التفاسير

< >
عرض

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ٱلْمَلِكِ ٱلْقُدُّوسِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ
١
هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٢
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٣
ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ
٤
مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ
٥
قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ هَادُوۤاْ إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٦
وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ
٧
قُلْ إِنَّ ٱلْمَوْتَ ٱلَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
٨
-الجمعة

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
غرض السورة هو الحث البالغ على الاهتمام بأمر صلاة الجمعة والقيام بواجب أمرها فهي من شعائر الله المعظمة التي في تعظيمها والاهتمام بأمرها صلاح أُخراهم ودنياهم، وقد سلك تعالى إلى بيان أمره بافتتاح الكلام بتسبيحه والثناء عليه بما منَّ على قوم أُمّيين برسول منهم أُميّ يتلو عليهم آياته ويزكِّيهم بصالحات الأعمال والزاكيات من الأخلاق ويعلمهم الكتاب والحكمة فيحملهم كتاب الله ومعارف دينه أحسن التحميل هم ومن يلحق بهم أو يخلفهم من بعدهم من المؤمنين فليحملوا ذلك أحسن الحمل، وليحذروا أن يكونوا كاليهود حُمِّلوا التوراة ثم لم يحملوا معارفها وأحكامها فكانوا مثل الحمار يحمل أسفاراً.
ثم تخلص إلى الأمر بترك البيع والسعي إلى ذكر الله إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة، وقرّعهم على ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائماً يخطب والانفضاض والانسلال إلى التجارة واللهو، وذلك آية عدم تحملهم ما حملوا من معارف كتاب الله وأحكامه، والسورة مدنية.
قوله تعالى: { يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم } التسبيح تنزيه الشيء ونسبته إلى الطهارة والنزاهة من العيوب والنقائص، والتعبير بالمضارع للدلالة على الاستمرار، والملك هو الاختصاص بالحكم في نظام المجتمع، والقدوس مبالغة في القدس وهو النزاهة والطهارة، والعزيز هو الذي لا يغلبه غالب، والحكيم هو المتقن فعله فلا يفعل عن جهل أو جزاف.
وفي الآية توطئة وتمهيد برهاني لما يتضمنه قوله: { هو الذي بعث } الخ، من بعثة الرسول لتكميل الناس وإسعادهم وهدايتهم بعد إذ كانوا في ضلال مبين.
وذلك أنه تعالى يسبحه وينزهه الموجودات السماوية والأرضية بما عندهم من النقص الذي هو متممه والحاجة التي هو قاضيها فما من نقيصة أو حاجة إلا وهو المرجو في تمامها وقضائها فهو المسبّح المنزّه عن كل نقص وحاجة فله أن يحكم في نظام التكوين بين خلقة بما شاء، وفي نظام التشريع في عباده بما أراد، كيف لا؟ وهو ملك له أن يحكم في أهل مملكته وعليهم أن يطيعوه.
وإذا حكم وشرَّع بينهم ديناً لم يكن ذلك منه لحاجة إلى تعبيدهم ونقص فيه يتممه بعبادتهم لأنه قدُّوس منزَّه عن كل نقص وحاجة.
ثم إذا حكم وشرَّع وبلغه إياهم عن غنىّ منه ودعاهم إليه بوساطة رسله فلم يستجيبوا دعوته وتمردوا عن طاعته لم يكن ذلك تعجيزاً منهم له تعالى لأنه العزيز لا يغلبه فيما يريده غالب.
ثم إن الذي حكم به وشرعه من الدين بما أنه الملك القدوس العزيز ليس يذهب لغى لا أثر له لأنه حكيم على الإطلاق لا يفعل ما يفعل إلا لمصلحة ولا يريد منهم ما يريد إلا لنفع يعود إليهم وخير ينالونه فيستقيم به حالهم في دنياهم وأُخراهم.
وبالجملة فتشريعه الدين وإنزاله الكتاب ببعث رسول يبلغهم ذلك بتلاوة آياته، ويزكيهم ويعلمهم من منه تعالى وفضل كما قال: { هو الذي بعث } الخ.
قوله تعالى: { هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم } الخ، الأميون جمع أُمي وهو الذي لا يقرأ ولا يكتب، والمراد بهم - كما قيل - العرب لقلة من كان منهم يقرأ ويكتب وقد كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم منهم أي من جنسهم وهو غير كونه مرسلاً إليهم فقد كان منهم وكان مرسلاً إلى الناس كافة.
