التفاسير

< >
عرض

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ لَهُ ٱلْمُلْكُ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١
هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
٢
خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ
٣
يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
٤
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٥
ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ فَقَالُوۤاْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّٱسْتَغْنَىٰ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ
٦
زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ
٧
فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلنّورِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلْنَا وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
٨
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ ٱلْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلتَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
٩
وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَآ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ
١٠
-التغابن

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
السورة شبيهة بسورة الحديد في سياق كسياقها ونظم كنظمها كأنها ملخصة منها وغرضها تحريض المؤمنين وترغيبهم في الإنفاق في سبيل الله ورفع ما يهجس في قلوبهم ويدب في نفوسهم من الأسى والأسف على المصائب التي تهجم عليهم في تحمل مشاق الإيمان بالله والجهاد في سبيل الله والإنفاق فيها بأن ذلك كله بإذن الله.
والآيات التي أوردناها من صدر السورة تقدمة وتمهيد لبيان الغرض المذكور تبين أن أسماءه تعالى الحسنى وصفاته العليا تقضي بالبعث ورجوع الكل إليه تعالى رجوعاً يساق فيه أهل الإيمان والعمل الصالح إلى جنة خالدة، وأهل الكفر والتكذيب إلى نار مؤبدة فهي تمهيد للأمر بطاعة الله ورسوله والصبر على المصائب والإنفاق في سبيل الله من غير تأثر من منع مانع ولا خوف من لومة لائم.
والسورة مدنية بشهادة سياق آياتها.
قوله تعالى: { يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير } تقدم الكلام في معنى التسبيح والملك والحمد والقدرة، وأن المراد بما في السماوات والأرض يشمل نفس السماوات والأرض ومن فيها وما فيها.
وقوله: { له الملك } مطلق يفيد إطلاق الملك وعدم محدوديته بحد ولا تقيده بقيد أو شرط فلا حكم نافذاً إلا حكمه، ولا حكم له إلا نافذاً على ما أراد.
وكذا قوله: { وله الحمد } مطلق يفيد رجوع كل حمد من كل حامد - والحمد هو الثناء على الجميل الاختياري - إليه تعالى لأن الخلق والأمر إليه فلا ذات ولا صفة ولا فعل جميلاً محموداً إلا منه وإليه.
وكذا قوله: { وهو على كل شيء قدير } بما يدل عليه من عموم متعلق القدرة غير محدودة ولا مقيدة بقيد أو شرط.
وإذ كانت الآيات - كما تقدمت الإشارة إليه - مسوقة لإثبات المعاد كانت الآية كالمقدمة الأولى لإثباته، وتفيد أن الله منزَّه عن كل نقص وشين في ذاته وصفاته وأفعاله يملك الحكم على كل شيء والتصرف فيه كيفما شاء وأراد، - ولا يتصرف إلا جميلاً - وقدرته تسع كل شيء فله أن يتصرف في خلقه بالإعادة كما تصرف فيهم بالإيذاء - الإحداث والإبقاء - فله أن يبعثهم إن تعلقت به إرادته ولا تتعلق إلا بحكمه.
قوله تعالى: { هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير } الفاء في { فمنكم } تدل على مجرد ترتب الكفر والإيمان على الخلق فلا دلالة في التفريع على كون الكفر والإيمان مخلوقين لله تعالى أو غير مخلوقين، وإنما المراد انشعابهم فرقتين: بعضهم كافر وبعضهم مؤمن، وقدم ذكر الكافر لكثرة الكفار وغلبتهم.
و "من" في قوله: "فمنكم ومنكم" للتبعيض أي فبعضكم كافر وبعضكم مؤمن.
وقد نبه بقوله: { والله بما تعملون بصير } على أن انقسامهم قسمين وتفرقهم فرقتين حق كما ذكر، وهم متميزون عنده لأن الملاك في ذلك أعمالهم ظاهرها وباطنها والله بما يعملون بصير لا تخفى عليه ولا تشتبه.
وتتضمن الآية مقدمة أخرى لاثبات المعاد وتنجزه وهي أن الناس مخلوقون له تعالى متميزون عنده بالكفر والإيمان وصالح العمل وطالحه.
