التفاسير

< >
عرض

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
١
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ
٢
كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ
٣
إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ
٤
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يٰقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ
٥
وَإِذْ قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ يٰبَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي ٱسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ
٦
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَىٰ إِلَى ٱلإِسْلاَمِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ
٧
يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَٰفِرُونَ
٨
هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ
٩
-الصف

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
السورة ترغّب المؤمنين وتحرّضهم على أن يجاهدوا في سبيل الله ويقاتلوا أعداء دينه، وتنبّئهم أن هذا الدين نور ساطع لله سبحانه يريد الكفار من أهل الكتاب أن يطفئوه بأفواههم والله متمّه ولو كره الكافرون، ومظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
وأن هذا النبي الذي آمنوا به رسول من الله أرسله بالهدى ودين الحق، وبشَّر به عيسى ابن مريم عليهما السلام بني إسرائيل.
فعلى المؤمنين أن يشدُّوا العزم على طاعته وامتثال ما يأمرهم به من الجهاد ونصرة الله في دينه حتى يسعدهم الله في آخرتهم وينصرهم ويفتح لهم في دنياهم ويؤيدهم على أعدائهم.
وعليهم أن لا يقولوا ما لا يفعلون ولا ينكصوا فيما يعدون فإن ذلك يستوجب مقتاً من الله تعالى وإيذاء الرسول وفيه خطر أن يزيغ الله قلوبهم كما فعل بقوم موسى عليه السلام لما آذوه وهم يعلمون أنه رسول الله إليهم والله لا يهدي القوم الظالمين.
والسورة مدنية بشهادة سياق آياتها.
قوله تعالى: { سبَّح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم } تقدم تفسيره، وافتتاح الكلام بالتسبيح لما فيها من توبيخ المؤمنين بقولهم ما لا يفعلون وإنذارهم بمقت الله وإزاغته قلوب الفاسقين.
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } { لم } مخفف لما، و { ما } استفهامية، واللام للتعليل، والكلام مسوق للتوبيخ ففيه توبيخ المؤمنين على قولهم ما لا يفعلون ولا يصغى إلى قول بعض المفسرين: أن المراد بالذين آمنوا هم المنافقون والتوبيخ لهم دون المؤمنين لجلالة قدرهم.
وذلك لوفور الآيات المتضمنة لتوبيخهم ومعاتبتهم وخاصة في الآيات النازلة في الغزوات وما يلحق بها كاحُد والأحزاب وحنين وصلح الحديبية وتبوك والإنفاق في سبيل الله وغير ذلك، والصالحون من هؤلاء المؤمنين إنما صلحوا نفساً وجلّوا قدراً بالتربية الإلهية التي تتضمنها أمثال هذه التوبيخات والعتابات المتوجهة إليهم تدريجاً ولم يتصفوا بذلك من عند أنفسهم.
ومورد التوبيخ وإن كان بحسب ظاهر لفظ الآية مطلق تخلف الفعل عن القول وخلف الوعد ونقض العهد وهو كذلك لكونه من آثار مخالفة الظاهر للباطن وهو النفاق لكن سياق الآيات وفيها قوله: { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً } وما سيأتي من قوله: { يا أيها الذين آمنوا هل أدلّكم على تجارة } الخ، وغير ذلك يفيد أن متعلق التوبيخ كان هو تخلف بعضهم عما وعده من الثبات في القتال وعدم الانهزام والفرار أو تثاقلهم أو تخلفهم عن الخروج أو عدم الإنفاق في تجهز أنفسهم أو تجهيز غيرهم.
قوله تعالى: { كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } المقت البغض الشديد، والآية في مقام التعليل لمضمون الآية السابقة فهو تعالى يبغض من الإنسان أن يقول ما لا يفعله لأنه من النفاق، وأن يقول الإنسان ما لا يفعله غير أن لا يفعل ما يقوله فالأول من النفاق والثاني من ضعف الإرادة ووهن العزم وهو رذيلة منافية لسعادة النفس الإنسانية فإن الله بنى سعادة النفس الإنسانية على فعل الخير واكتساب الحسنة من طريق الاختيار ومفتاحه العزم والإرادة، ولا تأثير إلا للراسخ من العزم والإرادة، وتخلف الفعل عن القول معلول وهن العزم وضعف الإرادة ولا يرجى للإنسان مع ذلك خير ولا سعادة.
قوله تعالى: { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص } الصف جعل الأشياء على خط مستو كالناس والأشجار. كذا قاله الراغب، وهو مصدر بمعنى اسم الفاعل ولذا لم يجمع، وهو حال من ضمير الفاعل في { يقاتلون }، والمعنى: يقاتلون في سبيله حال كونهم صافين.