واحتمل أن يكون المراد بالأميين غير أهل الكتاب كما قال اليهود - على ما حكى الله عنهم -:
{ { ليس علينا في الأميين سبيل } [آل عمران: 75]. وفيه أنه لا يناسب قوله في ذيل الآية: { يتلو عليهم آياته } الخ، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يخص غير العرب وغير أهل الكتاب بشيء من الدعوة لم يلقه إليهم.
واحتمل أن يكون المراد بالأميين أهل مكة لكونهم يسمونها أُم القرى.
وفيه أنه لا يناسب كون السورة مدنية لإيهامه كون ضمير { يزكيهم ويعلمهم } راجعاً إلى المهاجرين ومن أسلم من أهل مكة بعد الفتح وأخلافهم وهو بعيد من مذاق القرآن.
ولا منافاة بين كونه صلى الله عليه وآله وسلم من الأميين مبعوثاً فيهم وبين كونه مبعوثاً إليهم وإلى غيرهم وهو ظاهر، وتلاوته عليهم آياته وتزكيته وتعليمه لهم الكتاب والحكمة لنزوله بلغتهم وهو أول مراحل دعوته ولذا لما استقرت الدعوة بعض الاستقرار أخذ صلى الله عليه وآله وسلم يدعو اليهود والنصارى والمجوس وكاتب العظماء والملوك.
وكذا دعوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام على ما حكى الله تعالى: { ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أُمة مسلمة لك } إلى أن قال
{ { ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم } [البقرة: 129]، تشمل جميع آل إسماعيل من عرب مضر أعم من أهل مكة وغيرهم، ولا ينافي كونه صلى الله عليه وآله وسلم مبعوثاً إليهم وإلى غيرهم.
وقوله: { يتلو عليهم آياته } أي آيات كتابه مع كونه أُمياً. صفة للرسول.
وقوله: { ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة } التزكية تفعيل من الزكاة بمعنى النمو الصالح الذي يلازم الخير والبركة فتزكيته لهم تنميته لهم نماء صالحاً بتعويدهم الأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة فيكملون بذلك في إنسانيتهم فيستقيم حالهم في دنياهم وآخرتهم يعيشون سعداء ويموتون سعداء.
وتعليم الكتاب بيان ألفاظ آياته وتفسير ما أُشكل من ذلك، ويقابله تعليم الحكمة وهي المعارف الحقيقية التي يتضمنها القرآن، والتعبير عن القرآن تارة بالآيات وتارة بالكتاب للدلالة على أنه بكل من هذه العناوين نعمة يمتن بها - كما قيل -.
وقد قدم التزكية ها هنا على تعليم الكتاب والحكمة بخلاف ما في دعوة إبراهيم عليه السلام لأن هذه الآية تصف تربيته صلى الله عليه وآله وسلم لمؤمني أُمته، والتزكية مقدمة في مقام التربية على تعليم العلوم الحقة والمعارف الحقيقية وأما ما في دعوة إبراهيم عليه السلام فإنها دعاء وسؤال أن يتحقق في ذريته هذه الزكاة والعلم بالكتاب والحكمة، والعلوم والمعارف أقدم مرتبة وأرفع درجة في مرحلة التحقق والاتصاف من الزكاة الراجعة إلى الأعمال والأخلاق.
وقوله: { وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } { إن } مخففة من الثقيلة والمراد أنهم كانوا من قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في ضلال مبين، والآية تحميد بعد تسبيح ومسوقة للامتنان كما سيأتي.
قوله تعالى: { وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم } عطف على الأميين وضمير { منهم } راجع إليهم و "من" للتبعيض والمعنى: بعث في الأميين وفي آخرين منهم لم يلحقوا بهم بعد وهو العزيز الذي لا يغلب في إرادته الحكيم الذي لا يلغو ولا يجازف في فعله.
قوله تعالى: { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم } الإشارة بذلك إلى بعث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم - وقد فخم أمره بالإشارة البعيدة - فهو صلى الله عليه وآله وسلم المخصوص بالفضل، والمعنى: ذلك البعث وكونه يتلو آيات الله ويزكي الناس ويعلمهم الكتاب والحكمة من فضل الله وعطائه يعطيه من تعلقت به مشيئته وقد شاء أن يعطيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم والله ذو الفضل العظيم كذا قال المفسرون.
