التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ ٱلْحَقِّ يُخْرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ
١
إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً وَيَبْسُطُوۤاْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِٱلسُّوۤءِ وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ
٢
لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
٣
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِيۤ إِبْرَاهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤُاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةُ وَٱلْبَغْضَآءُ أَبَداً حَتَّىٰ تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ
٤
رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ وَٱغْفِرْ لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٥
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ
٦
عَسَى ٱللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَٱللَّهُ قَدِيرٌ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٧
لاَّ يَنْهَاكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوۤاْ إِلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ
٨
إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ
٩
-الممتحنة

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
تذكر السورة موالاة المؤمنين لأعداء الله من الكفار وموادَّتهم وتشدّد النهي عن ذلك تفتتح به وتختتم وفيها شيء من أحكام النساء المهاجرات وبيعة المؤمنات، وكونها مدنية ظاهر.
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودَّة } الخ، سياق الآيات يدلّ على أن بعض المؤمنين من المهاجرين كانوا يسرُّون الموادَّة إلى المشركين بمكة ليحموا بذلك من بقي من أرحامهم وأولادهم بمكة بعد خروجهم أنفسهم منها بالمهاجرة إلى المدينة فنزلت الآيات ونهاهم الله عن ذلك، ويتأيد بهذا ما ورد أن الآيات نزلت في حاطب بن أبي بلتعة أسرَّ كتاباً إلى المشركين بمكة يخبرهم فيه بعزم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الخروج إليها لفتحها، فعل ذلك ليكون يداً له عليهم يقي بها من كان بمكة من أرحامه وأولاده فأخبر الله بذلك نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ونزلت، وستوافيك قصته في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.
فقوله: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } العدو معروف ويطلق على الواحد والكثير والمراد في الآية هو الكثير بقرينة قوله: { أولياء } و { إليهم } وغير ذلك، وهم المشركون بمكة، وكونهم عدوه من جهة اتخاذهم له شركاء يعبدونهم ولا يعبدون الله ويردّون دعوته ويكذبون رسوله، وكونهم أعداء للمؤمنين لإيمانهم بالله وتفديتهم أموالهم وأنفسهم في سبيله فمن يعادي الله يعاديهم.
وذكر عداوتهم للمؤمنين مع كفاية ذكر عداوتهم لله في سوق النهي لتأكيد التحذير والمنع كأنه قيل: من كان عدواً لله فهو عدو لكم فلا تتخذوه وليّاً.
وقوله: { تلقون إليهم بالمودَّة } بالمودَّة مفعول { تلقون } والباء زائدة كما في قوله:
{ { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } [البقرة: 195]، والمراد بإلقاء المودَّة إظهارها أو إيصالها، والجملة صفة أو حال من فاعل { لا تتخذوا }.
وقوله: { وقد كفروا بما جاءكم من الحق } هو الدين الحق الذي يصفه كتاب الله ويدعو إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والجملة حالية.
وقوله: { يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم } الجملة حالية والمراد بإخراج الرسول وإخراجهم اضطرارهم الرسول والمؤمنين إلى الخروج من مكة والمهاجرة إلى المدينة، و { أن تؤمنوا بالله ربكم } بتقدير اللام متعلق بيخرجون، والمعنى: يجبرون الرسول وإياكم على المهاجرة من مكة لإيمانكم بالله ربكم.
وتوصيف الله بقوله: { ربكم } للإشارة إلى أنهم يؤاخذونهم على أمر حق مفروض ليس بجرم فإن إيمان الإنسان بربه مفروض عليه وليس من الجرم في شيء.
وقوله: { إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي } متعلق بقوله: { لا تتخذوا } وجزاء الشرط محذوف يدل عليه المتعلق، و { جهاداً } مصدر مفعول له، و{ ابتغاء } بمعنى الطلب و "المرضاة" مصدر كالرضى، والمعنى: لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء إن كنتم هاجرتم للمجاهدة في سبيلي ولطلب رضاي.
