التفاسير

< >
عرض

يٰأيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ ٱلْعِدَّةَ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً
١
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً
٢
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ ٱللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
٣
وَٱللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ ٱلْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَٱللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاَتُ ٱلأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً
٤
ذَلِكَ أَمْرُ ٱللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً
٥
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَىٰ
٦
لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ ٱللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا سَيَجْعَلُ ٱللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً
٧
-الطلاق

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
تتضمن السورة بيان كليات من أحكام الطلاق تعقبه عظة وإنذار وتبشير، والسورة مدنية بشهادة سياقها.
قوله تعالى: { يا أيها النبي إذا طلَّقتم النساء فطلّقوهن لعدَّتهن وأحصوا العدَّة } إلى آخر الآية، بُدئ الخطاب بنداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه الرسول إلى الأُمة وإمامهم فيصلح لخطابه أن يشمله وأتباعه من أُمته وهذا شائع في الاستعمال يخص مقدّم القوم وسيدهم بالنداء ويخاطب بما يعمّه وقومه فلا موجب لقول بعضهم: إن التقدير يا أيها النبي قل لأمَّتك: إذا طلقتم النساء "الخ".
وقوله: { إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } أي إذا أردتم أن تطلقوا النساء وأشرفتم على ذلك إذ لا معنى لتحقق الطلاق بعد وقوع الطلاق فهو كقوله:
{ { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } [المائدة: 6] الآية.
والعدة قعود المرأة عن الزوج حتى تنقضي المدة المرتبة شرعاً، والمراد بتطليقهن لعدتهن تطليقهن لزمان عدتهن بحيث يأخذ زمان العدة من يوم تحقق التطليقة وذلك بأن تكون التطليقة في طهر لا مواقعة فيه حتى تنقضي أقراؤها.
وقوله: { وأحصوا العدة } أي عدُّوا الأقراء التي تعتد بها، وهو الاحتفاظ عليها لأن للمرأة فيها حق النفقة والسكنى على زوجها وللزوج فيها حق الرجوع.
وقوله: { واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن } ظاهر السياق كون { لا تخرجوهن } الخ، بدلا من { اتقوا الله ربكم } ويفيد ذلك تأكيد النهي في { لا تخرجوهن } والمراد ببيوتهن البيوت التي كن يسكنه قبل الطلاق أُضيفت إليهن بعناية السكنى.
وقوله: { ولا يخرجن } نهي عن خروجهن أنفسهن كما كان سابقه نهياً عن إخراجهن.
وقوله: { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } أي ظاهرة كالزنا والبذاء وإيذاء أهلها كما في الروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام.
وقوله: { وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } أي الأحكام المذكورة للطلاق حدود الله حدَّ بها أعمالكم ومن يتعد ويتجاوز حدود الله بأن لم يراعها وخالفها فقد ظلم نفسه أي عصى ربه.
وقوله: { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً } أي أمراً يقضي بتغير الحال وتبدّل رأي الزوج في طلاقها بأن يميل إلا الالتيام ويظهر في قلبه محبة حب الرجوع إلى سابق الحال.
قوله تعالى: { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف } إلى قوله { واليوم الآخر } المراد من بلوغهن أجلهن اقترابهن من آخر زمان العدة وإشرافهن عليه، والمراد بإمساكهن الرجوع على سبيل الاستعارة، وبمفارقتهن تركهن ليخرجن من العدة ويبنّ.
والمراد بكون الإمساك بمعروف حسن الصحبة ورعاية ما جعل الله لهن من الحقوق، وبكون فراقهن بمعروف أيضاً احترام الحقوق الشرعية فالتقدير بمعروف من الشرع.
وقوله: { وأشهدوا ذوي عدل منكم } أي أشهدوا على الطلاق رجلين منكم صاحبي عدل، وقد مر توضيح معنى العدل في تفسير سورة البقرة.
وقوله: { وأقيموا الشهادة لله } تقدم توضيحه في تفسير سورة البقرة.
