التفاسير

< >
عرض

تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١
ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ
٢
ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ
٣
ثُمَّ ٱرجِعِ ٱلبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ ٱلبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ
٤
وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَٰبِيحَ وَجَعَلْنَٰهَا رُجُوماً لِّلشَّيَٰطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ
٥
وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ
٦
إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ
٧
تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ
٨
قَالُواْ بَلَىٰ قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ
٩
وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِيۤ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ
١٠
فَٱعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ
١١
إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِٱلْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ
١٢
وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ ٱجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
١٣
أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ
١٤
-الملك

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
غرض السورة بيان عموم ربوبيته تعالى للعالمين تجاه قول الوثنية إن لكل شطر من العالم رباً من الملائكة وغيرهم وإنه تعالى رب الأرباب فقط.
ولذا يعد سبحانه كثيراً من نعمه في الخلق والتدبير - وهو في معنى الاحتجاج على ربوبيته - ويفتتح الكلام بتباركه وهو كثرة صدور البركات عنه، ويكرر توصيفه بالرحمن وهو مبالغة في الرحمة التي هي العطية قبال الاستدعاء فقراً وفيها إنذار ينتهي إلى ذكر الحشر والبعث.
وتتلخص مضامين آياتها في الدعوة إلى توحيد الربوبية والقول بالمعاد.
والسورة مكية بشهادة سياق آياتها.
قوله تعالى: { تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير } تبارك الشيء كثرة صدور الخيرات والبركات عنه.
وقوله: { الذي بيده الملك } يشمل باطلاقه كل ملك، وجعل الملك في يده استعارة بالكناية عن كمال تسلطه عليه وكونه متصرفاً فيه كيف يشاء كما يتصرف ذو اليد فيما بيده ويقلبه كيف يشاء فهو تعالى يملك بنفسه كل شيء من جميع جهاته، ويملك ما يملكه كل شيء.
فتوصيفه تعالى بالذي بيده الملك أوسع من توصيفه بالمليك في قوله:
{ { عند مليك مقتدر } [القمر: 55]، وأصرح وآكد من توصيفه في قوله: { { له الملك } [التغابن: 1]. وقوله: { وهو على كل شيء قدير } إشارة إلى كون قدرته غير محدودة بحد ولا منتهية إلى نهاية وهو لازم إطلاق الملك بحسب السياق، وإن كان إطلاق الملك وهو من صفات الفعل من لوازم إطلاق القدرة وهي من صفات الذات.
وفي الآية مع ذلك إيماء إلى الحجة على إمكان ما سيأتي من أمر المعاد.
قوله تعالى: { الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور } الحياة كون الشيء بحيث يشعر ويريد، والموت عدم ذلك لكن الموت على ما يظهر من تعليم القرآن انتقال من نشأة من نشآت الحياة إلى نشأة أخرى كما تقدم استفادة ذلك من قوله تعالى: { نحن قدّرنا بينكم الموت } إلى قوله
{ { فيما لا تعلمون } [الواقعة: 61]، فلا مانع من تعلق الخلق بالموت كالحياة.
على أنه لو أُخذ عدمياً كما عند العرف فهو عدم ملكة الحياة وله حظ من الوجود يصحح تعلق الخلق به كالعمى من البصر والظلمة من النور.
وقوله: { ليبلوكم أيكم أحسن عملاً } غاية لخلقه تعالى الموت والحياة، والبلاء الامتحان والمراد أن خلقكم هذا النوع من الخلق وهو أنكم تحيون ثم تموتون خلق مقدميّ امتحاني يمتاز به منكم من هو أحسن عملاً من غيره ومن المعلوم أن الامتحان والتمييز لا يكون إلا لأمر ما يستقبلكم بعد ذلك وهو جزاء كل بحسب عمله.
وفي الكلام مع ذلك إشارة إلى أن المقصود بالذات من الخلقة هو إيصال الخير من الجزاء حيث ذكر حسن العمل وامتياز من جاء بأحسنه فالمحسنون عملاً هم المقصودون بالخلقة وغيرهم مقصودون لأجلهم.
وقد ذيل الكلام بقوله: { وهو العزيز الغفور } فهو العزيز لأن الملك والقدرة المطلقين له وحده فلا يغلبه غالب وما أقدر أحداً على مخالفته إلا بلاء وامتحاناً وسينتقم منهم وهو الغفور لأنه يعفو عن كثير من سيئاتهم في الدنيا وسيغفر كثيراً منها في الآخرة كما وعد.