وتقييد النهي عن ولائهم واشتراطه بخروجهم للجهاد وابتغائهم مرضاته من باب اشتراط الحكم بأمر محقق الوقوع تأكيداً له وإيذاناً بالملازمة بين الشرط والحكم كقول الوالد لولده: إن كنت ولدي فلا تفعل كذا.
وقوله: { تسرّون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم } أسررت إليه حديثاً أي أفضيت إليه في خفية فمعنى { تسرون إليه بالمودة } تطلعونهم على ما تسرون من مودتهم - على ما قاله الراغب - والإعلان خلاف الإخفاء، و { أنا أعلم } الخ، حال من فاعل { تسرون } و { أعلم } اسم تفضيل، واحتمل بعضهم أن يكون فعل المتكلم وحده من المضارع متعدياً بالباء لأن العلم ربما يتعدى بها.
وجملة: { تسرون إليهم } الخ، استئناف بيانية كأنه قيل بعد استماع النهي السابق: ماذا فعلنا فأجيب: تطلعونهم سراً على مودتكم لهم وأنا أعلم بما أخفيتم وما أظهرتم أي أنا أعلم بقولكم وفعلكم علماً يستوي بالنسبة إليه إخفاؤكم وإظهاركم.
ومنه يعلم أن قوله: { بما أخفيتم وما أعلنتم } معاً يفيدان معنى واحداً وهو استواء الإخفاء والإعلان عنده تعالى لإحاطته بما ظهر وما بطن فلا يرد أن ذكر { ما أخفيتم } يغني عن ذكر { ما أعلنتم } لأن العالم بما خفي عالم بما ظهر بطريق أولى.
وقوله: { ومن يفعله منكم فقد ضلَّ سواء السبيل } الإِشارة بذلك إلى أسرار المودة إليهم وهو الموالاة، و { سواء السبيل } من إضافة الصفة إلى الموصوف أي السبيل السوي والطريق المستقيم وهو مفعول { ضل } أو منصوب بنزع الخافض والتقدير فقد ضل عن سواء السبيل، والسبيل سبيل الله تعالى.
قوله تعالى: { إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء } الخ، قال الراغب: الثقف - بالفتح فالسكون - الحذق في إدراك الشيء وفعله. قال: ويقال: ثقفت كذا إذا أدركته ببصرك لحذق في النظر ثم يتجوز به فيستعمل في الإدراك وإن لم يكن معه ثقافة. انتهى. وفسره غيره بالظفر ولعله بمعونة مناسبة المقام، والمعنيان متقاربان.
والآية مسوقة لبيان أنه لا ينفعهم الإسرار بالمودة للمشركين في جلب محبتهم ورفع عداوتهم شيئاً وأن المشركين على الرغم من إلقاء المودة إليهم إن يدركوهم ويظفروا بهم يكونوا لهم أعداء من دون أن يتغير ما في قلوبهم من العداوة.
وقوله: { ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون } بمنزلة عطف التفسير لقوله: { يكونوا لكم أعداء } وبسط الأيدي بالسوء كناية عن القتل والسبي وسائر أنحاء التعذيب وبسط الألسن بالسوء كناية عن السب والشتم.
والظاهر أن قوله: { وودوا لو تكفرون } عطف على الجزاء والماضي بمعنى المستقبل كما يقتضيه الشرط والجزاء، والمعنى: أنهم يبسطون إليكم الأيدي والألسن بالسوء ويودون بذلك لو تكفرون كما كانوا يفتنون المؤمنين بمكة ويعذبونهم يودون بذلك أن يرتدوا عن دينهم. والله أعلم.
قوله تعالى: { لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة } دفع لما ربما يمكن أن يتوهم عذراً لإلقاء المودة إليهم أن في ذلك صيانة لأرحامهم وأولادهم الذين تركوهم بمكة بين المشركين من أذاهم.
والجواب أن أمامكم يوماً تجازون فيه على معصيتكم وطالح عملكم ومنه موالاة الكفار ولا ينفعكم اليوم أرحامكم ولا أولادكم الذين قدمتم صيانتهم من أذى الكفار على صيانة أنفسكم من عذاب الله بترك موالاة الكفار.
