التفاسير

< >
عرض

إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ
١
ٱتَّخَذُوۤاْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
٢
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ
٣
وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ ٱلْعَدُوُّ فَٱحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ
٤
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ
٥
سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ
٦
هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ
٧
يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ
٨
-المنافقون

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
تصف السورة المنافقين وتسمهم بشدَّة العداوة وتأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يحذرهم وتعظ المؤمنين أن يتحرَّزوا من خصائص النفاق فلا يقعوا في مهلكته ولا يجرّهم إلى النار، والسورة مدنية.
قوله تعالى: { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } المنافق اسم فاعل من النفاق وهو في عرف القرآن إظهار الإيمان وإبطان الكفر.
والكذب خلاف الصدق وهو عدم مطابقة الخبر للخارج فهو وصف الخبر كالصدق وربما اعتبرت مطابقة الخبر ولا مطابقته بالنسبة إلى اعتقاد المخبر فيكون مطابقته لاعتقاد المخبر صدقاً منه وعدم مطابقته له كذباً فيقال: فلان كاذب إذا لم يطابق خبره الخارج وفلان كاذب إذا أخبر بما يخالف اعتقاده ويسمى النوع الأول صدقاً وكذباً خبريين، والثاني صدقاً وكذباً مخبريين.
فقوله: { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله } حكاية لإظهارهم الإيمان بالشهادة على الرسالة فإن في الشهادة على الرسالة إيماناً بما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويتضمَّن الإيمان بوحدانيته تعالى وبالمعاد، وهو الإيمان الكامل.
وقوله: { والله يعلم إنك لرسوله } تثبيت منه تعالى لرسالته صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما أورده مع أن وحي القرآن ومخاطبته صلى الله عليه وآله وسلم كان كافياً في تثبيت رسالته، ليكون قرينة مصرحة بأنهم كاذبون من حيث عدم اعتقادهم بما يقولون وإن كان قولهم في نفسه صادقاً فهم كاذبون في قولهم كذباً مخبرياً لا خبرياً فقوله: { والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } أُريد به الكذب المخبري لا الخبري.
قوله تعالى: { اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله } الخ، الأيمان جمع يمين بمعنى القسم، والجنة الترس والمراد بها ما يتقى به من باب الاستعارة، والصد يجيء بمعنى الإعراض وعليه فالمراد إعراضهم أنفسهم عن سبيل الله وهو الدين وبمعنى الصرف وعليه فالمراد صرفهم العامة من الناس عن الدين وهم في وقاية من أيمانهم الكاذبة.
والمعنى: اتخذوا أيمانهم الكاذبة التي يحلفون وقاية لأنفسهم فأعرضوا عن سبيل الله ودينه - أو فصرفوا العامة من الناس عن دين الله بما يستطيعونه من الصرف بتقليب الأمور وإفساد العزائم.
وقوله: { إنهم ساء ما كانوا يعملون } تقبيح لأعمالهم التي استمروا عليها منذ نافقوا إلى حين نزول السورة.
قوله تعالى: { ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون } الظاهر أن الإشارة بذلك إلى سوء ما عملوا كما قيل، وقيل: الإشارة إلى جميع ما تقدم من كذبهم واستجنانهم بالأيمان الفاجرة وصدهم عن سبيل الله ومساءة أعمالهم.
والمراد بأيمانهم - على ما قيل - أيمانهم بألسنتهم ظاهراً بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسوله ثم كفرهم بخلو باطنهم عن الإيمان كما قال تعالى فيهم:
{ { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون } [البقرة: 14]. ولا يبعد أن يكون فيهم من آمن حقيقة ثم ارتدَّ وكتم ارتداده فلحق بالمنافقين يتربَّص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبالمؤمنين الدوائر كما يظهر من بعض آيات سورة التوبة كقوله: { { فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه } [التوبة: 77]، وقد عبَّر تعالى عمن لم يدخل الإيمان في قلبه منهم بمثل قوله: { { وكفروا بعد إسلامهم } } [التوبة: 74]. فالظاهر أن المراد بقوله: { آمنوا ثم كفروا } إظهارهم للشهادتين أعم من أن يكون عن ظهر القلب أو بظاهر من القول ثم كفرهم بإتيان أعمال تستصحب الكفر كالاستهزاء بالدين وردّ بعض الأحكام.