ومن الممكن أن تكون الإشارة بذلك إلى البعث بما له من النسبة إلى أطرافه من المرسل والمرسل إليهم، والمعنى: ذلك البعث من فضل الله يؤتيه من يشاء وقد شاء أن يخص بهذا الفضل محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فاختاره رسولاً، وأُمته فاختارهم لذلك فجعله منهم وأرسله إليهم.
والآية والآيتان قبلها أعني قوله: { هو الذي بعث } إلى قوله { العظيم } مسوقة سوق الامتنان.
قوله تعالى: { مثل الذين حمّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً } الخ، قال الراغب: السفر - بالفتح فالسكون - كشف الغطاء ويختص ذلك بالأعيان نحو سفر العمامة عن الرأس والخمار عن الوجه - إلى أن قال - والسفر - بالكسر فالسكون - الكتاب الذي يسفر عن الحقائق قال تعالى: { كمثل الحمار يحمل أسفاراً } انتهى.
والمراد بتحميل التوراة تعليمها، والمراد بحملها العمل بها على ما يؤيده السياق ويشهد به ما في ذيل الآية من قوله: { بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله }، والمراد بالذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها اليهود الذين أنزل الله التوراة على رسولهم موسى عليه السلام فعلمهم ما فيها من المعارف والشرائع فتركوها ولم يعملوا بها فحمّلوها ولم يحملوها فضرب الله لهم مثل الحمار يحمل أسفاراً وهو لا يعرف ما فيها من المعارف والحقائق فلا يبقى له من حملها إلا التعب بتحمل ثقلها.
ووجه اتصال الآية بما قبلها أنه تعالى لما افتتح الكلام بما من به على المسلمين من بعث نبي أُمي من بين الأميين يتلو عليهم آيات كتابه ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة فيخرجهم من ظلمات الضلال إلى نور الهدى ومن حضيض الجهل إلى أوج العلم والحكمة وسيشير تعالى في آخر السورة إشارة عتاب وتوبيخ إلى ما صنعوه من الانفضاض والانسلال إلى اللهو والتجارة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قائم يخطبهم يوم الجمعة وهو من الاستهانة بما هو من أعظم المناسك الدينية ويكشف أنهم لم يقدروها حق قدرها ولا نزَّلوها منزلتها.
فاعترض الله سبحانه بهذا المثل وذكرهم بحال اليهود حيث حملوا التوراة ثم لم يحملوها فكانوا كالحمار يحمل أسفاراً ولا ينتفع بما فيها من المعرفة والحكمة، فعليهم أن يهتموا بأمر الدين ويراقبوا الله في حركاتهم وسكناتهم ويعظموا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ويوقروه ولا يستهينوا بما جاء به، وليحذروا أن يحل بهم من سخطه تعالى ما حل باليهود حيث لم يعملوا بما علموا فعدّهم الله جهلة ظالمين وشبههم بالحمار يحمل أسفاراً.
وفي روح المعاني: وجه ارتباط الآية بما قبلها تضمنها الإشارة إلى أن ذلك الرسول المبعوث قد بعثه الله تعالى بما نعته به في التوراة وعلى ألسنة أنبياء بني إسرائيل كأنه قيل: هو الذي بعث المبشر به في التوراة المنعوت فيها بالنبي الأمي المبعوث إلى أُمة أُميين، مثل من جاءه نعته فيها وعلمه ثم لم يؤمن به مثل الحمار. انتهى.
وأنت خبير بأنه تحكم لا دليل عليه من جهة السياق.
قوله تعالى: { قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين } احتجاج على اليهود يظهر به كذبهم في دعواهم أنهم أولياء الله وأحباؤه، وقد حكى الله تعالى ما يدل على ذلك عنهم بقوله:
{ { وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه } [المائدة: 18]، وقوله: { { قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس } [البقرة: 94] وقوله: { { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً } [البقرة: 111]. ومحصل المعنى: قل لليهود مخاطباً لهم يا أيها الذين تهودوا إن كنتم اعتقدتم أنكم أولياء لله من دون الناس إن كنتم صادقين في دعواكم فتمنوا الموت لأن الولي يحب لقاء وليه ومن أيقن أنه ولي لله وجبت له الجنة ولا حاجب بينه وبينها إلا الموت أحب الموت وتمنى أن يحلَّ به فيدخل دار الكرامة ويتخلص من هذه الحياة الدنيَّة التي ما فيها إلا الهم والغم والمحنة والمصيبة.
قيل: وفي قوله: { أولياء لله } من غير إضافة إشارة إلى أنه دعوى منهم من غير حقيقة.
