهم بقوله: { وعلمتم } الخ، من غيرقرينة ظاهرة مع وقوع اللبس فالخطاب لغير المشركين والمسلمين وهم اليهود المخاطبون بصدر الآية.
فقد احتج الله سبحانه على اليهود القائلين: { ما أنزل الله على بشر من شيء } عناداً وابتغاء للفتنة من طريقين:
أحدهما: طريق المناقضة وهو أنهم مؤمنون بالتوراة وأنها كتاب جاء به موسى عليه السلام نوراً وهدى للناس ويناقضه قولهم: { ما أنزل الله على بشر من شيء } ثم ذمهم على تقطيعها بقطعات يظهرون بعضها ويخفون كثيراً.
وثانيهما: أنكم علمتم ما لم يكن في وسعكم أن تعلموه أنتم من عند أنفسكم بالاكتساب ولا في وسع آبائكم أن يعلموه فيورثوكم علمه وذلك كالمعارف الإِلهية والأخلاق الفاضلة والشرائع والقوانين الناظمة للاجتماع والمعدلة له أحسن نظم وتعديل الحاسمة لأعراق الاختلافات البشرية الاجتماعية فإنها وخاصة المواد التشريعية من بينها ليست مما ينال بالاكتساب، والتي تنال منها من طريق الاكتساب العقلي كالمعارف الكلية الإِلهية من التوحيد والنبوة والمعاد والأخلاق الفاضلة في مرحلة العمل واستقراره في المستوى العام الاجتماعي، فحب التمتع من لذائذ المادة وغريزة استخدام كل شيء في طريق التوصل إلى الاستعلاء على مشتهيات النفس والتسلط التام على ما تدعو إليه أهواؤها لا يدع مجالاً للإِنسان يبحث فيه عن كنوز المعارف والحقائق المدفونة في فطرته ثم يبني ويدوم عليها في مسير حياته وخاصة إذا استولت هذه المادية على المجتمع واستقرت في المستوى فإنها تكون لهم ظرفاً يحصرهم في التمتعات المادية لا ينفذ في شيء من أقطاره شيء من الفضائل الإِنسانية ولا يزال ينسى فيه ما بقي من إثارة الفضائل المعنوية الموروثة واحداً بعد واحد حتى يعود مجتمعهم مجتمعاً حيوانياً ساذجاً كما نشاهده في الظروف الراقية اليوم أنهم توغلوا في المادية واستسلموا للتمتعات الحسية فشغلهم ذلك في أوقاتهم بثوانيها وصرفهم عن الآخرة إلى الدنيا صرفاً سلبهم الاشتغال بالمعنويات ومنعهم أي تفكير في ما يسعدهم في حياتهم الحقيقية الخالدة.
ولم يضبط التاريخ فيما ضبطه من أخبار الأُمم والملل رجلاً من رجال السياسة والحكومة كان يدعو إلى فضائل الأخلاق الإِنسانية والمعارف الطاهرة الإِلهية وطريق التقوى والعبودية بل أقصى ما كانت تدعو إليه الحكومات الفردية الاستبدادية - هو أن يتمهد الأمر لبقاء سلطتها واستقامة الأمر لها، وغاية ما كانت تدعو إليه الحكومات الاجتماعية - الديمقراطية وما يشابهها - أن ينظم أمر المجتمع على حسب ما يقترحه هوى أكثرية الأفراد أياً ما اقترحه فضيلة أو رذيلة وافق السعادة الحقيقية العقلية أو خالفها غير أنهم إذا خالفوا شيئاً من الفضائل المعنوية والكمالات والمقاصد العالية الإِنسانية التي بقيت أسماؤها عندهم وألجأتهم الفطرة إلى إعظامها والاحترام لها كالعدل والعفة والصدق وحب الخير ونصح النوع الإِنساني والرأفة بالضعيف وغير ذلك فسّروها بما يوافق جاري عملهم والدائر من سنتهم كما هو نصب أعيننا اليوم.
وبالجملة فالعقل الاجتماعي والشعور المادي الحاكم في المجتمعات ليس مما يوصل الإِنسان إلى هذه المعارف الإِلهية والفضائل المعنوية التي لا تزال المجتمعات الإِنسانية على تنوعها وتطورها تتضمن أسماء كثيرة منها واحترام معانيها وأين الإِخلاد إلى الأرض من الترفع عن المادة والماديات؟.
فليست إلا آثاراً وبقايا من الدعوة الدينية المنتهية إلى نهضات الأنبياء ومجاهداتهم في نشر كلمة الحق وبث دين التوحيد وهداية النوع الإِنساني إلى سعادته الحقيقية في حياته الدنيوية والأخروية جميعاً فهي منتهية إلى تعليم إلهي من طريق الوحي وإنزال الكتب السماوية.
فقوله تعالى: { وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم } احتجاج على اليهود في ردّ قول القائل منهم: { ما أنزل الله على بشر من شيء } بأن عندكم من العلم النافع ما لم تنالوه من أنفسكم ولا ناله ولا ورّثه آباؤكم بل إنما علمتم به من غير هذا الطريق وهو طريق إنزال الكتاب والوحي من قبل الله على بعض البشر فقد أنزل الله على بعض البشر ما علمه وهو المعارف الحقة وشرائع الدين، وقد كان عند اليهود من هذا القبيل شيء كثير ورثوه من أنبيائهم وبثه فيهم كتاب موسى.
وقد ظهر مما تقدم أن المراد بقوله: { وعلمتم ما لم تعلموا } مطلق ما ينتهي من المعارف والشرائع إلى الوحي والكتاب لا خصوص ما جاء منه في كتاب موسى عليه السلام وإن كان الذي منه عند اليهود هو معارف التوراة وشرائعه خلافاً لبعض المفسرين. وذلك أن لفظ الآية لا يلائم التخصيص فقد قيل: { وعلمتم ما لم تعلموا } الخ، ولم يقل وعلمتم به أو وعلمكم الله به.
وقد قيل: { وعلمتم } الخ، من غير فاعل التعليم لأن ذلك هو الأنسب بسياق الاستدلال لأن ذكر الفاعل في هذا السياق أشبه بالمصادرة بالمطلوب فكأنه قيل: إن فيما عندكم علوماً لا ينتهي إلى اكتسابكم أو اكتساب آبائكم فمن الذي علمكم ذلك؟ ثم أُجيب عن مجموع السؤالين بقوله: الله عز اسمه.
قوله تعالى: { قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون } لما كان الجواب واضحاً بيّناً لا يداخله ريب، والجواب الذي هذا شأنه يسوغ للمستدل السائل أن يتكلفه ولا ينتظر المسؤول المحتج عليه، أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يتصدى هو الجواب فقال: { قل الله } أي الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى والذى علمكم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم هو الله.
ولما كان القول بأن الله لم ينزل على بشر شيئاً من لغو القول وهزله الذي لا يتفوه به إلا خائض لاعب بالحقائق وخاصة إذا كان القائل به من اليهود المعترفين بتوراة موسى والمباهين بالعلم والكتاب أمره بأن يدعهم وشأنهم فقال: { ثم ذرهم في خوضهم يلعبون }.
قوله تعالى: { وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها } لما نبه على أن من لوازم الألوهية أن ينزل الوحي على جماعة من البشر هم الأنبياء عليهم السلام، وأن هناك كتاباً حقاً كالتوراة التي جاء بها موسى، وأموراً أُخرى علمها البشر لا تنتهي إلا إلى وحي إلهي وتعليم غيبي، ذكر أن هذا القرآن أيضاً كتاب إلهي منزل من عنده على حد ما نزل سائر الكتب السماوية، ومن الدليل على ذلك اشتماله على ما هو شأن كتاب سماوي نازل من عند الله سبحانه.
ومن هنا يظهر أولاً: أن الغرض في المقام متعلق بكون القرآن كتاباً نازلاً من عند الله تعالى دون من نزل عليه، ولذا قال: كتاب أنزلناه ولم يقل أنزلناه إليك على خلاف موارد أُخر كقوله تعالى:
{ { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته } [ص: 29] وغيره.
وثانياً: أن الأوصاف المذكورة للكتاب بقوله: مبارك مصدق الخ، بمنزلة الأدلة على كونه نازلاً من الله وليست بأدلة فمن أمارات أنه منزل من عند الله أنه مبارك أودع الله فيه البركة والخير الكثير يهدي الناس للتي هي أقوم، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ينتفع به الناس في دنياهم باجتماع شملهم، وقوة جمعهم، ووحدة كلمتهم، وزوال الشح من نفوسهم، والضغائن من قلوبهم، وفشوا الأمن والسلام، ورغد عيشهم، وطيب حياتهم وانجلاء الجهل وكل رذيلة عن ساحتهم، واستظلالهم بمظلة سعادتهم، وينتفعون به في أُخراهم بالأجر العظيم والنعيم المقيم.
ولو لم كان يكن من عند الله سواء كان مختلقاً من عند بشر كشبكة يغر بها الناس فيصطادون أو كان تزويقاً نفسانياً أو إلقاء شيطانياً يخيل إلى الذي جاء به أنه وحي سماوي من عند الله وليس من عنده لم تستقر فيه ولا ترتب عليه هذه البركات الإِلهية والخير الكثير فإن سبيل الشر لا يهدي سالكه إلا إلى الشر ولن ينتج فساد صلاحاً، وقد قال تعالى:
{ { فإن الله لا يهدي من يضل } [النحل: 37] وقال: { { والله لا يهدي القوم الفاسقين } [البقرة: 26] وقال: { { والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً } [الأعراف: 58]. ومن إمارات أنه حق أنه مصدق لما بين يديه من الكتب السماوية الحقة النازلة من عند الله.
ومن أمارات ذلك أنه يفي بالغرض الإِلهي من خلقه وهو أن يهديهم إلى سعادة حياتهم في الدنيا والآخرة بالإِنذار بوسيلة الوحي المنزل من عنده، وهذا هو الذي يدل عليه قوله: { ولتنذر أُم القرى ومن حولها } فام القرى هي مكة المشرفة، والمراد أهلها بدليل قوله: { ومن حولها } والمراد بما حولها سائر بلاد الأرض التي يحيط بها أو التي تجاورها كما قيل، والكلام يدل على عناية إلهية بأم القرى وهي الحرم الإِلهي منه بدئ بالدعوة وانتشرت الكلمة.
ومن هذا البيان يظهر: أن الأنسب بالسياق أن يكون قوله: { ولتنذر أُم القرى } وخاصة على قراءة { لينذر } بصيغة الغيبة معطوفاً على قوله: { مصدق } بما يشتمل عليه من معنى الغاية، والتقدير: ليصدق ما بين يديه ولتنذر أم القرى على ما ذكره الزمخشري، وقيل: إنه معطوف على قوله: { مبارك } والتقدير: أنزلناه لتنذر أُم القرى ومن حولها.
قوله تعالى: { والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون } الخ، كأنه تفريع لما عده الله سبحانه من أوصاف هذا الكتاب الذي أنزله أي لما كان هذا الكتاب الذي أنزلناه مباركاً ومصدقاً لما بين يديه نازلاً لغاية إنذار أهل الأرض فالمؤمنون بالآخرة يؤمنون به لأنه يدعو إلى أمن أُخروي دائم ويحذرهم من عذاب خالد.