وقوله: { يفصل بينكم } أي يفصل الله يوم القيامة بينكم بتقطع الأسباب الدنيوية كما قال تعالى:
{ { فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ } [المؤمنون: 101]، وذلك أن القرابة وهي انتهاء إنسانين أو أكثر إلى رحم واحدة إنما تؤثر آثارها من الرحمة والمودة والألفة والمعاونة والمعاضدة والعصبية والخدمة وغير ذلك من الآثار في ظرف الحياة الاجتماعية التي تسوق الإنسان إليه حاجته إليها بالطبع بحسب الآراء والعقائد الاعتبارية التي أوجدها فيه فهمه الاجتماعي، ولا خبر عن هذه الآراء في الخارج عن ظرف الحياة الاجتماعية.
وإذا برزت الحقائق وارتفع الحجاب وانكشف الغطاء يوم القيامة ضلت عن الإنسان هذه الآراء والمزاعم وانقطعت روابط الاستقلال بين الأسباب ومسبباتها كما قال تعالى:
{ { لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون } [الأنعام: 94]، وقال: { { ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب } [البقرة: 166]. فيومئذ تتقطع رابطة الأنساب ولا ينتفع ذو قرابة من قرابته شيئاً فلا ينبغي للإنسان أن يخون الله ورسوله بموالاة أعداء الدين لأجل أرحامه وأولاده فليسوا يغنونه عن الله يومئذ.
وقيل: المراد أنه يفرق الله بينكم يوم القيامة بما فيه من الهول الموجب لفرار كل منكم من الآخر حسبما نطق به قوله تعالى:
{ { يوم يفر المرء من أخيه وأُمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئٍ منهم يومئذ شأن يغنيه } [عبس: 34-37]، والوجه السابق أنسب للمقام.
وقيل: المراد أنه يميز بعضكم يومئذ من بعض فيدخل أهل الإيمان والطاعة الجنة، وأهل الكفر والمعصية النار ولا يرى القريب المؤمن في الجنة قريبه الكافر في النار.
وفيه أنه وإن كان لا بأس به في نفسه لكنه غير مناسب للمقام إذ لا دلالة في المقام على كفر أرحامهم وأولادهم.
وقيل: المراد بالفصل فصل القضاء والمعنى: أن الله يقضي بينكم يوم القيامة.
وفيه ما في سابقه من عدم المناسبة للمورد فإن فصل القضاء إنما يناسب الاختلاف كما في قوله تعالى:
{ { إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } [السجدة: 25]، ولا ارتباط في الآية بذلك.
وقوله: { والله بما تعملون بصير } متمم لقوله: { لن تنفعكم } كالمؤكد له والمعنى: لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة في رفع تبعة هذه الخيانة وأمثالها والله بما تعملون بصير لا يخفى عليه ما هي هذه الخيانة فيؤاخذكم عليها لا محالة.
قوله تعالى: { قد كانت لكم أُسوة حسنة في إبراهيم والذين معه } إلى آخر الآيتين، والخطاب للمؤمنين، والأسوة الاتباع والاقتداء، وفي قوله: { والذين معه } بظاهره دلالة على أنه كان معه من آمن به غير زوجته ولوط.
وقوله: { إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله } أي إنا بريئون منكم ومن أصنامكم بيان لما فيه الأسطورة والاقتداء.
وقوله: { كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده } بيان لمعنى البراءة بأثرها وهو الكفر بهم وعداوتهم ما داموا مشركين حتى يوحدوا الله سبحانه.
والمراد بالكفر بهم الكفر بشركهم بدليل قوله: { حتى تؤمنوا بالله وحده }، والكفر بشركهم مخالفتهم فيه عملاً كما أن العداوة بينونة ومخالفة قلباً.
فقد فسروا براءتهم منهم بأمور ثلاثة: مخالفتهم لشركهم عملاً، والعداوة والبغضاء بينهم قلباً، واستمرار ذلك ما داموا على شركهم إلا أن يؤمنوا بالله وحده.
وقوله: { إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء }، استثناء مما تدل عليه الجمل المتقدمة أن إبراهيم والذين معه تبرؤا من قومهم المشركين قولاً مطلقاً. وقطعوا أي رابطة تربطهم بالقوم وتصل بينهم إلا ما قال إبراهيم لأبيه: { لأستغفرن لك } الخ.
