التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ ذَلُولاً فَٱمْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ
١٥
ءَأَمِنتُمْ مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ
١٦
أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ
١٧
وَلَقَدْ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ
١٨
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى ٱلطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَـٰفَّـٰتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱلرَّحْمَـٰنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ
١٩
أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنِ ٱلْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ
٢٠
أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّواْ فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ
٢١
أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
٢٢
-الملك

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
في الآيات كرَّة بعد كرَّة بآيات التدبير الدالَّة على ربوبيته تعالى مقرونة بالإِنذار والتخويف أعني قوله: { هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً } الآية، وقوله: { أولم يروا إلى الطير } الآية بعد قوله: { الذي خلق الموت والحياة } الآية، وقوله: { الذي خلق سبع سماوات } الآية، وقوله: { ولقد زيَّنا } الآية.
قوله تعالى: { هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور } الذلول من المراكب ما يسهل ركوبه من غير أن يضطرب ويجمح والمناكب جمع منكب وهو مجتمع ما بين العضد والكتف واستعير لسطح الأرض، قال الراغب: واستعارته للأرض كاستعارة الظهر لها في قوله: { ما ترك على ظهرها من دابة } وتسمية الأرض ذلولاً وجعل ظهورها مناكب لها يستقر عليها ويمشي فيها باعتبار انقيادها لأنواع التصرفات الإنسانية من غير امتناع، وقد وجّه كونها ذلولاً ذا مناكب بوجوه مختلفة تؤول جميعها إلى ما ذكرنا.
والأمر في قوله: { وكلوا من رزقه } للإباحة والنشور والنشر إحياء الميت بعد موته وأصله من نشر الصحيفة والثوب إذا بسطهما بعد طيّهما.
والمعنى: هو الذي جعل الأرض مطاوعة منقادة لكم يمكنكم أن تستقروا على ظهورها وتمشوا فيها تأكلون من رزقه الذي قدّره لكم بأنواع الطلب والتصرف فيها.
وقوله: { وإليه النشور } أي ويرجع إليه نشر الأموات بإخراجهم من الأرض وإحيائهم للحساب والجزاء، واختصاص رجوع النشر به كناية عن اختصاص الحكم بالنشور به والإحياء يوم القيامة فهو ربكم المدبّر لأمر حياتكم الدنيا بالإقرار على الأرض والهداية إلى مآرب الحياة، وله الحكم بالنشور للحساب والجزاء.
وفي عدّ الأرض ذلولاً والبشر على مناكبها تلويح ظاهر إلى ما أدَّت إليه الأبحاث العلمية أخيراً من كون الأرض كرة سيَّارة.
قوله تعالى: { ءأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور } إنذار وتخويف بعد إقامة الحجة وتوبيخ على مساهلتهم في أمر الربوبية وإهمالهم أمر الشكر على نعم ربهم بالخضوع لربوبيته ورفض ما اختلقوه من الأنداد.
والمراد بمن في السماء الملائكة المقيمون فيها الموكلون على حوادث الكون وإرجاع ضمير الإفراد إلى { من } باعتبار لفظه وخسف الأرض بقوم كذا شقها وتغييبهم في بطنها والمور على ما في المجمع التردد في الذهاب والمجيء مثل الموج.
والمعنى: ءأمنتم في كفركم بربوبيته تعالى الملائكة المقيمين في السماء الموكلين بأمور العالم أن يشقوا الأرض ويغيّبوكم فيها بأمر الله فإذا الأرض تضطرب ذهاباً ومجيئاً بزلزالها.
وقيل: المراد بمن في السماء هو الله سبحانه والمراد بكونه في السماء كون سلطانه وتدبيره وأمره فيها لاستحالة أن يكون تعالى في مكان أو جهة أو محاطاً بعالم من العوالم، وهذا المعنى وإن كان لا بأس به لكنه خلاف الظاهر.
قوله تعالى: { أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً فستعلمون كيف نذير } الحاصب الريح التي تأتي بالحصاة والحجارة، والمعنى: ءأمنتم من في السماء أن يرسل عليكم ريحاً ذات حصاة وحجارة كما أرسلها على قوم لوط قال تعالى:
{ { إنا أرسلنا عليهم حاصباً إلا آل لوط } [القمر: 34]. وقوله: { فستعلمون كيف نذير } النذير مصدر بمعنى الإنذار والجملة متفرعة على ما يفهم من سابق الكلام من كفرهم بربوبيته تعالى وأمنهم من عذابه والمعنى ظاهر.
