التفاسير

< >
عرض

قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ قُل للَّهِ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
١٢
وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
١٣
قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيۤ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكَينَ
١٤
قُلْ إِنِّيۤ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
١٥
مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْمُبِينُ
١٦
وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ
١٧
وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ
١٨
-الأنعام

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
فريق من الآيات تحتج على المشركين في أمر التوحيد والمعاد فالآيتان الأوليان تتضمنان البرهان على المعاد، وبقية الآيات وهى خمس مسوقة للتوحيد تقيم البرهان على ذلك من وجهين على ما سيأتي.
قوله تعالى: { قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله } شروع في البرهنة على المعاد، ومحصله أن الله تعالى مالك ما في السماوات والأرض جميعاً له أن يتصرف فيها كيف شاء وأراد، وقد اتصف سبحانه بصفة الرحمة وهي رفع حاجة كل محتاج وإيصال كل شيء إلى ما يستحقه وإفاضته عليه وعدة من عباده ومنهم الإِنسان صالحون لحياة خالدة مستعدون لأن يسعدوا فيها فهو بمقتضى ملكه ورحمته سيتصرف فيهم بحشرهم وإعطائهم ما يستحقونه البتة.
فقوله تعالى: { قل لمن ما في السماوات والأرض } الخ، يتضمن إحدى مقدمات الحجة وقوله: { كتب على نفسه الرحمة } يتضمن مقدمة أخرى، وقوله: { وله ما سكن في الليل والنهار } الخ، مقدمة أخرى ثالثة بمنزلة الجزء من الحجة.
فقوله تعالى: { قل لمن ما في السماوات والأرض } ألخ، يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يسألهم عمن يملك السماوات والأرض وله التصرف فيها بما شاء من غير مانع يمنعه، وهو الله سبحانه من غير شك لأن غيره حتى الأصنام وأرباب الأصنام التي يدعوها المشركون هي كسائر الخلقة ينتهي خلقها وأمرها إليه تعالى فهو المالك لما في السماوات والأرض جميعاً.
ولكون المسؤول عنه معلوماً بيناً عند السائل والمسؤول جميعاً والخصم معترف به لم يحتج إلى صدور الجواب عن الخصم واعترافه به بلسانه، وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يذكر هو الجواب ويتكفل ذلك لتتم الحجة من غير انتظار ما لجوابهم.
والسؤال عن الخصم، ومباشرة السائل بنفسه الجواب كلاهما من السلائق البديعة الدائرة في سرد الحجج، يقول المنعم لمن أنعم عليه فكفر بنعمته: من الذي أطعمك وسقاك وكساك؟ أنا الذي فعل ذلك بك ومنّ بها عليك وأنت تجازيني بالكفر.
وبالجملة ثبت بهذا السؤال والجواب أن الله سبحانه هو المالك على الإِطلاق فله التصرف فيها بما شاء من إحياء ورزق وإماتة وبعث بعد الموت من غير أن يمنعه من ذلك مانع كدقة في العمل وموت وغيبة واختلال وغير ذلك. وبهذا تمت إحدى مقدمات الحجة فألحقها المقدمة الأخرى وهي قوله: كتب على نفسه الرحمة.
قوله تعالى: { كتب على نفسه الرحمة } الكتابة هو الإِثبات والقضاء الحتم، وإذ كانت الرحمة - وهي إفاضة النعمة على مستحقها وإيصال الشيء إلى سعادته التي تليق به - من صفاته تعالى الفعلية صح أن ينسب ألى كتابته تعالى، والمعنى: أوجب على نفسه الرحمة وإفاضه النعم وانزال الخير لمن يستحقه.
ونظيره في نسبة الفعل إلى الكتابة ونحوها قوله تعالى:
{ { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } [المجادلة: 21]، وقوله: { { فورب السماء والأرض إنه لحق } [الذاريات: 23] وأما صفات الذات كالحياة والعلم والقدرة فلا تصح نسبتها إلى الكتابة ونحوها البتة لا يقال: كتب على نفسه الحياة والعلم والقدرة.
ولازم كتابة الرحمة على نفسه - كما تقدم - أن يتم نعمته عليهم بجمعهم ليوم القيامة ليجزيهم بأقوالهم وأعمالهم فيفوز به المؤمنون ويخسر غيرهم.