وقوله: { فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون } تفريع عدم الفقه على طبع القلوب دليل على أن الطبع ختم على القلب يستتبع عدم قبوله لورود كلمة الحق فيه فهو آئس من الإيمان محروم من الحق.
والطبع على القلب جعله بحيث لا يقبل الحق ولا يتبعه فلا محالة يتبع الهوى كما قال تعالى:
{ { طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم } [محمد: 16]، فلا يفقه ولا يسمع ولا يعلم كما قال تعالى: { وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون } [التوبة: 87]، وقال: { { ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون } [الأعراف: 100]، وقال: { { وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون } [التوبة: 93]، والطبع على أي حال لا يكون منه تعالى إلا مجازاة لأنه إضلال والذي ينسب إليه تعالى من الإضلال إنما هو الإضلال على سبيل المجازاة دون الإضلال الابتدائي وقد مرَّ مراراً.
قوله تعالى: { وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم } الخ، الظاهر أن الخطاب في { رأيتهم } و { تسمع } خطاب عام يشمل كل من رآهم وسمع كلامهم لكونهم في أزياء حسنة وبلاغة من الكلام، وليس خطاباً خاصاً بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد أنهم على صباحة من المنظر وتناسب من الأعضاء إذا رآهم الرائي أعجبته أجسامهم، وفصاحة وبلاغة من القول إذا سمع السامع كلامهم مال إلى الإصغاء إلى قولهم لحلاوة ظاهره وحسن نظمه.
وقوله: { كأنهم خشب مسنّدة } ذم لهم بحسب باطنهم والخشب بضمتين جمع خشبة، والتسنيد نصب الشيء معتمداً على شيء آخر كحائط ونحوه.
والجملة مسوقه لذمّهم وهي متممة لسابقتها، والمراد أن لهم أجساماً حسنة معجبة وقولاً رائعاً ذا حلاوة لكنهم كالخشب المسندة أشباح بلا أرواح لا خير فيها ولا فائدة تعتريها لكونهم لا يفقهون.
وقوله: { يحسبون كل صيحة عليهم } ذمّ آخر لهم أي إنهم لإبطانهم الكفر وكتمانهم ذلك من المؤمنين يعيشون على خوف ووجل ووحشة يخافون ظهور أمرهم واطّلاع الناس على باطنهم ويظنون أن كل صيحة سمعوها فهي كائنة عليهم وأنهم المقصودون بها.
وقوله: { هم العدو فاحذرهم } أي هم كاملون في العداوة بالغون فيها فإن أعدى أعدائك من يعاديك وأنت تحسبه صديقك.
وقوله: { قاتلهم الله أنى يؤفكون } دعاء عليهم بالقتل وهو أشد شدائد الدنيا وكأن استعمال المقاتلة دون القتل للدلالة على الشدة.
وقيل: { المراد به الطرد والإبعاد من الرحمة، وقيل: المراد به الإخبار دون الدعاء، والمعنى: أن شمول اللعن والطرد لهم مقرر ثابت، وقيل: الكلمة مفيدة للتعجب كما يقال: قاتله الله ما أشعره، والظاهر من السياق ما تقدم من الوجه.
وقوله: { أنى يؤفكون } مسوق للتعجب أي كيف يصرفون عن الحق؟ وقيل: هو توبيخ وتقريع وليس باستفهام.
قوله تعالى: { وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لوّوا رءوسهم } الخ، التلوية تفعيل من لوى يلوي ليّاً بمعنى مال.
والمعنى: وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله - وذلك عندما ظهر منهم بعض خياناتهم وفسوقهم - أمالوا رؤسهم إعراضاً واستكباراً ورآهم الرائي يعرضون عن القائل وهم مستكبرون عن إجابة قوله.
قوله تعالى: { سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم } الخ، أي يتساوى الاستغفار وعدمه في حقهم وتساوي الشيء وعدمه كناية عن أنه لا يفيد الفائدة المطلوبة منه، فالمعنى: لا يفيدهم استغفارك ولا ينفعهم.
وقوله: { لن يغفر الله لهم } دفع دخل كأن سائلاً يسأل: لماذا يتساوى الاستغفار لهم وعدمه؟ فأجيب: لن يغفر الله لهم.