وقوله: { ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر } أي ما مر من الأمر بتقوى الله وإقامة الشهادة لله والنهي عن تعدي حدود الله أو مجموع ما مرَّ من الأحكام والبعث إلى التقوى والإخلاص في الشهادة والزجر عن تعدي حدود الله يوعظ به المؤمنون ليركنوا إلى الحق وينقلعوا عن الباطل، وفيه إيهام أن في الإعراض عن هذه الأحكام أو تغييرها خروجاً من الإيمان.
قوله تعالى { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب } إلى قوله { قدراً } أي { ومن يتق الله } ويتورع عن محارمه ولم يتعد حدوده واحترم لشرائعه فعمل بها { يجعل له مخرجاً } من مضائق مشكلات الحياة فإن شريعته فطرية يهدي بها الله الإنسان إلى ما تستدعيه فطرته وتقضي به حاجته وتضمن سعادته في الدنيا والآخرة { ويرزقه } من الزوج والمال وكل ما يفتقر إليه في طيب عيشه وزكاة حياته { من حيث لا يحتسب } ولا يتوقع فلا يخف المؤمن أنه إن اتقى الله واحترم حدوده حرم طيب الحياة وابتلي بضنك المعيشة فإن الرزق مضمون والله على ما ضمنه قادر.
{ ومن يتوكل على الله } باعتزاله عن نفسه فيما تهواه وتأمر به وإيثاره إرادة الله سبحانه على إرادة نفسه والعمل الذي يريده الله على العمل الذي تهواه وتريده نفسه وبعبارة أخرى تدين بدين الله وعمل بأحكامه { فهو حسبه } أي كافيه فيما يريده من طيب العيش ويتمناه من السعادة بفطرته لا بواهمته الكاذبة.
وذلك أنه تعالى هو السبب الأعلى الذي تنتهي إليه الأسباب فإذا أراد شيئاً فعله وبلغ ما أراده من غير أن تتغير إرادته فهو القائل:
{ { ما يبدل القول لدي } [ق: 29]، أو يحول بينه وبين ما أراده مانع فهو القائل: { { والله يحكم لا معقب لحكمه } [الرعد: 41]، وأما الأسباب الأُخر التي يتشبث بها الإنسان في رفع حوائجه فإنما تملك من السببية ما ملكها الله سبحانه وهو المالك لما ملكها والقادر على ما عليه أقدرها ولها من الفعل مقدار ما أذن الله فيه.
فالله كاف لمن توكل عليه لا غيره { إن الله بالغ أمره } يبلغ حيث أراد، وهو القائل: { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } { قد جعل الله لكل شيء قدراً } فما من شيء إلا له قدر مقدور وحدّ والله سبحانه لا يحدّه حد ولا يحيط به شيء وهو المحيط بكل شيء.
هذا هو معنى الآية بالنظر إلى وقوعها في سياق آيات الطلاق وانطباقها على المورد.
وأما بالنظر إلى إطلاقها في نفسها مع الغض عن السياق الذي وقعت فيه فقوله: { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب } مفاده أن من اتقى الله بحقيقة معنى تقواه ولا يتم ذلك إلا بمعرفته تعالى بأسمائه وصفاته ثم تورعه واتقاؤه بالاجتناب عن المحرمات وتحرز ترك الواجبات خالصاً لوجهه الكريم، ولازمه أن لا يريد إلا ما يريده الله من فعل أو ترك، ولازمه أن يستهلك إرادته في إرادة الله فلا يصدر عنه فعل إلا عن إرادة من الله.
ولازم ذلك أن يرى نفسه وما يترتب عليها من سمة أو فعل ملكاً طلقاً لله سبحانه يتصرف فيها بما يشاء وهو ولاية الله يتولى أمر عبده فلا يبقى له من الملك بحقيقة معناه شيء إلا ما ملّكه الله سبحانه وهو المالك لما ملكه والملك لله عز اسمه.
وعند ذلك ينجيه الله من مضيق الوهم وسجن الشرك بالتعلق بالأسباب الظاهرية { ويجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب } أما الرزق المادي فإنه كان يرى ذلك من عطايا سعيه والأسباب الظاهرية التي كان يطمئن إليها وما كان يعلم من الأسباب إلا قليلاً من كثير كقبس من نار يضيء للإنسان في الليلة الظلماء موضع قدمه وهو غافل عما وراءه، لكن الله سبحانه محيط بالأسباب وهو الناظم لها ينظمها كيف يشاء ويأذن في تأثير ما لا علم له به من خباياها.