وقيل: النذير صفة بمعنى المنذر والمراد به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو سخيف.
قوله تعالى: { ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير } المراد بالنكير العقوبة وتغيير النعمة أو الإنكار، والآية كالشاهد يستشهد به على صدق ما في قوله: { فستعلمون كيف نذير } من الوعيد والتهديد.
والمعنى: ولقد كذب الذين من قبلهم من الأمم الهالكة رسلي وجحدوا بربوبيتي فكيف كان عقوبتي وتغييري النعمة عليهم أو كيف كان إنكاري ذلك عليهم حيث أهلكتهم واستأصلتهم.
وفي الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله: { من قبلهم } إشعاراً بسقوطهم - لجهالتهم وإهمالهم في التدبر في آيات الربوبية وعدم مخافتهم من سخط ربهم - عن تشريف الخطاب فأعرض عن مخاطبتهم فيما يلقى إليهم من المعارف إلى خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله تعالى: { أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير } المراد بكون الطير فوقهم طيرانه في الهواء، وصفيف الطير بسطه جناحه حال الطيران وقبضه قبض جناحه حاله، والجمع في { صافات ويقبضن } لكون المراد بالطير استغراق الجنس.
وقوله: { ما يمسكهن إلا الرحمن } كالجواب لسؤال مقدّر كأن سائلاً يسأل فيقول: ما هو المراد بإلفات نظرهم إلى صفيف الطير وقبضه فوقهم؟ فأجيب بقوله: { ما يمسكهن إلا الرحمن }.
وقرار الطير حال الطيران في الهواء من غير سقوط وإن كان مستنداً إلى أسباب طبيعية كقرار الإنسان على بسيط الأرض والسمك في الماء وسائر الأمور الطبيعية المستندة إلى علل طبيعية تنتهي إليه تعالى لكن لما كان بعض الحوادث غير ظاهر السبب للإنسان في بادي النظر سهل له إذا نظر إليه أن ينتقل إلى أن الله سبحانه هو السبب الأعلى الذي ينتهي إليه حدوثه ووجوده، ولذا نبههم الله سبحانه في كلامه بإرجاع نظرهم إليها ودلالتهم على وحدانيته في الربوبية.
وقد ورد في كلامه تعالى شيء كثير من هذا القبيل كامساك السماوات بغير عمد وإمساك الأرض وحفظ السفن على الماء واختلاف الأثمار والألوان والألسنة وغيرها مما كان سببه الطبيعي القريب خفياً في الجملة يسهل للذهن الساذج الانتقال إلى استناده إليه تعالى ثم إذا تنبه لوجود أسبابه القريبة بنوع من المجاهدة الفكرية وجد الحاجة بعينها في أسبابه حتى تنتهي إليه تعالى وأن إلى ربك المنتهى.
قال في الكشاف: فإن قلت: لم قيل: ويقبضن ولم يقل: وقابضات؟ قلت: لأن الأصل في الطيران هو صف الأجنحة لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء والأصل في السباحة هو مد الأطراف وبسطها وأما القبض فطارئ على البسط للاستظهار به على التحرك فجيء بما هو طار غير أصل بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات ويكون منهن القبض تارة كما يكون من السابح. انتهى.
وهو مبني على أن تكون الآية هي مجموع قوله: { صافات ويقبضن } وهو الطيران، ويمكن أن يستفاد أن الآية عدم سقوطهن وهن صافات، وآية أُخرى أنهن ربما يقبضن ولا يسقطن حينما يقبضن.
ولا يخفى ما في ذكر طيران الطير في الهواء بعد ذكر جعل الأرض ذلولاً والإنسان على مناكبها من اللطف.
قوله تعالى: { أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور } توبيخ وتقريع لهم في اتخاذهم آلهة من دون الله لينصروهم ولذا التفت عن الغيبة إلى الخطاب فخاطبهم ليشتد عليهم التقريع.