قوله تعالى: { ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين } أخبر تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أنهم لا يتمنونه أبداً بعد ما أمره أن يعرض عليهم تمني الموت.
وقد علل عدم تمنيهم الموت بما قدمت أيديهم وهو كناية عن الظلم والفسوق، فمعنى الآية: ولا يتمنون الموت أبداً بسبب ما قدمته أيديهم من الظلم فكانوا ظالمين والله عليم بالظالمين يعلم أنهم لا يحبون لقاءه لأنهم أعداؤه لا ولاية بينه وبينهم ولا محبة.
والآيتان في معنى قوله تعالى:
{ { قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين } [البقرة: 94-95]. قوله تعالى: { قل إن الموت الذي تفرُّون منه فإنه ملاقيكم ثم تردُّون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون } الفاء في قوله: { فإنه ملاقيكم } في معنى جواب الشرط، وفيه وعيد لهم بأن الموت الذي يكرهونه كراهة أن يؤاخذوا بوبال أعمالهم فإنه سيلاقيهم لا محالة ثم يردُّون إلى ربهم الذي خرجوا من زيّ عبوديته بمظالمهم وعادوه بأعمالهم وهو عالم بحقيقة أعمالهم ظاهرها وباطنها فإنه عالم الغيب والشهادة فينبئهم بحقيقة أعمالهم وتبعاتها السيئة وهي أنواع العذاب.
ففي الآية إيذانهم أولاً: أن فرارهم من الموت خطأ منهم فإنه سيدركهم ويلاقيهم، وثانياً: أن كراهتهم لقاء الله خطأ آخر فإنهم مردودون إليه يحاسبون على أعمالهم السيئة، وثالثاً: أنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أعمالهم ظاهرها وباطنها ولا يحيق به مكرهم فإنه عالم الغيب والشهادة.
ففي الآية إشارة أولاً: إلى أن الموت حق مقضي كما قال:
{ { كل نفس ذائقة الموت } [آل عمران: 185]، [الأنبياء: 35]، [العنكبوت: 57] وقال: { { نحن قدَّرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين } [الواقعة: 60]. وثانياً: أن الرجوع إلى الله لحساب الأعمال حق لا ريب فيه.
وثالثاً: أنهم سيوقفون على حقيقة أعمالهم فيوفونها.
ورابعاً: أنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أعمالهم وللإشارة إلى ذلك بدّل اسم الجلالة من قوله: { عالم الغيب والشهادة }.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في قوله تعالى: { هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم } عن أبيه عن ابن أبي عمير عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام في الآية قال: كانوا يكتبون ولكن لم يكن معهم كتاب من عند الله ولا بعث إليهم رسول فنسبهم الله إلى الأميين.
وفيه في قوله تعالى: { وآخرين منهم لما يلحقوا بهم } قال: دخلوا الإسلام بعدهم.
وفي المجمع وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ هذه الآية فقيل له: من هؤلاء؟ فوضع يده على كتف سلمان وقال:
"لو كان الإيمان بالثريّا لنالته رجال من هؤلاء"
]. أقول: ورواه في الدر المنثور عن عدة من جوامع الحديث منها صحيح البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه فوضع يده على رأس سلمان الفارسي وقال: "والذي نفسي بيده لو كان العلم بالثريّا لناله رجال من هؤلاء"
]. وروي أيضاً عن سعيد بن منصور وابن مردويه عن قيس بن سعد بن عبادة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لو أن الإيمان بالثريَّا لناله رجال من أهل فارس"
]. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: { مثل الذين حُمِّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار } قال: الحمار يحمل الكتب ولا يعلم ما فيها ولا يعمل به كذلك بنو إسرائيل قد حملوا مثل الحمار لا يعلمون ما فيه ولا يعملون.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة والطبراني عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كالحمار يحمل أسفاراً والذي يقول له: أنصت ليس له جمعة"
]. أقول: وفيه تأييد لما قدمناه في وجه اتصال الآية بما قبلها.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: { قل يا أيها الذين هادوا } الآية، قال: إن في التوراة مكتوب: أولياء الله يتمنون الموت.
وفي الكافي بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: جاء رجل إلى أبي ذر فقال: يا أبا ذر ما لنا نكره الموت؟ فقال: لأنكم عمَّرتم الدنيا وخرَّبتم الآخرة فتكرهون أن تنقلوا من عمران إلى خراب.