قوله تعالى: { خلق السماوات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير } المراد بالحق خلاف الباطل وهو خلقها من غير غاية ثابتة وغرض ثابت كما قال:
{ { لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا } [الأنبياء: 17]، وقال: { { وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون } [الدخان: 38-39]. وقوله: { وصوركم فأحسن صوركم } المراد بالتصوير إعطاء الصورة وصورة الشيء قوامه ونحو وجوده كما قال: { { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } [التين: 4]، وحسن الصورة تناسب تجهيزاتها بعضها لبعض والمجموع لغاية وجودها، وليس هو الحسن بمعنى صباحة المنظر وملاحته بل الحسن العام الساري في الأشياء كما قال تعالى: { { الذي أحسن كل شيء خلقه } [السجدة: 7]. ولعل اختصاص حسن صورهم بالذكر للتنبيه على أنها ملائمة للغاية التي هي الرجوع إلى الله فتكون الجملة من جملة المقدمات المسوقة لإثبات المعاد على ما تقدمت الإشارة إليه، وبهذه الآية تتم المقدمات المنتجة للزوم البعث ورجوع الخلق إليه تعالى فإنه تعالى لما كان ملكاً قادراً على الإطلاق له أن يحكم بما شاء ويتصرف كيف أراد وهو منزَّه عن كل نقص وشين محمود في أفعاله، وكان الناس مختلفين بالكفر والإيمان وهو بصير بأعمالهم، وكانت الخلقة لغاية من غير لغو وجزاف كان من الواجب أن يبعثوا بعد نشأتهم الدنيا لنشأة أُخرى دائمة خالدة فيعيشوا فيها عيشة باقية على ما يقتضيه اختلافهم بالكفر والإيمان وهو الجزاء الذي يسعد به مؤمنهم ويشقى به كافرهم.
وإلى هذه النتيجة يشير بقوله: { وإليه المصير }.
قوله تعالى: { يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور } دفع شبهة لمنكري المعاد مبنية على الاستبعاد وهي أنه كيف يمكن إعادة الموجودات وهي فانية بائدة وحوادث العالم لا تحصى والأعمال والصفات لا تعدّ، منها ظاهرة علنية ومنها باطنة سرية ومنها مشهودة ومنها مغيبة، فأجيب بأن الله يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون.
وقوله: { والله عليم بذات الصدور } قيل: إنه اعتراض تذييلي مقرر لشمول علمه تعالى بما يسرّون وما يعلنون والمعنى: إنه تعالى محيط علماً بالمضرات المستكنة في صدور الناس مما لا يفارقها أصلاً فكيف يخفى عليه شيء مما تسرونه وما تعلنونه.
وفي قوله: { والله عليم } الخ، وضع الظاهر موضع الضمير والأصل { وهو عليم } الخ والنكتة فيه الإشارة إلى علة الحكم، وليكون ضابطاً يجري مجرى المثل.
قوله تعالى: { ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم } وبال الأمر تبعته السيئة والمراد بأمرهم كفرهم وما تفرع عليه من فسوقهم.
لما كان مقتضى أسمائه الحسنى وصفاته العليا المعدودة في الآيات السابقة وجوب معاد الناس ومصيرهم إلى ربهم للحساب والجزاء فمن الواجب إعلامهم بما يجب عليهم أن يأتوا به أو يجتنبوا عنه وهو الشرع، والطريق إلى ذلك الرسالة فمن الواجب إرسال رسول على أساس الإنذار والتبشير بعقاب الآخرة وثوابها وسخطه تعالى ورضاه.
ساق تعالى الكلام بالإنذار بالإشارة إلى نبأ الذين كفروا من قبل وأنهم ذاقوا وبال أمرهم ولهم في الآخرة عذاب أليم ثم انتقل إلى بيان سبب كفرهم وهو تكذيب الرسالة ثم إلى سبب ذلك وهو إنكار البعث والمعاد.
ثم استنتج من ذلك كله وجوب إيمانهم بالله ورسوله والدين الذي أنزله عليه وختم التمهيد المذكور بالتبشير والإنذار بالإشارة إلى ما هيئ للمؤمنين الصالحين من جنة خالدة ولغيرهم من الكفار المكذبين من نار مؤبدة.
فقوله: { ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل } الخطاب للمشركين وفيه إشارة إلى قصص الأمم السالفة الهالكة كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، ممن أهلكهم الله بذنوبهم، وقوله: { فذاقوا وبال أمرهم } إشارة إلى ما نزل عليهم من عذاب الاستئصال وقوله: { ولهم عذاب أليم } إشارة إلى عذابهم الأخروي.