ولم يكن قوله: { لأستغفرن لك } تولياً منه بل وعداً وعده إياه رجاء أن يتوب عن الشرك ويؤمن بالله وحده كما يدل عليه قوله تعالى:
{ { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه } [التوبة: 114]، حيث يفيد أنه عليه السلام إنما وعده لأنه لم يتبين له بعد أنه عدو لله راسخ في عداوته ثابت في شركه فكان يرجو أن يرجع عن شركه ويطمع في أن يتوب ويؤمن فلما تبين له رسوخ عداوته ويئس من إيمانه تبرأ منه.
على أن قوله تعالى في قصة محاجته أباه في سورة مريم:
{ { قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً وأعتزلكم وما تدعون من دون الله } [مريم: 47-48]، يتضمن وعده أباه بالاستغفار وإخباره بالاعتزال ولو كان وعده الاستغفار تولياً منه لأبيه لكان من الحري أن يقول: وأعتزل القوم، لا أن يقول: وأعتزلكم فيدخل أباه فيمن يعتزلهم وليس الاعتزال إلا التبري.
فالاستثناء استثناء متصل من أنهم لم يكلموا قومهم إلا بالتبري والمحصل من المعنى: أنهم إنما ألقوا إليهم القول بالتبري إلا قول إبراهيم لأبيه: لأستغفرن لك فلم يكن تبرياً ولا تولياً بل وعداً وعده أباه رجاء أن يؤمن بالله.
وها هنا شيء وهو أن مؤدّى آية التوبة { فلما تبيَّن له أنه عدو لله تبرَّأ منه } أن تبرّيه الجازم إنما كان بعد الوعد وبعد تبين عداوته لله، وقوله تعالى في الآية التي نحن فيها: { إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم } إخبار عن تبريهم الجازم القاطع فيكون ما وقع في الاستثناء من قول إبراهيم لأبيه وعداً واقعاً قبل تبريه الجازم ومن غير جنس المستثنى منه فيكون الاستثناء منقطعاً لا متصلاً.
وعلى تقدير كون الاستثناء منقطعاً يجوز أن يكون الاستثناء من قوله: { قد كانت لكم أُسوة حسنة في إبراهيم والذين معه } بما أنه مقيد بقوله: { إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم }، والمعنى: قد كان لكم اقتداء حسن بتبري إبراهيم والذين معه من قومهم إلا أن إبراهيم قال لأبيه كذا وكذا وعداً.
وأما على تقدير كون الاستثناء متصلاً فالوجه ما تقدم، وأما كون المستثنى منه هو قوله: { قد كانت لكم أُسوة حسنة في إبراهيم }، والمعنى: لكم في إبراهيم أُسوة في جميع خصاله إلا في قوله لأبيه: { لأستغفرنَّ لك } فلا أُسوة فيه.
ففيه أن قوله: { لكم أُسوة حسنة في إبراهيم } الخ، غير مسوق لإيجاب التأسّي بإبراهيم عليه السلام في جميع خصاله حتى يكون الوعد بالاستغفار أو نفس الاستغفار - وذلك من خصاله - مستثنى منها بل إنما سيق لإيجاب التأسي به في تبريه من قومه المشركين، والوعد بالاستغفار رجاء للتوبة والإيمان ليس من التبري وإن كان ليس تولياً أيضاً.
وقوله: { ولا أملك لك من الله شيئاً } تتمة قول إبراهيم عليه السلام، وهو بيان لحقيقة الأمر من أن سؤاله المغفرة وطلبها من الله ليس من نوع الطلب الذي يملك فيه الطالب من المطلوب منه ما يطلبه، وإنما هو سؤال يدعو إليه فقر العبودية وذلّتها قبال غنى الربوبية وعزتها فله تعالى أن يقبل بوجهه الكريم فيستجيب ويرحم، وله أن يعرض ويمسك الرحمة فإنه لا يملك أحد منه تعالى شيئاً وهو المالك لكل شيء، قال تعالى:
{ { قل فمن يملك من الله شيئاً } [المائدة: 17]. وبالجملة قوله: { لا أملك } الخ، نوع اعتراف بالعجز استدراكاً لما يستشعر من قوله: { لأستغفرن لك } من شائبة إثبات القدرة لنفسه نظير قول شعيب عليه السلام: { وما توفيقي إلا بالله } استدراكاً لما يشعر به قوله لقومه: { { إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت } [هود: 88]، من إثبات القوة والاستطاعة لنفسه بالأصالة والاستقلال.