وفي التذييل بالاسمين مع ذلك تخويف وتطميع على ما يدعو إلى ذلك سياق الدعوة.
واعلم أن مضمون الآية ليس مجرد دعوى خالية عن الحجة يراد به التلقين كما ربما يتوهم بل هي مقدمة قريبة من الضرورة - أو هي ضرورية - تستدعي الحكم بضرورة البعث للجزاء فإن الإنسان المتلبس بهذه الحياة الدنيوية الملحوقة للموت لا يخلو من أن يحصل له وصف حسن العمل أو خلافه وهو مجهز بحسب الفطرة بما لولا عروض عارض السوء لساقه إلى حسن العمل، وقلما يخلو إنسان من حصول أحد الوصفين كالأطفال ومن في حكمهم.
والوصف الحاصل المترتب على وجود الشيء الساري في أغلب أفراده غاية في وجوده مقصودة في إيجاده فكما أن الحياة النباتية لشجرة كذا إذ كانت تؤدي في الغالب إلى إثمارها ثمرة كذا يعد ذلك غاية لوجودها مقصودة منها كذلك حسن العمل والصلاح غاية لخلق الإنسان، ومن المعلوم أيضاً أن الصلاح وحسن العمل لو كان مطلوباً لكان مطلوباً لغيره لا لنفسه، والمطلوب بالذات الحياة الطيبة التي لا يشوبها نقص ولا يعرضها لغو ولا تأثيم فالآية في معنى قوله:
{ { كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة } [الأنبياء: 35]. قوله تعالى: { الذي خلق سبع سماوات طباقاً } الخ، أي مطابقة بعضها فوق بعض أو بعضها يشبه البعض - على ما احتمل - وقد مرَّ في تفسير حم السجدة بعض ما يمكننا من القول فيها.
وقوله: { ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت } قال الراغب: الفوت بعد الشيء عن الإنسان بحيث يتعذر إدراكه، قال تعالى: { وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار }. قال: والتفاوت الاختلاف في الأوصاف كأنه يفوت وصف أحدهما الآخر أو وصف كل واحد منهما الآخر، قال تعالى: { ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت } أي ليس فيها ما يخرج عن مقتضى الحكمة. انتهى.
فالمراد بنفي التفاوت اتصال التدبير وارتباط الأشياء بعضها ببعض من حيث الغايات والمنافع المترتبة على تفاعل بعضها في بعض، فاصطكاك الأسباب المختلفة في الخلقة وتنازعها كتشاجر كفتي الميزان وتصارعهما بالثقل والخفة والارتفاع والانخفاض فإنهما في عين أنهما تختلفان تتفقان في إعانة من بيده الميزان فيما يريده من تشخيص وزن السلعة الموزونة.
فقد رتب الله أجزاء الخلقة بحيث يؤدي إلى مقاصدها من غير أن يفوّت بعضها غرض بعض أو يفوت من بعضها الوصف اللازم فيه لحصول الغاية المطلوبة.
والخطاب في { ما ترى } خطاب عام لكل من يمكنه الرؤية وفي إضافة الخلق إلى الرحمن إشارة إلى أن الغاية منه هي الرحمة العامة، وتنكير { تفاوت } وهو في سياق النفي وإدخال { من } عليه لإفادة العموم.
وقوله: { فارجع البصر هل ترى من فطور } الفطور الاختلال والوهي، والمراد بإرجاع البصر النظر ثانياً وهو كناية عن المداقَّة في النظر والإمعان فيه.
قوله تعالى: { ثم ارجع البصر كرَّتين ينقلب اليك البصر خاسئاً وهو حسير } الخاسئ من خسأ البصر إذا انقبض عن مهانة كما قال الراغب، وقال أيضاً: الخاسر المعيا لانكشاف قواه، ويقال للمعيا: حاسر ومحسور: أما الحاسر فتصور أنه بنفسه قد حسر قوَّته، وأما المحسور فتصور أن التعب قد حسره، وقوله عز وجل: { ينقلب اليك البصر خاسئاً وهو حسير } يصح أن يكون بمعنى حاسر وأن يكون بمعنى محسور. انتهى.
