التفاسير

< >
عرض

نۤ وَٱلْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ
١
مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ
٢
وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ
٣
وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ
٤
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ
٥
بِأَييِّكُمُ ٱلْمَفْتُونُ
٦
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ
٧
فَلاَ تُطِعِ ٱلْمُكَذِّبِينَ
٨
وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ
٩
وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ
١٠
هَمَّازٍ مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ
١١
مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ
١٢
عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ
١٣
أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ
١٤
إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ
١٥
سَنَسِمُهُ عَلَى ٱلْخُرْطُومِ
١٦
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ
١٧
وَلاَ يَسْتَثْنُونَ
١٨
فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ
١٩
فَأَصْبَحَتْ كَٱلصَّرِيمِ
٢٠
فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ
٢١
أَنِ ٱغْدُواْ عَلَىٰ حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ
٢٢
فَٱنطَلَقُواْ وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ
٢٣
أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا ٱلْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ
٢٤
وَغَدَوْاْ عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ
٢٥
فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوۤاْ إِنَّا لَضَآلُّونَ
٢٦
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ
٢٧
قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ
٢٨
قَالُواْ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ
٢٩
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ
٣٠
قَالُواْ يٰوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ
٣١
عَسَىٰ رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ
٣٢
كَذَلِكَ ٱلْعَذَابُ وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
٣٣
-القلم

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
السورة تعزّي النبي صلى الله عليه وآله وسلم إثر ما رماه المشركون بالجنون وتطيّب نفسه بالوعد الجميل والشكر على خلقه العظيم وتنهاه نهياً بالغاً عن طاعتهم ومداهنتهم، وتأمره أمراً أكيداً بالصبر لحكم ربه.
وسياق آياتها على الجملة سياق مكي، ونقل عن ابن عباس وقتادة أن صدرها إلى قوله: سنسمه على الخرطوم - ستة عشرة آية - مكي، وما بعده إلى قوله: { لو كانوا يعلمون } - سبع عشرة آية - مدني، وما بعده إلى قوله: { يكتبون } - خمس عشرة آية - مكي، وما بعده إلى آخر السورة - أربع آيات مدني.
ولا يخلو من وجه بالنسبة إلى الآيات السبع عشرة { إنا بلوناهم } إلى قوله { لو كانوا يعلمون } فإنها أشبه بالمدنية منها بالمكية.
قوله تعالى: { ن } تقدم الكلام في الحروف المقطعة التي في أوائل السور في تفسير سورة الشورى.
قوله تعالى: { والقلم وما يسطرون } القلم معروف، والسطر بالفتح فالسكون وربما يستعمل بفتحتين - كما في المفردات - الصف من الكتابة، ومن الشجر المغروس ومن القوم الوقوف وسطر فلان كذا كتب سطراً سطراً.
أقسم سبحانه بالقلم وما يسطرون به وظاهر السياق أن المراد بذلك مطلق القلم ومطلق ما يسطرون به وهو المكتوب فإن القلم وما يسطر به من الكتابة من أعظم النعم الإِلهية التي اهتدى إليها الإِنسان يتلو الكلام في ضبط الحوادث الغائبة عن الأنظار والمعاني المستكنة في الضمائر، وبه يتيسر للإِنسان أن يستحضر كل ما ضرب مرور الزمان أو بعد المكان دونه حجاباً.
وقد امتنّ الله سبحانه على الإِنسان بهدايته إليهما وتعليمهما له فقال في الكلام
{ { خلق الإِنسان علمه البيان } [الرحمن: 3-4]، وقال في القلم: { { علم بالقلم علم الإِنسان ما لم يعلم } [العلق: 4-5]. فإقسامه تعالى بالقلم وما يسطرون إقسام بالنعمة، وقد أقسم تعالى في كلامه بكثير من خلقه بما أنه رحمة ونعمة كالسماء والأرض والشمس والقمر والليل والنهار إلى غير ذلك حتى التين والزيتون.
وقيل: { ما } في قوله: { وما يسطرون } مصدرية والمراد به الكتابة.
وقيل: المراد بالقلم القلم الأعلى الذي في الحديث أنه أول ما خلق الله وبما يسطرون ما يسطره الحفظة والكرام الكاتبون واحتمل أيضاً أن يكون الجمع في { يسطرون } للتعظيم لا للتكثير وهو كما ترى، واحتمل أن يكون المراد ما يسطرون فيه وهو اللوح المحفوظ واحتمل أن يكون المراد بالقلم وما يسطرون أصحاب القلم ومسطوراتهم وهي احتمالات واهية.