ثم عرف تعالى هؤلاء المؤمنين بالآخرة بما هو من أخص صفات المؤمنين وهو أنهم على صلاتهم وهي عبادتهم التي يذكرون فيها ربهم يحافظون، وهذه هي الصفة التي ختم الله به صفات المؤمنين التي وصفهم بها في أول سورة المؤمنين إذ قال:
{ { والذين هم على صلواتهم يحافظون } [المؤمنون: 19]، كما بدأ بمعناها في أولها فقال { { الذين هم في صلاتهم خاشعون } [المؤمنون: 2]. وهذا هو الذي يؤيد أن المراد بالمحافظة في هذه الآية هو الخشوع في الصلاة وهو نحو تذلل وتأثر باطني العظمة الإِلهية عند الانتصاب في مقام العبودية لكن المعروف من تفسيره أن المراد بالمحافظة على الصلاة المحافظة على وقتها.
(كلام في معنى البركة في القرآن)
ذكر الراغب في المفردات: أن أصل البرك - بفتح الباء - صدر البعير وإن استعمل في غيره ويقال له بركة - بكسر الباء - وبرك البعير ألقى ركبه، واعتبر منه معنى الملزوم فقيل: ابتركوا في الحرب أي ثبتوا ولازموا موضع الحرب، وبراكاء الحرب وبروكاؤها للمكان الذي يلزمه الأبطال، وابتركت الدابة وقفت وقوفاً كالبروك، وسمي محبس الماء بركة، والبركة ثبوت الخير الإِلهي في الشيء، قال تعالى: { لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض }، وسمي بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البركة، والمبارك ما فيه ذلك الخير، على ذلك: هذا ذكر مبارك أنزلناه.
قال: ولما كان الخير الإِلهي يصدر من حيث لا يحس وعلى وجه لا يحصى ولا يحصر قيل لكل ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة: هو مبارك وفيه بركة، وإلى هذه الزيادة أُشير بما روي: أنه لا ينقص مال من صدقة، لا إلى النقصان المحسوس حسب ما قال بعض الخاسرين حيث قيل له ذلك فقال: بيني وبينك الميزان. ثم ذكر: أن المراد بتباركه تعالى اختصاصه بالخيرات، انتهى.
فالبركة بالحقيقة هي الخير المستقر في الشيء اللازم له كالبركة في النسل وهي كثرة الأعقاب أو بقاء الذكر بهم خالداً، والبركة في الطعام أن يشبع به خلق كثير مثلاً، والبركة في الوقت أن يسع من العمل ما ليس في سعة مثله أن يسعه.
غير أن المقاصد والمآرب الدينية لما كانت مقصورة في السعادات المعنوية أو الحسية التي تنتهي إليها بالآخرة كان المراد بالبركة الواقعة في الظواهر التي فيها هو الخير المعنوي أو ينتهي إليه كما أن مباركته تعالى الواقعة في قول الملائكة النازلين على إبراهيم عليه السلام:
{ { رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت } [هود: 73] خيرات متنوعة معنوية كالدين والقرب وغيرهما وحسية كالمال وكثرة النسل وبقاء الذكر وغيرها وجميعها مربوطة بخيرات معنوية.
وعلى هذا فالبركة أعني كون الشيء مشتملاً على الخير المطلوب كالأمر النسبي يختلف باختلاف الأغراض لأن خيرية الشيء إنما هي بحسب الغرض المتعلق به فالغرض من الطعام ربما كان إشباعه الجائع أو أن لا يضر آكله أو أن يؤدى إلى شفاء واستقامة مزاج أو يكون نوراً في الباطن يتقوى به الإِنسان على عبادة الله ونحو ذلك كانت البركة فيه استقرار شيء من هذه الخيرات فيه بتوفيق الله تعالى بين الأسباب والعوامل المتعلقة به ورفعه الموانع.
ومن هنا يظهر أن نزول البركة الإِلهية على شيء واستقرار الخير فيه لا ينافي عمل سائر العوامل فيه واجتماع الأسباب عليه فليس معنى إرادة الله صفه أو حالة في شيء أن يبطل سائر الأسباب والعلل المقتضية له - وقد مر كراراً في أبحاثنا السابقة - فإنما الإِرادة الإِلهية سبب في طول الأسباب الأُخر لا في عرضها. فإنزاله تعالى بركته على طعام مثلاً هو أن يوفق بين الأسباب المختلفة الموجودة في أن لا تقتضي في الإِنسان كيفية مزاجية يضره معها هذا الطعام، وأن لا تقتضي فساده أو ضيعته أو سرقته أو نهبه أو نحو ذلك، وليس معناه أن يبطل الله سائر الأسباب ويتكفل هو تعالى إيجاد الخير فيهم من غير توسيطها فافهم ذلك.
والبركة كثيرة الدور في لسان الدين فقد ورد في الكتاب العزيز ذكرها في آيات كثيرة بألفاظ مختلفة وكذا ورودها في السنة، وقد تكرر ذكر البركة أيضاً في العهدين في موارد كثيرة يذكر فيها إعطاء الله سبحانه البركة للنبي الفلاني أو إعطاء الكهنة البركة لغيرهم وقد كان أخذ البركة في العهد القديم كالسنة الجارية.
وقد ظهر مما تقدم بطلان زعم المنكرين لوجود البركة كما نقلناه عن الراغب فيما تقدم من عبارته فقد زعموا أن عمل الأسباب الطبيعية في الأشياء لا يدع مجالاً لسبب أخر يعمل فيه أو يبطل أثرها وقد ذهب عنهم أن تأثيره تعالى في الأشياء في طول سائر الأسباب لا في عرضها حتى يؤل الأمر إلى تزاحم أو إبطال ونحوهما.
قوله تعالى: { ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً } إلى قوله { ما أنزل الله } عد الله سبحانه موارد ثلاثة من الظلم هي من أشد مراتبه التي لا يرتاب العقل العادي في شناعتها وفظاعتها، ولذا أوردها في سياق السؤال.
والغرض من ذلك الدعوة إلى النزول على حكم العقل السليم والأخذ بالنصفة وخفض الجناح لصريح الحق فكأنه يقول: قل لهم: يجب عليّ وعليكم أن لا نستكبر عن الحق ولا نستعلي على الله تعالى بارتكاب ما هو من أشد الظلم وأشنعه وهو الظلم في جنب الله فكيف يصح لكم أن تفتروا على الله كذباً وتدعوا له شركاء تتخذونها شفعاء؟ وكيف يسوغ لي أن أدعي النبوّة وأقول: أُوحي إليّ إن كنت لست بنبي يوحى إليه؟ وكيف يجوز لقائل أن يقول: سأنزل مثل ما أنزل الله، فيسخر بحكم الله ويستهزء بآياته؟.
ونتيجة هذه الدعوة أن ينقادوا لحكم النبوة فإنهم إذا اجتنبوا الافتراء على الله بالشرك، وكف القائل { سأنزل مثل ما أنزل الله } عن مقاله، والنبى صلى الله عليه وآله وسلم يصر على الوحي بقيت نبوته بلا معارض.
وافتراء الكذب على الله سبحانه وهو أول المظالم المعدودة وإن كان أعم بالنسبة إلى دعوى الوحي إذا لم يوح إليه وهو ثانى المظالم المعدودة، ولذا قيل: إن ذكر الثاني بعد الأول من باب ذكر الخاص بعد العام اعتناء بشأن الوحي وإعظاماً لأمره، لكن التأمل في سياق الكلام ووجهه إلى المشركين يعطي أن المراد بالافتراء المذكور هو اتخاذ الشريك لله سبحانه، وإنما لم يصرّح بذلك ليرتفع به غائلة ذكر الخاص بعد العام لأن الغرض في المقام - كما تقدم - هو الدعوة إلى الأخذ بالنصفة والتجافي عن عصبية الجاهلية فلم يصرح بالمقصود وإنما أبهم إبهاماً لئلا يتحرك بذلك عرق العصبية ولا يتنبة داعي النخوة.
فقوله: { ممن افترى على الله كذباً } وقوله: { أو قال أُوحي إليّ ولم يوح إليه } متبائنان من حيث المراد وإن كانا بحسب ظاهر ما يتراءى منهما أعم وأخص.
ويدل على ما ذكرنا ما في ذيل الآية من حديث التهديد بالعذاب والسؤال عن الشركاء والشفعاء.
وأما ما قيل: إن قوله: { أو قال أُوحي إلي ولم يوح إليه شيء } نزل في مسيلمة حيث ادعى النبوة فسياق الآيات كما عرفت لا يلائمه بل ظاهره أن المراد به نفسه وإن كان الكلام مع الغض عن ذلك أعم.
على أن سورة الأنعام مكية ودعواه النبوة من الحوادث التي وقعت بعد الهجرة إلا أن هؤلاء يرون أن الآية مدنية غير مكية وسيأتي الكلام في ذلك في البحث الروائي التالي إن شاء الله.
وأما قوله: { ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله } فظاهره أنه حكاية قول واقع، وأن هناك من قال: سأنزل مثل ما أنزل الله، وأنه إنما قاله استهزاء بالقرآن الكريم حيث نسبه إلى الله سبحانه بالنزول ثم وعد الناس مثله بالإِنزال، ولم يقل: سأقول مثل ما قاله محمد أو سأتيكم بمثل ما أتاكم به.
ولذا ذكر بعض المفسرين أنه إشارة إلى قول من قال من المشركين: { لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين }.
وقال آخرون: إن الآية إشارة إلى قول عبد الله بن سعد بن أبي سرح: إني أُنزل مثل ما أنزل الله والآية مدنية، ومنهم من قال غير ذلك كما سيجيء إن شاء الله في البحث الروائي، والآية ليست ظاهرة الانطباق على شيء من ذلك فإنها تتضمن الوعد بأمر مستقبل، وقولهم: لو نشاء لقلنا "الخ" كلام مشروط وكذا قول عبد الله - إن صحت الرواية - إخبار عن أمر حالي جار واقع.
وكيف كان فقوله: { ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله } يحكي قولاً قال بعض المشركين من العرب استكباراً على آيات الله، وإنما كرر فيه الموصول أعني قوله: "من" ولم يتكرر في قوله: { أو قال أُوحي إليّ } "الخ" لأن المظالم المعدودة وإن كانت ثلاثة لكنها من نظرة أُخرى قسمان فالأول والثاني من الظلم في جنب الله في صورة الخضوع لجانبه والانقياد لأمره، والثالث من الظلم في صورة الاستعلاء عليه والاستكبار عن آياته.
قوله تعالى: { ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت } إلى أخر الآية، الغمر أصله ستر الشيء وإزالة أثره ولذا يطلق الغمرة على الماء الكثير الساتر لما تحته، وعلى الجهل المطبق، وعلى الشدة التي تحيط بصاحبها والغمرات الشدائد، ومنه قوله تعالى: { في غمرات الموت }، والهون والهوان الذلة.
وبسط اليد معناه واضح غير أن المراد به معنى كنائي ويختلف باختلاف الموارد فبسط الغني يده جوده بماله وإحسانه لمن يستحقه، وبسط الملك يده إدارته أُمور مملكته من غير أن يزاحمه مزاحم وبسط المأمور الغليظ الشديد يده على المجرم المأخوذ به هو نكاله وإيذاؤه بضرب وزجر ونحوه.
فبسط الملائكه أيديهم هو شروعهم بتعذيب الظالمين، وظاهر السياق أن الذي تفعله الملائكه بهؤلاء الظالمين هو الذي يترجم عنه قوله: { أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون } الخ، فهذه الجمل محكية عن الملائكة لا من قول الله سبحانه، والتقدير: يقول الملائكه لهم أخرجوا أنفسكم "الخ" فهم يعذبونهم بقبض أرواحهم قبضاً يذوقون به أليم العذاب وهذا عذابهم حين الموت ولما ينتقلوا من الدنيا إلى ما وراءها ولهم عذاب بعد ذلك ولما تقم عليهم القيامة كما يشير إليه قوله تعالى:
{ { ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون } [المؤمنون: 100]. وبذلك يظهر أن المراد باليوم في قوله: { اليوم تجزون } هو يوم الموت الذي يجزون فيه العذاب وهو البرزخ كما ظهر أن المراد بالظالمين هم المرتكبون لبعض المظالم الثلاثة التي عدها الله سبحانه من أشد الظلم أعني افتراء الكذب على الله ودعوى النبوة كذباً والاستهزاء بآيات الله.