ولذلك ذيل بقوله وهو كالنتيجة في الحجة: { ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه } فأكد المعنى بأبلغ التأكيد: لام القسم ونون التأكيد وقوله: لا ريب فيه.
ثم أشار إلى أن الربح في هذا اليوم للمؤمنين والخسران على غيرهم فقال: { الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون }.
والحجة التي اقيمت في هذه الآية على المعاد غير ما اقيمت من الحجتين عليه في قوله تعالى:
{ { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار، أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار } [ص: 27 - 28] فإن الآيتين تقيمان الحجة على المعاد من جهة أن فعله تعالى ليس بباطل بل له غاية، ومن جهة أن التسوية بين المؤمن والكافر والمتقي والفاجر ظلم لا يليق به تعالى، وهما في الدنيا لا يتميزان فلا بد من نشأة أخرى يتميزان فيها بالسعادة والشقاوة، وهذا غير ما في هذه الآية من السلوك إلى المطلوب من طريق الرحمة.
قوله تعالى: { وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم } السكون في الليل والنهار هو الوقوع في ظرف هذا العالم الطبيعي الذي يدبر أمره بالليل والنهار، ويجري نظامه بغشيان النور الساكب من شمس مضيئة، وعمل التحولات النورية فيه بالقرب والبعد والكثرة والقلة والحضور والغيبة والمسامتة وغيرها.
فالليل والنهار هما المهد العام يربى فيه العناصر الكلية ومواليدها تربيه تسوق كل جزء من أجزائها وكل شخص من أشخاصها إلى غايته التي قدرت له، وتكملها روحاً وجسماً.
وكما أن للمسكن عاماً وخاصاً دخلاً تاماً في كينونة الساكن كالإِنسان مثلاً يسكن أرضاً فيطوف بها في طلب الرزق، ويرتزق مما يخرج منها من حب وفاكهة وما يتربى فيها من حيوان، ويشرب من مائها، ويستنشق من هوائها، ويفعل وينفعل من كيفيات منطقتها، وينمو جميع أجزاء جسمه على حسب تقديرها كذلك الليل والنهار لهما الدخل التام في تكوّن عامة ما يتكوّن فيهما.
والإِنسان من الأشياء الساكنة في الليل والنهار تكوّن بمشيئة الله من ائتلاف أجزاء بسيطة ومركَّبة على صورة خاصة يمتاز وجوده حدوثاً وبقاءاً بحياة تقوم على شعور فكرى وإرادة يتهيآن له من قوى له باطنية عاطفية تأمره بجذب المنافع ودفع المضار، وتدعوه إلى إيجاد مجتمع متشكل فيه ما نراه من تفاصيل التفاهم باللغات والتباني على اتباع السنن والقوانين والعادات في المعاشرات والمعاملات، واحترام الآراء والعقائد العامة في الحسن والقبح والعدل والظلم والطاعة والمعصية والثواب والعقاب والجزاء والعفو.
وإذا كان الله سبحانه هو الخالق لليل والنهار وما سكن فيهما المتفرد بإيجادها فله ما سكن في الليل والنهار، وهو المالك الحق لجميع الليل والنهار وسكانهما وما يستعقب وجودها من الحوادث والأفعال والأقوال، وله النظام الجاري فيها على عجيب سعته فهو السميع لأقوالنا من أصوات وإشارات، والعليم بأعمالنا وأفعالنا بما لها من صفتي الحسن والقبح، والعدل والظلم والإِحسان والإِساءة وما تكتسبه النفوس من سعادة وشقاء.
وكيف يمكنه الجهل بذلك وقد نشأ الجميع في ملكه وبإذنه؟ ونحو وجود هذا النوع من الأمور أعني الحسن والقبح والعدل والظلم والطاعة والمعصية، وكذا اللغات الدالة على المعاني الذهنية كل ذلك أُمور علمية لا تحقق لها في غير ظرف العلم، ولذلك نرى أن الفعل لا يقع منا حسناً ولا قبيحاً ولا طاعة ولا معصية، والصوت المؤلف لا يسمى كلاماً إلا إذا علمنا به وقصدنا وجهه.
وكيف يمكن أن يملك شيء علمي في نفسه من حيث كونه كذلك ثم يجهله مالكه، ولا يعلم به؟ (أجد التأمل فيه).