وأما الرزق المعنوي الذي هو حقيقة الرزق الذي تعيش به النفس الإنسانية وتبقى فهو مما لم يكن يحتسبه ولا يحتسب طريق وروده عليه.
وبالجملة هو سبحانه يتولى أمره ويخرجه من مهبط الهلاك ويرزقه من حيث لا يحتسب، ولا يفقد من كماله والنعم التي كان يرجو نيلها بسعيه شيئاً لأنه توكل على الله وفوَّض إلى ربه ما كان لنفسه { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } دون سائر الأسباب الظاهرية التي تخطئ تارة وتصيب أُخرى { إن الله بالغ أمره } لأن الأمور محدودة محاطة له تعالى و { قد جعل الله لكل شيء قدراً } فهو غير خارج عن قدره الذي قدّره به.
وهذا نصيب الصالحين من الأولياء من هذه الآية.
وأما من هو دونهم من المؤمنين المتوسطين من أهل التقوى النازلة درجاتهم من حيث المعرفة والعمل فلهم من ولاية الله ما يلائم حالهم في إخلاص الإيمان والعمل الصالح وقد قال تعالى وأطلق:
{ { والله وليّ المؤمنين } [آل عمران: 68]، وقال وأطلق: { { والله وليّ المتقين } [الجاثية: 19]. وتديّنهم بدين الحق وهي سنَّة الحياة وورودهم وصدورهم في الأمور عن إرادته تعالى هو تقوى الله والتوكل عليه بوضع إرادته تعالى موضع إرادة أنفسهم فينالون من سعادة الحياه بحسبه ويجعل الله لهم مخرجاً ويرزقهم من حيث لا يحتسبون، وحسبهم ربهم فهو بالغ أمره وقد جعل لكل شيء قدراً.
وعليهم من حرمان السعادة قدر ما دبَّ من الشرك في إيمانهم وعملهم وقد قال تعالى:
{ { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } [يوسف: 108]، وقال وأطلق: { { إن الله لا يغفر أن يشرك به } [النساء: 116]. وقال: { { وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً } [طه: 82]، أي لمن تاب من الشرك وقال وأطلق: { { واستغفروا الله إن الله غفور رحيم } [المزمل: 20]. فلا يرقى المؤمن إلى درجة من درجات ولاية الله إلا بالتوبة من خفيّ الشرك الذي دونها.
والآية من غرر الآيات القرآنية وللمفسرين في جملها كلمات متشتتة أضربنا عنها.
قوله تعالى: { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدَّتهن ثلاثة أشهر } المراد بالارتياب الشك في يأسهن من المحيض أهو لكبر أم لعارض، فالمعنى: واللائي يئسن من المحيض من نسائكم وشككتم في أمر يأسهن أهو لبلوغ سنهن سن اليأس أم لعارض فعدَّتهن ثلاثة أشهر.
وقوله: { واللائي لم يحضن } عطف على قوله: { واللائي يئسن } الخ، والمعنى: واللائي لم يحضن وهن في سن من تحيض فعدَّتهن ثلاثة أشهر.
وقوله: { وأُولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } أي منتهى زمان عدتهن وضع الحمل.
وقوله: { ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً } أي يسهل عليه ما يستقبله من الشدائد والمشاق، وقيل: المراد أنه يسهل عليه أمور الدنيا والآخرة إما بفرج عاجل أو عوض آجل.
قوله تعالى: { ذلك أمر الله أنزله إليكم } أي ما بيَّنه في الآيات المتقدمة حكم الله أنزله إليكم، وفي قوله: { ومن يتق الله يكفّر عنه سيئاته ويعظم له أجراً } دلالة على أن اتباع الأوامر من التقوى كاجتناب المحرمات ولعله باعتبار أن امتثال الأمر يلازم اجتناب تركه.