قوله تعالى: { ما أنت بنعمة ربك بمجنون } مقسم عليه والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والباء في { بنعمة } للسببية أو المصاحبة أي ما أنت بمجنون بسبب النعمة - أو مع النعمة - التي أنعمها عليك ربك.
والسياق يؤيد أن المراد بهذه النعمة النبوة فإن دليل النبوة يدفع عن النبي كل اختلال عقلي حتى تستقيم الهداية الإلهية اللازمة في نظام الحياة الإنسانية، والآية ترد ما رموه به من الجنون كما يحكى عنهم في آخر السورة { ويقولون إنه لمجنون }.
وقيل: المراد بالنعمة فصاحته صلى الله عليه وآله وسلم وعقله الكامل وسيرته المرضية وبراءته من كل عيب واتصافه بكل مكرمة فظهور هذه الصفات فيه صلى الله عليه وآله وسلم ينافي حصول الجنون فيه وما قدمناه أقطع حجة والآية وما يتلوها كما ترى تعزية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتطييب لنفسه الشريفة وتأييد له كما أن فيها تكذيباً لقولهم.
قوله تعالى: { وإن لك لأجر غير ممنون } الممنون من المن بمعنى القطع يقال: منّه السير مناً إذا قطعه وأضعفه لا من المنة بمعنى تثقيل النعمة قولاً.
والمراد بالأجر أجر الرسالة عند الله سبحانه، وفيه تطييب لنفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأن له على تحمل رسالة الله أجراً غير مقطوع وليس يذهب سدى.
وربما أُخذ المن بمعنى ذكر المنعم إنعامه على المنعم عليه بحيث يثقل عليه ويكدر عيشه بتقريب أن ما يعطيه الله أجر في مقابل عمله فهو يستحقه عليه تعالى فلا منة عليه وهو غير سديد فإن كل عامل مملوك لله سبحانه بحقيقة معنى الملك بذاته وصفاته وأعماله فما يعطيه العبد من ذلك فهو موهبة وعطية وما يملكه العبد من ذلك فإنما يملكه بتمليك الله وهو المالك لما ملكه من قبل ومن بعد فهو تفضل منه تعالى ولئن سمى ما يعطيه بإزاء العمل أجراً وسمى ما بينه وبين عبده من مبادلة العمل والأجر معاملة فذلك تفضل آخر فلله سبحانه المنة على جميع خلقه والرسول ومن دونه فيه سواء.
قوله تعالى: { وإنك لعلى خلق عظيم } الخلق هو الملكة النفسانية التي تصدر عنها الأفعال بسهولة وينقسم إلى الفضيلة وهي الممدوحة كالعفة والشجاعة، والرذيلة وهي المذمومة كالشره والجبن لكنه إذا أُطلق فهم منه الخلق الحسن.
قال الراغب: والخلق - بفتح الخاء - والخلق - بضم الخاء - في الأصل واحد كالشرب والشُرب والصرم والصُرم لكن خصَّ الخلق - بالفتح - بالهيئات والأشكال والصور المدركة بالبصر، وخص الخلق - بالضم - بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة قال تعالى: { وإنك لعلى خلق عظيم } انتهى.
والآية وإن كانت في نفسها تمدح حسن خلقه صلى الله عليه وآله وسلم وتعظمه غير أنها بالنظر إلى خصوص السياق ناظرة إلى أخلاقه الجميلة الاجتماعية المتعلقة بالمعاشرة كالثبات على الحق والصبر على أذى الناس وجفاء أجلافهم والعفو والإغماض وسعة البذل والرفق والمداراة والتواضع وغير ذلك، وقد أوردنا في آخر الجزء السادس من الكتاب ما روي في جوامع أخلاقه صلى الله عليه وآله وسلم.
ومما تقدم يظهر أن ما قيل: إن المراد بالخلق الدين وهو الإسلام غير مستقيم إلا بالرجوع إلى ما تقدم.