(كلام في معنى تعليم الحكمة)
لا محيص للإنسان في حياته المحدودة التي يعمرها في هذه النشأة من سنَّة يستنّ بها فيما يريد ويكره، ويجري عليها في حركاته وسكناته وبالجملة جميع مساعيه في الحياة.
وتتبع هذه السنة في نوعها ما عند الإنسان من الرأي في حقيقة الكون العام وحقيقة نفسه وما بينهما من الربط، ويدل على ذلك ما نجد من اختلاف السنن والطرائق في الأمم باختلاف آرائهم في حقيقة نشأة الوجود والإنسان الذي هو جزء منها.
فمن لا يري لما وراء المادة وجوداً، ويقصر الوجود في المادي، وينهي الوجود إلى الاتفاق، ويرى الإنسان مركباً مادياً محدود الحياة بين التولد والموت لا يرى لنفسه من السعادة إلا سعادة المادة ولا غاية له في أعماله إلا المزايا المادية من مال وولد وجاه وغير ذلك، ولا بغية له إلا التمتع بأمتعة الدنيا والظفر بلذائذها المادية أو ما يرجع إليها وتنتهي جميعاً إلى الموت الذي هو عنده انحلال للتركيب وبطلان.
ومن يرى كينونة العالم عن سبب فوقه منزه عن المادة، وأن وراء الدار داراً وبعد الدنيا آخرة نجده يخالف في سنته وطريقته الطائفة المتقدم ذكرها فيتوخى في أعماله وراء سعادة الدنيا سعادة الأخرى ويختلف صور أعمالهم وغاياتهم وآراؤهم مع الطائفة الأولى.
ويختلف سنن هؤلاء باختلافهم أنفسهم فيما بينهم كاختلاف سنن الوثنيين من البرهميين والبوذيين وغيرهم والملِّيين من المجوسية والكليمية والمسيحية والمسلمين فلكل وجهة هو مولِّيها.
وبالجملة الملّي يراعي في مساعيه جانب ما يراه لنفسه من الحياة الخالدة المؤبدة ويذعن من الآراء بما يناسب ذلك كادِّعائه أنه يجب على الإنسان أن يمهد لعالم البقاء وأن يتوجه إلى ربه، وأن لا يفرط في الاشتغال بعرض الحياة الدنيا الفانية وغير الملّي الخاضع للمادة يلوي إلى خلاف ذلك، هذا كله مما لا ريب فيه.
غير أن الإنسان لما كان بحسب طبعه المادي رهيناً للمادة متردداً بين الأسباب الظاهرية فاعلاً بها منفعلاً عنها لا يزال يدفعه سبب إلى مسبب لا فراغ له من ذلك، يرى - بحسب ما يخيل إليه - أن الأصالة لحياته الدنيوية المنقطعة، وأنها وما تنتهي إليه من المقاصد والمزايا هي الغاية الأخيرة والغرض الأقصى من وجوده الذي يجب عليه أن يسعى لتحصيل سعادته.
فالحياة الدنيا هي الحياة وما عند أهلها من القنية والنعمة والمنية والقوة والعزة هي هي بحقيقة معنى الكلمة، وما يعدُّونه فقراً ونقمة وحرماناً وضعفاً وذلة ورزية ومصيبة وخسراناً هي هي وبالجملة كل ما تهواه النفس من خير معجل أو نفع مقطوع فهو عندهم خير مطلق ونفع مطلق، وكل ما لا تهواه فهو شر أو ضر.
فمن كان منهم من غير أهل الملة جرى على هذه الآراء ولا خبر عنده عما وراء ذلك، ومن كان منهم من أهل الملة جرى عليها عملاً وهو معترف بخلافها قولاً فلا يزال في تدافع بين قوله وفعله قال تعالى:
{ كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا } [البقرة: 17]. والذي تندب إليه الدعوة الإسلامية من الاعتقاد والعمل هو ما يطابق مقتضى الفطرة الإنسانية التي فطر عليها الإنسان وتثبت عليه خلقته كما قال: { { فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم } [الروم: 30]. ومن المعلوم أن الفطرة لا تهتدي علماً ولا تميل عملاً إلا إلى ما فيه كمالها الواقعي وسعادتها الحقيقية فما تهتدي إليه من الاعتقادات الأصلية في المبدأ والمعاد وما يتفرع عليها من الآراء والعقائد الفرعية علوم وآراء حقة لا تتعدى سعادة الإنسان وكذا ما تميل إليه من الأعمال.