وقوله: { كرَّتين } الكرَّة الرجعة والمراد بالتثنية التكثير والتكرير، والمعنى: ثم ارجع البصر رجعة بعد رجعة أي رجعات كثيرة ينقلب اليك البصر منقبضة مهينة والحال أنه كليل معيا لم يجد فطوراً.
فقد أُشير في الآيتين إلى أن النظام الجاري في الكون نظام واحد متصل الأجزاء مرتبط الأبعاض.
قوله تعالى: { ولقد زيّنا السماء الدينا بمصابيح } إلى آخر الآية، المصابيح جمع مصباح وهو السراج سمّي الكواكب مصابيح لإنارتها وإضاءتها وقد تقدم كلام في ذلك في تفسير سورة حم السجدة.
وقوله: { وجعلناها رجوماً للشياطين } أي وجعلنا الكواكب التي زيَّنا بها السماء رجوماً يرجم بها من استرق السمع من الشياطين كما قال تعالى:
{ { إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين } [الحجر: 18]، وقال: { { إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب } [الصافات: 10]. قيل: إن الجملة دليل أن المراد بالكواكب المزينة بها السماء مجموع الكواكب الأصلية والشهب السماوية فإن الكواكب الأصلية لا تزول عن مستقرها والكواكب والنجم يطلقان على الشهب كما يطلقان على الأجرام الأصلية.
وقيل: تنفصل من الكواكب شهب تكون رجوماً للشياطين أما الكواكب أنفسها فليست تزول إلا أن يريد الله إفناءها.
وهذا الوجة أوفق للأنظار العلمية الحاضرة، وقد تقدم بعض الكلام في معنى رمي الشياطين بالشهب.
وقوله: { وأعتدنا لهم عذاب السعير } أي وهيأنا للشياطين وهم أشرار الجن عذاب النار المسعرة المشتعلة.
قوله تعالى: { وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير } لما أورد بعض آيات ربوبيته تعالى عقبها بالوعيد على من كفر بربوبيته على ما هو شأن هذه السورة من تداخل الحجج والوعيد والإنذار.
والمراد بالذين كفروا بربوبيته أعم من الوثنيين النافين لربوبيته لغير أربابهم القائلين بأنه تعالى رب الأرباب فقط، والنافين لها مطلقاً والمثبتين لربوبيته مع التفريق بينه وبين رسله كاليهود والنصارى حيث آمنوا ببعض رسله وكفروا ببعض.
والآية مع ذلك متصلة بقوله: { الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور } لما فيها من الإشارة إلى البعث والجزاء متصلة بما قبلها كالتعميم بعد التخصيص.
قوله تعالى: { إذا أُلقوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفور تكاد تميز من الغيظ } قال الراغب: الشهيق طول الزفير وهو رد النفس والزفير مده انتهى، والفوران كما في المجمع ارتفاع الغليان، والتميز: التقطع والتفرق، والغيظ: شدة الغضب، والمعنى: إذا طرح الكفار في جهنم سمعوا لها شهيقاً - أي تجذبهم إلى داخلها كما يجذب الهواء بالشهيق إلى داخل الصدر - وهي تغلي بهم فترفعهم وتخفضهم تكاد تتلاشى من شدة الغضب.
قوله تعالى: { كلما أُلقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير } لفوج - كما قاله الراغب - الجماعة المارة المسرعة، وفي قوله: { كلما أُلقي فيها فوج } إشارة إلى أن الكفار يلقون في النار جماعة جماعة كما يشير إليه قوله:
{ { وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً } [الزمر: 71]، وإنما يلقون كذلك بلحوق التابعين لمتبوعيهم في الضلال كما قال تعالى: { { ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم } [الأنفال: 37]، وقد تقدم بعض توضيحه في ذيل الآية من سورة الأنفال.
والخزنة جمع خازن وهو الحافظ على الشيء المدخر والمراد بهم الملائكة الموكلون على النار المدبرون لأنواع عذابها قال تعالى:
{ { عليها ملائكة غلاظ شداد } [التحريم: 6]، وقال: { وما أدراك ما سقر } [المدثر: 27] إلى أن قال { { عليها تسعة عشر وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة } [المدثر: 30-31]. والمعنى: كلما طرح في جهنم جماعة من جماعات الكفار المسوقين إليها سألهم الملائكة الموكلون على النار الحافظون لها - توبيخاً - ألم يأتكم نذر؟ وهو النبي المنذر.