قوله تعالى: { فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون } تقريع على محصل ما تقدم أي فإذا لم تكن مجنوناً بل متلبساً بالنبوة ومتخلقاً بالخلق ولك عظيم الأجر من ربك فسيظهر أمر دعوتك وينكشف على الأبصار والبصائر من المفتون بالجنون أنت أو المكذبون الرامون لك بالجنون.
وقيل: المراد ظهور عاقبة أمر الدعوة له ولهم في الدنيا أو في الآخرة؟ الآية تقبل الحمل على كل منها. ولكل قائل، ولا مانع من الجمع فإن الله تعالى أظهر نبيه عليهم ودينه على دينهم، ورفع ذكره صلى الله عليه وآله وسلم ومحا أثرهم في الدنيا وسيذوقون وبال أمرهم غداً ويعلمون أن الله هو الحق المبين يوم هم على النار يفتنون ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون.
وقوله: { بأيكم المفتون } الباء زائدة للصلة، والمفتون اسم مفعول من الفتنة بمعنى الابتلاء يريد به المبتلى بالجنون وفقدان العقل، والمعنى: فستبصر ويبصرون أيكم المفتون المبتلى بالجنون؟ أنت أم هم؟
وقيل: المفتون مصدر على زنة مفعول كمعقول وميسور ومعسور في قولهم: ليس له معقول، وخذ ميسوره، ودع معسوره، والباء في { بأيكم } بمعنى في والمعنى: فستبصر ويبصرون في أي الفريقين الفتنة.
قوله تعالى: { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين } لما أُفيد بما تقدم من القول أن هناك ضلالاً واهتداء، وأُشير إلى أن الرامين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجنون هم المفتونون الضالون وسيظهر أمرهم وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مهتد وكان ذلك ببيان من الله سبحانه أكد ذلك بأن الله أعلم بمن ضلَّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين لأن السبيل سبيله وهو أعلم بمن هو في سبيله ومن ليس فيه وإليه أمر الهداية.
قوله تعالى: { فلا تطع المكذبين } تفريع على المحصل من معنى الآيات السابقة وفي المكذبين معنى العهد والمراد بالطاعة مطلق الموافقة عملاً أو قولاً، والمعنى: فإذا كان هؤلاء المكذبون لك مفتونين ضالين فلا تطعهم.
قوله تعالى: { ودُّوا لو تدهن فيدهنون } الإدهان من الدهن يراد به التليين أي ودّ وأحبّ هؤلاء المكذبون أن تليّنهم بالاقتراب منهم في دينك فيليّنوك بالاقتراب منك في دينهم، ومحصله أنهم ودُّوا أن تصالحهم ويصالحوك على أن يتسامح كل منكم بعض المسامحة في دين الآخر كما قيل: إنهم عرضوا عليه أن يكفَّ عن ذكر آلهتهم فيكفُّوا عنه وعن ربه.
وبما تقدم ظهر أن متعلق مودَّتهم مجموع { لو تدهن فيدهنون } وأن الفاء في { فيدهنون } للتفريع لا للسببية.
قوله تعالى: { ولا تطع كل حلاَّف مهين } إلى قوله { زنيم } الحلاف كثير الحلف، ولازم كثرة الحلف والإقسام في كل يسير وخطير وحق وباطل أن لا يحترم الحالف شيئاً مما يقسم به، وإذا كان حلفه بالله فهو لا يستشعر عظمة الله عز اسمه وكفى به رذيلة.
والمهين من المهانة بمعنى الحقارة والمراد به حقارة الرأي، وقيل: هو المكثار في الشر، وقيل: هو الكذاب.
والهمّاز مبالغة من الهمز والمراد به العيّاب والطعّان، وقيل: الطعّان بالعين والإشارة وقيل: كثير الاغتياب.
والمشّاء بنميم النميم: السعاية والإِفساد، والمشاء به هو نقَّال الحديث من قوم إلى قوم على وجه الإِفساد بينهم.
والمنّاع للخير كثير المنع لفعل الخير أو للخير الذي ينال أهله.
والمعتدي من الاعتداء وهو المجاوزة للحدّ ظلماً.
والأثيم هو الذي كثر إثمه حتى استقر فيه من غير زوال والإثم هو العمل السيئ الذي يبطئ الخير.