ولذا سمى الله تعالى هذا الدين المبني على الفطرة بدين الحق في مواضع من كلامه كقوله:
{ { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق } [التوبة: 33]، [الصف: 9]. وقال في القرآن المتضمن لدعوته: { { يهدي إلى الحق } } [يونس: 35]. وليس الحق إلا الرأي والاعتقاد الذي يطابقه الواقع ويلازمه الرشد من غير غيّ، وهذا هو الحكمة - الرأي الذي أُحكم في صدقه فلا يتخلله كذب، وفي نفعه فلا يعقبه ضرر - وقد أشار تعالى إلى اشتمال الدعوة على الحكمة بقوله: { { وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة } [النساء: 113]، ووصف كلامه المنزل بها فقال: { { والقرآن الحكيم } [يس: 2]، وعدَّ رسوله صلى الله عليه وآله وسلم معلماً للحكمة في مواضع من كلامه كقوله: { { ويعلمهم الكتاب والحكمة } } [البقرة: 129]، [آل عمران: 164]، [الجمعة: 2]. فالتعليم القرآني الذي تصداه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المبين لما نزل من عند الله من تعليم الحكمة وشأنه بيان ما هو الحق في أُصول الاعتقادات الباطلة الخرافية التي دبت في أفهام الناس من تصور عالم الوجود وحقيقة الإنسان الذي هو جزء منه - كما تقدمت الإشارة إليه - وما هو الحق في الاعتقادات الفرعية المترتبة على تلك الأصول مما كان مبدأ للأعمال الإنسانية وعناوين لغاياتها ومقاصدها.
فالناس - مثلاً - يرون أن الأصالة لحياتهم المادية حتى قال قائلهم:
{ { ما هي إلا حياتنا الدنيا } [الجاثية: 24]، والقرآن ينبههم بقوله: { { وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان } [العنكبوت: 64]، ويرون أن العلل والأسباب هي المولدة للحوادث الحاكمة فيها من حياة وموت وصحة ومرض وغنى وفقر ونعمة ونقمة ورزق وحرمان { { بل مكر الليل والنهار } [سبأ: 33]، والقرآن يذكرهم بقوله: { { ألا له الخلق والأمر } [الأعراف: 54]، وقوله: { { إن الحكم إلا لله } [يوسف: 40]، وغير ذلك من آيات الحكمة، ويرون أن لهم الاستقلال في المشيئة يفعلون ما يشاؤن والقرآن يخطئهم بقوله: { { وما تشاءون إلا أن يشاء الله } [التكوير: 29]، ويرون أن لهم أن يطيعوا ويعصوا ويهدوا ويهتدوا والقرآن ينبئهم بقوله: { { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } [القصص: 56]، ويرون أن لهم قوة والقرآن ينكر ذلك بقوله: { { أن القوة لله جميعاً } [البقرة: 165]. ويرون أن لهم عزة بمال وبنين وأنصار والقرآن يحكم بخلافه بقوله: { { أيبتغون عندهم العزة إن العزة لله جميعاً } [النساء: 139]. وقوله: { { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } [المنافقون: 8]. ويرون أن القتل في سبيل الله موت وانعدام والقرآن يعدّه حياة إذ يقول: { { ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون } [البقرة: 154]، إلى غير ذلك من التعاليم القرآنية التي أُمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يدعو بها الناس قال: { { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة } [النحل: 125]. وهي علوم وآراء جمة صورت الحياة الدنيا خلافها في نفوس الناس وزينه فنبه تعالى لها في كتابه وأمر بتعليمها رسوله وندب المؤمنين أن يتواصوا بها كما قال: { { إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق } [العصر: 2-3]، وقال: { { يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتى الحكمة فقد أُوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا أُولو الألباب } [البقرة: 269]. فالقرآن بالحقيقة يقلب الإنسان في قالب من حيث العلم والعمل حديث ويصوغه صوغاً جديداً فيحيى حياة لا يتعقبها موت أبداً، وإليه الإشارة بقوله تعالى: { { استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } [الأنفال: 24]، وقوله: { { أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها } [الأنعام: 122]. وقد بينا وجه الحكمة في كل من آياتها عند التعرض لتفسيرها على قدر مجال البحث في الكتاب.
ومما تقدم يتبين فساد قول من قال: إن تفسير القرآن تلاوته، وإن التعمق في مداليل آيات القرآن من التأويل الممنوع فما أبعده من قول.