وتكفير السيئات سترها بالمغفرة، والمراد بالسيئات المعاصي الصغيرة فيبقى للتقوى كبائر المعاصي، ويكون مجموع قوله: { ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً } في معنى قوله:
{ { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً } [النساء: 31]، ومن الآيتين يظهر أن المراد بالمحارم في قوله عليه السلام في تعريف التقوى: أنها الورع عن محارم الله المعاصي الكبيرة.
ويظهر أيضاً أن مخالفة ما أنزله الله من الأمر في الطلاق والعدة من الكبائر إذ التقوى المذكورة في الآية تشمل ما ذكر من أمر الطلاق والعدة لا محالة فهو غير السيئات المكفرة وإلا اختلَّ معنى الآية.
قوله تعالى: { أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم } إلى آخر الآية، قال في المفردات: وقوله تعالى: { من وجدكم } أي تمكّنكم وقدر غناكم، ويعبر عن الغنى بالوجدان والجدة، وقد حكي فيه الوَجد والوِجد والوُجد - بالحركات الثلاث في الواو - انتهى.
وضمير "هن" للمطلقات على ما يؤيده السياق، والمعنى: أسكنوا المطلقات من حيث سكنتم من المساكن على قدر تمكنكم وغناكم على الموسر قدره وعلى المعسر قدره.
وقوله: { ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن } أي لا توجهوا إليهن ضرراً يشق عليهن تحمّله من حيث السكنى والكسوة والنفقة لتوردوا الضيق والحرج عليهن.
وقوله: { وإن كنَّ أُولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } معناه ظاهر.
وقوله: { فإن أرضعن لكم فآتوهن أُجورهن } فلهن عليكم أجر الرضاعة وهو من نفقة الولد التي على الوالد.
وقوله: { وائتمروا بينكم بمعروف } الائتمار بشيء تشاور القوم فيه بحيث يأمر بعضهم فيه بعضاً، وهو خطاب الرجل والمرأة أي تشاوروا في أمر الولد وتوافقوا في معروف من العادة بحيث لا يتضرر الرجل بزيادة الأجر الذي ينفقه ولا المرأه بنقيصته ولا الولد بنقص مدة الرضاع إلى غير ذلك.
وقوله: { وإن تعاسرتم فسترضع له أُخرى } أي وإن أراد كل منكم من الآخر ما فيه عسر واختلفتم فسترضع الولد امرأة أخرى أجنبية غير والدته أي فليسترضع الوالد غير والدة الصبي.
قوله تعالى: { لينفق ذو سعة من سعته } الإنفاق من سعة هو التوسعة في الإنفاق وهو أمر لأهل السعة بأن يوسعوا على نسائهم المطلقات المرضعات أولادهم.
وقوله: { ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله } قدر الرزق ضيقه، والإيتاء الإعطاء، والمعنى: ومن ضاق عليه رزقه وكان فقيراً لا يتمكن من التوسع في الإنفاق فلينفق على قدر ما أعطاه الله من المال أي فلينفق على قدر تمكنه.
وقوله: { لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها } أي لا يكلف الله نفساً إلا بقدر ما أعطاها من القدرة فالجملة تنفي الحرج من التكاليف الإلهية ومنها إنفاق المطلقة.
وقوله: { سيجعل الله بعد عسر يسراً } فيه بشرى وتسلية.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت سورة النساء القصرى بعد التي في البقرة بسبع سنين.
أقول: سورة النساء القصرى هي سورة الطلاق.
وفيه أخرج مالك والشافعي وعبد الرزاق في المصنف وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وأبو يعلى وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتغيظ فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال: ليراجعها ثم يمسها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهراً قبل أن يمسها فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء، وقرأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم: { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهنَّ في قبل عدتهن }.
أقول: قوله: "في قبل عدتهن" قراءة ابن عمر وما في المصحف { لعدتهن }.
وفيه أخرج ابن المنذر عن ابن سيرين في قوله: { لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً } قال: في حفصة بنت عمر طلقها النبي صلى الله عليه وآله وسلم واحدة فنزلت { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } إلى قوله { يحدث بعد ذلك أمراً } قال: فراجعها.