ويؤيد ذلك ما ذكره الله من أسباب عذابهم من الذنوب وهو قولهم على الله غير الحق كما هو شأن المفتري الكذب على الله بنسبة الشريك إليه أو بنسبة حكم تشريعي أو وحي كاذب إليه واستكبارهم عن آيات الله كما هو شأن من كان يقول: { سأنزل مثل ما أنزل الله }.
وكذلك قوله: { أخرجوا أنفسكم } أمر تكويني لأن الموت والوفاه ليس في قدرة الإِنسان كالحياه حتى يؤمر بذلك قال تعالى:
{ { وأنه هو أمات وأحيا } [النجم: 44] فالأمر تكويني والملائكة من أسبابه والكلمة مصوغه صوغ الاستعاره بالكناية والاستعارة التخيُّلية كأن النفس الإِنسانية أمر داخل في البدن وبه حياته وبخروجه عن البدن طرو الموت وذلك أن كلامه تعالى ظاهر في أن النفس ليست من جنس البدن ولا من سنخ الأمور الماديه الجسمانيه وإنما لها سنخ آخر من الوجود يتحد مع البدن ويتعلق به نوعاً من الاتحاد والتعلق غير مادي كما تقدم بيانه في بحث علمي في الجزء الأول من الكتاب وسيأتي في مواضع تناسبه إن شاء الله. فالمراد بقوله: { أخرجوا أنفسكم } قطع علقه أنفسهم من أبدانهم وهو الموت، والقول قول الملائكة على ما يعطيه السياق.
والمعنى: وليتك ترى حين يقع هؤلاء الظالمون المذكورون في شدائد الموت وسكراته والملائكة آخذون في تعذيبهم بالقبض الشديد العنيف لأرواحهم وإنبائهم بأنهم واقعون في عالم الموت معذبون فيه بعذاب الهون والذلة جزاء لقولهم على الله غير الحق ولاستكبارهم عن آياته.
قوله تعالى: { ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة } إلى آخر الآية الفرادى جمع فرد وهو الذي انفصل عن اختلاط غيره نوعاً من الاختلاط ويقابله الزوج وهو الذي يختلط بغيره بنحو ويقرب منهما بحسب المعنى الوتر والشفع فالوتر ما لم ينضم إلى غيره والشفع ما انضم إلى غيره، والتخويل إعطاء الخول أي المال ونحوه الذي يقوم الإِنسان به بالتدبير والتصرف.
والمراد بالشفعاء الأرباب المعبودون من دون الله ليكونوا شفعاء عند الله فعادوا بذلك شركاء لله سبحانه في خلقه، والآية تنبئ عن حقيقة الحياة الإِنسانية التي ستظهر له حينما يقدم على ربه بالتوفي فيشاهد حقيقة أمر نفسه وأنه مدبر بالتدبير الإِلهي لا غير كما كان كذلك في أول مرة كونته الخلقة، وأن المزاعم التي انضمت إلى حياته من التكثر بالأسباب والاعتضاد والانتصار بالأموال والأولاد والأزواج والعشائر والجموع، وكذا الاستشفاع بالأرباب من دون الله المؤدي إلى الإِشراك كل ذلك مزاعم وأفكار باطلة لا أثر لها في ساحة التكوين أصلاً.
فالإِنسان جزء من أجزاء الكون واقع تحت التدبير الإِلهي متوجه إلى الغاية التي غياها الله سبحانه له كسائر أجزاء الكون، ولا حكومة لشيء من الأشياء في التدبير والتسيير الإِلهي إلا أنها أسباب وعلل ينتهي تأثيرها إليه تعالى من غير أن نستقل بشيء من التأثير.
غير أن الإِنسان إذا ركبته يد الخلقة وأوجدته فوقع نظره إلى زينة الحياة والأسباب والشفعاء الظاهرة وجذبته لذائذ الحياة تعلقت نفسه بها ودعته ذلك إلى التمسك بذيل الأسباب والخضوع لها، وألهاه ذلك عن توجيه وجهه إلى مسبب الأسباب وفاطرها والذى إليه الأمر كله فأعطاها الاستقلال في السببية لا هم له إلا أن ينال لذائذ هذه الحياة المادية بالخضوع للأسباب فصار يلعب طول الحياة الدنيا بهذه المزاعم والأوهام التي أوقعته فيها نفسه المتلهية بلذائذ الحياة المادية، واستوعب حياته اللعب بالباطل والتلهي به عن الحق كما قال تعالى:
{ { وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب } [العنكبوت: 64]. فهذا هو الذي يسوق إليه تعليم القرآن حيث يذكر أن الإِنسان إذا خرج عن زي العبودية نسي ربه فأداه ذلك إلى نسيان نفسه قال تعالى: { { نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون } [الحشر: 19]. لكن الإِنسان إذا فارقت نفسه البدن بحلول الموت بطل ارتباطه بجميع الأسباب والعلل والمعدات المادية التي كانت ترتبط بها من جهة البدن وتتصل بها في هذه النشأة الدنيوية وشاهد عند ذلك بطلان استقلالها واندكاك عظمتها وتأثيرها فوقعت عين بصيرته على أن أمره أولاً وآخراً إلى ربه لا غير وأن لا رب له سواه ولا مؤثر في شأنه دونه.
فقوله تعالى: { ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة } إشارة إلى حقيقة الأمر، وقوله: { وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم } الخ، بيان لبطلان الأسباب الملهية له عن ربه المتخللة بين أول خلقه وبين يوم يقبض فيه إلى ربه، وقوله: { لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون } بيان لسبب انقطاعه من الأسباب وسقوطها عن الاستقلال والتأثير، وان السبب في ذلك انكشاف بطلان المزاعم التي كان الإِنسان يلعب بها طول حياته الدنيا.
فيتبين بذلك أن ليس لهذه الأسباب والضمائم في الإِنسان من النصيب إلا أوهام ومزاعم يتلهى ويلعب بها الإِنسان.
قوله تعالى: { إن الله فالق الحب والنوى } إلى أخر الآية. الفلق هو الشق. لما انتهى الكلام في الآية السابقة إلى نفي استقلال الأسباب في تأثيرها، وبطلان كون أربابهم شفعاء من دون الله المؤدي إلى كونهم شركاء لله صرف الكلام إلى بيان أن هذه التي يشتغل بها الإِنسان عن ربه ليست إلا مخلوقات لله مدبرة بتدبيره، ولا تؤثر أثراً ولا تعمل عملاً في إصلاح حياة الإِنسان وسوقه إلى غايات خلقته إلا بتقدير من الله وتدبير يدبره هو لا غير فهو تعالى الرب دون غيره.
فالله سبحانه هو يشق الحب والنوى فينبت منهما النبات والشجر اللذين يرتزق الناس من حبه وثمره، وهو يخرج الحي من الميت والميت من الحي - وقد مر تفسير ذلك في الكلام على الآية 27 من سورة آل عمران - { ذٰلكم الله } لا غير فأنى تؤفكون وإلى متى تصرفون من الحق إلى الباطل.
قوله تعالى: { فالق الإِصباح وجعل الليل سكناً } إلى أخر الآية. الإِصباح بكسر الهمزة هو الصبح وهو في الأصل مصدر، والسكن ما يسكن إليه، والحسبان جمع حساب، وقيل: هو مصدر حسب حساباً وحسباناً، وقوله: { وجعل الليل سكناً } عطف على قوله: { فالق الإِصباح } ولا ضير في عطف الجملة الفعلية على الاسمية إذا اشتملت على معنى الفعل وقرئ: { وجاعل }.
وفي فلق الصبح وجعل الليل سكناً يسكن فيه المتحركات عن حركاتها لتجديد القوى ودفع ما عرض لها من التعب والعي والكلال من جهة حركاتها طول النهار، وجعل الشمس والقمر بما يظهر من الليل والنهار والشهور والسنين من حركاتهما في ظاهر الحس حسباناً تقدير عجيب للحركات في هده النشأة المتغيرة المتحولة ينتظم بذلك نظام المعاش الانساني ويستقيم به أمر حياتة، ولذلك ذيلها بقوله: { ذلك تقدير العزيز العليم } فهو العزيز الذي لا يقهره قاهر فيفسد عليه شيئاً من تدبيره، والعليم الذي لا يجهل بشيء من مصالح مملكته حتى ينظمه نظماً ربما يفسد من نفسه ولا يدوم بطبعه.
قوله تعالى: { وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها } إلى آخر الآية. المعنى واضح والمراد بتفصيل الآيات إما تفصيلها بحسب الجعل التكويني أو تفصيلها بحسب البيان اللفظي.
ولا تنافي بين إرادة مصالح الإِنسان في حياته وعيشته في هذه النشأة مما يتراءى لظاهر الحس من حركات هذه الاجرام العظيمة العلوية والكرات المتجاذبة السماوية، وبين كون كل من هذه الاجرام مراداً بإرادة إلهية مستقلة ومخلوقة بمشيئة تتعلق بنفسه وتخص شخصه فإن الجهات مختلفة، وتحقق بعض هذه الجهات لا يدفع تحقق بعض أخر والارتباط والاتصال حاكم على جميع أجزاء العالم.
قوله تعالى: { وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع } إلى أخر الآية، قرئ { مستقر } بفتح القاف وكسرها وهو على القراءة الأولى اسم مكان بمعنى محل الاستقرار فيكون { مستودع } أيضاً اسم مكان بمعنى محل الاستيداع وهو المكان الذي توضع فيه الوديعة. وقد وقع ذكر المستقر والمستودع في قوله تعالى:
{ { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين } [هود: 6] وفي الكلام حذف وإيجاز، والتقدير: فمنكم من هو في مستقر ومنكم من هو في مستودع، وعلى القراءة الثانية وهي الرجحى { مستقر } اسم فاعل ويكون المستودع اسم مفعول لا محالة، والتقدير فمنكم مستقر ومنكم مستودع لم يستقر بعد.
والظاهر أن بقوله: { وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة } انتهاء الذرية الإِنسانية على كثرتها وانتشارها إلى آدم الذي يعده القرآن الكريم مبدء للنسل الإِنساني الموجود، وأن المراد بالمستقر هو البعض الذي تلبس بالولادة من أفراد الإِنسان فاستقر في الأرض التي هي المستقر لهذا النوع كما قال تعالى:
{ { ولكم في الأرض مستقر } [البقرة: 36]، والمراد بالمستودع من استودع في الأصلاب والأرحام ولم يولد بعد وسيولد بعد حين، فهذا هو المناسب لمقام بيان الآية بإنشاء جميع الأفراد النوعية من فرد واحد ومن الممكن أن يؤخذ مستقر ومستودع مصدرين ميميين.
وقد عبّر بلفظ الإِنشاء دون الخلق ونحوه وهو ظاهر في الدفعة وما في حكمه دون التدريج، ويؤيد هذا المعنى أيضاً ما تقدم من قوله تعالى: { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها } كما لا يخفى أي يعلم ما استقر منها في الأرض بفعلية التكون وما هو في طريق التكون مما لم يتكون بالفعل ولم يستقر في الأرض.
