التفاسير

< >
عرض

قُلْ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ
٢٣
قُلْ هُوَ ٱلَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
٢٤
وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٢٥
قُلْ إِنَّمَا ٱلْعِلْمُ عِنْدَ ٱللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
٢٦
فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَقِيلَ هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ
٢٧
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ ٱللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ ٱلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ
٢٨
قُلْ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٢٩
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ
٣٠
-الملك

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
آيات أُخر يذكرهم الله تعالى بها دالَّة على وحدانيته تعالى في الخلق والتدبير مقرونة بالإنذار والتخويف، جارية على غرض السورة وهو التذكرة بالوحدانية مع الإنذار غير أنه تعالى لما أشار إلى لجاجهم وعنادهم للحق في قوله السابق: { بل لجّوا في عتوّ ونفور } غيَّر السياق بالإعراض عن خطابهم والالتفات إلى خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمره أن يتصدّى لخطابهم ويقرع أسماعهم آياته في الخلق والتدبير الدالة على توحده في الربوبية وإنذارهم بعذاب الله، وذلك قوله: { قل هو الذي أنشأكم } الخ، { قل هو الذي ذرأكم } الخ، { قل إنما العلم } الخ، { قل أرأيتم إن أهلكني الله } الخ، { قل هو الرحمن } الخ، { قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً } الخ.
قوله تعالى: { قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون } الإنشاء إحداث الشيء ابتداءً وتربيته.
ما في ذيل الآية من لحن العتاب في قوله: { قليلاً مَّا تشكرون } وقد تكرَّر نظيره في غير موضع من كلامه كما في سورة المؤمنون وألم السجدة يدلّ على أن إنشاءه تعالى الإنسان وتجهيزه بجهاز الحس والفكر من أعظم نعمه تعالى التي لا يقدّر قدرها.
وليس المراد بإنشائه مجرد خلقه كيفما كان بل خلقه وإحداثه من دون سابقة في مادته كما أشار إليه في قوله يصف خلقه طوراً بعد طور: { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة } إلى أن قال
{ { ثم أنشأناه خلقاً آخر } [المؤمنون: 14]، فصيرورة المضغة إنساناً سميعاً بصيراً متفكراً بتركيب النفس الإنسانية عليها خلق آخر لا يسانخ أنواع الخلقة المادية الواردة على مادة الإنسان من أخذها من الأرض ثم جعلها نطفة ثم علقة ثم مضغة فإنما هي أطوار مادية متعاقبة بخلاف صيرورتها إنساناً ذا شعور فلا سابقة لها تماثلها أو تشابهها فهو الإنشاء.
ومثله قوله:
{ { ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون } [الروم: 20] (انظر إلى موضع إذا الفجائية).
فقوله: { هو الذي أنشأكم } إشارة إلى خلق الإنسان.
وقوله: { وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة } إشارة إلى تجهيزه بجهاز الحسّ والفكر، والجعل إنشائي كجعل نفس الإنسان كما يشير إليه قوله:
{ { وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون } [المؤمنون: 78]. فالإنسان بخصوصية إنشائه وكونه بحيث يسمع ويبصر يمتاز من الجماد والنبات - والاقتصار بالسمع والبصر من سائر الحواس كاللمس والذوق والشم لكونهما العمدة ولا يبعد أن يكون المراد بالسمع والبصر مطلق الحواس الظاهرة من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل - وبالفؤاد وهو النفس المتفكرة يمتاز من سائر الحيوان.
وقوله: { قليلاً ما تشكرون } أي تشكرون قليلاً على هذه النعمة - أو النعم - العظمى فما زائدة وقليلاً مفعول مطلق تقديره تشكرون شكراً قليلاً، وقيل: ما مصدرية والمعنى: قليلاً شكركم.