وفي الكافي بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: كل طلاق لا يكون على السنة أو على العدة فليس بشيء. قال زرارة فقلت لأبي جعفر عليه السلام: فسر لي طلاق السنة وطلاق العدة فقال: أما طلاق السنة فإذا أراد الرجل أن يطلق امرأته فينتظر بها حتى تطمث وتطهر فإذا خرجت من طمثها طلقها تطليقة من غير جماع ويشهد شاهدين على ذلك ثم يدعها حتى تطمث طمثين فتنقضي عدتها بثلاث حيض وقد بانت منه ويكون خاطباً من الخطاب إن شاءت تزوجته وإن شاءت لم تتزوجه، وعليه نفقتها والسكنى ما دامت في مدتها، وهما يتوارثان حتى تنقضي العدة.
قال: وأما طلاق العدة الذي قال الله تعالى: { فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة } فإذا أراد الرجل منكم أن يطلق امرأته طلاق العدة فلينتظر بها حتى تحيض وتخرج من حيضتها ثم يطلقها تطليقة من غير جماع ويشهد شاهدين عدلين ويراجعها من يومه ذلك إن أحب أو بعد ذلك بأيام قبل أن تحيض ويشهد على رجعتها ويواقعها وتكون معه حتى تحيض فإذا حاضت وخرجت من حيضها طلقها تطليقة أخرى من غير جماع ويشهد على ذلك ثم يراجعها أيضاً متى شاء قبل أن تحيض ويشهد على رجعتها ويواقعها وتكون معه إلى أن تحيض الحيضة الثالثة فإذا خرجت من حيضتها الثالثة طلقها التطليقة الثالثة بغير جماع ويشهد على ذلك فإذا فعل ذلك فقد بانت منه ولا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره.
قيل له: فإن كانت ممن لا تحيض؟ قال: مثل هذه تطلق طلاق السنة.
وفي قرب الاسناد بإسناده عن صفوان قال: سمعت يعني أبا عبد الله وجاء رجل فسأله فقال: إني طلقت امرأتي ثلاثاً في مجلس فقال: ليس بشيء. ثم قال: أما تقرأ كتاب الله تعالى { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة }.
ثم قال: ألا تدري { لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً } ثم قال: كلما خالف كتاب الله والسنة فهو يردَّ إلى كتاب الله والسنة.
وفي تفسير القمي في معنى قوله: { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } قال: لا يحل لرجل أن يخرج امرأته إذا طلقها - وكان له عليها رجعة - من بيته وهي لا تحل لها أن تخرج من بيته إلا أن يأتين بفاحشة مبينة.
ومعنى الفاحشة أن تزني أو تسرق على الرجل، ومن الفاحشة أيضاً السلاطة على زوجها فإن فعلت شيئاً من ذلك حل له أن يخرجها.
وفي الكافي بإسناده عن وهب بن حفص عن أحدهما عليهما السلام في المطلقة تعتدُّ في بيتها، وتظهر له زينتها لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً.
أقول: وفي هذه المعاني ومعاني جمل الآيتين روايات أخرى عن أئمة أهل البيت عليهم السلام.
وفيه بإسناده عن معاوية بن وهب عن أبي عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من أُعطي ثلاثاً لم يمنع ثلاثاً: من أُعطي الدعاء أُعطي الإجابة، ومن أُعطي الشكر أُعطي الزيادة ومن أُعطي التوكل أُعطي الكفاية.
قال: أتلوت كتاب الله عز وجل؟ { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } وقال: { ولئن شكرتم لأزيدنكم } وقال: { ادعوني أستجب لكم }.
وفيه بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب } قال: في دنياه.
وفي الدر المنثور أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن سالم بن أبي الجعد قال: نزلت هذه الآية: { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً } في رجل من أشجع أصابه جهد وبلاء وكان العدو أسروا ابنه فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: اتق الله واصبر، فرجع ابن له كان أسيراً قد فكّه الله فأتاهم وقد أصاب أعنزاً فجاء فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هي لك.
وفيه أخرج أبو يعلى وأبو نعيم والديلمي من طريق عطاء بن يسار عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً } قال: من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة.
وفيه أخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أبي ذر قال: جعل رسول الله يتلو هذه الآية { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب } فجعل يرددها حتى نعست. ثم قال: يا أبا ذر لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم.