والبنيان هو البناء، والمرصوص من الرصاص، والمراد به ما أُحكم من البناء بالرصاص فيقاوم ما يصادمه من أسباب الانهدام.
والآية تعلل خصوص المورد - وهو أن يعدوا الثبات في القتال ثم ينهزموا - بالالتزام كما أن الآية السابقة تعلل التوبيخ على مطلق أن يقولوا ما لا يفعلون، وذلك أن الله سبحانه إذا أحبَّ الذين يقاتلون فيلزمون مكانهم ولا يزولون كان لازمه أن يبغض الذين يعدون أن يثبتوا ثم ينهزمون إذا حضروا معركة القتال.
قوله تعالى: { وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم } الخ، في الآية إشارة إلى إيذاء بني إسرائيل رسولهم موسى عليه السلام ولجاجهم حتى آل إلى إزاغة الله قلوبهم. وفي ذلك نهي التزامي للمؤمنين عن أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيؤول أمرهم إلى ما آل إليه أمر قوم موسى من إزاغة القلوب وقد قال تعالى:
{ { إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعدَّ لهم عذاباً مهيناً } } [الأحزاب: 57]. والآية بما فيها من النهي الالتزامي في معنى قوله: { { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرَّأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهاً يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً } [الأحزاب: 69-70]. وسياق الآيتين وذكر تبرئة موسى عليه السلام يدل على أن المراد بإيذائه بما برَّأه الله منه ليس معصيتهم لأوامره وخروجهم عن طاعته إذ لا معنى حينئذ لتبرئته بل هو أنهم وقعوا فيه عليه السلام وقالوا فيه ما فيه عار وشين فتأذى فبرَّأه الله مما قالوا ونسبوا إليه، وقوله في الآية التالية: { اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً } يؤيد هذا الذي ذكرناه.
ويؤيد ذلك إشارته تعالى إلى بعض مصاديق إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقول أو فعل في قوله: { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي } إلى أن قال { وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب } إلى أن قال
{ { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً إن ذلك كان عند الله عظيماً } } [الأحزاب: 53]. فتحصَّل أن في قوله: { وإذ قال موسى لقومه } الخ، تلويحاً إلى النهي عن إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقول أو فعل على علم بذلك كما أن في ذيل الآية تخويفاً وإنذاراً أنه فسق ربما أدَّى إلى إزاغته تعالى قلب من تلبَّس به.
وقوله: { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين } الزيغ الميل عن الاستقامة ولازمه الانحراف عن الحق إلى الباطل.
وإزاغته تعالى إمساك رحمته وقطع هدايته عنهم كما يفيده التعليل بقوله: { إن الله لا يهدي القوم الفاسقين } حيث علل الإزاغة بعدم الهداية، وهي إزاغة على سبيل المجازاة وتثبيت للزيغ الذي تلبسوا به أولاً بسبب فسقهم المستدعي للمجازاة كما قال تعالى:
{ { يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلا الفاسقين } [البقرة: 26]، وليس بإزاغة بدئية وإضلال ابتدائي لا يليق بساحة قدسه تعالى.
ومن هنا يظهر فساد ما قيل: إنه لا يجوز أن يكون المراد بقوله: { أزاغ الله قلوبهم } الإزاغة عن الإيمان لأن الله تعالى لا يجوز أن يزيغ أحداً عن الإيمان، وأيضاً كون المراد به الإزاغة عن الإيمان يخرج الكلام عن الفائدة لأنهم إذا زاغوا عن الإيمان فقد صاروا كفاراً فلا معنى لقوله: أزاغهم الله عن الإيمان.
وجه الفساد أن قوله: "لا يجوز له تعالى أن يزيغ أحداً عن الإِيمان" ممنوع بإطلاقه فإن الملاك فيه لزوم الظلم وإنما يلزم فيما كان من الإزاغة والإضلال ابتدائياً وأما ما كان على سبيل المجازاة وحقيقته إمساك الرحمة وقطع الهداية لتسبيب العبد لذلك بفسقه وإعراضه عن الرحمة والهداية فلا دليل على منعه لا عقلاً ولا نقلاً.
وأما قوله: "إن الكلام يخرج بذلك عن الفائدة" فيدفعه أن الذي ينسب من الزيغ إلى العبد ويحصل معه الكفر تحقق ما له بالفسق والذي ينسب إليه تعالى تثبيت الزيغ في قلب العبد والطبع عليه به فزيغ العبد عن الإيمان بسبب فسقه وحصول الكفر بذلك لا يغني عن تثبيت الله الزيغ والكفر في قلبه على سبيل المجازاة.
قوله تعالى: { وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } تقدم في صدر الكلام أن هذه الآية والتي قبلها والآيات الثلاث بعدها مسوقة لتسجيل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رسول معلوم الرسالة عند المؤمنين أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون من أهل الكتاب، وما جاء به من الدين نور ساطع من عند الله يريد المشركون ليطفؤه بأفواههم والله متم نوره ولو كره المشركون.