وقوله: { إن الله لا يهدي القوم الفاسقين } تعليل لقوله: { لن يغفر الله لهم }، والمعنى: لن يغفر الله لهم لأن مغفرته لهم هداية لهم إلى السعادة والجنة وهم فاسقون خارجون عن زي العبودية لإبطانهم الكفر والطبع على قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين.
قوله تعالى: { هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضّوا } الخ، الانفضاض التفرُّق، والمعنى: المنافقون هم الذين يقولون: لا تنفقوا أموالكم على المؤمنين الفقراء الذين لازموا رسول الله واجتمعوا عنده لنصرته وإنفاذ أمره وإجراء مقاصده حتى يتفرقوا عنه فلا يتحكم علينا.
وقوله: { ولله خزائن السماوات والأرض } جواب عن قولهم: لا تنفقوا الخ، أي إن الدين دين الله ولا حاجة له إلى إنفاقهم فله خزائن السماوات والأرض ينفق منها ويرزق من يشاء كيف يشاء فلو شاء لأغنى الفقراء من المؤمنين لكنه تعالى يختار ما هو الأصلح فيمتحنهم بالفقر ويتعبدهم بالصبر ليؤجرهم أجراً كريماً ويهديهم صراطاً مستقيماً والمنافقون في جهل من ذلك.
وهذا معنى قوله: { ولكن المنافقين لا يفقهون } أي لا يفقهون وجه الحكمة في ذلك واحتمل أن يكون المعنى أن المنافقين لا يفقهون أن خزائن العالم بيد الله وهو الرازق لا رازق غيره فلو شاء لأغناهم لكنهم يحسبون أن الغنى والفقر بيد الأسباب فلو لم ينفقوا على أولئك الفقراء من المؤمنين لم يجدوا رازقاً يرزقهم.
قوله تعالى: { يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون } القائل هو عبد الله بن أُبيّ بن سلول، وكذا قائل الجملة السابقة: لا تنفقوا الخ، وإنما عبر بصيغة الجمع تشريكاً لأصحابه الراضين بقوله معه.
ومراده بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويريد بهذا القول تهديد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإخراجه من المدينة بعد المراجعة إليها وقد ردَّ الله عليه وعلى من يشاركه في نفاقه بقوله: { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون } فقصر العزة في نفسه ورسوله والمؤمنين فلا يبقى لغيرهم إلا الذلة ونفى عن المنافقين العلم فلم يبق لهم إلا الذلة والجهالة.
(بحث روائي)
في المجمع نزلت الآيات في عبد الله بن أُبي المنافق وأصحابه وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلغه أن بني المصطلق يجتمعون لحربه وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل فتزاحف الناس واقتتلوا فهزم الله بني المصطلق وقتل منهم من قتل ونقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبناءهم ونساءهم وأموالهم.
فبينا الناس على ذلك الماء إذ وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له جهجاه بن سعيد يقود له فرسه فازدحم جهجاه وسنان الجهني من بني عوف بن خزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهني يا معشر الأنصار وصرخ الغفاري يا معشر المهاجرين فأعان الغفاري رجل من المهاجرين يقال له: جعال وكان فقيراً فقال عبد الله بن أُبّي لجعال: إنك لهتاك فقال: وما يمنعني أن أفعل ذلك؟ واشتد لسان جعال على عبد الله. فقال عبد الله: والذي يحلف به لأزرنك ويهمك غير هذا.
وغضب ابن أُبيّ وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم حديث السن فقال ابن أُبيّ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل: سمّن كلبك يأكلك أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل يعني بالأعز نفسه وبالأذلّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم أقبل على من حضره من قومه فقال: هذا ما جعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم ولأوشكوا أن يتحولوا من بلادكم ويلحقوا بعشائرهم ومواليهم.
فقال زيد بن أرقم: أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم في عز من الرحمن ومودة من المسلمين والله لا أُحبك بعد كلامك هذا فقال عبد الله: اسكت فإنما كنت ألعب.
فمشى زيد بن أرقم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذلك بعد فراغه من الغزو فأخبره الخبر فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالرحيل وأرسل إلى عبد الله فأتاه فقال: ما هذا الذي بلغني عنك؟ فقال عبد الله والذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئاً من ذلك قط وإن زيداً لكاذب، وقال من حضر من الأنصار: يا رسول الله شيخنا وكبيرنا لا تصدق عليه كلام غلام من غلمان الأنصار عسى أن يكون هذا الغلام وهم في حديثه.