وقوله: { ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير } الخ، من تمام القول المنقول عن إبراهيم والذين معه المندوب إلى التأسي بهم فيه، وهو دعاء منهم لربهم وابتهال إليه إثر ما تبرؤوا من قومهم ذاك التبري العنيف ليحفظهم من تبعاته ويغفر لهم فلا يخيبهم في إيمانهم.
وقد افتتحوا دعاءهم بتقدمة يذكرون فيها حالهم فيما هم فيه من التبري من أعداء الله فقالوا: { ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا } يعنون به أنّا كنا في موقف من الحياة تتمكن فيه أنفسنا وندبر فيه أمورنا أما أنفسنا فأنبنا ورجعنا بها إليك وهو الإنابة، وأما أمورنا التي كان علينا تدبيرها فتركناها لك وجعلنا مشيَّتك مكان مشيَّتنا فأنت وكيلنا فيها تدبرها بما تشاء وكيف تشاء وهو التوكل.
ثم قالوا: { وإليك المصير } يعنون به أن مصير كل شيء من فعل أو فاعل فعل إليك فقد جرينا في توكلنا عليك وإنابتنا إليك مجرى ما عليه حقيقة الأمر من مصير كل شيء إليك حيث هاجرنا بأنفسنا إليك وتركنا تدبير أمورنا لك.
وقوله: { ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا } متن دعائهم يسألونه تعالى أن يعيذهم من تبعة تبريهم من الكفار ويغفر لهم.
والفتنة ما يمتحن به، والمراد بجعلهم فتنة للذين كفروا تسليط الكفار عليهم ليمتحنهم فيخرجوا ما في وسعهم من الفساد فيؤذوهم بأنواع الأذى أن آمنوا بالله ورفضوا آلهتم وتبرؤا منهم ومما يعبدون.
وقد كرّروا نداءه تعالى - ربنا - في دعائهم مرة بعد مرة لإثارة الرحمة الإلهية.
وقوله: { إنك أنت العزيز الحكيم } أي غالب غير مغلوب متقن لأفعاله لا يعجز أن يستجيب دعاءهم فيحفظهم من كيد أعدائه ويعلم بأي طريق يحفظ.
وللمفسرين في تفسير الآيتين أنظار مختلفة أخرى أغمضنا عن إيرادها رعاية للاختصار من أرادها فليراجع المطوّلات.
قوله تعالى: { لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر } الخ، تكرار حديث الأسوة لتأكيد الإيجاب ولبيان أن هذه الأسوة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وأيضاً أنهم كما يتأسى بهم في تبرِّيهم من الكفار كذلك يتأسى بهم في دعائهم وابتهالهم.
والظاهر أن المراد برجائه تعالى رجاء ثوابه بالإيمان به وبرجاء اليوم الآخر رجاء ما وعد الله وأعدّ للمؤمنين من الثواب، وهو كناية عن الإيمان.
وقوله: { ومن يتولَّ فإن الله هو الغني الحميد } استغناء منه تعالى عن امتثالهم لأمره بتبرّيهم من الكفار وأنهم هم المنتفعون بذلك والله سبحانه غني في ذاته عنهم وعن طاعتهم حميد فيما يأمرهم وينهاهم إذ ليس في ذلك إلا صلاح حالهم وسعادة حياتهم.
قوله تعالى: { عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم } ضمير { منهم } للكفار الذين أُمروا بمعاداتهم وهم كفار مكة، والمراد بجعل المودة بين المؤمنين وبينهم جعلها بتوفيقهم للإسلام كما وقع ذلك لما فتح الله لهم مكة، وليس المراد به نسخ حكم المعاداة والتبري.