فعلى المؤمنين أن لا يؤذوه صلى الله عليه وآله وسلم وهم يعلمون أنه رسول الله إليهم، وأن ينصروه ويجاهدوا في سبيل ربهم لإِحياء دينه ونشر كلمته.
ومن ذلك يعلم أن قوله: { وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل } الخ، كالتوطئة لما سيذكر من كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً مبشراً به من قبل أرسله الله بالهدى ودين الحق ودينه نوره تعالى يهتدي به الناس.
والذي حكاه تعالى عن عيسى ابن مريم عليهما السلام أعني قوله: { يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } ملخص دعوته وقد آذن بأصل دعوته بقوله: { إني رسول الله إليكم } فأشار إلى أنه لا شأن له إلا أنه حامل رسالة من الله إليهم، ثم بين متن ما أُرسل إليهم لأجل تبليغه في رسالته بقوله: { مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول } الخ.
فقوله: { مصدقاً لما بين يدي من التوراة } بيان أن دعوته لا تغاير دين التوراة ولا تناقض شريعتها بل تصدقها ولم تنسخ من أحكامها إلا يسيراً والنسخ بيان انتهاء أمد الحكم وليس بإبطال، ولذا جمع عليه السلام بين تصديق التوراة ونسخ بعض أحكامها فيما حكاه الله تعالى من قوله:
{ { ومصدقاً لما بين يدي من التوراة ولأُحل لكم بعض الذي حرم عليكم } [آل عمران: 50]، ولم يبين لهم إلا بعض ما يختلفون فيه كما في قوله المحكي: { { قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون } [الزخرف: 63]، وقوله: { ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } إشارة إلى الشطر الثاني من رسالته عليه السلام وقد أشار إلى الشطر الأول بقوله: { مصدقاً لما بين يدي من التوراة }.
ومن المعلوم أن البشرى هي الخبر الذي يسر المبشر ويفرحه ولا يكون إلا بشيء من الخير يوافيه ويعود إليه، والخير المترقب من بعثة النبي ودعوته هو انفتاح باب من الرحمة الإلهية على الناس فيه سعادة دنياهم وعقباهم من عقيدة حقة أو عمل صالح أو كليهما، والبشرى بالنبي بعد النبي وبالدعوة الجديدة بعد حلول دعوة سابقة واستقرارها والدعوة الإلهية واحدة لا تبطل بمرور الدهور وتقضي الأزمنة واختلاف الأيام والليالي - إنما تتصور إذا كانت الدعوة الجديدة أرقى فيما تشتمل عليه من العقائد الحقة والشرائع المعدلة لأعمال المجتمع وأشمل لسعادة الإنسان في دنياه وعقباه.
وبهذا البيان يظهر أن معنى قوله عليه السلام: { ومبشراً برسول يأتي من بعدي } الخ، يفيد كون ما أتى به النبي أحمد صلى الله عليه وآله وسلم أرقي وأكمل مما تضمنته التوراة وبعث به عيسى عليه السلام وهو عليه السلام متوسط رابط بين الدعوتين.
ويعود معنى كلامه: { إني رسول الله إليكم مصدقاً } الخ، إلى أني رسول من الله إليكم أدعو إلى شريعة التوراة ومنهاجها - ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم - وهي شريعة سيكملها الله ببعث نبي يأتي من بعدي اسمه أحمد.
وهو كذلك فإمعان التأمل في المعارف الإلهية التي يدعو إليها الإسلام يعطي أنها أدق مما في غيره من الشرائع السماوية السابقة وخاصة ما يندب إليه من التوحيد الذي هو أصل الأصول الذي يبتني عليه كل حكم ويعود إليه كل من المعارف الحقيقية وقد تقدم شطر من الكلام فيه في المباحث السابقة من الكتاب.
وكذا الشرائع والقوانين العملية التي لم تدع شيئاً مما دق وجل من أعمال الإنسان الفردية والاجتماعية إلا عدَّلته وحدّت حدوده وقررته على أساس التوحيد ووجهته إلى غرض السعادة.
وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى:
{ { الذين يتبعون النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } [الأعراف: 157]، وآيات أُخرى يصف القرآن.
والآية أعني قوله: { ومبشراً برسول يأتي من بعدي } وإن كانت مصرحة بالبشارة لكنها لا تدل على كونها مذكورة في كتابه عليه السلام غير أن آية الأعراف المنقولة آنفاً { يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإِنجيل } وكذا قوله في صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
{ { ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإِنجيل } [الفتح: 29] الآية، يدلان على ذلك.
وقوله: { اسمه أحمد } دلالة السياق على تعبير عيسى عليه السلام عنه صلى الله عليه وآله وسلم بأحمد وعلى كونه اسماً له يعرف به عند الناس كما كان يسمى بمحمد ظاهرة لا سترة عليها.
ويدل عليه قول حسان:

صلى الإله ومن يحفّ بعرشه والطيّبون على المبارك أحمد

ومن أشعار أبي طالب قوله:

وقالوا لأحمـــد أنـــت امـــرء خلوف اللسان ضعيف السـبب
ألا إن أحمد قــــــــد جاءهـــم بحـــــــق ولـــــم يأتهم بالكذب

وقوله مخاطباً للعباس وحمزة وجعفر وعلي يوصيهم بنصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

كونــــوا فدى لكم أُمي وما ولدت في نصر أحمد دون الناس أتراساً

ومن شعره فيه صلى الله عليه وآله وسلم وقد سماه باسمه الآخر محمد:

ألــم تعلمـــوا أنـــا وجدنا محمداً نبياً كموسى خط في أول الكتب

ويستفاد من البيت أنهم عثروا على وجود البشارة به صلى الله عليه وآله وسلم في الكتب السماوية التي كانت عند أهل الكتاب يومئذ ذاك.
ويؤيده أيضاً إيمان جماعة من أهل الكتاب من اليهود والنصارى وفيهم قوم من علمائهم كعبد الله بن سلام وغيره وقد كانوا يسمعون هذه الآيات القرآنية التي تذكر البشارة به صلى الله عليه وآله وسلم وذكره في التوراة والإنجيل فتلقوه بالقبول ولم يكذبوه ولا أظهروا فيه شيئاً من الشك والترديد.
وأما خلو الأناجيل الدائرة اليوم عن بشارة عيسى بما فيها من الصراحة فالقرآن - وهو آية معجزة باقية - في غنى عن تصديقها، وقد تقدم البحث عن سندها واعتبارها في الجزء الثالث من الكتاب.
وقوله: { فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين } ضمير { جاء } لأحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وضمير { هم } لبني إسرائيل أو لهم ولغيرهم، والمراد بالبينات البشارة ومعجزة القرآن وسائر آيات النبوة.
والمعنى: { فلما جاء أحمد المبشر به بني إسرائيل أو أتاهم وغيرهم بالآيات البينة التي منها بشارة عيسى عليه السلام قالوا هذا سحر مبين، وقرئ هذا ساحر مبين.
وقيل: ضمير { جاء } لعيسى عليه السلام، والسياق لا يلائمه.
قوله تعالى: { ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام } الخ، الاستفهام للإنكار وهو ردّ لقولهم: { هذا سحر مبين } فإن معناه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس برسول وأن ما بلّغه من دين الله ليس منه تعالى.
والمراد بالإسلام الدين الذي يدعو إليه رسول الله بما أنه تسليم لله فيما يريده ويأمر به من اعتقاد وعمل، ولا ريب أن مقتضى ربوبيته وأُلوهيته تعالى تسليم عباده له تسليماً مطلقاً فلا ريب أن الدين الذي هو الإسلام لله دينه الحق الذي يجب أن يدان به فدعوى أنه باطل ليس من الله افتراء على الله.
ومن هنا يظهر أن قوله: { وهو يدعى إلى الإسلام } يتضمن الحجة على كون قولهم: { هذا سحر مبين } افتراء على الله.
والافتراء ظلم لا يرتاب العقل في كونه ظلماً وينهي عنه الشرع ويعظم الظلم بعظمة من وقع عليه فإذا كان هو الله سبحانه كان أعظم الظلم فلا أظلم ممن افترى على الله الكذب.
والمعنى: ولا أظلم ممن افترى على الله الكذب - بنفي نسبة دين الله إليه - والحال أنه يدعى إلى دين الإسلام الذي لا يتضمن إلا التسليم لله فيما أراد ولا ريب أنه من الله، والله لا يهدي القوم الظالمين.