والله سبحانه هو الذي أوجد هذا العالم على عجيب سعته في أجزائه البسيطة والعنصرية والمركبة على نظام يدهش اللب، ثم خلقنا وأسكننا الليل والنهار ثم كثَّرنا وأجرى بيننا نظام الاجتماع الإِنساني ثم هدانا إلى وضع اللغات، واعتبار السنن ووضع الاعتبارات، ولم يزل يصاحبنا ويصاحب سائر الأسباب خطوة خطوة، ويجارينا وإياها في مسير الليل والنهار لحظة لحظة وساق حوادث لا نحصيها حادثة بعد حادثة.
حتى تكلم الواحد منا بكلام فوضع المعنى في قلبه بإلهامه، وأجرى اللفظ في لسانه بتعريفه، وأسمع الصوت لمخاطبه بإسماعه، وسار بمعناه إلى ذهنه بحفظه، وفهّم المعنى لمفكرته بتعليمه، ثم بعثه لموافقة ما ألقاه إليه المتكلم أو صده عن ذلك بإرادة باعثة له إليه أو كراهة دافعة له عنه، وهو في جميع هذه المراحل التي تعجز عن الانعقاد عليها أنامل العد والإِحصاء قائد وسائق وهاد وحفيظ ورقيب! فكيف يسع لقائل إلا أن يقول: إنه تعالى سميع عليم، وما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم.
وكذا إذا عمل الواحد منا بعمل حسنة كان أو سيئة فهو مولود من أب وأُم يولّدانه تحت مراقبه الاختيار والإِرادة، وقد انتقل إليهما بعد ما قطع طريقاً بعيداً وأمداً مديداً في أصلاب أسباب فاعلة وأرحام علل أُخرى منفعلة إلى أن ينتهي بما الله أعلم به، ولم يزل سبحانه ينقله بإرادته من حجر إلى حجر، والأرض قبضته والسموات بيمينه حتى نزل منزل الاختيار فصاحبه منزلاً بعد منزل بإذنه حتى طلع من أفق العين، وأخذ موضعه من مسكن الليل والنهار ثم لا يزال يجري فيما يتأثر منه من أجزاء الكون كأحد الأسباب الجارية، والله سبحانه عليه شهيد وبه محيط فكيف يمكن أن يغفل سبحانه عما هذا شأنه؟ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.
ومما تقدّم يظهر أن قوله تعالى: { وهو السميع العليم } بمنزلد النتيجة لقوله: { وله ما سكن في الليل والنهار }.
والسمع والعلم وإن كانا معدودين من صفاته تعالى الذاتية التي هي عين الذات المتعالية من غير أن يتفرع على أمر غيرها لكن من العلم وكذا السمع والبصر ما هو صفة فعلية خارجة عن الذات وهى التي يتوقف ثبوتها على تحقق متعلق غير الذات المقدسة كالخلق والرزق والإِحياء والإِماتة المتوقفة على وجود مخلوق ومرزوق وحي وميت.
والأشياء لما كانت بأنفسها وأعيانها مملوكة محاطة له تعالى فهي إن كانت أصواتاً سمع ومسموعة له تعالى، وإن كانت أنواراً وألواناً بصر ومبصرة له تعالى، والجميع كائنة ما كانت علم ومعلومة له تعالى، وهذا النوع من العلم من صفاته الفعلية التي تتحقق عند تحقق الفعل منه تعالى لا قبل ذلك، ولا يلزم من ثبوتها بعد ما لم تكن تغير في ذاته تعالى وتقدّس لأنها لا تعدو مقام الفعل، ولا يدخل في عالم الذات فالآية في استنتاجها العلم من الملك تريد إثبات العلم الفعلي، فافهم ذلك.
والآية أعني قوله: { وله ما سكن في الليل والنهار } الخ، كإحدى مقدّمات الحجة المبيّنة بالآية السابقة فإن الحجة على المعاد وإن تمت بقوله: { قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة } لكن النظر الابتدائي الساذج ربما غفل عن كون ملكه تعالى للأشياء مستلزماً لعلمه بها وسمعه بما يسمع منها كالأصوات والأقوال.
