التفاسير

< >
عرض

ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱمْرَأَتَ نُوحٍ وَٱمْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ٱدْخُلاَ ٱلنَّارَ مَعَ ٱلدَّاخِلِينَ
١٠
وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱمْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ٱبْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي ٱلْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ
١١
وَمَرْيَمَ ٱبْنَتَ عِمْرَانَ ٱلَّتِيۤ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ ٱلْقَانِتِينَ
١٢
-التحريم

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
تتضمن الآيات الكريمة مثَلين يمثل بهما الله سبحانه حال الكفار والمؤمنين في أن شقاء الكفار وهلاكهم إنما كان بخيانتهم لله ورسوله وكفرهم ولم ينفعهم اتصال بسبب إلى الأنبياء المكرمين، وأن سعادة المؤمنين وفلاحهم إنما كان بإخلاصهم الإيمان بالله ورسوله والقنوت وحسن الطاعة ولم يضرُّهم اتصال بأعداء الله بسبب فإنما ملاك الكرامة عند الله التقوى.
يمثل الحال أولاً: بحال امرأتين كانتا زوجين لنبيين كريمين عدّهما الله سبحانه عبدين صالحين - ويا له من كرامة - فخانتاهما فَأُمِرَتا بدخول النار مع الداخلين فلم ينفعهما زوجيتهما للنبيين الكريمين شيئاً فهلكتا في ضمن الهالكين من غير أدنى تميّز وكرامة.
وثانياً: بحال امرأتين إحداهما امرأة فرعون الذي كانت منزلته في الكفر بالله أن نادى في الناس فقال: أنا ربكم الأعلى، فآمنت بالله وأخلصت الإيمان فأنجاها الله وأدخلها الجنة ولم يضرّها زوجية مثل فرعون شيئاً، وثانيتهما مريم ابنة عمران الصدِّيقة القانتة أكرمها الله بكرامته ونفخ فيها من روحه.
وفي التمثيل تعريض ظاهر شديد لزوجي النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث خانتاه في إفشاء سرّه وتظاهرتا عليه وآذتاه بذلك، وخاصة من حيث التعبير بلفظ الكفر والخيانة وذكر الأمر بدخول النار.
قوله تعالى: { ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما } الخ، قال الراغب: الخيانة والنفاق واحد إلا أن الخيانة تقال اعتباراً بالعهد والأمانة، والنفاق يقال اعتباراً بالدين ثم يتداخلان فالخيانة مخالفة الحق بنقض العهد في السر ونقيض الخيانة الأمانة، يقال: خنت فلاناً وخنت أمانة فلان. انتهى.
وقوله: { للذين كفروا } إن كان متعلقاً بالمثل كان المعنى: ضرب الله مثلاً يمثل به حال الذين كفروا أنهم لا ينفعهم الاتصال بالعباد الصالحين، وإن كان متعلقاً بضرب كان المعنى: ضرب الله الامرأتين وما انتهت إليه حالهما مثلاً للذين كفروا ليعتبروا به ويعلموا أنهم لا ينفعهم الاتصال بالصالحين من عباده وأنهم بخيانتهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أهل النار لا محالة.
وقوله: { امرأة نوح وامرأة لوط } مفعول { ضرب }، والمراد بكونهما تحتهما زوجيتهما لهما.
وقوله: { فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً } ضمير التثنية الأولى للعبدين، والثانية للامرأتين، والمراد أنه لم ينفع المرأتين زوجيتهما للعبدين الصالحين.
وقوله: { وقيل ادخلا النار مع الداخلين } أي مع الداخلين فيها من قوميهما كما يلوح من قوله في امرأة نوح:
{ { حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول } [هود: 40]، وقوله في امرأة لوط: { { فأسرِ بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم } [هود: 81]، أو المعنى مع الداخلين فيها من الكفار.
وفي التعبير بقيل بالبناء للمفعول، وإطلاق الداخلين إشارة إلى هوان أمرهما وعدم كرامة لهما أصلاً فلم يبال بهما أين هلكتا.
قوله تعالى: { وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة } الكلام في قوله: { للذين آمنوا } كالكلام في قوله: { للذين كفروا }.
وقوله: { إذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة } لخص سبحانه جميع ما كانت تبتغيه في حياتها وترومه في مسير عبوديتها في مسألة سألت ربها وذلك أن الإيمان إذا كمل تواطأ الظاهر والباطن وتوافق القلب واللسان فلا يقول الإنسان إلا ما يفعل ولا يفعل إلا ما يقول فيكون ما يرجوه أو يتمناه أو يسأله بلسانه هو الذي يريده كذلك بعمله.
وإذ حكى الله فيما يمثل به حالها ويشير إلى منزلتها الخاصة في العبودية دعاء دعت به دل ذلك على أنه عنوان جامع لعبوديتها وعلى ذلك كانت تسير مدى حياتها، والذي تتضمنه مسألتها أن يبني الله لها عنده بيتاً في الجنة وينجيها من فرعون وعمله وينجيها من القوم الظالمين فقد اختارت جوار ربه والقرب منه على أن تكون أنيسة فرعون وعشيقته وهي ملكة مصر وآثرت بيتاً يبنيه لها ربها على بيت فرعون الذي فيه مما تشتهيه الأنفس وتتمناه القلوب ما تقف دونه الآمال فقد كانت عزفت نفسها ما هي فيه من زينة الحياة الدنيا وهي لها خاضعة وتعلقت بما عند ربه من الكرامة والزلفى فآمنت بالغيب واستقامت على إيمانها حتى قضت.