والعتلّ بضمتين هو الفظ الغليظ الطبع، وفسّر بالفاحش السيئ الخلق، وبالجافي الشديد الخصومة بالباطل، وبالأكول المنوع للغير، وبالذي يعتلُّ الناس ويجرُّهم إلى حبس أو عذاب.
والزنيم هو الذي لا أصل له، وقيل: هو الدّعي الملحق بقوم وليس منهم، وقيل: هو المعروف باللؤم، وقيل: هو الذي له علامة في الشر يعرف بها وإذا ذكر الشر سبق هو إلى الذهن، والمعاني متقاربة.
فهذه صفات تسع رذيلة وصف الله بها بعض أعداء الدين ممن كان يدعو النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطاعة والمداهنة، وهي جماع الرذائل.
وقوله: { عتلّ بعد ذلك زنيم } معناه أنه بعدما ذكر من مثالبه ورذائله عتل زنيم قيل: وفيه دلالة على أن هاتين الرذيلتين أشد معايبه.
والظاهر أن فيه إشارة إلى أن له خبائث من الصفات لا ينبغي معها أن يطاع في أمر الحق ولو أُغمض عن تلك الصفات فإنه فظ خشن الطبع لا أصل له لا ينبغي أن يعبأ بمثله في مجتمع بشري فليطرد ولا يطع في قول ولا يتَّبع في فعل.
قوله تعالى: { أن كان ذا مال وبنين } الظاهر أنه بتقدير لام التعليل وهو متعلق بفعل محصل من مجموع الصفات الرذيلة المذكورة أي هو يفعل كذا وكذا لأن كان ذا مال وبنين فبطر بذلك وكفر بنعمة الله وتلبَّس بكل رذيلة خبيثة بدل أن يشكر الله على نعمته ويصلح نفسه، فالآية في إفادة الذم والتهكم تجري مجرى قوله: { ألم تر إلى الذي حاجَّ إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك }.
وقيل: إنه متعلق بقوله السابق { لا تطع }، والمعنى: لا تطعه لكونه ذا مال وبنين أي لا يحملك كونه ذا مال وبنين على طاعته، والمعنى المتقدم أقرب وأوسع.
قيل: ولا يجوز تعلقه بقوله: { قال } في الشرطية التالية لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله عند النحاة.
قوله تعالى: { إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين } الأساطير جمع أسطورة وهي القصة الخرافية، والآية تجري مجرى التعليل لقوله السابق: { لا تطع }.
قوله تعالى: { سنسمه على الخرطوم } الوسم والسمة وضع العلامة، والخرطوم الأنف، وقيل: إن في إطلاق الخرطوم على أنفه وإنما يطلق في الفيل والخنزير تهكماً، وفي الآية وعيد على عداوته الشديدة لله ورسوله وما نزَّله على رسوله.
والظاهر أن الوسم على الأنف أُريد به نهاية إذلاله بذلَّة ظاهرة يعرفه بها كل من رآه فإن الأنف مما يظهر فيه العزة والذلة كما يقال: شمخ فلان بأنفه وحمي فلان أنفه وأرغمت أنفه وجدع أنفه.
والظاهر أن الوسم على الخرطوم مما سيقع يوم القيامة لا في الدنيا وإن تكلف بعضهم في توجيه حمله على فضاحته في الدنيا.
قوله تعالى: { إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة } إلى قوله { كالصريم } البلاء الاختبار وإصابة المصيبة، والصرم قطع الثمار من الأشجار، والاستثناء عزل البعض من حكم الكل وأيضاً الاستثناء قول إن شاء الله عند القطع بقول وذلك أن الأصل فيه الاستثناء فالأصل في قولك: أخرج غداً إن شاء الله هو أخرج غداً إلا أن يشاء الله أن لا أخرج، والطائف العذاب الذي يأتي بالليل، والصريم الشجر المقطوع ثمره، وقيل: الليل الأسود، وقيل: الرمل المقطوع من سائر الرمل وهو لا ينبت شيئاً ولا يفيد فائدة.