ولذلك نبه عليه بتكرار ملك السموات والأرض، وتفريع السمع والعلم عليه فقال: { وله ما سكن في الليل والنهار } وهو في معنى قوله: { له ما في السماوات والأرض - وهو السميع العليم } فكانت هذه الآية لذلك بمنزلة مقدمة متممة للحجة المسرودة في الآية السابقة.
والآية - على أنا لم نستوف حقها ولن يستوفي - من أرق الآيات القرآنية معنى وأدقها إشارة وحجة، وأبلغها منطقاً.
قوله تعالى: { قل أغير الله أتخذ ولياً فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعَم } شروع في الاحتجاج على وحدانيتة تعالى وأن لا شريك له.
والذي يتحصل من تاريخ الوثنية واتخاذ الأصنام والآلهه أنهم كانوا إنما دانوا بذلك وخضعوا للآلهة لأحد أمرين: إما أنهم وجدوا أنفسهم في حاجة إلى أسباب كثيرة في إبقاء الحياة كالتغذي بالطعام واللباس والمسكن والأزواج والأولاد والعشيرة ونحو ذلك، وعمدتها الطعام الذي حاجة الإِنسان إليه أشد من حاجته إلى غيره بحسب النظر الساذج، وقد اعتقدوا أن لكل صنف من أصناف هذه الحوائج تعلقاً بسبب هو الذي يجود لهم بالتمتع من وسيلة رفع تلك الحاجة كالسبب الذي يمطر السماء فينبت المرعى والكلاء لدوابهم ويمنح بالخصب لأنفسهم، والسبب الذي يدبّر أمر السهل والجبل أو يلقي بالمحبة والألفة أو إليه أمر البحر والسفائن الجارية فيها.
ثم وجدوا أن قوّتهم لا تفي بالتسلط على تلك الحاجة أو الحوائج الضرورية فاضطروا إلى الخضوع إلى السبب المربوط بحاجتهم واتخاذه إلهاً ثم عبادته.
وإما لأنهم وجدوا هذا الإِنسان الأعزل غرضاً لسهام الحوادث محصوراً بمكاره وشرور عامة عظيمة لا يقاومها كالسيل والزلزلة والطوفان والقحط والوباء، وببلايا ومحن أُخرى جزئية لا يحصيها كالأمراض والأوجاع والسقوط والفقر والعقم والعدو والحاسد والشانئ وغير ذلك، ثم وضعوا لها أسباباً قاهرة هي المرسلة لها إليهم، والقاصمة بها ظهورهم، والمكدرة لصفوة عيشهم، وهي مخلوقات علوية كأرباب الأنواع وأرواح الكواكب والأجرام العلوية فاتخذوها آلهة خوفاً من سخطهم وعذابهم، وعبدوها ليستميلوها بالعبادة ويرضوها بالخضوع والاستكانة فيخلصوا بذلك عن المكاره والرزايا ويأمنوا شرورها والمضار النازلة منها إليهم.
والآية أعني قوله: { قل أغير الله أتخذ ولياً } الخ، والآيات التالية لها تحتج على المشركين بقلب حجتيهم بعينهما إليهم أي تسلم أصل الحجة وتعدّها حقة لكن تبين أن لازمها أن يعبد الله سبحانه وحده، وينفي عنه كل شريك موضوع.
فقوله تعالى: { قل أغير الله أتخذ ولياً فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم } إشارة إلى الحجة من المسلك الأول، وهو مسلك الرجاء أن يعبد الإِله لأنه منعم فيكون عبادته شكراً لإِنعامه سبباً لمزيده.
أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يبين لهم في صورة الاستفهام والسؤال أن الله سبحانه وحده هو الولي للنعمة التي يتنعم بها الإِنسان وغيره لأنه هو الرازق الذي لا يحتاج إلى أن يرزقه غيره يطعم ولا يطعم، والدليل عليه أنه تعالى هو الذي فطر السماوات والأرض وأخرجها من ظلمة العدم إلى نور الوجود، وأنعم عليها بنعمة التحقق والثبوت، ثم أفاض عليها بنعم لا يحصيها إلا هو لإِبقاء وجودها، ومنها الإِطعام للإِنسان وغيره فإن جميع هذه النعم المعدة لبقاء وجود الإِنسان وغيره، والأسباب التي تسوق تلك النعم إلى محال الاستحقاق كل ذلك ينتهي إلى فطره وإيجاده الأشياء والأسباب ومسبباتها جميعاً من صنعه.