فالمعنى: وهو الذي أوجدكم معشر الأناسي من نفس واحدة وعمر بكم الأرض إلى حين فهي مشغولة بكم ما لم تنقرضوا فلا يزال بعضكم مستقراً فيها وبعضكم مستودع في الأصلاب والأرحام أو في الأصلاب فقط في طريق الاستقرار فيها.
وقد أورد المفسرون في الآية معاني أُخر كقول بعضهم: إن المراد من إنشائهم من نفس واحدة خلقهم من نوع واحد من النفس وهو النفس الإِنسانية "أو أن المراد هو الإِنشاء من نوع واحد من التركيب النفسي والبدني، وهو الحقيقة الإِنسانية المؤلفة من نفس وبدن إنسانيين.
وكقول بعضهم: إن المراد بالمستقر الأرحام وبالمستودع الأصلاب وقول بعض آخر: إن المستقر الأرض والمستودع القبر، وقول بعض أخر: إن المستقر هو الرحم والمستودع الأرض أو القبر، وقول بعض آخر: إن المستقر هو الروح والمستودع هو البدن، إلى غير ذلك من أقاويلهم التي لا كثير جدوى في التعرض لها.
قوله تعالى: { هو الذي أنزل من السماء ماءً } إلى أخر الآية. السماء هي جهة العلو فكلما علاك وأظلك فهو سماء، والمراد بقوله: { فأخرجنا به نبات كل شيء } على ما قيل، فأخرجنا بالماء الذي أنزلناه من السماء النبات والنمو الذي في كل شيء نام له قوة النبات من الكمون إلى البروز، أي أنبتنا به كل شيء نباتي كالنجم والشجر والإِنسان وسائر الحيوان.
والخضر هو الأخضر وكأنه مخفف الخاضر، وتراكب الحب انعقاد بعضه فوق بعض كما في السنبلة، والطلع أول ما يبدو من ثمر النخل والقنوان جمع قنو وهو العذق بالكسر وهو من التمر كالعنقود من العنب، والدانية أي القريبة، والمشتبه وغير المتشابه المشاكل وغير المشاكل في النوع والشكل وغيرهما. وينع الثمر نضجه.
وقد ذكر الله سبحانه أُموراً مما خلقه لينظر فيها من له نظر وبصيرة فيهتدي بالنظر فيها إلى توحيده، وهي أُمور أرضية كفلق الحبة والنواة ونحو ذلك، وأُمور سماوية كالليل والصبح والشمس والقمر والنجوم، وأمر راجع إلى الإِنسان نفسه وهو إنشاء نوعه من نفس واحدة فمستقر ومستودع، وأُمور مؤلفة من الجميع كإنزال المطر من السماء وتهيئة الغذاء من نبات وحب وثمر وإنبات ما فيه قوة النمو كالنبات والحيوان والإِنسان من ذلك.
وقد عد النجوم آية خاصة بقوم يعلمون، وإنشاء النفوس الإِنسانية آية خاصة بقوم يفقهون، وتدبير نظام الإِنبات آية لقوم يؤمنون والمناسبة ظاهرة فإن النظر في أمر النظام أمر بسيط لا يفتقر إلى مؤونة زائدة بل يناله الفهم العادي بشرط أن يتنور بنصفة الإِيمان ولا يتلطخ بقذارة العناد واللجاج، وأما النظر في النجوم والأوضاع السماوية فمما لا يتخطى العلماء بهذا الشأن ممن يعرف النجوم ومواقعها وسائر الأوضاع السماوية إلى حدّ ما ولا يناله الفهم العام العامي إلا بمؤنة: وأما آية الأنفس فإن الاطلاع عليها وعلى ما عندها من أسرار الخلقة يحتاج مضافاً إلى البحث النظري إلى مراقبة باطنية وتعمق شديد وتثبت بالغ وهو الفقه.
قوله تعالى: { وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم } إلى أخر الآية. الجن إما مفعول لجعلوا ومفعوله الآخر شركاء أو بدل من شركاء، وقوله: { وخلقهم } كأنه حال وإن منعه بعض النحاة وحجتهم غير واضحة. وكيف كان فالكلمة في مقام ردهم، والمعنى وجعلوا له شركاء الجن وهو خلقهم والمخلوق لا يجوز أن يشارك خالقه في مقامه.
والمراد بالجن الشياطين كما ينسب إلى المجوس القول: بأهر من ويزدان. ونظيره ما عليه اليزيدية الذين يقولون بألوهية إبليس (الملك طاوس - شاه بريان) أو الجن المعروف بناء على ما نسب إلى قريش أنهم كانوا يقولون: إن الله قد صاهر الجن فحدث بينهما الملائكة، وهذا أنسب بسياق قوله: { وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم } وعلى هذا فالبنون والبنات هم جميعاً من الملائكة خرقوهم أي اختلقوهم ونسبوهم إليه افتراء عليه سبحانه وتعالى عما يشركون.
ولو كان المراد من هو أعم من الملائكة لم يبعد أن يكون المراد بهم ما يوجد في سائر الملل غير الإِسلام فالبرهمنية والبوذية يقولون بنظير ما قالته النصارى من بنوة المسيح كما تقدم في الجزء الثالث من الكتاب، وسائر الوثنيين القدماء كانوا يثبتون لله سبحانه بنين وبنات من الآلهة على ما يدل عليه الآثار المكتشفة ومشركو العرب كانوا يقولون: إن الملائكة بنات الله.
قوله تعالى: { بديع السماوات والأرض } إلى آخر الآية. جواب عن قولهم بالبنين والبنات، ومحصله أن لا سبيل لتحقق حقيقة الولد إلا اتخاذ الصاحبة ولم يكن له تعالى صاحبة فأنّى يكون له ولد؟.
وأيضاً هو تعالى الخالق لكل شيء وفاطره، والولد هو الجزء من الشيء بربيه بنوع من اللقاح وجزء الشيء والمماثل له لا يكون مخلوقاً له البتة، ويجمع الجميع أنه تعالى بديع السماوات والأرض الذي لا يماثله شيء من أجزائها بوجه من الوجوه فكيف يكون له صاحبة يتزوج بها أو بنون وبنات يماثلونه في النوع فهذا أمر يخبر به الله الذي لا سبيل للجهل إليه فهو بكل شيء عليم، وقد تقدم في الكلام على قوله تعالى:
{ { ما كان لبشر أن يؤتيه الله } [آل عمران: 79] الخ، في الجزء الثالث من الكتاب ما ينفع في المقام.
قوله تعالى: { ذٰلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء } إلى آخر الآيتين الجملة الأولى أعني قوله: { ذٰلكم الله ربكم } نتيجة متخذة من البيان المورد في الآيات السابقة، والمعنى: إذا كان الأمر على ما ذكر فالله الذي وصفناه هو ربكم لا غير، وقوله: { لا إله إلا هو } كالتصريح بالتوحيد الضمني الذي تشتمل عليه الجملة السابقة، وهو مع ذلك يفيد معنى التعليل أي هو الرب ليس دونه رب لأنه الله الذي ليس دونه إله وكيف يكون غيره رباً وليس بإله.
وقوله: { خالق كل شيء } تعليل لقوله: { لا إله إلا هو } أي إنما انحصرت الألوهية فيه لأنه خالق كل شيء من غير استثناء فلا خالق غيره لشيء من الأشياء حتى يشاركه في الألوهية، وكل شيء مخلوق له خاضع له بالعبودية فلا يعادله فيها.
وقوله: { فاعبدوه } متفرع كالنتيجة على قوله { ذٰلكم الله ربكم } أي إذا كان الله سبحانه هو ربكم لا غير فاعبدوه، وقوله: { وهو على كل شيء وكيل } أي هو القائم على كل شيء المدبر لأمره الناظم نظام وجوده وحياته وإذا كان كذلك كان من الواجب أن يتقى فلا يتخذ له شريك بغير علم فالجملة كالتأكيد لقوله: { فاعبدوه } أي لا تستنكفوا عن عبادته لأنه وكيل عليكم غير غافل عن نظام أعمالكم.
وأما قوله: { لا تدركه الأبصار } فهو لدفع الدخل الذي يوهمه قوله: { وهو على كل شيء وكيل } بحسب ما تتلقاه أفهام المشركين الساذجة والخطاب معهم، وهو أنه إذا صار وكيلاً عليهم كان أمراً جسمانيا كسائر الجسمانيات التي تتصدى الأعمال الجسمانية فدفعه بأنه تعالى لا تدركه الأبصار لتعاليه عن الجسمية ولوازمها، وقوله: { وهو يدرك الأبصار } دفع لما يسبق إلى أذهان هؤلاء المشركين الذين اعتادوا بالتفكّر المادي، وأخلدوا إلى الحس والحسوس وهو أنه تعالى إذا ارتفع عن تعلق الأبصار به خرج عن حيطة الحس والمحسوس وبطل نوع الاتصال الوجودي الذي هو مناط الشعور والعلم، وانقطع عن مخلوقاته فلا يعلم بشيء كما لا يعلم به شيء، ولا يبصر شيئاً كما لا يبصره شيء فأجاب تعالى عنه بقوله: { وهو يدرك الأبصار } ثم علل هذه الدعوى بقوله: { وهو اللطيف الخبير } واللطيف هو الرقيق النافذ في الشيء، والخبير من له الخبرة، فإذا كان تعالى محيطاً بكل شيء بحقيقة معنى الإِحاطة كان شاهداً على كل شيء لا يفقده ظاهر شيء من الأشياء ولا باطنه، وهو مع ذلك ذو علم وخبرة كان عالماً بظواهر الأشياء وبواطنها من غير أن يشغله شيء عن شيء أو يحتجب عنه شيء بشيء فهو تعالى يدرك البصر والمبصر معاً، والبصر لا يدرك إلا المبصر.
وقد نسب إدراكه إلى نفس الأبصار دون أولي الأبصار لأن الإِدراك الموجود فيه تعالى ليس من قبيل إدراكاتنا الحسية حق يتعلق بظواهر الأشياء من أعراضها كالبصر مثلاً الذي يتعلق بالأضواء والألوان ويدرك به القرب والبعد والعظم والصغر والحركة والسكون بنحو بل الأعراض وموضوعاتها بظواهرها وبواطنها حاضرة عنده مكشوفة له غير محجوبة عنه ولا غائبة فهو تعالى يجد الأبصار بحقائقها وما عندها وليست تناله.
ففي الآيتين من سطوح البيان وسهولة الطريق وإيجاز القول ما يحير اللب وهما مع ذلك تهديان المتدبر فيهما إلى أسرار دونها أستار.
(كلام في عموم الخلقة وانبساطها على كل شيء)
قوله تعالى: { ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء } ظاهره وعموم الخلقة لكل شيء وانبساط إيجاده تعالى على كل ما له نصيب من الوجود والتحقق، وقد تكرر هذا اللفظ أعني قوله تعالى: { الله خالق كل شيء } منه تعالى في كلامه من غير أن يوجد فيه ما يصلح لتخصيصه بوجه من الوجوه قال تعالى:
{ { قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار } [الرعد: 16] وقال تعالى: { { الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل } [الزمر: 62]، وقال تعالى: { { ذٰلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو } [غافر: 62]. وقد نشبت بين الباحثين من أهل الملل في هذه المسألة مشاجرات عجيبة يتبعها أقاويل مختلفة حتى من المتكلمين والفلاسفة من النصارى واليهود فضلاً عن متكلمي الإِسلام وفلاسفته، ولا يهمنا المبادرة إلى إيراد أقوالهم وآرائهم والتكلم معهم، وإنما بحثنا هذا قرآني تفسيرى لا شغل لنا بغير ما يتحصل به الملخص من نظر القرآن الكريم بالتدبر في أطراف آياته الشريفة.