والمعنى: مرجو من الله أن يجعل بينكم معشر المؤمنين وبين الذين عاديتم من الكفار وهم كفار مكة مودة بتوفيقهم للإسلام فتنقلب المعاداة مودة والله قدير والله غفور لذنوب عباده رحيم بهم إذا تابوا وأسلموا فعلى المؤمنين أن يرجوا من الله أن يبدّل معاداتهم مودة بقدرته ومغفرته ورحمته.
قوله تعالى: { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرُّوهم وتقسطوا إليهم } الخ، في هذه الآية والتي تتلوها توضيح للنهي الوارد في أول السورة، والمراد بالذين لم يقاتلوا المؤمنين في الدين ولم يخرجوهم غير أهل مكة ممن لم يقاتلوهم ولم يخرجوهم من ديارهم من المشركين من أهل المعاهدة، والبر والإحسان، والإقساط المعاملة بالعدل، و { إن تبرّوهم } بدل من { الذين } الخ، وقوله: { إن الله يحب المقسطين } تعليل لقوله: { لا ينهاكم الله } الخ.
والمعنى: لا ينهاكم الله بقوله: { لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } عن أن تحسنوا وتعاملوا بالعدل الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم لأن ذلك منكم إقساط والله يحب المقسطين.
قيل: إن الآية منسوخة بقوله:
{ { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [التوبة: 5]، وفيه أن الآية التي نحن فيها لا تشمل بإطلاقها إلا أهل الذمة وأهل المعاهدة وأما أهل الحرب فلا، وآية التوبة إنما تشمل أهل الحرب من المشركين دون أهل المعاهدة فكيف تنسخ ما لا يزاحمها في الدلالة.
قوله تعالى: { إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم } الخ، المراد بالذين قاتلوكم الخ، مشركوا مكة، والمظاهرة على الإخراج المعاونة والمعاضدة عليه، وقوله: { أن تولوهم } بدل من { الذين قاتلوكم } الخ.
وقوله: { ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون } قصر إفراد أي المتولون لمشركي مكة ومن ظاهرهم على المسلمين هم الظالمون المتمردون عن النهي دون مطلق المتولين للكفار أو تأكيد للنهي عن توليهم.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } الآية: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة, ولفظ الآية عام ومعناها خاص وكان سبب ذلك أن حاطب بن أبي بلتعة قد أسلم وهاجر إلى المدينة وكان عياله بمكة، وكانت قريش تخاف أن يغزوهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصاروا إلى عيال حاطب وسألوهم أن يكتبوا إلى حاطب ويسألوه عن خبر محمد هل يريد أن يغزو مكة؟.
فكتبوا إلى حاطب يسألونه عن ذلك فكتب إليهم حاطب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريد ذلك، ودفع الكتاب إلى امرأة تسمى صفية فوضعته في قرونها ومرَّت فنزل جبرئيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخبره بذلك.
فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمير المؤمنين والزبير بن العوام في طلبها فلحقوها فقال لها أمير المؤمنين عليه السلام: أين الكتاب؟ فقالت: ما معي شيء ففتشاها فلم يجدا معها شيئاً فقال الزبير: ما نرى معها شيئاً فقال أمير المؤمنين عليه السلام: والله ما كذبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا كذب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على جبرئيل، ولا كذب جبرئيل على الله جل ثناؤه والله لتظهرن الكتاب أو لأردن رأسك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: تنحيا عني حتى أُخرجه فأخرجت الكتاب من قرونها فأخذه أمير المؤمنين وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا حاطب ما هذا؟ فقال حاطب: والله يا رسول الله ما نافقت ولا غيرت ولا بدلت، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله حقاً ولكن أهلي وعيالي كتبوا إلي بحسن صنيع قريش إليهم فأحببت أن أُجازي قريشاً بحسن معاشرتهم، فأنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } إلى قوله { والله بما تعملون بصير }.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد والحميدي وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وأبو عوانة وابن حبان وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي وأبو نعيم معاً في الدلائل عن علي قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها وأتوني به.
فخرجنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة فقلنا: أخرجي الكتاب. قالت: ما معي كتاب قلنا: لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب فأخرجته من عقاصها.