فإليه سبحانه يرجع الرزق الذي من أهم مظاهره عند الإِنسان الإِطعام فيجب أن يعبد الله وحده لأنه هو الذي يطعمنا من غير حاجة إلى إطعام من غيره.
فظهر بما بيناه أولاً: أن التعبير عن العبودية والتأله باتخاذ الولي في قوله: { أغير الله أتخذ ولياً } إنما هو لكون الحجة مسوقة من جهة إنعامه تعالى بالإِطعام.
وثانياً: أن التعلق بقوله: { فاطر السماوات والأرض } إنما هو لبيان سبب انحصار الإِطعام به تعالى كما تقدم تقريره، وربما استفيد ذلك من التعريض الذي في قوله: { ولا يطعم } فإن فيه تعريضاً بكون سائر من اتخذوهم آلهة محتاجين كعيسى وغيره إلى إطعام أو ما يجري مجراه.
ومن الممكن أن يستفاد من ذكره في الحجة أنه إشارة إلى مسلك آخر في إقامة الحجة على توحيده تعالى هو أشرف من المسلكين جميعاً، ومحصله أن الله سبحانه هو الموجد لهذا العالم، وإلى فطره ينتهي كل شيء فيجب الخضوع له.
ووجه كون هذا المسلك أشرف: هو أن المسلكين الآخرين وإن كانا أنتجا توحيد الإِله من جهة أنه معبود لكنهما لا يخلوان مع ذلك من شيء، وهو أنهما ينتجان وجوب عبادته طمعاً في النعمة أو خوفاً من النقمة فالمطلوب بالذات هو جلب النعمة أو الأمن من النقمة دونه تعالى وتقدس، وأما هذا المسلك فإنه ينتج وجوب عبادة الله لأنه الله سبحانه.
وثالثاً: أن اختصاص الإِطعام من بين نعمه تعالى على كثرتها بالذكر إنما العناية فيه كون الإِطعام بحسب النظر الساذج أوضح حوائج الحيوان العائش ومنه الإِنسان.
ثم أمر سبحانه بعد تمام الحجة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يذكر لهم ما يؤيد به هذه الحجة العقلية، وهو أن الله أمره من طريق الوحي أن يجري في اتخاذ الإِله على الطريق الذي يهدي إليه العقل وهو التوحيد، ونهاه صريحاً أن يتخطاه إلى أن يلحق بالمشركين فقال: { قل إني أُمرت أن أكون أول من أسلم } ثم قال: { ولا تكونن من المشركين }.
بقي هنا أمران:
أحدهما: أن قوله: { أول من أسلم } إن كان المراد أول من أسلم من بينكم فهو ظاهر فقد أسلم صلى الله عليه وآله وسلم قبل أمته، وإن كان المراد به أول من أسلم من غير تقييد كما هو ظاهر الإِطلاق كانت أوليته في ذلك بحسب الرتبه دون الزمان.
وثانيهما: أن نتيجة الحجة لما كانت هي العبودية وهى نوع خضوع وتسليم كان استعمال لفظة الإِسلام في المقام أولى من لفظة الإِيمان لما فيه من الدلالة على غرض العبادة، وهو الخضوع.
قوله تعالى: { قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم } وهذا هو المسلك الثاني من المسلكين اللذين تقدم أن المشركين تعلقوا بهما في اتخاذ الآلهة، وهو أن عبادة آلهتهم يؤمنهم من شمول سخطها ونزول عذابها.
وقد أخذ سبحانه في الحجة أخوف ما يجب أن يخاف منه من أنواع العذاب وأمره وهو عذاب الساعة التي ثقلت في السماوات والأرض كما أخذ في الحجة الأولى أحوج ما يحتاج إليه الإِنسان بحسب بادئ النظر من النعم، وهو الإِطعام.
وقد قيل: { إن عصيت ربي } دون أن يقال: إن أشركت بربي إشارة إلى ما في قوله تعالى في الآية السابقة: { ولا تكونن من المشركين } من نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن الشرك فأدت الآية أن من الواجب عليّ عقلاً أن أعبد الله وحده لأومن مما أخاف من عذاب يوم عظيم، وهذا الذي دل عليه العقل دلني عليه الوحي من ربي.