قوله تعالى: { ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا } الخ، بيان لسبب ما ذكر من تعذيبهم بعذاب الاستئصال وعذاب الآخرة، ولذلك جيء بالفصل دون العطف كأنه جواب لسؤال مقدر كأن سائلاً يسأل فيقول: لم أصابهم ما أصابهم من العذاب؟ فقيل: { ذلك بأنه كانت } الخ، والإشارة بذلك إلى ما ذكر من العذاب.
وفي التعبير عن إتيان الرسل ودعوتهم بقوله: { كانت تأتيهم } الدال على الاستمرار، وعن كفرهم وقولهم بقوله: "فقالوا وكفروا وتولوا" الدال بالمقابلة على المرة دلالة على أنهم قالوا ما قالوا كلمة واحدة قاطعة لا معدل عنها وثبتوا عليها وهو العناد واللجاج فتكون الآية في معنى قوله تعالى:
{ { تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين } [الأعراف: 101]، وقوله: { { ثم بعثنا من بعده } [يونس: 74] أي بعد نوح { { رسلاً إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين } [يونس: 74]. وقوله: { فقالوا أبشر يهدوننا } يطلق البشر على الواحد والجمع والمراد به الثاني بدليل قوله: { يهدوننا } والتنكير للتحقير، والاستفهام للإنكار أي قالوا على سبيل الإنكار: أآحاد من البشر لا فضل لهم علينا يهدوننا؟
وهذا القول منهم مبني على الاستكبار، على أن أكثر هؤلاء الأمم الهالكة كانوا وثنيين وهم منكرون للنبوة وهو أساس تكذيبهم لدعوة الأنبياء، ولذلك فرّع تعالى على قولهم: { أبشر يهدوننا } قوله: { فكفروا وتولوا } أي بنوا عليه كفرهم وإعراضهم.
وقوله: { واستغنى الله } الاستغناء طلب الغنى وهو من الله سبحانه - وهو غني بالذات - إظهار الغنى وذلك أنهم كانوا يرون أن لهم من العلم والقوة والاستطاعة ما يدفع عن جمعهم الفناء ويضمن لهم البقاء كأنه لا غنى للوجود عنهم كما حكى الله سبحانه عن قائلهم:
{ { قال ما أظن أن تبيد هذه أبداً } [الكهف: 35]، وقال: { { ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضرَّاء مسَّته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة } [فصلت: 50]. ومآل هذا الظن بالحقيقة إلى أن لله سبحانه حاجة إليهم وفيهم - وهو الغنى بالذات - فإهلاكه تعالى لهم وإفناؤهم إظهار منه لغناه عن وجودهم، وعلى هذا فالمراد بقوله: { واستغنى الله } استئصالهم المدلول عليه بقوله: { فذاقوا وبال أمرهم }.
على أن الإنسان معجب بنفسه بالطبع يرى أن له على الله كرامة كأن من الواجب عليه أن يحسن إليه أينما كان كأن لله سبحانه حاجة إلى إسعادة والإحسان إليه كما يشير إليه قوله تعالى:
{ { وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى } [فصلت: 50]، وقوله: { { وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدنَّ خيراً منها منقلباً } [الكهف: 36] ومآل هذا الزعم بالحقيقة إلى أن من الواجب على الله سبحانه أن يسعدهم كيفما كان كأن له إليهم حاجة فإذاقته لهم وبال أمرهم وتعذيبهم في الآخرة إظهار منه تعالى لغناه عنهم، فالمراد باستغنائه تعالى عنهم مجموع ما أُفيد بقوله: { فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم }.
فهذان وجهان في معنى قوله تعالى: { واستغنى الله } والثاني منهما أشمل، وفي الكلمة على أي حال من سطوع العظمة والقدرة ما لا يخفى، وهو في معنى قوله:
{ { ثم أرسلنا رسلنا تترا كلما جاء أُمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضاً وجعلناهم أحاديث فبعداً لقوم لا يؤمنون } [المؤمنون: 44]. وقيل: المراد واستغنى الله بإقامه البرهان وإتمام الحجة عليهم عن الزيادة على ذلك بإرشادهم وهدايتهم إلى الإيمان.
وقيل: المراد واستغنى الله عن طاعتهم وعبادتهم أزلاً وأبداً لأنه غني بالذات، والوجهان كما ترى.