فأتينا به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أُناس من المشركين بمكة، يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما هذا يا حاطب؟ قال: لا تعجل عليّ يا رسول الله إني كنت امرءً ملصقاً من قريش ولم أكن من أنفسها وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أصطنع إليهم يداً يحمون بها قرابتي وما فعلت ذلك كفراً ولا ارتداداً عن ديني فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: صدق.
فقال عمر: دعني يا رسول الله فأضرب عنقه فقال: إنه شهد بدراً وما يدريك لعلّ الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، ونزلت فيه { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة }.
أقول: وهذا المعنى مروي في عدة من الروايات عن نفر من الصحابة كأنس وجابر وعمر وابن عباس وجمع من التابعين كحسن وغيره.
والرواية من حيث متنها لا تخلو من بحث:
أما أولاً: فلأن ظاهرها بل صريحها أن حاطب بن أبي بلتعة كان يستحق بصنعه ما صنع القتل أو جزاء دون ذلك، وإنما صرف عنه ذلك كونه بدرياً فالبدري لا يؤاخذ بما أتى به من معصية كما يصرح به قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعمر في هذه الرواية: "إنه شهد بدراً" وفي رواية الحسن: إنهم أهل بدر فاجتنب أهل بدر إنهم أهل بدر فاجتنب أهل بدر إنهم أهل بدر فاجتنب أهل بدر.
ويعارضه ما في قصة الإفك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدما نزلت براءة عائشة حد مسطح بن أثاثة وكان من الآفكين، وكان مسطح بن أثاثة هذا من السابقين الأولين من المهاجرين وممن شهد بدراً كما في صحيحي البخاري ومسلم وحده النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما نطقت به الروايات الكثيرة الواردة في تفسير آيات الإفك.
وأما ثانياً: فلأن ما يشتمل عليه من خطابه تعالى لأهل بدر "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" الدال على كون كل ما أتوا به من ذنب مغفوراً لهم لا يتم بالبداهة إلا بارتفاع عامة التكاليف الدينية عنهم من واجب أو حرام أو مستحب أو مكروه، ولا معنى لتعلق التكليف المولوي بأمر مع إلغاء تبعة مخالفته وتسوية الفعل والترك بالنسبة إلى المكلف كما يدل عليه قوله: "اعملوا ما شئتم" على بداهة ظهوره في الإباحة العامة.
ولازم ذلك:
أولاً: شمول المغفرة من المعاصي لما يحكم بداهة العقل على عدم شمول العفو له لولا التوبة كعبادة الأصنام والرد على الله ورسوله وتكذيب النبي والافتراء على الله ورسوله والاستهزاء بالدين وأحكامه الثابتة بالضرورة، فإن الآيات المتعرضة لها الناهية عنها تأبى شمول المغفرة لها من غير توبة، ومثلها قتل النفس المحترمة ظلماً والفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل، واستباحة الدماء والأعراض والأموال.
ومن المعلوم أن المحذور إمكان تعلق المغفرة بأمثال هذه المعاصي والذنوب لا فعلية تعلقها بها فلا يدفع بأن الله سبحانه يحفظ هذا المكلف المغفور له من اقتراف أمثال هذه المعاصي والذنوب وإن كان غفر له لو اقترف.
وثانياً: أن يخصص قوله: "اعملوا ما شئتم" عمومات جميع الأحكام الشرعية من عبادات ومعاملات من حيث المتعلق فلا يعم شيء منها البدريين ولا يتعلق بهم، ولو كان كذلك لكان معروفاً عند الصحابة مسلماً لهم أن هؤلاء العصابة محررون من كل تكليف ديني مطلقون من قيد وظائف العبودية وكان البدريون أنفسهم أحق برعاية معنى التحرير فيما بينهم أنفسهم على ما له من الأهمية، ولا شاهد يشهد بذلك في المروي من أخبارهم والمحفوظ من آثارهم بل المستفاد من سيرهم وخاصة في خلال الفتن الواقعة بعد رحلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلاف ذلك بما لا يسع لأحد إنكاره.