الآيات أعني قوله: { إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة } إلى تمام سبع عشرة آية وعيد لمكذبي النبي صلى الله عليه وآله وسلم الرامين له بالجنون، وفي التشبيه والتنظير دلالة على أن هؤلاء المكذبين معذبون لا محالة والعذاب الواقع عليهم قائم على ساقه، غير أنهم غافلون وسيعلمون، فهم مولعون اليوم بجمع المال وتكثير البنين مستكبرون بها معتمدون عليها وعلى سائر الأسباب الظاهرية التي توافقهم وتشايع أهواءهم من غير أن يشكروا ربهم على هذه النعم ويسلكوا سبيل الحق ويعبدوا ربهم حتى يأتيهم الأجل ويفاجئهم عذاب الآخرة أو عذاب دنيوي من عنده كما فاجأهم يوم بدر فيروا انقطاع الأسباب عنهم وأن المال والبنين سدىً لا ينفعهم شيئاً كما شاهد نظير ذلك أصحاب الجنة من جنتهم وسيندمون على صنيعهم ويرغبون إلى ربهم ولا يرد ذلك عذاب الله كما ندم أصحاب الجنة وتلاوموا ورغبوا إلى ربهم فلم ينفعهم ذلك شيئاً كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون، هذا على تقدير اتصال الآيات بما قبلها ونزولها معها.
وأما على ما رووا أن الآيات نزلت في القحط والسنة الذي أصاب أهل مكة وقريشاً إثر دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم بقوله: اللهم أشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف، فالمراد بالبلاء إصابتهم بالقحط وتناظر قصتهم قصة أصحاب الجنة غير أن في انطباق ما في آخر قصتهم من قوله: { فأقبل بعضهم على بعض } الخ، على قصة أهل مكة خفاء.
وكيف كان فالمعنى: { إنا بلوناهم } أصبناهم بالبليَّة { كما بلونا } وأصبنا بالبليَّة { أصحاب الجنة } وكانوا قوماً من اليمن وجنتهم فيها وسيأتي إن شاء الله قصتهم في البحث الروائي الآتي { إذ } ظرف لبلونا { أقسموا } وحلفوا { ليصرمنّها } أي ليقطعنَّ ويقطفن ثمار جنتهم { مصبحين } داخلين في الصباح وكأنهم ائتمروا وتشاوروا ليلاً فعزموا على الصرم صبيحة ليلتهم { ولا يستثنون } لم يقولوا إلا أن يشاء الله اعتماداً على أنفسهم واتكاءً على ظاهر الأسباب. أو المعنى: قالوا وهم لا يعزلون نصيباً من ثمارهم للفقراء والمساكين.
{ فطاف عليهم } على الجنة { طائف } أي بلاء يطوف عليها ويحيط بها ليلاً { من } ناحية (ربك، فأصبحت) وصارت الجنة { كالصريم } وهو الشجر المقطوع ثمره أو المعنى: فصارت الجنة كالليل الأسود لما اسودَّت بإحراق النار التي أرسلها الله إليها أو المعنى: فصارت الجنة كالقطعة من الرمل لا نبات بها ولا فائدة.
قوله تعالى: { فتنادوا مصبحين } إلى قوله { قادرين } التنادي نداء بعض القوم بعضاً، والإصباح الدخول في الصباح، وصارمين من الصرم بمعنى قطع الثمار من الشجرة، والمراد به في الآية القاصدون لقطع الثمار، والحرث الزرع والشجر، والخفت الإخفاء والكتمان، والحرد المنع وقادرين من القدر بمعنى التقدير.
والمعنى: { فتنادوا } أي فنادى بعض القوم بعضاً { مصبحين } أي والحال أنهم داخلون في الصباح { أن أغدوا على حرثكم } تفسير للتنادي أي بكروا مقبلين على جنتكم - فأغدوا أمر بمعنى بكروا مضمن معنى أقبلوا ولذا عدي بعلى ولو كان غير مضمن عدي بإلى كما في الكشاف - { إن كنتم صارمين } أي قاصدين عازمين على الصرم والقطع.
{ فانطلقوا } وذهبوا إلى جنتهم { وهم يتخافتون } أي والحال أنهم يأتمرون فيما بينهم بطريق المخافتة والمكاتمة { أن لا يدخلنها } أي الجنة { اليوم عليكم مسكين } أي أخفوا ورودكم الجنة للصرم من المساكين حتى لا يدخلوا عليكم فيحملكم ذلك على عزل نصيب من الثمر المصروم لهم { وغدوا } وبكروا إلى الجنة { على حرد } أي على منع للمساكين { قادرين } مقدرين في أنفسهم أنهم سيصرمونها ولا يساهمون المساكين بشيء منها.