فعذره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفشت الملامة من الأنصار لزيد.
ولما استقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسار لقيه أُسيد بن الحضير فحيَّاه بتحية النبوة ثم قال: يا رسول الله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟ زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعزّ منها الأذلّ. فقال أُسيد: فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت. هو والله الذليل وأنت العزيز. ثم قال: يا رسول الله أرفق به فوالله لقد جاء الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوِّجوه وإنه ليرى أنك قد استلبته ملكاً.
وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أُبيّ ما كان من أمر أبيه فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله إنه قد بلغني أنك تريد قتل أبي فإن كنت لا بد فاعلاً فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبرّ بوالديه مني وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أُبيّ أن يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: بل ترفق به وتحسن صحبته ما بقي معنا.
قالوا: وسار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى وليلتهم حتى أصبح وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس ثم نزل بالناس فلم يكن إلا أن وجدوا مسَّ الأرض وقعوا نياماً، إنما فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي خرج من عبد الله بن أُبيّ.
ثم راح بالناس حتى نزل على ماء بالحجاز فويق البقيع يقال له: بقعاء فهاجت ريح شديدة آذتهم وتخوَّفوها وضلَّت ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذلك ليلاً فقال: مات اليوم منافق عظيم النفاق بالمدينة قيل: من هو؟ قال: رفاعة. فقال رجل من المنافقين: كيف يزعم أنه يعلم الغيب ولا يعلم مكان ناقته؟ ألا يخبره الذي يأتيه بالوحي؟ فأتاه جبريل فأخبره بقول المنافق وبمكان الناقة، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك أصحابه وقال: ما أزعم أني أعلم الغيب وما أعلمه ولكن الله تعالى أخبرني بقول المنافق وبمكان ناقتي. هي في الشعب فإذا هي كما قال فجاؤا بها وآمن ذلك المنافق.
فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد في التابوت أحد بني قينقاع وكان من عظماء اليهود مات ذلك اليوم.
قال زيد بن أرقم: فلما وافى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة جلست في البيت لما بي من الهم والحياء فنزلت سورة المنافقون في تصديق زيد وتكذيب عبد الله بن أُبيّ. ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باذن زيد فرفعه عن الرحل ثم قال: يا غلام صدق فوك، ووعت أُذناك، ووعى قلبك، وقد أنزل الله فيما قلت قرآناً.
وكان عبد الله بن أُبيّ بقرب المدينة فلما أراد أن يدخلها جاء ابنه عبد الله بن عبد الله ابن أبيّ حتى أناخ على مجامع طرق المدينة فقال: ما لك ويلك؟ فقال: والله لا تدخلها إلا بإذن رسول الله ولتعلمن اليوم من الأعز؟ ومن الأذل؟ فشكا عبد الله ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأرسل إليه أن خل عنه يدخل فقال: أما إذا جاء أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنعم فدخل فلم يلبث إلا أياماً قلائل حتى اشتكى ومات.
فلما نزلت هذه الآيات وبان كذب عبد الله قيل له: نزل فيك آي شداد فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستغفر لك فلوَّى رأسه ثم قال: أمرتموني أن اؤمن فقد آمنت وأمرتموني أن أعطي زكاة مالي فقد أعطيت فما بقى إلا أن أسجد لمحمد فنزل: { وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لوّوا رءوسهم } إلى قوله { لا يعلمون }.
أقول: ما أوردة من القصة مأخوذ من روايات مختلفة مروية عن زيد بن أرقم وابن عباس وعكرمة ومحمد بن سيرين وابن إسحاق وغيرهم دخل حديث بعضهم في بعض.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: { إذا جاءك المنافقون } الآية قال: قال: نزلت في غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق في سنة خمس من الهجرة، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج إليها فلما رجع منها نزل على بئر وكان الماء قليلاً فيها.
وكان أنس بن سيار حليف الأنصار، وكان جهجاه بن سعيد الغفاري أجيراً لعمر بن الخطاب فاجتمعوا على البئر فتعلق دلو سيَّار بدلو جهجاه فقال سيار: دلوي وقال جهجاه: دلوي فضرب جهجاه على وجه سيار فسال منه الدم فنادى سيار بالخزرج ونادى جهجاه بقريش وأخذ الناس السلاح وكاد أن تقع الفتنة.