وفيه أخرج ابن أبي حاتم والطبراني والخطيب عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من انقطع إلى الله كفاه الله كل مؤنة ورزقه من حيث لا يحتسب ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها.
وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده، ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله.
أقول: وقد تقدم في ذيل الكلام على الآيات معنى هذه الروايات.
وفي الكافي بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: عدة المرأة التي لا تحيض والمستحاضة التي لا تطهر ثلاثة أشهر، وعدة التي تحيض ويستقيم حيضها ثلاثة قروء، وسألته عن قول الله عز وجل: { إن ارتبتم } ما الريبة؟ فقال: ما زاد على شهر فهو ريبة فلتعتد ثلاثة أشهر وليترك الحيض. الحديث.
وفيه بإسناده عن محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: عدة الحامل أن تضع حملها وعليه نفقتها بالمعروف حتى تضع حملها.
وفيه بإسناده عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا طلق الرجل المرأه وهي حبلى أنفق عليها حتى تضع حملها فإذا وضعته أعطاها أجرها ولا تضارها إلا أن يجد من هي أرخص أجراً منها فإن رضيت بذلك الأجر فهي أحق بابنها حتى تفطمه.
وفي الفقيه بإسناده عن ربعي بن عبد الله والفضيل بن يسار عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله عزّ وجل: { ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله } قال: إن أنفق عليها ما يقيم ظهرها مع الكسوة وإلا فرّق بينهما.
أقول: ورواه في الكافي بإسناده عن أبي بصير عنه عليه السلام.
وفي تفسير القمي في قوله: { وأُولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } قال: المطلقة الحامل أجلها أن تضع ما في بطنها إن وضعت يوم طلقها زوجها فلها أن تتزوج إذا طهرت، وإن تضع ما في بطنها إلى تسعة أشهر لم تتزوج إلا أن تضع.
وفي الكافي بإسناده عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي الحسن عليه السلام قال: سألته عن الحبلى إذا طلقها زوجها فوضعت سقطاً تمَّ أو لم يتمّ أو وضعته مضغة؟ قال: كل شيء وضعته يستبين أنه حمل تمَّ أو لم يتمّ فقد انقضت عدتها.
وفي الدر المنثور أخرج ابن المنذر عن مغيرة قال: قلت للشعبي: ما أُصدق أن علي بن أبي طالب كان يقول: عدة المتوفى عنها زوجها آخر الأجلين.
قال: بلى فصدق به كأشد ما صدَّقت بشيء كان علي يقول: إنما قوله: { وأُولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } في المطلقة.
وفيه أخرج عبد الرزاق عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن أبا عمرو بن حفص بن المغيرة خرج مع علي إلى اليمن فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من طلاقها، وأمر لها الحارث بن هشام وعباس بن أبي ربيعة بنفقة فاستقلتها فقالا لها والله ما لك نفقة إلا أن تكوني حاملاً فأتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت له أمرها فقال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا نفقة لك فاستأذنته في الانتقال فأذن لها.
فأرسل إليها مروان يسألها عن ذلك فحدثته فقال مروان: لم أسمع بهذا الحديث إلا من امرأة سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها فقالت فاطمة: بيني وبينكم كتاب الله قال الله عز وجل: { ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } حتى بلغ { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً } قالت: هذا لمن كانت له مراجعة فأي أمر يحدث بعد الثلاث؟ فكيف تقولون: لا نفقة إذا لم تكن حاملاً؟ فعلام تحبسونها؟
ولكن يتركها حتى إذا حاضت وطهرت طلقها تطليقة فإن كانت تحيض فعدتها ثلاث حيض، وإن كانت لا تحيض فعدتها ثلاثة أشهر، وإن كانت حاملاً فعدتها أن تضع حملها وإن أراد مراجعتها قبل أن تنقضي عدتها أشهد على ذلك رجلين كما قال الله: { وأشهدوا ذوي عدل منكم } عند الطلاق وعند المراجعة.
فإن راجعها فهي عنده على طلقتين وإن لم يراجعها فإذا انقضت عدتها فقد بانت عدتها منه بواحدة وهي أملك لنفسها ثم تتزوج من شاءت هو أو غيره.