قوله تعالى: { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم } الخ، إطفاء النور إبطاله وإذهاب شروقه، وإطفاء النور بالأفواه إنما هو بالنفخ بها.
وقد وقعت الآية في سورة التوبة وفيها: { يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم } قال الراغب: قال تعالى: { يريدون أن يطفئوا نور الله } { يريدون ليطفئوا نور الله } والفرق بين الموضعين أن في قوله: { يريدون أن يطفئوا } يقصدون إطفاء نور الله، وفي قوله: { ليطفئوا } يقصدون أمراً يتوصلون به إلى إطفاء نور الله. انتهى. ومحصله أن متعلق الإرادة في قوله: { يريدون أن يطفئوا نور الله } نفس الإطفاء، وفي قوله: { يريدون ليطفئوا نور الله } السبب الموصل إلى الإطفاء وهو النفخ بالأفواه والإطفاء غرض وغاية.
والآية وما يتلوها كالشارح لمعنى ما تقدم في الآية السابقة من ظلمهم برمي الدعوة بالسحر وعدم هدايته تعالى لهم بما أنهم ظالمون، والمحصل أنهم يريدون إطفاء نور الله بنفخة أفواههم لكن الله لا يهديهم إلى مقصدهم بل يتمّ نوره ويظهر دينه على الدين كله.
فقوله: { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم } أي بالنفخ بالأفواه كما يطفأ الشمعة بالنفخة كناية عن أنهم زعموا أن نور الله وهو دينه نور ضعيف كنور الشمعة يطفأ بأدنى نفخة فرموه بالسحر وانقطاع نسبته إلى الله.
وقد أخطؤا في مزعمتهم فهو نور الله الذي لا يطفأ وقد شاء أن يتمَّه ولو كره الكافرون والله بالغ أمره، وهو قوله: { والله متمُّ نوره ولو كره الكافرون }.
قوله تعالى: { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون } الإضافة في { دين الحق } بيانية كما قيل، والظاهر أنها في الأصل إضافة لاميَّة بعناية لطيفة هي أن لكل من الحق والباطل ديناً يقتضيه ويختص به، وقد ارتضى الله تعالى الدين الذي للحق - وهو الحق تعالى - فأرسل رسوله.
وإظهار شيء على غيره نصرته وتغليبه عليه، والمراد بالدين كله كل سبيل مسلوك غير سبيل الله الذي هو الإسلام والآية في مقام تعليل قوله في الآية السابقة: { والله متمُّ نوره }، والمعنى: والله متمُّ نوره لأنه هو الذي أرسل رسوله بنوره الذي هو الهدى ودين الحق ليجعله غالباً على جميع الأديان ولو كره المشركون من أهل الأوثان.
ويستفاد من الآيتين أن دين الحق نور الله في الأرض كما يستفاد ذلك من قوله:
{ { مثل نوره كمشكاة فيها مصباح } [النور: 35] الآية، وقد تقدم في تفسير الآية.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في قوله تعالى: { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص } قال: يصطفّون كالبنيان الذي لا يزول.