فسمع عبد الله بن أبيّ النداء فقال: ما هذا؟ فأخبروه بالخبر فغضب غضباً شديداً ثم قال: قد كنت كارهاً لهذا المسير إني لأذل العرب ما ظننت أني أبقى إلى أن أسمع مثل هذا فلا يكن عندي تغيير.
ثم أقبل على أصحابه فقال: هذا عملكم أنزلتموهم منازلكم وواسيتموهم بأموالكم ووقيتموهم بأنفسكم وأبرزتم نحوركم للقتل فأرمل نساؤكم وأيتم صبيانكم ولو أخرجتموهم لكانوا عيالاً على غيركم. ثم قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.
وكان في القوم زيد بن أرقم وكان غلاماً قد راهق، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ظل شجرة في وقت الهاجرة وعنده قوم من أصحابه من المهاجرين والأنصار فجاء زيد فأخبره بما قال عبد الله بن أُبيّ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لعلك وهمت يا غلام، قال: لا والله ما وهمت. قال: فلعلك غضبت عليه؟ قال: لا والله ما غضبت عليه، قال: فلعله سفَّه عليك، فقال: لا والله.
فقال رسول الله لشقران مولاه: أحدج فأحدج راحلته وركب وتسامع الناس بذلك فقالوا: ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليرحل في مثل هذا الوقت، فرحل الناس ولحقه سعد بن عبادة فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، فقال: وعليك السلام، فقال: ما كنت لترحل في مثل هذا الوقت، فقال: أوما سمعت قولاً قال صاحبكم؟ قال: وأي صاحب لنا غيرك يا رسول الله؟ قال: عبد الله بن أُبيّ زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجنَّ الأعز منها الأذل، فقال: يا رسول الله فإنك وأصحابك الأعز وهو وأصحابه الأذل.
فسار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومه كله لا يكلمه أحد فأقبلت الخزرج على عبد الله بن أُبيّ يعذلونه فحلف عبد الله أنه لم يقل شيئاً من ذلك فقالوا: فقم بنا إلى رسول الله حتى نعتذر إليه فلوَّى عنقه.
فلما جنَّ الليل سار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليله كله فلم ينزلوا إلا للصلاة فلما كان من الغد نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونزل أصحابه وقد أمهدهم الأرض من السفر الذي أصابهم فجاء عبد الله بن أُبيّ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحلف عبد الله له أنه لم يقل ذلك, وأنه يشهد أن لا إله إلا الله وأنك لرسول الله وإن زيداً قد كذب عليَّ، فقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منه وأقبلت الخزرج على زيد بن أرقم يشتمونه ويقولون له: كذبت على عبد الله سيدنا.
فلما رحل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان زيد معه يقول: اللهم إنك لتعلم أني لم أكذب على عبد الله بن أُبيّ فما سار إلا قليلاً حتى أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما كان يأخذه من البرحاء عند نزول الوحي فثقل حتى كادت ناقته أن تبرك من ثقل الوحي فسري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يسكب العرق عن جبهته ثم أخذ باذن زيد بن أرقم فرفعه من الرحل ثم قال: يا غلام صدق قولك ووعى قلبك وأنزل الله فيما قلت قرآناً.
فلما نزل جمع أصحابه وقرأ عليهم سورة المنافقين: { بسم الله الرحمن الرحيم إذا جاءك المنافقون } إلى قوله { ولكن المنافقين لا يعلمون } ففضح الله عبد الله بن أُبيّ.
وفي تفسير القمي أيضاً في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: { كأنهم خشب مسندة } يقول: لا يسمعون ولا يعقلون { يحسبون كل صيحة عليهم } يعني كل صوت { هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون }.
فلما أنبأ الله رسوله خبرهم مشى إليهم عشائرهم وقالوا افتضحتم ويلكم فأتوا رسول الله يستغفر لكم فلوّوا رؤسهم وزهدوا في الاستغفار، يقول الله: { وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لوَّوا رءوسهم ورأيتهم يصدُّون وهم مستكبرون }.