قوله تعالى: { قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا } إلى آخر الآية حكاية جوابهم لسؤال الخزنة، وفيه تصديق أنهم قد جاءهم نذير فنسبوه إلى الكذب واعتراف.
وقوله: { ما نزّل الله من شيء } بيان لتكذيبهم، وكذا قوله: { إن أنتم إلا في ضلال كبير } وقيل: قوله: { إن أنتم } الخ، كلام الملائكة يخاطبون به الكفار بعد جوابهم عن سؤالهم بما أجابوا، وهو بعيد من السياق، وكذا احتمال كونه من كلام الرسل الذين كذبوهم تحكيه الملائكة لأولئك الكفار.
قوله تعالى: { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } يطلق السمع ويراد به إدراك الصوت والقول بالجارحة وربما يراد به ما هو الغاية منه عند العقلاء وهو الالتزام بمقتضاه من الفعل والترك، ويطلق العقل على تمييز الخير من الشر والنافع من الضار، وربما يراد به ما هو الغاية منه وهو الالتزام بمقتضاه من طلب الخير والنافع واجتناب الشر والضر، قال تعالى:
{ { لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أُولئك كالأنعام بل هم أضلّ } [الأعراف: 179]. وأكثر ما ينتفع بالسمع عامة الناس لقصورهم عن تعقل دقائق الأمور وإدراك حقيقتها والاهتداء إلى مصالحها ومفاسدها وإنما ينتفع بالعقل الخاصة.
فقوله: { لو كنا نسمع أو نعقل } أُريد بالسمع استجابة دعوة الرسل والالتزام بمقتضى قولهم وهم النصحاء الأمناء، وبالعقل الالتزام بمقتضى ما يدعون إليه من الحق بتعقله والاهتداء العقلي إلى أنه حق ومن الواجب أن يخضع الإنسان للحق.
وإنما قدم السمع على العقل لأن استعماله من شأن عامة الناس وهم الأكثرون والعقل شأن الخاصة وهم آحاد قليلون.
والمعنى: لو كنا في الدنيا نطيع الرسل في نصائحهم ومواعظهم أو عقلنا حجة الحق ما كنا اليوم في أصحاب السعير وهم مصاحبو النار المخلدون فيها.
وقيل: إنما جمع بين السمع والعقل لأن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل.
قوله تعالى: { فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير } كانوا إنما قالوا: { لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } ندامة على ما فرَّطوا في جنب الله وفوَّتوا على أنفسهم من الخير فاعترفوا بأن ما أتوا به كان تبعته دخول النار وكان عليهم أن لا يأتوا به، وهذا هو الذنب فقد اعترفوا بذنبهم.
وإنما أفرد الذنب بناء على إرادة معنى المصدر منه وهو في الأصل مصدر.
وقوله: { فسحقاً لأصحاب السعير } السحق تفتيت الشيء كما ذكره الراغب وهو دعاء عليهم.
قوله تعالى: { إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير } لما ذكر حال الكفار وما يجازون به على كفرهم قابله بحال المؤمنين بالغيب لتمام التقسيم وذكر من وصفهم الخشية لأن المقام مقام الإنذار والوعيد.
وعدّ خشيتهم خشية بالغيب لكون ما آمنوا به محجوباً عنهم تحت حجب الغيب.
قوله تعالى: { وأسرُّوا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور } رفع شبهة يمكن أن تختلج في قلوبهم مبنية على الاستبعاد وذلك أنه تعالى ساق الكلام في بيان ربوبيته لكل شيء المستتبعة للبعث والجزاء وذكر ملكه وقدرته المطلقين وخلقه وتدبيره ولم يذكر علمه المحيط بهم وبأحوالهم وأعمالهم وهو مما لا يتم البعث والجزاء بدونه.
وكان من الممكن أن يتوهموا أن الأعمال على كثرتها الخارجة عن الإحصاء لا يتأتى ضبطها وخاصة ما تكنّه الصدور منها فإن الإنسان يقيس الأشياء بنفسه ويزنها بزنة نفسه وهو غير قادر على إحصاء جزئيات الأعمال التي هي حركات مختلفة متقضية وخاصة أعمال القلوب المستكنَّة في زواياها.