وفي المجمع في قوله تعالى: { وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم } روي في قصة قارون أنه دسَّ إليه امرأة وزعم أنه زنى بها، ورموه بقتل هارون.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: { ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } الآية قال: وسأل بعض اليهود لعنهم الله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لمَ سُمِّيت أحمد ومحمداً وبشيراً ونذيراً؟ فقال: أما محمد فإني على الأرض محمود، وأما أحمد فإني في السماء أحمد مني في الأرض، وأما البشير فابشر من أطاع الله بالجنة، وأما النذير فانذر من عصى الله بالنار.
وفي الدر المنثور في الآية أخرج ابن مردويه عن العرياض بن سارية سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إني عبد الله في أُمّ الكتاب وخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته وسوف انبئكم تأويل ذلك، أنا دعوة إبراهيم، وبشارة عيسى قومه ورؤيا أُمي التي رأت أنه خرج منها نور أضاء له قصور الشام.
وفي العيون بإسناده إلى صفوان بن يحيى صاحب السابري قال: سألني أبو قرَّة صاحب الجاثليق أن أوصله إلى الرضا عليه السلام فاستأذنته في ذلك، قال: أدخله عليّ فلما دخل عليه قبَّل بساطه وقال: هكذا علينا في ديننا أن نفعل بأشراف أهل زماننا.
ثم قال: أصلحك الله ما تقول في فرقة ادَّعت دعوى فشهدت لهم فرقة أخرى معدّلون؟ قال: الدعوى لهم، قال: فادَّعت فرقة أخرى دعوى فلم يجدوا شهوداً من غيرهم؟ قال: لا شيء لهم.
قال: فإنا نحن ادَّعينا أن عيسى روح الله وكلمته فوافقنا على ذلك المسلمون، وادَّعى المسلمون أن محمداً نبي فلم نتابعهم عليه، وما أجمعنا عليه خير مما افترقنا فيه.
فقال أبو الحسن عليه السلام: ما اسمك؟ قال: يوحنا، قال: يا يوحنا إنا آمنَّا بعيسى روح الله وكلمته الذي كان يؤمن بمحمد ويبشر به ويقرّ على نفسه أنه عبد مربوب فإن كان عيسى الذي هو عندك روح الله وكلمته ليس هو الذي آمن بمحمد وبشَّر به ولا هو الذي أقرَّ لله بالعبودية فنحن منه براء فأين اجتمعنا؟ فقام وقال لصفوان بن يحيى: قم فما كان أغنانا عن هذا المجلس.
أقول: كأنه يريد بقوله: قم فما كان أغنانا عن هذا المجلس، أن دخوله عليه السلام لم يفده فائدة حيث لم ينجح ما أتى به من الحجة.
وفي كمال الدين بإسناده إلى يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما خمس مائة عام منها مائتان وخمسون عاماً ليس فيها نبي ولا عالم ظاهر، قلت: فما كانوا؟ قال: كانوا متمسكين بدين عيسى عليه السلام، قلت: فما كانوا؟ قال: كانوا مؤمنين. ثم قال: ولا يكون إلا وفيها عالم.
أقول: المراد بالعالم الإمام الذي هو الحجة، وهناك روايات واردة في قوله تعالى: { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم }، وقوله: { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق } تذكر أن النور والهدى ودين الحق ولاية أمير المؤمنين عليه السلام وهي من الجري والتطبيق أو من البطن وليست بمفسّرة، وعدُّ الفصل بين المسيح وبين محمد صلى الله عليه وآله وسلم خمس مائة عام يخالف ما عليه مشهور التاريخ لكن المحققين ذكروا أن في التاريخ الميلادي اختلالاً وقد مرَّت إشارة ما إلى ذلك في الجزء الثالث من الكتاب.