وفي الكافي بإسناده إلى سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الله تبارك وتعالى فوّض إلى المؤمن أُموره كلها، ولم يفوض إليه أن يذل نفسه ألم تر قول الله سبحانه وتعالى ها هنا { لله العزة ولرسوله وللمؤمنين } والمؤمن ينبغي أن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً.
أقول: وروى هذا المعنى بإسناده عن داود الرقي والحسن الأحمسي وبطريق آخر عن سماعة.
وفيه بإسناده عن مفضل بن عمر قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه. قلت: بما يذل نفسه؟ قال: يدخل فيما يعتذر منه.
(كلام حول النفاق في صدر الإسلام)
يهتم القرآن بأمر المنافقين اهتماماً بالغاً ويكرُّ عليهم كرة عنيفة بذكر مساوي أخلاقهم وأكاذيبهم وخدائعهم ودسائسهم والفتن التي أقاموها على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى المسلمين، وقد تكرر ذكرهم في السور القرآنية كسورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والعنكبوت والأحزاب والفتح والحديد والحشر والمنافقون والتحريم.
وقد أوعدهم الله في كلامه أشد الوعيد ففي الدنيا بالطبع على قلوبهم وجعل الغشاوة على سمعهم وعلى أبصارهم وإذهاب نورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون وفي الآخرة بجعلهم في الدرك الأسفل من النار.
وليس ذلك إلا لشدة المصائب التي أصابت الإسلام والمسلمين من كيدهم ومكرهم وأنواع دسائسهم فلم ينل المشركون واليهود والنصارى من دين الله ما نالوه، وناهيك فيهم قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم يشير إليهم:
{ { هم العدو فاحذرهم } [المنافقون: 4]. وقد ظهر آثار دسائسهم ومكائدهم أوائل ما هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة فورد ذكرهم في سورة البقرة وقد نزلت - على ما قيل - على رأس ستة أشهر من الهجرة ثم في السور الأخرى النازلة بعد بالإشارة إلى أُمور من دسائسهم وفنون من مكائدهم كانسلالهم من الجند الإسلامي يوم أُحد وهم ثلثهم تقريباً، وعقدهم الحلف مع اليهود واستنهاضهم على المسلمين وبنائهم مسجد الضرار وإشاعتهم حديث الإفك، وإثارتهم الفتنة في قصة السقاية وقصة العقبة إلى غير ذلك مما تشير إليه الآيات حتى بلغ أمرهم في الإفساد وتقليب الأمور على النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حيث هددهم الله بمثل قوله: { { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً ملعونين أينما ثقفوا أُخذوا وقتلوا تقتيلاً } [الأحزاب: 60-61]. وقد استفاضت الأخبار وتكاثرت في أن عبد الله بن أُبيّ بن سلول وأصحابه من المنافقين وهم الذين كانوا يقلبون الأمور على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويتربصون به الدوائر وكانوا معروفين عند المؤمنين يقربون من ثلث القوم وهم الذين خذلوا المؤمنين يوم أُحد فانمازوا منهم ورجعوا إلى المدينة قائلين لو نعلم قتالاً لاتبعناكم وهم عبد الله بن أُبيّ وأصحابه.
ومن هنا ذكر بعضهم أن حركة النفاق بدأت بدخول الإسلام المدينة واستمرت إلى قرب وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
هذا ما ذكرة جمع منهم لكن التدبر في حوادث زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإمعان في الفتن الواقعة بعد الرحلة والاعتناء بطبيعة الاجتماع الفعالة يقضي عليه بالنظر:
أما أولاً: فلا دليل مقنعاً على عدم تسرب النفاق في متبعي النبي صلى الله عليه وآله وسلم المؤمنين بمكة قبل الهجرة، وقول القائل: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بمكة قبل الهجرة لم يكونوا من القوة ونفوذ الأمر وسعة الطول بحيث يهابهم الناس ويتقوهم أو يرجوا منهم خيراً حتى يظهروا لهم الإيمان ظاهراً ويتقربوا منهم بالإسلام، وهم مضطهدون مفتنون معذبون بأيدي صناديد قريش ومشركي مكة المعادين لهم المعاندين للحق بخلاف حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة بعد الهجرة فإنه صلى الله عليه وآله وسلم هاجر إليها وقد كسب أنصاراً من الأوس والخزرج واستوثق من أقوياء رجالهم أن يدفعوا عنه كما يدفعون عن أنفسهم وأهليهم، وقد دخل الإسلام في بيوت عامتهم فكان مستظهراً بهم على العدة القليلة الذين لم يؤمنوا به وبقوا على شركهم ولم يكن يسعهم أن يعلنوا مخالفتهم ويظهروا شركهم فتوقوا الشر بإظهار الإسلام فآمنوا به ظاهراً وهم على كفرهم باطناً فدسّوا الدسائس ومكروا ما مكروا.