وقوله: { والله غني حميد } في محل التعليل لمضمون الآية، والمعنى: والله غني في ذاته محمود فيما فعل، فما فعل بهم من إذاقتهم وبال أمرهم وتعذيبهم بعذاب أليم على كفرهم وتوليهم من غناه وعدله لأنه مقتضى عملهم المردود إليهم.
قوله تعالى: { زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبَّؤن بما عملتم وذلك على الله يسير } ذكر ركن آخر من أركان كفر الوثنيين وهو إنكارهم الدين السماوي بإنكار المعاد إذ لا يبقى مع انتفاء المعاد أثر للدين المبني على الأمر والنهي والحساب والجزاء ويصلح تعليلاً لإنكار الرسالة إذ لا معنى حينئذ للتبليغ والوعيد.
والمراد بالذين كفروا عامة الوثنيين ومنهم من عاصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم كأهل مكة وما والاها، وقيل: المراد أهل مكة خاصة.
وقوله: { قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم } أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيب عن زعمهم أن لن يبعثوا، بإثبات ما نفوه بما في الكلام من أصناف التأكيد بالقسم واللام والنون.
و { ثم } في { ثم لتنبؤن } للتراخي بحسب رتبة الكلام، وفي الجملة إشارة إلى غاية البعث وهو الحساب وقوله: { وذلك على الله يسير } أي ما ذكر من البعث والإنباء بالأعمال يسير عليه تعالى غير عسير، وفيه رد لإحالتهم أمر البعث على الله سبحانه استبعاداً، وقد عبر عنه في موضع آخر من كلامه بمثل قوله:
{ { وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه } [الروم: 27]. والدليل عليه ما عده في صدر الآيات من أسمائه تعالى وصفاته من الخلق والملك والعلم وأنه مسبح محمود، ويجمع الجميع أنه الله المستجمع لجميع صفات الكمال.
ويظهر من هنا أن التصريح باسم الجلالة في الجملة أعني قوله: { وذلك على الله يسير } للإيماء إلى التعليل، والمفاد أن ذلك يسير عليه تعالى لأنه الله، والكلام حجة برهانية لا دعوى مجردة.
وذكروا أن الآية ثالثة الآيات التي أمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يقسم بربه على وقوع المعاد وهي ثلاث: إحداها قوله:
{ { ويستنبئونك أحق هو قل أي وربي } [يونس: 53]، والثانية قوله: { { وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم } [سبأ: 3], والثالثة الآية التي نحن فيها.
قوله تعالى: { فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير } تفريع على مضمون الآية السابقة أي إذا كنتم مبعوثين لا محالة منبئين بما عملتم وجب عليكم أن تؤمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزله على رسوله وهو القرآن الذي يهدي بنوره الساطع إلى مستقيم الصراط، ويبين شرائع الدين.
وفي قوله: { والنور الذي أنزلنا } التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير ولعل النكتة فيه تتميم الحجة بالسلوك من طريق الشهادة وهي أقطع للعذر فكم فرق بين قولنا: والنور الذي أُنزل وهو إخبار، وقوله: { والنور الذي أنزلنا } ففيه شهادة منه تعالى على أن القرآن كتاب سماوي نازل من عنده تعالى، والشهادة آكد من الإخبار المجرد.
لا يقال: ماذا ينفع ذلك وهم ينكرون كون القرآن كلامه تعالى النازل من عنده ولو صدقوا ذلك كفاهم ما مر من الحجة على المعاد وأغنى عن التمسك بذيل الالتفات المذكور.
لأنه يقال: كفى في إبطال إنكارهم كونه كلام الله ما في القرآن من آيات التحدي المثبتة لكونه كلام الله، والشهادة على أي حال آكد وأقوى من الإخبار وإن كان مدللاً.
وقوله: { والله بما تعملون خبير } تذكرة بعلمه تعالى بدقائق أعمالهم ليتأكد به الأمر في قوله: { فآمنوا } والمعنى: آمنوا وجدوا في إيمانكم فإنه عليم بدقائق أعمالكم لا يغفل عن شيء منها وهو مجازيكم بها لا محالة.
قوله تعالى: { يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن } الخ، { يوم } ظرف لقوله السابق: { لتبعثن ثم لتنبؤن } الخ، والمراد بيوم الجمع يوم القيامة الذي يجمع فيه الناس لفصل القضاء بينهم قال تعالى:
{ { ونفخ في الصور فجمعناهم جمعاً } [الكهف: 99]، وقد تكرر في القرآن الكريم حديث الجمع ليوم القيامة، ويفسره أمثال قوله تعالى: { { إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } [الجاثية: 17]، وقوله: { { فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } [البقرة: 113]، وقوله: { { إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } [السجدة: 25]، فالآيات تشير إلى أن جمعهم للقضاء بينهم.