نجد القرآن الكريم يسلم ما نتسلمه من أن الموضوعات الخارجية والأشياء الواقعة في دار الوجود كالسماء وكواكبها ونجومها والأرض وجبالها ووهادها وسهلها وبحرها وبرها وعناصرها ومعدنياتها والسحاب والرعد والبرق والصواعق والمطر والبرد والنجم والشجر والحيوان والإِنسان لها آثار وخواص هي أفعالها وهي تنسب إليها نسبة الفعل إلى فاعله والمعلول إلى علته.
ونجده يصدق أن للإِنسان كسائر الأنواع الموجودة أفعالاً تستند إليه وتقوم به كالأكل والشرب والمشي والقعود وكالصحة والمرض والنمو والفهم والشعور والفرح والسرور من غير أن يفرق بينه وبين غيره من الأنواع في شيء من ذلك فهو يخبر عن أعماله ويأمره وينهاه، ولولا أن له فعلاً لم يرجع شيء من ذلك إلى معنى محصّل. فالقرآن يزن الواحد من الإِنسان بعين ما نزنه نحن معشر الإِنسان في مجتمعنا فنعتقد أن له أفعالاً وآثاراً منسوبة إليه نؤاخذه في بعض أفعاله التي ترجع بنحو إلى اختياره كالأكل والشرب والمشي ونصفح عنه فيما لا يرجع إلى اختياره من آثاره القائمة به كالصحة والمرض والشباب والمشيب وغير ذلك.
فالقرآن ينظم النظام الموجود مثل ما ينتظم عند حواسنا وتؤيده عقولنا بما شفعت به من التجارب، وهو أن أجزاء هذا النظام على اختلاف هوياتها وأنواعها فعالة بأفعالها مؤثرة متأثرة في غيرها ومن غيرها وبذلك تلتئم أجزاء النظام الموجود الذي لكل جزء منها ارتباط تام بكل جزء، وهذا هو قانون العلية العام في الأشياء، وهو أن كل ما يجوز له في نفسه أن يوجد وأن لا يوجد فهو إنما يوجد عن غيره فالمعلول ممتنع الوجود مع عدم علته، وقد أمضى القرآن الكريم صحة هذا القانون وعمومه، ولو لم يكن صحيحاً أو تخلف في بعض الموارد لم يتم الاستدلال به أصلاً وقد استدل القرآن به على وجود الصانع ووحدانيته وقدرته وعلمه وسائر صفاته.
وكما أن المعلول من الأشياء يمتنع وجوده مع عدم علته كذلك يجب وجوده مع وجود علته قضاءً لحق الرابطة الوجودية التي بينهما. وقد أنفذه الله سبحانه في كلامه في موارد كثيرة استدل فيها من طريق ما له من الصفات العليا على ثبوت آثارها ومعاليلها كقوله: وهو الواحد القهار وقوله: إن الله عزيز ذو انتقام، إن الله عزيز حكيم، إن الله غفور رحيم وغير ذلك، واستدل أيضاً على كثير من الحوادث والأمور بثبوت أشياء أخرى يستعقب ثبوتها بعدها كقوله:
{ { فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل } [الأعراف: 101] وغير ذلك مما ذكر من أمر المؤمنين والكافرين والمنافقين ولو جاز أن يتخلف أثر من مؤثره إذا اجتمعت الشرائط اللازمة وارتفعت الموانع المنافية لم يصح شيء من هذه الحجج والأدلة البتة.
فالقرآن يسلم حكومة قانون العلية العام في الوجود، وأن لكل شيء من الأشياء الموجودة وعوارضها ولكل حادث من الحوادث الكائنة عله أو مجموع علل بها يجب وجوده وبدونها يمتنع وجوده هذا مما لا ريب فيه في بادئ التدبر.
ثم إنا نجد أن الله سبحانه في كلامه يعمم خلقه على كل ما يصدق عليه شيء من أجزاء الكون قال تعالى:
{ { قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار } [الرعد: 16] إلى غير ذلك من الآيات المنقولة آنفاً، وهذا ببسط عليته وفاعليته تعالى لكل شيء مع جريان العلية والمعلولية الكونية بينها جميعاً كما تقدم بيانه.
وقال تعالى:
{ { الذي له ملك السماوات والأرض } [الأعراف: 153] إلى أن قال { { وخلق كل شيء فقدره تقديراً } [الفرقان: 2] وقال: { { الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } [طه: 50] وقال: { { الذي خلق فسوى، والذى قدر فهدى } [الأعلى: 2 - 3] إلى غير ذلك من الآيات.
وفي هذه الآيات نوع آخر من البيان أُخذت فيه الأشياء منسوبة إلى الخلقة وأعمالها وأنواع آثارها وحركاتها وسكناتها منسوبة إلى التقدير والهداية الإِلهية فإلى تقديره تعالى تنتهي خصوصيات أعمال الأشياء وآثارها كالإِنسان يخطو ويمشي في انتقاله المكاني والحوت يسبح والطير يطير بجناحيه قال تعالى:
{ { فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء } [النور: 45] والآيات في هذا المعنى كثيرة، فخصوصيات أعمال الأشياء وحدودها وأقدارها تنتهي إليه تعالى، وكذلك الغايات التي تقصدها الأشياء على اختلافها فيها، وتشتتها وتفننها إنما تتعين لها وتروم نحوها بالهداية الإِلهية التي تصحبها منذ أول وجودها إلى آخره، وينتهى ذلك إلى تقدير العزيز العليم.
فالأشياء في جواهرها وذواتها تستند إلى الخلقة الإِلهية وحدود وجودها وتحولاتها وغاياتها وأهدافها في مسير وجودها وحياتها كل ذلك ينتهي إلى التقدير المنتهي إلى خصوصيات الخلقه الإِلهية وهناك آيات أُخرى كثيرة ناطقة بأن أجزاء الكون متصل بعضه ببعض متلائم بعض منه مع بعض متوحدة في الوجود يحكم فيها نظام واحد لا مدبر له إلا الله سبحانه، وهو الذي ربما سمي ببرهان اتصال التدبير.
فهذا ما ينتجه التدبر في كلامه تعالى غير أن هناك جهات أُخرى ينبغي للباحث المتدبر أن لا يغفل عنها وهي ثلاث:
إحداها: أن من الأشياء ما لا يرتاب في قبحه وشناعته كأنواع الظلم والفجور التي ينقبض العقل من نسبتها إلى ساحة القدس والكبرياء والقرآن الكريم أيضاً ينزهه تعالى عن كل ظلم وسوء في آيات كثيرة كقوله:
{ { وما ربك بظلام للعبيد } [فصلت: 46] وقوله: { { قل إن الله لا يأمر بالفحشاء } [الأعراف: 28] وغير ذلك، وهذا ينافي عموم الخلقة لكل شيء فمن الواجب أن تخصص الآية بهذا المخصص العقلي والشرعي.
وينتج ذلك أن الأفعال الإِنسانية مخلوقة للإِنسان وما وراءه من الأشياء ذواتها وآثارها مخلوقة لله سبحانه.
على أن كون الافعال الإِنسانية مخلوقة له تعالى ببطل كونها عن اختيار الإِنسان، ويبطل بذلك نظام الأمر والنهي والطاعة والمعصية والثواب والعقاب وإرسال الرسل وإنزال الكتب وتشريع الشرائع. كذا ذكره جمع من الباحثين.
وقد ذهب على هؤلاء في بحثهم أن يفرقوا بين الأمور الحقيقية التي تنال الوجود والتحقق حقيقة، والأمور الاعتبارية والجهات الوضعية التي لا ثبوت لها في الواقع، وإنما اضطر الإِنسان إلى تصورها أو التصديق بها حاجة الحياة، وابتغاء سعادة الوجود بالاجتماع والتمدن فخلطوا بين الجهات الوجودية والعدمية في الأشياء، وقد تقدمت نبذة من هذا البحث في الكلام على الجبر والتفويض في الجزء الأول من الكتاب.
والذي يناسب المقام من الكلام أن ظاهر قوله: { الله خالق كل شيء } يعمم الخلقة لكل شيء ثم قوله تعالى:
{ { الذي أحسن كل شيء خلقه } [السجدة: 7] يثبت الحسن لكل ما خلقه الله، ويتحصل من الآيتين أن كل ما يصدق عليه اسم شيء ما خلا الله فهو مخلوق، وأن كل مخلوق فهو متصف بالحسن فالخلق والحسن متلازمان في الوجود فكل شيء فهو من جهة أنه مخلوق لله أي بتمام واقعيته الخارجية حسن فلو عرض لها عارض السوء والقبح كان من جهة النسب والإِضافات وأُمور أُخرى غير جهة واقعيته ووجوده الحقيقي الذي ينسب به إلى الله سبحانه وإلى فاعله المعروض له.
ثم إنا نحصل في كلامه تعالى على موارد كثيرة يذكر فيها السيئة والظلم والذنب وغيرها ذكر تسليم فلنقض بضمها إلى ما تقدم بأن هذه معان وعناوين غير حقيقيه لا يلحق الشيء من جهة انتسابه إلى الله سبحانه وخلقه له، وإنما يلحق الموضوع الذي يقوم الأثر والعمل به من جهة وضع أو نسبة أو إضافة فإن كل معصية وظلم فإن معه من سنخه ما ليس بمعصية وإنما يختلفان من جهة اشتمال أحدهما على مخالفة أمر تشريعي أو عقلي أو اشتماله على فساد في المجتمع أو نقض لغاية دون الآخر مثاله الزنا والنكاح وهما فعلان متماثلان لا يختلفان في حقيقتهما ووجودهما النوعي مثلاً وإنما يختلفان بالموافقة والمخالفة للشرع الإِلهي أو السنة الاجتماعية أو مصلحة المجتمع، وتلك أُمور وضعية وجهات إضافية، والخلقة والإِيجاد إنما يتعلق بجهة التكوين والخارج، وأما الجهات الإِضافية والعناوين الوضعية التي تلحق الأشياء بحسب انطباقها على المصالح والمفاسد الاجتماعية المستعقبة للمدح والذم أو الثواب والعقاب بحسب ما يشخصها ويحكم بها العقل العملي والشعور الاجتماعي فإنما هي أمور لا تتعدى طور الاجتماع ولا يدخل في دار التكوين أصلاً إلا آثارها التي هي أقسام الثواب والعقاب مثلاً.
فالفعل الكذائي كالظلم بعنوانه الذي هو الظلم قبيح في ظرف الاجتماع ومعصية تستتبع الذم والعقاب عند المجتمعين، وأما بحسب التكوين فليس إلا أثراً أو مجموع آثار من قبيل الحركات العارضة للإِنسان والعلل الخارجية وخاصة السببية الأولى الإِلهية إنما تنتج هذه الجهة التي هي جهة التكوين، وأما عنوانه القبيح وما يلحق به فإنما هو مولود النظر التشريع أو العقلائي لا خبر عنه بنظر التكوين كما أن زيداً الرئيس هو بعنوانه الذي هو الرئاسة موضوع اجتماعي عندنا له آثار مترتبة عليه في المجتمع كالاحترام والتقدم ونفوذ الكلمة وإدارة الأمور، وأما من حيث التكوين والواقعية فإنما هو فرد من أفراد الإِنسان لا فرق بينه وبين الفرد المرؤوس أصلاً، ولا خبر في هذا النظر عن الرئاسة والآثار المرتبة عليها، وكذا الغني والفقير والسيد والمسود والعزيز والذليل والشريف والخسيس وأمثال ذلك مما لا يحصى.