قوله تعالى: { قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون } الذرء الخلق والمراد بذرئهم في الأرض خلقهم متعلقين بالأرض فلا يتم لهم كمالهم إلا بأعمال متعلقة بالمادة الأرضية بما زينها الله تعالى بما تنجذب إليه النفس الإنسانية في حياتها المعجلة ليمتاز به الصالح من الطالح قال تعالى:
{ { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً } [الكهف: 7-8]. وقوله: { وإليه تحشرون } إشارة إلى البعث والجزاء ووعد جازم.
قوله تعالى: { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } المراد بهذا الوعد الحشر الموعود، وهو استعجال منهم استهزاء.
قوله تعالى: { قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين } جواب عن قولهم: { متى هذا الوعد } الخ، ومحصله أن العلم به عند الله لا يعلم به إلا هو كما قال:
{ { لا يجليها لوقتها إلا هو } [الأعراف: 187]، وليس لي إلا أني نذير مبين أُمرت أن أُخبركم أنكم إليه تحشرون وأما أنه متى هو فليس لي بذلك علم.
هذا على ما يفيده وقوع الآية في سياق الجواب عن السؤال عن وقت الحشر، وعلى هذا تكون اللام في العلم للعهد، والمراد العلم بوقت الحشر، وأما لو كانت للجنس على ما تفيده جملة { إنما العلم عند الله } في نفسها فالمعنى: إنما حقيقة العلم عند الله ولا يحاط بشيء منه إلا بإذنه كما قال:
{ { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } [البقرة: 255]، ولم يشأ أن أعلم من ذلك إلا أنه سيقع وأُنذركم به وأما أنه متى يقع فلا علم لي به.
قوله تعالى: { فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا } الخ، الزلفة القرب والمراد به القريب أو هو من باب زيد عدل، وضمير { رأوه } للوعد وقيل للعذاب والمعنى: فلما رأوا الوعد المذكور قريباً قد أشرف عليهم ساء ذلك وجوه الذين كفروا به فظهر في سيماهم أثر الخيبة والخسران.
وقوله: { وقيل هذا الذي كنتم به تدعون } قيل تدعون وتدّعون بمعنى واحد كتدخرون وتدخرون والمعنى: وقيل لهم: هذا هو الوعد الذي كنتم تسألونه وتستعجلون به بقولكم: متى هذا الوعد، وظاهر السياق أن القائل هم الملائكة بأمر من الله، وقيل القائل من الكفار يقوله بعضهم لبعض.
قوله تعالى: { قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم } { إن } شرطية شرطها قوله: { أهلكني الله } وجزاؤها قوله: { فمن يجير } الخ، والمعنى: قل لهم أخبروني إن أهلكني الله ومن معي من المؤمنين أو رحمنا فلم يهلكنا فمن الذي يجير ويعيد الكافرين - وهم أنتم كفرتم بالله فاستحققتم أليم العذاب - من عذاب أليم يهددهم تهديداً قاطعاً أي إن هلاكي ومن معي وبقاؤنا برحمة ربي لا ينفعكم شيئاً في العذاب الذي سيصيبكم قطعاً بكفركم بالله.
قيل: إن كفار مكة كانوا يدعون على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى المؤمنين بالهلاك فأمر صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول لهم إن أهلكنا الله تعالى أو أبقانا فأمرنا إلى الله ونرجو الخير من رحمته وأما أنتم فما تصنعون؟ من يجيركم من أليم العذاب على كفركم بالله؟
قوله تعالى: { قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين } الضمير للذي يدعو إلى توحيده وهم يدعونه عليه، والمعنى: قل الذي أدعوكم إلى توحيده وتدعونه علي وعلى من معي هو الرحمن الذي عمت نعمته كل شيء آمنا به وعليه توكلنا من غير أن نميل ونعتمد على شيء دونه فستعلمون أيها الكفار من هو في ضلال مبين؟ نحن أم أنتم؟
قال في الكشاف: فإن قيل: لمَ أُخِّر مفعول { آمنَّا } وقُدِّم مفعول { توكلنا }؟ قلت: لوقوع آمنَّا تعريضاً بالكافرين حين ورد عقيب ذكرهم كأنه قيل: آمنَّا ولم نكفر كما كفرتم، ثم قال: وعليه توكلنا خصوصاً لم نتَّكل على ما أنتم متكلون عليه من رجالكم وأموالكم.
قوله تعالى: { قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين } الغور ذهاب الماء ونضوبه في الأرض والمراد به الغائر، والمعين الظاهر الجاري من الماء، والمعنى: أخبروني إن صار ماؤكم غائراً ناضباً في الأرض فمن يأتيكم بماء ظاهر جار.
وهناك روايات تطبّق الآيات على ولاية علي عليه السلام ومحادَّته، وهي من الجري وليست بمفسّرة.