قوله تعالى: { فلما رأوها قالوا إنا لضالون بل نحن محرومون } أي فلما رأوا الجنة وشاهدوها وقد أصبحت كالصريم بطواف طائف من عند الله قالوا: { إنا لضالون } عن الصواب في غدونا إليها بقصد الصرم ومنع المساكين.
وقيل: المراد إنا لضالون طريق جنتنا وما هي بها.
وقوله: { بل نحن محرومون } إضراب عن سابقه أي ليس مجرد الضلال عن الصواب بل حرمنا الزرع.
قوله تعالى: { قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون } إلى قوله { راغبون } أي { قال أوسطهم } أي أعدلهم طريقاً وذلك أنه ذكرهم بالحق وإن تبعهم في العمل وقيل: المراد أوسطهم سناً وليس بشيء { ألم أقل لكم } وقد كان قال لهم ذلك وإنما لم يذكر قبل في القصة إيجازاً بالتعويل على ذكره ها هنا.
{ لولا تسبحون } المراد بتسبيحهم له تعالى تنزيههم له من الشركاء حيث اعتمدوا على أنفسهم وعلى سائر الأسباب الظاهرية فأقسموا ليصرمنها مصبحين ولم يستثنوا لله مشيئة فعزلوه تعالى عن السببية والتأثير ونسبوا التأثير إلى أنفسهم وسائر الأسباب الظاهرية، وهو إثبات للشريك، ولو قالوا: لنصرمنها مصبحين إلا أن يشاء الله كان معنى ذلك نفي الشركاء وأنهم إن لم يصرموا كان لمشيئة من الله وإن صرموا كان ذلك بإذن من الله فلله الأمر وحده لا شريك له.
وقيل: المراد بتسبيحهم لله ذكر الله تعالى وتوبتهم إليه حيث نووا أن يصرموها ويحرموا المساكين منها، وله وجه على تقدير أن يراد بالاستثناء عزل نصيب من الثمار للمساكين.
قوله تعالى: { قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين } تسبيح منهم لله سبحانه إثر توبيخ أوسطهم لهم، أي ننزه الله تنزيهاً من الشركاء الذين أثبتناهم فيما حلفنا عليه فهو ربنا الذي يدبر بمشيئته أُمورنا لأنا كنا ظالمين في إثباتنا الشركاء فهو تسبيح واعتراف بظلمهم على أنفسهم في إثبات الشركاء.
وعلى القول الآخر توبة واعتراف بظلمهم على أنفسهم وعلى المساكين.
قوله تعالى: { فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون } أي يلوم بعضهم بعضاً على ما ارتكبوه من الظلم.
قوله تعالى: { قالوا يا ويلنا } إلى قوله { راغبون } الطغيان تجاوز الحد وضمير { منها } للجنة باعتبار ثمارها والمعنى: قالوا يا ويلنا إنا كنا متجاوزين حد العبودية إذ أثبتنا شركاء لربنا ولم نوحده، ونرجو من ربنا أن يبدلنا خيراً من هذه الجنة التي طاف عليها طائف منه لأنا راغبون إليه معرضون عن غيره.
قوله تعالى: { كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون } العذاب مبتدأ مؤخر، وكذلك خبر مقدم أي إنما يكون العذاب على ما وصفناه في قصة أصحاب الجنة وهو أن الإنسان يمتحن بالمال والبنين فيطغى مغتراً بذلك فيستغني بنفسه وينسى ربه ويشرك بالأسباب الظاهرية وبنفسه ويجترئ على المعصية وهو غافل عما يحيط به من وبال عمله ويُهيأ له من العذاب كذلك حتى إذا فاجأه العذاب وبرز له بأهول وجوهه وأمرّها انتبه من نومة الغفلة وتذكر ما جاءه من النصح قبلاً وندم على ما فرّط بالطغيان والظلم وسأل الله أن يعيد عليه النعمة فيشكر كما انتهى إليه أمر أصحاب الجنة، ففي ذلك إعطاء الضابط بالمثال.