وبالجملة الخلقة في عين أنها تعم كل شيء إنما تتعلق بالموضوعات والأفعال الواقعة في ظرف الاجتماع المعنونة بمختلف عناوينها بجهة تكوينها وواقعيتها الخارجية، وأما ما وراء ذلك من جهات القبح والحسن والمعصية والطاعة وسائر الأوصاف والعناوين الاجتماعية الطارئة على الأفعال والموضوعات فالخلق والإِيجاد لا يتعلق بها، وليس لها ثبوت إلا في ظرف التشريع أو القضاء الاجتماعي وساحة الاعتبار والوضع.
وإذا تبيّن أن ظرف تحقق الأمر والنهي وانتشاء الحسن والقبح والطاعة والمعصية وتعلق الثواب والعقاب وارتباطهما بالفعل وكذا سائر الأمور والعناوين الاجتماعية كالمولوية والعبودية والرئاسة والمرؤوسية والعزة والذلة ونحو ذلك غير ظرف التكوين وساحة الواقعية الخارجية التي تعلق بها الخلق والإِيجاد ظهر أن عموم الخلقة لكل شيء لا يستلزم شيئاً من المفاسد التي ذكروها كبطلان نظام الأمر والنهي والثواب والعقاب وغير ذلك مما تقدم ذكره.
وكيف يسوغ لمن تدبر كلامه تعالى أن يفتي بمثل هذه الثنوية وكلامة مشحون بأنه خالق كل شيء وأنه الله الواحد القهار وأن قضاءه وقدره وهدايته التكوينية وربوبيته وتدبيره شامل لكل شيء لا يشذ عنه شاذ، وأن ملكه وسلطانه وإحاطته وكرسيه وسع كل شيء، وأن له ما في السماوات والأرض وما ظهر وما بطن، وكيف يستقيم شيء من هذه التعاليم الإِلهية المنبئة عن توحيده في ربوبيته مع وجود ما لا يحصى من مخلوقات غيره خلال مخلوقاته.
الثانية: أن القرآن الكريم إذ ينسب خلق كل شيء إليه تعالى ويحصر العلة الفاعلة فيه كان لازمه إبطال رابطة العلية والمعلولية بين الأشياء فلا مؤثر في الوجود إلا الله، وإنما هي عادته تعالى جرت أن يخلق ما نسميه معلولاً عقيب ما نسميه عله من غير أن تكون بينهما رابطة توجب وجود المعلول منهما عقيب العلة فالنار التي تستعقب الحرارة نسبتها إلى الحرارة والبرودة على السواء، والحرارة نسبتها إلى النار والثلج على السواء غير أن عادة الله جرت أن يخلق الحرارة عقيب النار والبرودة بعد الثلج من غير أن يكون هناك إيجاب واقتضاء بوجه أصلاً.
وهذا النظر يبطل قانون العلية والمعلولية العام الذي عليه المدار في القضاء العقلي وببطلانه ينسد باب إثبات الصانع ولا تصل النوبة مع ذلك إلى كتاب إلهي يحتج به على بطلان رابطة العلية والمعلولية بين الأشياء، وكيف يسع أن يبطل القرآن الشريف حكماً صريحاً عقلياً ويعزل العقل عن قضائه؟ وإنما تثبت حقيقته وحجيته بالحكم العقلي والقضاء الوجداني، وهو إبطال النتيجة لدليلها الذي لا يؤثر إلا إبطال النتيجة لنفسها.
وهؤلاء إنما وقعوا فيما وقعوا من جهة خلطهم بين العلل الطولية والعرضية وإنما يستحيل توارد العلتين على شيء إذا كانتا في عرض واحد لا إذا كانت إحداهما في طول الأخرى، مثال ذلك أن العلة التامة لوجود النار كما توجب وجود النار كذلك توجب وجود الحرارة ولا يجتمع مع ذلك في الحرارة إيجابان ولا تعمل فيها علتان تامتان مستقلتان بل علة معلولة لعلة.
وبتقريب آخر أدق: منشأ الخطأ هو عدم التمييز بين الفاعل بمعنى ما منه والفاعل بمعنى ما به ولاستقصاء القول في المسألة محل آخر.
الثالثة: وهي قريبة المأخذ من الثانية أنهم لما وجدوا أنه تعالى ينسب خلق كل شيء إلى نفسه، وهو تعالى مع ذلك يسلم وجود رابطة العلية والمعلولية بين الأشياء أنفسها حسبوا أن ما له علة ظاهرة معلومة من الأشياء فهي العلة له دونه تعالى وإلا لزم اجتماع علتين مستقلتين على معلول واحد ولا يبقى لتأثيره تعالى إلا حدوث الأشياء وبدء وجودها ولذا تراهم يرومون إثبات الصانع من جهة حدوث الأشياء كحدوث الإِنسان بعد ما لم يكن وحدوث الأرض بعد ما لم تكن وحدوث العالم بعد ما لم يكن.
ويضيفون إلى ذلك وجود أُمور أو حدوث حوادث مجهولة العلل للإِنسان كالروح وكالحياة في الإِنسان والحيوان والنبات فإن الإِنسان لم يظفر بعلل وجودها بعد، والبسطاء منهم يضيفون إلى ذلك أمثال السحب والثلوج والأمطار وذوات الأذناب والزلازل والقحط والغلاء والأمراض العامة ونحو ذلك مما لا يظهر عللها الطبيعية للأفهام العامية ثم كلما لاح لهم في شيء منها علته الطبيعية انهزموا منه إلى غيره وبدلوا موقفاً بآخر أو سلموا للخصم.
وهذا بحسب اللسان العلمي هو أن الوجود الممكن إنما يحتاج إلى الواجب في حدوثه لا في بقائه، وهو الذي يصر عليه جم غفير من أهل الكلام حتى صرح بعضهم: أنه لو جاز العدم على الواجب لم يضر عدمه وجود العالم تعالى الله وتقدس، وهذا - فيما نحسب - رأي إسرائيلي تسرب في أذهان عدة من الباحثين من المسلمين ومن فروع ذلك قولهم باستحالة البداء والنسخ، والرأي جار سار بين الناس مع ذلك.
وكيف كان هو من أردء الأوهام والاحتجاج القرآني يخالفه فإن الله سبحانه يستدل على وجود الصانع ووحدته بالآيات المشهودة في العالم وهو النظام الجاري في كل نوع من الخليقة وما يجري عليه في مسير وجوده وأمد حياته من التغير والتحول والفعل والانفعال والمنافع التي يستدرها من ذلك ويوصلها إلى غيره كالشمس والقمر والنجوم وطلوعها وغروبها وما يستجلبه الناس من منافعها والتحولات الفصلية الطارئة على الأرض والبحار والأنهار والفلك التي تجري فيها والسحب والأمطار وما ينتفع به الإِنسان من الحيوان والنبات وما يجري عليه من الأحوال الطبيعية والتغيرات الكونية من نطفية وجنينية وصباوة وشباب وشيب وهرم وغير ذلك.
وجميع ذلك من الجهات الراجعة إلى الأشياء من حيث بقائها وموضوعاتها علل أعراضها وآثارها وكل مجموع منها في حين علة للمجموع الحاصل بعد ذلك الحين، وحوادث اليوم علل حوادث الغد كما أنها معلولة حوادث الأمس.
ولو كانت الأمور من حيث بقائها مستغنية عن الله سبحانه واستقلت بما يكتنف بها من الحوادث ويطرأُ عليها من الآثار والأعمال لم يستقم شيء من هذه الحجج الباهرة والبراهين القاهرة وذلك أن احتجاج القرآن بهذه الآيات البيّنات من جهتين:
إحداهما: من جهة الفاعل كما يشير إليه أمثال قوله تعالى:
{ { أفي الله شك فاطر السماوات والأرض } [إبراهيم: 10] فإن من الضروري أن شيئاً من هذه الموجودات لم يفطر ذاته ولم يوجد نفسه، ولا أوجده شيء أخر مثله فإنه يناظره في الحاجة إلى إيجاد موجد، ولو لم ينته الأمر إلى أمر موجود بذاته لا يقبل طرو العدم عليه لم يوجد في الخارج شيء من هذه الأشياء فهي موجودة بإيجاد الله الذي هو في نفسه حق لا يقبل بطلاناً ولا تغيراً بوجه عما هو عليه.
ثم إنها إذا وجدت لم تستغن عنه فليس إيجاد شيء شيئاً من قبيل تسخين المسخن مثلاً حيث تنصب الحرارة بالانفصال من المسخن إلى المتسخن فيعود المتسخن واجداً للوصف بقي المسخن بعد ذلك أو زال، إذ لو كانت إفاضة الوجود على هذه الوتيرة عاد الوجود المفاض مستقلاً بنفسه واجباً بذاته لا يقبل العدم لمكان المناقضة، وهذا هو الذي يعبر عنه الفهم الساذج الفطري بأن الأشياء لو ملكت وجود نفسها واستقلت بوجه عن ربها لم يقبل الهلاك والفساد فإن من المحال أن يستدعي الشيء بطلان نفسه أو شقاءها.
وهو الذي يستفاد من أمثال قوله:
{ { كل شيء هالك إلا وجهه } [القصص: 88] وقوله: { { ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً } [الفرقان: 3] ويدل على ذلك أيضاً الآيات الكثيرة الدالة على أن الله سبحانه هو المالك لكل شيء لا مالك غيره، وأن كل شيء مملوك له لا شأن له إلا المملوكية.
فالأشياء كما تستفيض منه تعالى الوجود في أول كونها وحدوثها كذلك تستفيض منه ذلك في حال بقائها وامتداد كونها و حياتها فلا يزال الشيء موجوداً ما يفيض عليه الوجود وإذا انقطع عنه الفيض انمحى رسمه عن لوح الوجود قال تعالى:
{ { كلا نمد هٰؤلاء وهٰؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً } [الإسراء: 20] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
وثانيتهما: من جهة الغايات كما تشير إليه الآيات الواصفة للنظام الجاري في الكون متلائمة أجزاؤه متوافقة أطرافه يضمن سير الواحد منها إيصال الآخر إلى كماله ويتوجه ما وقع في طرف من السلسلة المترتبة إلى إسعاد ما في طرف آخر منها ينتفع فيها الإِنسان مثلاً بالنظام الجاري في الحيوان والنبات، والنبات مثلاً بالنظام الجاري في الأرض والجو المحيط بها، وتستمد الأرضيات بالسماويات والسماويات بالأرضيات فيعود الجميع ذا نظام متصل واحد يسوق كل نوع من الأنواع إلى ما يسعد به في كونه ويفوز به في وجوده وتأبى الفطرة السليمة والشعور الحي إلا أن يقضى أن ذلك كله من تقدير عزيز عليم وتدبير حكيم خبير.
وليس هذا التقدير والتدبير إلا عن فطر ذواتها وإيجاد هوياتها وصوغ أعيانها بضرب كل منها في قالب يقدر له أفعاله ويحصره في ما أريد منه في موطنه وما يؤول إليه في منازل هيئت على امتداد مسيره، والذي يقف عليه أخر ما يقف، وهي في جميع هذه المراحل على مراكب الأسباب بين سائق القدر وقائد القضاء.