وقوله: { ذلك يوم التغابن } قال الراغب: الغبن أن تبخس صاحبك في معاملة بينك وبينه بضرب من الإخفاء. قال: ويوم التغابن يوم القيامة لظهور الغبن في المعاملة المشار إليها بقوله: { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله } وبقوله: { إن الله اشترى من المؤمنين } الآية، وبقوله: { الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً } فعلموا أنهم غبنوا فيما تركوا من المبايعة وفيما تعاطوه من ذلك جميعاً.
وسئل بعضهم عن يوم التغابن فقال: تبدو الأشياء لهم بخلاف مقاديرهم في الدنيا. انتهى موضع الحاجة.
وما ذكره أولاً مبني على تفسير التغابن بسريان المغبونية بين الكفار بأخذهم لمعاملة خاسرة وتركهم معاملة رابحة، وهو معنى حسن غير أنه لا يلائم معنى باب التفاعل الظاهر في فعل البعض في البعض.
وما نقله عن بعضهم وجه ثان لا يخلو من دقة، ويؤيده مثل قوله تعالى:
{ { فلا تعلم نفس ما أُخفي لهم من قرَّة أعين } [السجدة: 17]، وقوله: { { لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد } [ق: 35]، وقوله: { { وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } [الزمر: 47]. ومقتضى هذا الوجه عموم التغابن لجميع أهل الجمع من مؤمن وكافر أما المؤمن فلما أنه لم يعمل لآخرته أكثر مما عمل، وأما الكافر فلأنه لم يعمل أصلاً، والوجه المشترك بينهما أنهما لم يقدّرا اليوم حق قدره.
ويرد على هذا الوجه ما يرد على سابقه.
وهناك وجه ثالث وهو أن يعتبر التغابن بين أهل الضلال متبوعيهم وتابعيهم فالمتبوعون وهم المستكبرون يغبنون تابعيهم وهم الضعفاء حيث يأمرونهم بأخذ الدنيا وترك الآخرة فيضلون، والتابعون يغبنون المتبوعين حيث يعينونهم في استكبارهم باتباعهم فيضلون، فكل من الفريقين غابن لغيره ومغبون من غيره.
وهناك وجه رابع وردت به الرواية وهو أن لكل عبد منزلاً في الجنة لو أطاع الله لدخله، ومنزلاً في النار لو عصى الله لدخله ويوم القيامة يعطى منازل أهل النار في الجنة لأهل الجنة، ويعطى منازل أهل الجنة لأهل النار فيكون أهل الجنة وهم المؤمنون غابنين لأهل النار وهم الكفار والكفار هم المغبونون.
وقال بعض المفسرين بعد إيراد هذا الوجه: وقد فسّر التغابن قوله ذيلاً: { ومن يؤمن بالله } إلى قوله { وبئس المصير } انتهى. وليس بظاهر ذاك الظهور.
وقوله: { ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً } إلى قوله { وبئس المصير } تقدم تفسيره مراراً.
(بحث روائي)
في صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
"ما من عبد يدخل الجنة إلا أُري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكراً. وما من عبد يدخل النار إلا أُري مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة"
]. أقول: وفي هذا المعنى روايات كثيرة من طرق العامة والخاصة وقد تقدم بعضها في تفسير أول سورة المؤمنون.
وفي تفسير البرهان عن ابن بابويه بإسناده عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله عليه السلام قال: يوم التلاق يوم يلتقي أهل السماء والأرض، ويوم التناد يوم ينادي أهل النار أهل الجنة { أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله } ويوم التغابن يوم يغبن أهل الجنة أهل النار، ويوم الحسرة يوم يؤتى بالموت فيذبح.
أقول: وفي ذيل آيات صدر السورة المبحوث عنها عدة من الروايات توجه الآيات بشؤون الولاية كالذي ورد أن الإيمان والكفر هما الإيمان والكفر بالولاية يوم أخذ الميثاق، وما ورد أن المراد بالبينات الأئمة، وما ورد أن المراد بالنور الإمام وهي جميعاً ناظرة إلى بطن الآيات وليست بمفسرة البتة.