على أن تحرير قوم ذوي عدد من الناس وإطلاقهم من قيد التكليف لهم أن يفعلوا ما يشاؤن وأن لا يبالوا بمخالفة الله ورسوله وإن عظمت ما عظمت يناقض مصلحة الدعوة الدينية وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبث المعارف الإلهية التي جاء بها الرسول بالرواية عنه إذ لا يبقى للناس بهم وثوق فيما يقولون ويروون من حكم الله ورسوله أن لا ضير عليهم ولو أتوا بكل كذب وافتراء أو اقترفوا كل منكر وفحشاء والناس يعلمون منهم ذلك.
ويجري ذلك في النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو سيد أهل بدر وقد أرسله الله شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً فكيف تطمئن القلوب إلى دعوة من يجوز تلبسه بكل كذب وافتراء ومنكر وفحشاء؟ وأنى تسلم النفوس له الاتصاف بتلك الصفات الكريمة التي مدحه الله بها؟ بل كيف يجوز في حكمته تعالى أن يقلد الشهادة والدعوة من لا يؤمن في حال أو مقال، ويعده سراجاً منيراً وهو تعالى قد أباح له أن يحيي الباطل كما ينير الحق وأذن له في أن يضل الناس وقد بعثه ليهديهم والآيات المتعرضة لعصمة الأنبياء وحفظ الوحي تأبى ذلك كله.
على أن ذلك يفسد استقامة الخطاب في كثير من الآيات التي فيها عتاب الصحابة والمؤمنين على بعض تخلفاتهم كالآيات النازلة في وقعة أُحد والأحزاب وحنين وغيرها المعاتبة لهم على انهزامهم وفرارهم من الزحف وقد أوعد الله عليه النار.
ومن أوضح الآيات في ذلك آيات الإفك وفي أهل الإفك مسطح بن أثاثة البدري وفيها قوله تعالى: { لكل امرء منهم ما اكتسب من الإثم } ولم يستثن أحداً منهم، وقوله: { وهو عند الله عظيم }، وقوله: { يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين }.
ومن أوضح الآيات في عدم ملاءمة معناها للرواية نفس هذه الآيات التي تذكر الرواية سبب نزولها: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة } الآيات وفيها مثل قوله تعالى: { ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل } وقوله: { ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون }.
فمن المعلوم أن الآيات إنما وجهت الخطاب والعتاب إلى عامة الذين آمنوا وتنسب إلقاء المودة وإسرار مودة الكفار إلى المؤمنين بما أن بعضهم وهو حاطب بن أبي بلتعة اتخذ الكفار أولياء وخان الإسلام والمسلمين فنسبت الآيات فعل البعض إلى الكل ووجهت العتاب والتهديد إلى الجميع.
فلو كان حاطب وهو بدري محرر مرفوع عنه القلم مخاطباً بمثل قوله: اعمل ما شئت فقد غفرت لك لا إثم عليه فيما يفعل ولا ضلال في حقه ولا يتصف بظلم ولا يتعلق به عتاب ولا تهديد فأي وجه لنسبة فعل البعض بما له من الصفات غير المرضية إلى الكل ولا صفة غير مرضية لفعل هذا البعض على الفرض.
فيؤول الأمر إلى فرض أن يأتي البعض بفعل مأذون له فيه لا عتاب عليه ولا لوم يعتريه ويعاتب الكل ويهددوا عليه وبعبارة أخرى أن يؤذن لفاعل في معصية ثم يعاتب عليها غيره ولا صنع له فيها ويجلّ كلامه تعالى عن مثل ذلك.
وفيه أخرج البخاري وابن المنذر والنحاس والبيهقي في شعب الإيمان عن أسماء بنت أبي بكر قالت: أتتني أُمي راغبة وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أأصلها؟ فأنزل الله { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين } فقال: نعم صلي.
وفيه أخرج أبو داود في تاريخه وابن المنذر عن قتادة { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين } نسختها { اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم }.
أقول: قد عرفت الكلام فيه.
وفي الكافي بإسناده عن سعيد الأعرج عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله وتعطي في الله وتمنع في الله جل وعز.
وفي تفسير القمي بإسناده إلى إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كل من لم يحب على الدين ولم يبغض على الدين فلا دين له.