وهذه القدم هي التي قدمتها إلى أن جعلها الله مثلاً للذين آمنوا ولخص حالها وما كانت تبتغيه وتعمل له مدى حياتها في مسير العبودية في مسألة حكى عنها وما معناها إلا أنها انتزعت من كل ما يلهوها عن ربها ولاذت بربها تريد القرب منه تعالى والإقامة في دار كرامته.
فقوله: { امرأة فرعون } اسمها على ما في الرواية آسية، وقوله: { إذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة } الجمع بين كون البيت المبنى لها عند الله وفي الجنة لكون الجنة دار القرب من الله وجوار رب العالمين كما قال تعالى:
{ { بل أحياء عند ربهم يرزقون } [آل عمران: 169]. على أن الحضور عنده تعالى والقرب منه كرامة معنوية والاستقرار في الجنة كرامة صورية، وسؤال الجمع بينهما سؤال الجمع بين الكرامتين.
وقوله: { ونجني من فرعون وعمله } تبر منها وسؤال أن ينجيها الله من شخص فرعون ومن عمله الذي تدعو ضرورة المصاحبة والمعاشرة إلى الشركة فيه والتلبس به، وقيل: المراد بالعمل الجماع.
وقوله: { ونجني من القوم الظالمين } وهم قوم فرعون وهو تبرّ آخر وسؤال أن ينجيها الله من المجتمع العام كما أن الجملة السابقة كانت سؤال أن ينجيها من المجتمع الخاص.
قوله تعالى: { ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا } الخ، عطف على امرأة فرعون والتقدير وضرب الله مثلاً للذين آمنوا مريم الخ.
ضربها الله مثلاً باسمها وأثنى عليها ولم يذكر في كلامه تعالى امرأة باسمها غيرها ذكر اسمها في القرآن في بضع وثلاثين موضعاً في نيف وعشرين سورة.
وقوله: { التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا } ثناء عليها على عفتها، وقد تكرر في القرآن ذكر ذلك ولعل ذلك بإزاء ما افتعله اليهود من البهتان عليها كما قال تعالى:
{ وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً } [النساء: 156]، وفي سورة الأنبياء في مثل القصة:{ والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها } [الأنبياء: 91]. وقوله: { وصدقت بكلمات ربها } أي بما تكلم به الله سبحانه من الوحي إلى أنبيائه كما قيل، وقيل: المراد بها وعده تعالى ووعيده وأمره ونهيه، وفيه أنه يستلزم كون ذكر الكتب مستدركاً.
وقوله: { وكتبه } وهي المشتملة على شرائع الله المنزلة من السماء كالتوراة والإنجيل كما هو مصطلح القرآن ولعل المراد من تصديقها كلمات ربها وكتبه كونها صديقة كما في قوله تعالى:
{ { ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأُمه صديقة } [المائدة: 75]. وقوله: { وكانت من القانتين } أي من القوم المطيعين لله الخاضعين له الدائمين عليه غلب فيه المذكر على المؤنث.
ويؤيد هذا المعنى كون القنوت بهذا المعنى واقعاً فيما حكى الله من نداء الملائكة لها
{ { يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين } [آل عمران: 43]، وقيل: يجوز أن يراد بالقانتين رهطها وعشيرتها الذين كانت مريم منهم وكانوا أهل بيت صلاح وطاعة، وهو بعيد لما تقدم.
على أن المناسب لكون المثل تعريضاً لزوجي النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يراد بالقانتين مطلق أهل الطاعة والخضوع لله تعالى.
(بحث روائي)
في تفسير البرهان عن شرف الدين النجفي رفعه عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال قوله تعالى: { ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط } الآية مثل ضربه الله لعائشة وحفصة أن تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأفشتا سره.
وفي المجمع: عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع: آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد والطبراني والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: قال رسول الله: أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون مع ما قص الله علينا من خبرهما في القرآن { قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة }.
وفيه أخرج الطبراني عن سعد بن جنادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"إن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران وامرأة فرعون وأُخت موسى"
]. أقول: وامرأة فرعون على ما وردت به الروايات مقتولة قتلها زوجها فرعون لما اطلع أنها آمنت بالله وحده، وقد اختلفت الروايات في كيفية قتلها.
ففي بعضها أنه لما اطلع على إيمانها كلفها الرجوع إلى الكفر فأبت إلا الإيمان فأمر بها أن ترمى عليها بصخرة عظيمة حتى ترضح تحتها ففعل بها ذلك.
وفي بعضها لما أُحضرت للعذاب دعت بما حكى الله عنها في كلامة من قولها: { ربِّ ابن لي عندك بيتاً في الجنة } الخ، فاستجاب الله لها ورأت بيتها في الجنة وانتزعت منها الروح وأُلقيت الصخرة على جسد ليس فيه روح.
وفي بعضها أن فرعون وتد لها أربعة أوتاد وأضجعها على صدرها وجعل على صدرها رحى واستقبل بها عين الشمس. والله أعلم.