وبهذا تناظر هذه الآية الآية السابقة من جهة إقامة الحجة العقلية أولاً ثم تأييده بالوحي من الله سبحانه فافهم ذلك، وهذا من لطائف إيجاز القرآن الكريم فقد اكتفي في إفادة هذا المعنى على سعته بمجرد وضع قوله: { عصيت } موضع أشركت.
قوله تعالى: { من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه } الخ، المعنى ظاهر الآية متممة للحجة المسرودة في الآية السابقة فظاهر الآية السابقة بحسب النظر البسيط إقامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحجة في وجوب التوحيد على نفسه بأن الله نهاه عن الشرك فيجب عليه توحيده ليؤمن عذاب الآخرة.
فيلوح لنظر المغفّل غير المتدبر أن يرد عليه الحجة بأن النهي لما كان مختصاً بك كما تدعيه يختص الخوف ثم وجوب التوحيد أيضاً بك فلا تقتضي الحجة وجوب التوحيد ونفي الشريك على غيرك، وتصير الحجة عليك لا على غيرك.
فأفاد بقوله: { من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه } أن عذابه مشرف على الجميع محيط بالكل لا مخلص عنه إلا برحمته فعلى كل إنسان أن يخاف من عذاب يومئذ على نفسه ما يخافه النبي صلى الله عليه وآله وسلم على نفسه فالحجة عامة قائمة على جميع الناس لا خاصه به صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله تعالى: { وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو } إلى آخر الآية، قد كانت الحجتان المذكورتان في الآيات السابقة أُخذتا أنموذجاً مما يرجوه الإِنسان وهو الإِطعام وانموذجاً مما يخافه وهو عذاب يوم القيامة، وتممتا بهما البيان، ولم تتعرضا لسائر أنواع الضر وأقسام الخير التي يمس الله سبحانه بهما الإِنسان، والكل من الله عز اسمه.
فالآية توضح بالتصريح أن هناك من الضر ما هو غير عذاب يوم القيامة يمس الله سبحانه به الإِنسان يجب أن يتوجه إليه تعالى في كشفه، وأن من الخير ما يمس الله به الإِنسان ولا راد لفضله ولا مانع يمنع من إفاضته لقدرته على كل شيء، ورجاء الخير يوجب على الإِنسان أن يتخذه سبحانه إلهاً معبوداً.
ولما أمكن أن يتوهم أن كونه تعالى يمس الإِنسان بضر أو بخير إنما يقتضي أن يتخذ معبوداً، والخصم لا ينكر ذلك. وأما قصر الألوهية والمعبودية فيه تعالى فلا لأن ما اتخذوه من الآلهة هي أسباب متوسطة وشفعاء أقوياء لها تأثيرات في الكون من شر أو خير يوجب على الانسان أن يتقرب إليها خوفاً من شرها أو رجاء لخيرها.
دفعه بأن الله سبحانه هو القاهر فوق عباده لا يفوقه منهم أحد ولا يعادله فهم أنفسهم تحت قهره، وكذا أفعالهم وآثارهم لا يعملون عملاً من خير أو شر إلا بإذنه ومشيئته غير مستقلين بأمر البتة ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا غير ذلك، فما يطلع من أفق ذواتهم من أثر خيراً أو شراً ينتهي إلى أمره ومشيئتة وإذنه يستند إليه على ما يليق بساحة قدسه وعزته من الاستناد.
فالآيتان جميعاً تتممان معنى واحداً، وهو أن ما يصيب الإِنسان من خير أو شر فمن الله على ما يليق بساحته من الانتساب، فالله سبحانه هو المتوحد بالألوهية، والمنفرد بالمعبودية لا إله غيره، ولا معبود سواه.
وقد عبّر عن إصابة الضر والخير بالمس الدال على الحقارة في قوله: { إن يمسسك } { وإن يمسسك } ليدل به على أن ما يصيب الإِنسان من ضر أو من خير شيء يسيرمما تحمله القدرة غير المتناهية التي لا يقوم لها شيء، ولا يطيقها ولا يتحملها مخلوق محدود.