غير تام، فما القدرة والقوة المخالفة المهيبة ورجاء الخير بالفعل والاستدرار المعجل علة منحصرة للنفاق حتى يحكم بانتفاء النفاق لانتفائها فكثيراً ما نجد في المجتمعات رجالاً يتبعون كل داع ويتجمعون إلى كل ناعق ولا يعبؤن بمخالفة القوى المخالفة القاهرة الطاحنة، ويعيشون على خطر مصرّين على ذلك رجاء أن يوفقوا يوماً لإجراء مرامهم ويتحكموا على الناس باستقلالهم بإدارة رحى المجتمع والعلوّ في الأرض وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يذكر في دعوته لقومه أن لو آمنوا به واتبعوه كانوا ملوك الأرض.
فمن الجائز عقلاً أن يكون بعض من آمن به يتبعه في ظاهر دينه طمعاً في البلوغ بذلك إلى أُمنيته وهي التقدم والرئاسة والاستعلاء، والأثر المترتب على هذا النوع من النفاق ليس هو تقليب الأمور وتربص الدوائر على الإسلام والمسلمين وإفساد المجتمع الديني بل تقويته بما أمكن وتفديته بالمال والجاه لينتظم بذلك الأمور ويتهيأ لاستفادته منه واستدراره لنفع شخصه. نعم يمكر مثل هذا المنافق بالمخالفة والمضادة فيما إذا لاح من الدين مثلاً ما يخالف أُمنية تقدمه وتسلُّطه إرجاعاً للأمر إلى سبيل ينتهي إلى غرضه الفاسد.
وأيضاً من الممكن أن يكون بعض المسلمين يرتاب في دينه فيرتد ويكتم ارتداده كما مرَّت الإشارة إليه في قوله تعالى: { ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا } الآية، وكما يظهر من لحن مثل قوله تعالى:
{ { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم } [المائدة: 54]. وأيضاً الذين آمنوا من مشركي مكة يوم الفتح لا يؤمن أكثرهم أن لا يؤمنوا إيمان صدق وإخلاص ومن البديهي عند من تدبَّر في حوادث سني الدعوة أن كفار مكة وما والاها وخاصه صناديد قريش ما كانوا ليؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لولا سواد جنود غشيتهم وبريق سيوف مسلطة فوق رؤسهم يوم الفتح وكيف يمكن مع ذلك القضاء بأنه حدث في قلوبهم والظرف هذا الظرف نور الإيمان وفي نفوسهم الإخلاص واليقين فآمنوا بالله طوعاً عن آخرهم ولم يدبّ فيهم دبيب النفاق أصلاً.
وأما ثانياً: فلأن استمرار النفاق إلى قرب رحلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وانقطاعه عند ذلك ممنوع نعم انقطع الخبر عن المنافقين بالرحلة وانعقاد الخلافة وانمحى أثرهم فلم يظهر منهم ما كان يظهر من الآثار المضادة والمكائد والدسائس المشؤمة.
فهل كان ذلك لأن المنافقين وفقوا للإسلام وأخلصوا الإيمان عن آخرهم برحلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتأثرت قلوبهم من موته ما لم يتأثر بحياته؟ أو أنهم صالحوا أولياء الحكومة الإسلامية على ترك المزاحمة بأن يسمح لهم ما فيه أمنيتهم مصالحة سريَّة بعد الرحلة أو قبلها؟ أو أنه وقع هناك تصالح اتفاقي بينهم وبين المسلمين فوردوا جميعاً في مشرعة سواء فارتفع التصاكّ والتصادم؟
ولعل التدبر الكافي في حوادث آخر عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والفتن الواقعة بعد رحلته يهدي إلى الحصول على جواب شافٍ لهذه الأسئلة.
والذي أوردناه في هذا الفصل إشارة إجمالية إلى سبيل البحث.