فدفعه بأن إظهار القول وإخفاءه سواء بالنسبة إليه تعالى فإنه عليم بذات الصدور، والسياق يشهد أن المراد استواء خفايا الأعمال وجلاياها بالنسبة إليه، وإنما ذكر إسرار القول وجهره من حيث ظهور معنى الخفاء والظهور فيه بالجهر والإسرار.
قوله تعالى: { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } استفهام إنكاري مأخوذ حجة على علمه تعالى بأعمال الخلق ظاهرها وباطنها وسرّها وجهرها وذلك أن أعمال الخلق - ومن جملتها أعمال الإنسان الاختيارية - وإن نسبت إلى فواعلها لكن الله سبحانه هو الذي يريدها ويوجدها من طريق اختيار الإنسان واقتضاء سائر الأسباب فهو الخالق لأعيان الأشياء والمقدر لها آثارها كيفما كانت والرابط بينها وبين آثارها الموصل لها إلى آثارها، قال تعالى:
{ { الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل } [الزمر: 62]، وقال: { { الذي خلق فسوَّى والذي قدَّر فهدى } [الأعلى: 2-3]، فهو سبحانه محيط بعين من خلقه وأثره ومن أثره أعماله الظاهرة والباطنة وما أسرَّه وما جهر به وكيف يحيط به ولا يعلمه.
وفي الآية إشارة إلى أن أحوال الأشياء وأعمالها غير خارجة عن خلقها لأنه تعالى استدلَّ بعلمه بمن خلق على علمه بخصوصيات أحواله وأعماله ولولا كون الأحوال والأعمال غير خارجة عن وجود موضوعاتها لم يتم الاستدلال.
على أن الأحوال والأعمال من مقتضيات موضوعاتها والذي ينتسب إليه وجود الشيء ينتسب إليه آثار وجوده.
وقوله: { وهو اللطيف الخبير } أي النافذ في بواطن الأشياء المطَّلع على جزئيات وجودها وآثارها، والجملة حالية تعلل ما قبلها والاسمان الكريمان من الأسماء الحسنى ذيّلت بهما الآية لتأكيد مضمونها.
(بحث روائي)
في الكافي بإسناده عن سفيان بن عيينة عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل: { ليبلوكم أيكم أحسن عملاً } قال: ليس يعني أكثركم عملاً ولكن أصوبكم عملاً، وإنما الإصابة خشية الله والنية الصادقة والخشية.
ثم قال: الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل.
ألا والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله، والنية أفضل من العمل ألا وإن النية هي العمل. ثم تلا قوله: { قل كلٌّ يعمل على شاكلته } يعني على نيَّتة.
وفي المجمع قال أبو قتادة: سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قوله تعالى: { أيكم أحسن عملاً } ما عنى به؟ فقال: يقول: أيكم أحسن عقلا. ثم قال: أتمّكم عقلاً وأشدكم لله خوفاً، وأحسنكم فيما أمر الله به ونهى عنه نظراً وإن كان أقلكم تطوّعاً.
وفيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه تلا قوله تعالى: { تبارك الذي بيده الملك } إلى قوله { أيكم أحسن عملاً } ثم قال: أيكم أحسن عقلاً، وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: { الذي خلق سبع سماوات طباقاً } قال: بعضها طبق لبعض.
وفيه في قوله تعالى: { من تفاوت } قال: من فساد.
وفيه في قوله تعالى: { ثم ارجع البصر } قال: انظر في ملكوت السماوات والأرض.
وفيه في قوله تعالى: { بمصابيح } قال: بالنجوم.
وفيه في قوله تعالى: { سمعوا لها شهيقاً } قال: وقعاً.
وفيه في قوله تعالى: { تكاد تميَّز من الغيظ } قال: على أعداء الله.
وفيه في قوله تعالى: { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } قال: قد سمعوا وعقلوا ولكنهم لم يطيعوا ولم يقبلوا، والدليل على أنهم قد سمعوا وعقلوا ولم يقبلوا، قوله: { فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير }.
أقول: يعني عليه السلام أنه يدل على أن المراد من عدم السمع والعقل عدم الإطاعة والقبول بعد السمع والعقل أنه تعالى سمّى قولهم ذلك اعترافاً بالذنب، ولا يعدّ فعل ذنباً من فاعله إلا بعد العلم بجهة مساءته بسمع أو عقل.