وكأن قوله تعالى في جانب الخير: { فهو على كل شيء قدير } وضع موضع نحو من قولنا: فلا مانع يمنعه، ليدل على أنه تعالى قدير على كل خير مفروض كما أنه قدير على كل ضر مفروض، وتنكشف به علة قوله: فلا كاشف له إلا هو إذ لو كشف غيره تعالى شيئاً مما مس به من ضر دفع ذلك قدرته عليه، وكذلك قدرته على كل شيء تقتضي أن لا يقوى شيء على دفع ما يمس به من خير.
وتخصيص ما يمس به من ضر أو خير بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الآية نظير التخصيص الواقع في قوله: { قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم } ويفيد قوله: { وهو القاهر فوق عباده } من التعميم نظير ما أفاد قوله: { من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه }.
قوله تعالى: { وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير } القهر هو نوع من الغلبة، وهو أن يظهر شيء على شيء فيضطره إلى مطاوعة أثر من الغالب يخالف ما للمغلوب من الأثر طبعاً أو بنحوه من الافتراض كالماء يظهر على النار فيقهرها على الخمود، والنار تقهر الماء فتبخره أو تجفف رطوبته. وإذ كانت الأسباب الكونية إنما أظهرها الله سبحانه لتكون وسائط في حدوث الحوادث فتضع آثارها في مسبباتها، وهي كائنة ما كانت مضطرة إلى مطاوعة ما يريده الله سبحانه فيها وبها، يصدق عليها عامة إنها مقهورة لله سبحانه فالله قاهر عليها.
فالقاهر من الأسماء التي تصدق عليه تعالى كما تصدق على غيره، غير أن بين قهره تعالى وقهر غيره فرقاً، وهو أن غيره تعالى من الأشياء إنما يقهر بعضها بعضاً وهما مجتمعان من جهة مرتبة وجودهما ودرجة كونهما بمعنى أن النار تقهر الحطب على الاحتراق والاشتعال، وهما معاً موجودان طبيعيان يقتضي أحدهما بالطبع خلاف ما يقتضيه الآخر لكن النار أقوى في تحميل أثرها على الحطب منه من النار فهى تظهر عليه في تأثيرها بأثرها فيه.
والله سبحانه قاهر لا كقهر النار الحطب، بل هو قاهر بالتفوق والإِحاطة على الإِطلاق بمعنى أنا إذا نسبنا احراق جسم وإشعاله كالحطب مثلاً إلى الله سبحانه فهو سبحانه قاهر عليه بالوجود المحدود الذي أوجده به، قاهر عليه بالخواص والكيفيات التي أعطاها له وعبأه بها بيده، قاهر عليه بالنار التي أوقدها لإِحراقه وإشعاله، وهو المالك لجميع ما للنار من ذات وأثر، قاهر عليه بقطع عطية المقاومة للحطب، ووضع الاحتراق والاشتعال موضعه فلا مقاومة ولا تعصي ولا جموح ولا شبه ذلك قبال إرادته ومشيئته لكونها من أُفق أعلى.
فهو تعالى قاهر على عباده لكنه فوقهم لا كقهر شيء شيئاً وهما متزاملان. وقد صدّق القرآن الكريم هذا البحث بنتيجته فذكره اسماً له تعالى في الموضعين من هذه السورة وهما هذه الآية وآية (61).
وقيد الاسم في كلا الموضعين بقوله: { فوق عباده } والغالب في المحفوظ من موارد استعمال القهر هو أن يكون المغلوب من أولي العقل بخلاف الغلبة، ولذا فسّره الراغب بالتذليل، والذلة في أولي العقل أظهر، ولا يمنع ذلك من صحة صدقه في غير مورد أولي العقل بحسب الاستعمال أو بعناية.
والله سبحانه قاهر فوق عباده يمسهم بالضر وبالخير ويذللهم لمطاوعته وقاهر فوق عباده فيما يفعلونه ويؤثرون به من أثر لأنه المالك لما ملّكهم والقادر على ما عليه أقدرهم.
ولما نسب في الآيتين إليه المس بالضر والخير، وقد ينسبان إلى غيره، ميز مقامه من مقام غيره بقوله في ذيل الآية: { وهو الحكيم الخبير } فهو الحكيم لا يفعل ما يفعل جزافاً وجهلاً، الخبير لا يخطئ كغيره.