قال تعالى:
{ { له الخلق والأمر } [الأعراف: 54]، وقال: { { ألا له الحكم } [] وقال: { { ولكل وجهة هو موليها } [البقرة: 148] وقال: { { والله يحكم لا معقب لحكمه } [الرعد: 41] وقال: { { هو قائم على كل نفس بما كسبت } [الرعد: 33]. وكيف يسع لمتدبر في أمثال هذه الآيات أن يعطف واضح معانيها وصريح مضامينها إلى أن الله سبحانه خلق ذوات الأشياء على ما لها من الخصوصيات والشخصيات ثم اعتزلها وما كان يسعه إلا أن يعتزل ويرصد فشرع الأشياء في التفاعل والتناظم بما فيها من روح العلية والمعلولية واستقلت في الفعل والانفعال وخالقها يتأملها في معزلة وينتظر يوم يفنى فيه الكل حتى يجدد لها خلقاً جديداً يثيب فيه من استمع لدعوته في حياته الأولى ويعاقب المستكبر المستنكف، وقد صبر على خلافهم طول الزمان غير أنه ربما غضب على بعض ما يشاهده منهم فيعارضهم في مشيئتهم، ويمنع من تأثير بعض مكائدهم على نحو المعارضة والممانعة.
أي أنه تعالى يخرج من مقام الاعتزال في بعض ما تؤدي الأسباب والعلل الكونية المستقلة الجارية إلى خلاف ما يرتضيه، أو لا يؤدي إلى ما يوافق مرضاته فيداخل الأسباب الكونية بإيجاد ما يريده من الحوادث، وليس يداخل شيئاً إلا بإبطال قانون العلية الجاري في المورد إذ لو أوجد ما كان يريده من طريق الأسباب والعلل كان التأثير على مزعمتهم للعلل الكونية دونه تعالى، وهذا هو السر في إصرار هؤلاء على أن المعجزات وخوارق العادات ونحوهما إنما تتحقق بالإِرادة الإِلهية وحدها ونقض قانون العلية العام، فلا محالة يتم الأمر بنقض السببية الكونية وإبطال قانون العلية ويبطل بذلك أصل قولهم: إن الأشياء مفتقرة إليه تعالى في حدوثها غنية عنه في بقائها.
فهؤلاء القوم لا يسعهم إلا أن يلتزموا أحد أمرين إما القول بأن العالم على سعته ونظامه الجاري فيه مستقل عن الله سبحانه غير مفتقر إليه أصلاً ولا تأثير له تعالى في شيء من أجزائه ولا التحولات الواقعة فيه إلا ما كان من حاجته إليه في أول حدوثه وقد أحدثه فارتفعت الحاجة وانقطعت الخلة.
أو القول بأن الله هو الخالق لكل ما يقع عليه اسم شيء والمفيض له الوجود حال الحدوث وفي حال البقاء، ولا غنى عنه تعالى لذات ولا فعل طرفة عين.
وقد عرفت أن البحث القرآني يدفع أول القولين لتعاضد الآيات على بسط الخلقة والسلطة الغيبية على ظاهر الأشياء وباطنها وأولها وآخرها وذواتها وأفعالها حال حدوثها وحال بقائها جميعاً فالمتعين هو الثاني من القولين والبحث العقلي الدقيق يؤيد بحسب النتيجة ما هو المتحصل من الآيات الكريمة.
فقد ظهر من جميع ما تقدم: أن ما يظهر من قوله: { الله خالق كل شيء } على ظاهرعمومه من غير أن يتخصص بمخصص عقلي أو شرعي.
قوله تعالى: { قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها } الخ قال في المجمع: البصيرة البينة والدلالة التي يبصر بها الشيء على ما هو به والبصائر جمعها انتهى. وقيل: البصيرة للقلب كالبصر للعين، والأصل في الباب على أي حال هو الإِدراك بحاسة البصر الذي يعد أقوى الإِدراكات، ونيلاً من خارج الشيء المشهود، والإِبصار والعمى في الآية هو العلم والجهل أو الإِيمان والكفر توسعاً.
وكأنه تعالى يشير بقوله: { قد جاءكم بصائر من ربكم } إلى ما ذكره في الآيات السابقة من الحجج الباهرة على وحدانيته وانتفاء الشريك عنه، والمعنى أن هذه الحجج بصائر قد جاءتكم من جانب الله بالوحي إلي، والخطاب من قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم ذكر للمخاطبين وهم المشركون أنهم على خيرة من أمر أنفسهم إن شاءوا أبصروا بها وإن شاءوا عموا عنها غير أن الإِبصار لأنفسهم والعمى عليها.
ومن هنا يظهر أن المراد بالحفظ عليهم رجوع أمر نفوسهم وتدبير قلوبهم إليه فهو إنما ينفي كونه حفيظاً عليهم تكويناً وإنما هو ناصح لهم. والآية كالمعترضة بين الآيات السابقة والآية اللاحقة، وهو خطاب منه تعالى عن لسان نبيه كالرسول يأتي بالرسالة إلى قوم فيؤديها إليهم وفي خلال ما يؤديه يكلمهم من نفسه بما يهيجهم للسمع والطاعة ويحثهم على الانقياد بإظهار النصح ونفي الأغراض الفاسدة عن نفسه.
قوله تعالى: { وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست } الخ، وقرئ: دارست بالخطاب ودرست بالتأنيث والغيبة، قيل: إن التصريف هو إجراء المعنى الدائر في المعاني المتعاقبة ليجتمع فيه وجوه الفائدة، وقوله: { درست } من الدرس وهو التعلم والتعليم من طريق التلاوة، وعلى هذا المعنى قراءة دارست غير أن زيادة المباني تدل على زيادة المعاني وأما قراءة { درست } بالتأنيث والغيبة فهو من الدروس بمعنى تعفّي الأثر أي اندرست هذه الأقوال كقولهم: أساطير الأولين.
والمعنى: على هذا المثال نصرف الآيات ونحولها بياناً لغايات كثيرة ومنها أن يستكمل هؤلاء الأشقياء شقوتهم فيتهموك يا محمد بأنك تعلمتها من بعض أهل الكتاب أو يقولوا: اندرست هذه الأقاويل وانقرض عهدها ولا نفع فيها اليوم، ولنبينه لقوم يعلمون بتطهير قلوبهم وشرح صدورهم به، وهذا كقوله:
{ { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً } [الإسراء: 82]. (بحث روائي)
في الكافي بإسناده عن الفضيل بن يسار قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إن الله لا يوصف، وكيف يوصف وقال في كتابه: { وما قدروا الله حق قدره } فلا يوصف بقدر إلا كان أعظم من ذلك.
وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: { وما قدروا الله حق قدره } قال: هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم فمن آمن أن الله على كل شيء قدير فقد قدر الله حق قدره، ومن لم يؤمن بذلك فلم يؤمن بالله حق قدره. { إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } يعني من بني إسرائيل قالت اليهود: يا محمد أنزل الله عليك كتاباً؟! قال: نعم، قالوا: والله ما أنزل الله من السماء كتاباً، فأنزل الله: قل يا محمد من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس إلى قوله ولا آباؤكم قل الله أنزله.
أقول: والمعنى الذي في صدر الرواية تقدم في البيان السابق أنه خلاف ظاهر الآية بل الظاهر أن الذين قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء، هم الذين لم يقدروا الله سبحانه حق قدره.
وفيه أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: { إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } قال: قال فنحاص اليهودي: ما أنزل الله على محمد من شيء.
أقول: واختلاف الحاكي والمحكي يفسد المعنى، واحتمال النقل بالمعنى مع هذا الاختلاف الفاحش لا مسوّغ له.
وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال:
" جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف فخاصم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له النبي:أُنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد في التوراة: أن الله يبغض الحبر السمين؟ وكان حبراً سميناً فغضب وقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء، فقال له أصحابه: ويحك ولا على موسى؟ قال: ما أنزل الله على بشر من شيء، فأنزل الله: { وما قدروا الله حق قدره } الآية" .
وفيه أخرج ابن مردويه عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ام القرى مكة"
]. وفي تفسير العياشي عن علي بن أسباط قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: لم سمي النبي الأُمي؟ قال: نسب إلى مكة وذلك من قوله الله: { لتنذر أُم القرى ومن حولها } وإم القرى مكة، ومن حولها الطائف.
أقول: وعلى ما في الرواية يصير قوله: { لتنذر أُم القرى ومن حولها } من قبيل قوله:
{ { وأنذر عشيرتك الأقربين } [الشعراء: 214] ولا ينافي الأمر بإنذار طائفة خاصة عموم الرسالة لجميع الناس كما يدل عليه أمثال قوله: { { لأنذركم به ومن بلغ } [الأنعام: 19] وقوله: { { إن هو إلا ذكرى للعالمين } [الأنعام: 90] وقوله: { { قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً } [الأعراف: 158]. وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله: { قل من أنزل الكتاب } إلى قوله { تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً } قال: كانوا يكتمون ما شاءوا ويبدون ما شاءوا.
قال: وفي رواية أُخرى عنه عليه السلام قال: كانوا يكتبونه في القراطيس ثم يبدون ما شاءوا ويخفون ما شاءوا. قال: كل كتاب أُنزل فهو عند أهل العلم.
أقول: أهل العلم كناية عن أئمه أهل البيت عليهم السلام.
وفي الدر المنثور في قوله تعالى: { ومن أظلم ممن افترى } الآية أخرج الحاكم في المستدرك عن شرحبيل بن سعد قال: نزلت في عبد الله بن أبي سرح: { ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أُوحي إليّ ولم يوح إليه شيء } الآية، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة فر إلى عثمان أخيه من الرضاعة فغيبه عنده حتى اطمأن أهل مكة ثم استأمن له.
وفيه أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن عكرمة في قوله: { ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أُوحي إليّ ولم يوح إليه شيء } قال: نزلت في مسيلمة فيما كان يسجع ويتكهن به. { ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله } قال: نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان فيما يملي { عزيز حكيم } فيكتب { غفور رحيم } فيغيره ثم يقرأ عليه كذا كذا لما حول فيقول: نعم سواء، فرجع عن الإِسلام ولحق بقريش.
أقول: وروي هذا المعنى بطرق أخرى أيضاً غير ما مر.
وفي تفسير القمي قال: حدثنا أبي عن صفوان عن ابن مسكان عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
"إن عبد الله بن سعد بن أبي السرح كان أخاً لعثمان من الرضاعة قدم إلى المدينة وأسلم، وكان له خط حسن، وكان إذا نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: دعاه ليكتب ما نزل عليه فكان إذا قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: والله سميع بصير يكتب سميع عليم، وإذا قال: والله بما تعملون خبير يكتب بصير وكان يفرق بين التاء والياء، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: هو واحد.
فارتد كافراً ورجع مكه وقال لقريش: والله ما يدري محمد ما يقول أنا أقول مثل ما يقول فلا ينكر علي ذلك فأنا انزل مثل ما أنزل الله فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك: { ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله }.
فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة أمر بقتله - فجاء به عثمان وقد أخذ بيده ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد فقال: يا رسول الله اعف عنه فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم أعاد فقال: هو لك، فلما مر قال رسول الله صلى الله عليه آله وسلم: ألم أقل: من رآه فليقتله؟ فقال رجل: كانت عينى إليك يا رسول الله أن تشير إلي فأقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الأنبياء لا يقتلون بالإِشارة، فكان من الطلقاء"
. أقول: وروي هذا المعنى في الكافي وتفسير العياشي ومجمع البيان بطرق أُخرى عن الباقر والصادق عليهما السلام.
وذكر بعض المفسرين بعد إيراد القصة عن روايتي عكرمة والسدي: إن هاتين الروايتين باطلتان فإنه ليس في شيء من السور المكية { سميعاً عليماً } ولا { عليماً حكيماً } ولا { عزيز حكيم } إلا في سورة لقمان المروي عن ابن عباس أنها نزلت بعد سورة الأنعام وأن الآية التي ختم بقوله تعالى { عزيز حكيم } منها وثنتين بعدها مدنيات كما في الإِتقان. قال: وما قيل من احتمال نزول هذه الآية بالمدينة لا حاجة إليه والرواية غير صحيحة.