وقوله: { أمن هذا الذي } الخ، معناه بل من الذي يشار إليه فيقال: هذا جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن أرادكم بسوء أو عذاب؟ فليس دون الله من ينصركم عليه، وفيه إشارة إلى خطأهم في اتخاذ بعض خلق الله آلهة لينصروهم في النوائب وهم مملوكون لله لا يملكون لأنفسهم نفعاً وضراً ولا لغيرهم.
وإذ لم يكن لهم جواب أجاب تعالى بقوله: { إن الكافرون إلا في غرور } أي أحاط بهم الغرور وغشيهم فخيل إليهم ما يدعون من أُلوهية آلهتهم.
قوله تعالى: { أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتوّ ونفور } أي بل من الذي يشار إليه بأن هذا هو الذي يرزقكم إن أمسك الله رزقه فينوب مقامه فيرزقكم؟ ثم أجاب سبحانه بقوله: { بل لجوا في عتو ونفور } أي إن الحق قد تبين لهم لكنهم لا يخضعون للحق بتصديقه ثم اتباعه بل تمادوا في ابتعادهم من الحقّ ونفورهم منه، ولجوا في ذلك.
قوله تعالى: { أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أم من يمشي سوياً على صراط مستقيم } إكباب الشيء على وجهه إسقاطه عليه، وقال في الكشاف: معنى أكبّ دخل في الكب وصار ذا كب.
استفهام إنكاري عن استواء الحالين تعريضاً لهم بعد ضرب حجاب الغيبة عليهم وتحريمهم من تشريف الحضور والخطاب بعد استقرار اللجاج فيهم، والمراد أنهم بلجاجهم في عتو عجيب ونفور من الحق كمن يسلك سبيلاً وهو مكب على وجه لا يرى ما في الطريق من ارتفاع وانخفاض ومزالق ومعاثر فليس هذا السائر كمن يمشي سوياً على صراط مستقيم فيرى موضع قدمه وما يواجهه من الطريق على استقامة، وما يقصده من الغاية وهؤلاء الكفار سائرون سبيل الحياة وهم يعاندون الحق على علم به فيغمضون عن معرفة ما عليهم أن يعرفوه والعمل بما عليهم أن يعملوا به ولا يخضعون للحق حتى يكونوا على بصيرة من الأمر ويسلكوا سبيل الحياة وهم مستوون على صراط مستقيم فيأمنوا الهلاك.
وقد ظهر أن ما في الآية مثل عام يمثل حال الكافر الجاهل اللجوج المتمادي على جهله والمؤمن المستبصر الباحث عن الحق.
(بحث روائي)
في الكافي بإسناده عن سعد عن أبي جعفر عليه السلام قال: القلب أربعة: قلب فيه نفاق وإيمان، وقلب منكوس، وقلب مطبوع، وقلب أزهر. فقلت: ما الأزهر، قال: فيه كهيئة السراج.
فأما المطبوع فقلب المنافق، وأما الأزهر فقلب المؤمن إن أعطاه شكر وإن ابتلاه صبر، وأما المنكوس فقلب المشرك ثم قرأ هذه الآية { أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أم من يمشي سوياً على صراط مستقيم } فأما القلب الذي فيه إيمان ونفاق فقوم كانوا بالطائف فإن أدرك أحدهم أجله على نفاقه هلك وإن أدركه على إيمانه نجى.
أقول: ورواه في تفسير البرهان عن ابن بابويه بإسناده عن الفضيل عن سعد الخفاف عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن القلوب أربعة، وساق الحديث إلى آخره إلا أن فيه: وقلب أزهر أنور.
وقوله: "فهم قوم كانوا بالطائف" المراد به الطائف الشيطاني الذي ربما يمس الإنسان قال تعالى:
{ { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } [الأعراف: 201]، فالمعنى أنهم يعيشون مع طائف شيطاني يمسهم حيناً بعد حين فإن أدركهم الأجل والطائف معهم هلكوا وإن أدركهم وهم في حال الإيمان نجوا.
واعلم أن هناك روايات تطبق قوله: { أفمن يمشي مكباً على وجهه } الآية على من حاد عن ولاية علي عليه السلام ومن يتبعه ويواليه، وهي من الجري والله أعلم.