قال: وروي: أن عبد الله بن سعد لما ارتد كان يطعن في القرآن، ولعله قال شيئاً مما ذكر في الروايات عنه كذباً وافتراءاً فإن السور التي نزلت في عهد كتابته لم يكن فيها شيء مما روي عنه أنه تصرف فيه كما علمت، وقد رجع إلى الإِسلام قبل الفتح ولو تصرف في القرآن تصرفاً أقره عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فشك في الوحي لأجله لما رجع إلى الإِسلام. انتهى.
وقد عرفت أن الروايات المعتبرة المروية عن الصادقين عليهما السلام صريحة في وقوع قصه ابن أبي سرح في المدينة بعد الهجرة لا في مكة، والأخبار المروية من طرق أهل السنة والجماعة غير صريحه في وقوعها بمكة لو لم يكن ظهورها في الوقوع بالمدينة، وأما ما استند إليه من رواية ابن عباس في ترتيب نزول السور القرآنية فليس بأقوى اعتباراً مما طرحه.
وأما ما ذكره من إسلام ابن أبي سرح قبل الفتح طوعاً فقد عرفت ورود الرواية من الطريقين أنه لم يعد إلى الإِسلام إلى يوم الفتح، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهدر دمه يوم الفتح حتى شفع له عثمان فعفا عنه، هذا.
لكن يبقى على ظاهر الروايات أن قوله تعالى: { ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله } غير ظاهر الانطباق على قول ابن أبي سرح على ما يحكيه: "فأنا أنزل مثل ما أنزل الله".
على أن كون قوله تعالى: { ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله } نازلاً بالمدينة لا يلائم هذا الاتصال الظاهر بينه وبين ما يتلوه إلى أخر الآية الثانية فلو كان نازلاً بالمدينة كان الأقرب أن تكون الآيتان جميعاً مدنيتين.
وهناك رواية أُخرى تعرب عن سبب للنزول أخر وهو ما رواه عبد بن حميد عن عكرمة قال: لما نزلت: والمرسلات عرفاً فالعاصفات عصفاً، قال النضر وهو من بنى عبد الدار: والطاحنات طحناً فالعاجنات عجناً وقولاً كثيراً فأنزل الله: { ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء } الآية.
وفي تفسير العياشي عن سلام عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: { اليوم تجزون عذاب الهون } قال: العطش يوم القيامة.
أقول: ورواه أيضاً عن الفضيل عن أبي عبد الله عليه السلام وفيه: قال: العطش.
وفي الكافي بإسناده عن إبراهيم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الله عز وجل لما أراد أن يخلق آدم بعث جبرئيل في أول ساعة من يوم الجمعة فقبض بيمينه قبضة بلغت من السماء السابعة إلى السماء الدنيا، وأخذ من كل سماء تربة وقبض قبضة أخرى من الأرض السابعة العليا إلى الأرض السابعة القصوى فأمر الله عز وجل كلمته فأمسك القبضة الأولى بيمينه والقبضة الأخرى بشماله - ففلق الطين فلقتين فذرا من الأرض ذرواً ومن السماوات ذروا فقال للذي بيمينه: منك الرسل والأنبياء والأوصياء والصديقون والمؤمنون والشهداء ومن أريد كرامته، فوجب لهم ما لهم ما قال كما قال، وقال للذي بشماله: منك الجبارون والمشركون والمنافقون والطواغيت ومن أُريد هوانه أو شقوته فوجب لهم ما قال كما قال.
ثم إن الطينتين خلطتا جميعاً وذلك قوله تعالى: { إن الله فالق الحب والنوى } فالحب طينة المؤمنين التي ألقى الله عليها محبته، والنوى طينة الكافرين الذين نأوا عن كلّ خير، وإنما سمي النوى من أجل أنه نأى عن الحق وتباعد منه.
وقال الله عز وجل: { يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي } فالحي المؤمن الذي يخرج من طينة الكافر، والميت الذي يخرج من الحي هو الكافر الذي يخرج من طينة المؤمن فالحي المؤمن والميت الكافر وذلك قول الله عز وجل: { أو من كان ميتاً فأحييناه } فكان موته اختلاط طينته مع طينة الكافر وكان حياته حين فرق الله عز وجل بينهما بكلمته كذلك يخرج الله عز وجل المؤمن في الميلاد من الظلمة بعد دخوله فيها إلى النور، ويخرج الكافر من النور إلى الظلمة بعد دخوله إلى النور وذلك قول الله عز وجل: { لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين }.
أقول: الرواية من أخبار الطينة وسيجيء البحث فيها فيما يناسبه من المحل إن شاء الله. وتفسير الحب والنوى بما فيها من المعنى من قبيل الباطن دون الظاهر، وقد وقع هذا المعنى في روايات أُخرى غير هذه الرواية.
وفي تفسير العياشي في قوله تعالى { وجعل الليل سكناً } عن الحسن بن علي بن بنت إلياس قال: سمعت أبا الحسن الرضا عليه السلام يقول: إن الله جعل الليل سكناً وجعل النساء سكناً، ومن السنة التزويج بالليل وإطعام الطعام.
وفيه عن علي بن عقبة عن أبيه عن أبي عبد الله عليه السلام قال تزوجوا بالليل فإن الله جعله سكناً ولا تطلبوا الحوائج بالليل.
وفي الكافي بإسناده عن يونس عن بعض أصحابنا عن أبي الحسن عليه السلام قال: إن الله خلق النبيين على النبوة فلا يكونون إلا أنبياء، وخلق المؤمنين على الإِيمان فلا يكونون إلا مؤمنين وأعار قوماً إيماناً فإن شاء تمّمه لهم وإن شاء سلبهم إياه. قال: وفيهم جرت { فمستقر ومستودع } وقال: إن فلاناً كان مستودعاً فلما كذب علينا سلبه الله إيمانه.
أقول: وفي تفسير المستقر والمستودع بقسمي الإِيمان روايات كثيرة مروية عنهم عليهم السلام في تفسيري العياشي والقمي، وهذه الرواية توجهها بأنها من الجري والانطباق.
وفي تفسير العياشي عن سعد بن سعيد الأصبغ قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام في قوله: { فمستقر ومستودع } قال: مستقر في الرحم ومستودع في الصلب، وقد يكون مستودع الإِيمان ثم ينزع منه. الحديث.
وفيه عن سدير قال: سمعت حمران يسأل أبا جعفر عليه السلام: عن قول الله: { بديع السماوات والأرض } فقال له أبو جعفر عليه السلام: ابتدع الأشياء كلها بعلمه على غير مثال كان، وابتدع السماوات والأرضين ولم يكن قبلهن سماوات ولا أرضون أما تسمع قوله: { وكان عرشه على الماء }؟.
وفي الكافي بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله: { لا تدركه الأبصار } قال: إحاطة الوهم ألا ترى إلى قوله: { قد جاءكم بصائر من ربكم }، ليس يعني من البصر بعينه { ومن عمي فعليها } ليس يعني عمى العيون إنما عنى إحاطة الوهم كما يقال: فلان بصير بالشعر، وفلان بصير بالفقه، وفلان بصير بالدراهم، وفلان بصير بالثياب، الله أعظم من أن يرى بالعين.
أقول: ورواه في التوحيد بطريق أخر عنه عليه السلام وبإسناده عن أبي هاشم الجعفري عن الرضا عليه السلام.
وفيه بإسناده عن صفوان بن يحيى قال: سألني أبو قرّة المحدث أن أُدخله إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام فاستأذنته في ذلك فأذن لى فدخل عليه فسأله عن الحلال والحرام والأحكام حتى بلغ سؤاله التوحيد فقال أبو قرّة: إنا روينا: أن الله قسم الرؤية والكلام بين نبيين فقسم الكلام لموسى ولمحمد الرؤية فقال: أبو الحسن عليه السلام: فمن المبلغ عن الله إلى الثقلين من الجن والإِنس، لا تدركه الأبصار، ولا يحيطون به علماً، وليس كمثله شيء؟ أليس محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: بلى. قال كيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنه جاء من عند الله، وأنه يدعوهم إلى الله بأمر الله فيقول: لا تدركه الأبصار، ولا يحيطون به علماً، وليس كمثله شيء ثم يقول: أنا رأيته بعيني وأحطت به علماً وهو على صورة البشر أما تستحون؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي من عند الله بشيء ثم يأتي بخلافه من وجه آخر.
قال أبو قرّة: فإنه يقول. { ولقد رآه نزلة أُخرى } فقال أبو الحسن عليه السلام: إن بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى حيث قال: { ما كذب الفؤاد ما رأى } يقول: ما كذب فؤاد محمد ما رأته عيناه ثم أخبر بما رأى فقال: { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } فآيات الله غير الله وقد قال الله: { ولا يحيطون به علماً } فإذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم ووقعت المعرفة.
فقال أبو قرّة: فتكذب بالروايات؟ فقال الرضا عليه السلام: إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها، وما أجمع المسلمون عليه أنه لا يحاط به علماً، ولا تدركه الأبصار، وليس كمثله شيء.
أقول: وهذا المعنى وارد في أخبار أُخر مروية عنهم عليه السلام، وهناك روايات أُخر تثبت الرؤية بمعنى آخر أدق يليق بساحة قدسه تعالى سنوردها إن شاء الله في تفسير سورة الأعراف، وإنما شدد النكير على الرؤية في هذه الرواية لما أن المشهور من إثبات الرؤية في عصرهم كان هو إثبات الرؤية الجسمانية بالبصر الجسماني التي ينفيها صريح العقل ونص الكتاب ففي تفسير الطبري عن عكرمة عن ابن عباس قال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه فقال له رجل عند ذلك: أليس قال الله: لا تدركه الأبصار؟ فقال له عكرمة: ألست ترى السماء؟ قال بلى: قال: فكلها ترى؟ إلى غير ذلك من الأخبار.
والذي تثبته من الرؤية صريح الرؤية الجسمانية بالعضو الباصر، وقد نفاها العقل والنقل، وقد فات عكرمة أن لو كان المراد بقوله { لا تدركه الأبصار } هو نفى الإِحاطة بجميع أقطار الشيء لم يكن وجه لاختصاصه به تعالى فإن شيئاً من الأشياء الجسمانية ولها سطوح مختلفة الجهات كالإِنسان والحيوان وسائر الأجسام الأرضية والأجرام السماوية لا يمس الحس الباصر منها إلا ما يواجه الشعاع الدائر بين الباصر والمبصر على ما تعينه قوانين الأبصار المدونة في أبحاث المناظر والمرايا.
فإنا إذا أبصرنا إنساناً مثلاً فإنما نبصر منه بعض السطوح الكثيرة المحيطة ببدنه من فوق وتحت والقدام والخلف واليمين واليسار مثلاً، ومن المحال أن يقع البصر على جميع ما يحيط به من مختلف السطوح فلو كان المراد من قوله: { لا تدركه الأبصار } في هذا السنخ من الإِدراك البصري المحال فيه وفي غيره كان كلاماً لا محصل له.
وفي التوحيد بإسناده عن إسماعيل بن الفضل قال: سألت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام عن الله تبارك وتعالى هل يرى في المعاد؟ فقال: سبحان الله وتعالى عن ذلك علواً كبيراً يا بن الفضل إن الأبصار لا تدرك إلا ما له لون وكيفية، والله خالق الألوان والكيفيات.