وقوله: { ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون } لأنه ناش عن قهر إلهي لا يقوم له شيء لا رجاء للتخلص منه ولو بالموت والفناء كما في شدائد الدنيا، محيط بالإنسان من جميع أقطار وجوده لا كعذاب الدنيا دائم لا انتهاء لأمده كما في الابتلاءات الدنيوية.
(بحث روائي)
في المعاني بإسناده عن سفيان بن سعيد الثوري عن الصادق عليه السلام في تفسير الحروف المقطعة في القرآن قال: وأما ن فهو نهر في الجنة قال الله عز وجل: اجمد فجمد فصار مداداً ثم قال للقلم: اكتب فسطر القلم في اللوح المحفوظ ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة فالمداد مداد من نور والقلم قلم من نور واللوح لوح من نور.
قال سفيان: فقلت له: يا ابن رسول الله بين أمر اللوح والقلم والمداد فضل بيان وعلمني مما علمك الله فقال: يا ابن سعيد لولا أنك أهل للجواب ما أجبتك فنون ملك يؤدي إلى القلم وهو ملك، والقلم يؤدي إلى اللوح وهو ملك، واللوح يؤدي إلى إسرافيل وإسرافيل يؤدي إلى ميكائيل وميكائيل يؤدي إلى جبرائيل وجبرائيل يؤدي إلى الأنبياء والرسل. قال: ثم قال: قم يا سفيان فلا آمن عليك.
وفيه بإسناده عن إبراهيم الكرخي قال: سألت جعفر بن محمد عليه السلام عن اللوح والقلم قال: هما ملكان.
وفيه بإسناده عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السلام: { ن والقلم وما يسطرون } القلم قلم من نور وكتاب من نور في لوح محفوظ يشهده المقربون وكفى بالله شهيداً.
أقول: وفي المعاني المتقدمة روايات أخرى عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، وقد تقدم في ذيل قوله تعالى:
{ { هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق } [الجاثية: 29]، حديث القمي عن عبد الرحيم القصير عن الصادق عليه السلام في اللوح والقلم وفيه: ثم ختم على فم القلم فلم ينطق بعد ذلك ولا ينطق أبداً وهو الكتاب المكنون الذي منه النسخ كلها.
وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير عن معاوية بن قرّة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"{ ن والقلم وما يسطرون } قال: [لوح من نور وقلم من نور يجري بما هو كائن إلى يوم القيامة"
]. أقول: وفي معناه روايات أُخر، وقوله: يجري بما هو كائن الخ، أي منطبق على متن الكائنات من دون أن يتخلف شيء منها عما كتب هناك ونظيره ما في رواية أبي هريرة: ثم ختم على في القلم فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة.
وفي المعاني بإسناده عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله عز وجل: { وإنك لعلى خلق عظيم } قال: هو الإسلام.
وفي تفسير القمي عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: { وإنك لعلى خلق عظيم } قال: على دين عظيم.
أقول: يريد اشتمال الدين والإسلام على كمال الخلق واستنانه صلى الله عليه وآله وسلم به، وفي الرواية المعروفة عنه صلى الله عليه وآله وسلم:
"بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"
]. وفي المجمع بإسناده عن الحاكم بإسناده عن الضحاك قال: لما رأت قريش تقديم النبي صلى الله عليه وآله وسلم علياً وإعظامه له نالوا من علي وقالوا: قد افتتن به محمد فأنزل الله تعالى: { ن والقلم وما يسطرون } قسم أقسم الله به { ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجراً غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم } - يعني القرآن - إلى قوله { بمن ضلَّ عن سبيله } وهم النفر الذين قالوا ما قالوا { وهو أعلم بالمهتدين } يعني علي بن أبي طالب.
أقول: ورواه في تفسير البرهان عن محمد بن العباس بإسناده إلى الضحاك وساق نحواً مما مر وفي آخره: وسبيله علي بن أبي طالب.
وفيه في قوله تعالى: { ولا تطع كل حلاف } الخ، وقيل: يعني الوليد بن المغيرة عرض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم المال ليرجع عن دينه، وقيل: يعني الأخنس بن شريق عن عطاء، وقيل: يعني الأسود بن عبد يغوث عن مجاهد.
أقول: وفي ذلك روايات في الدر المنثور وغيره تركنا إيرادها من أرادها فليراجع جوامع الروايات.
وفيه عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"لا يدخل الجنة جوّاظ ولا جعظري ولا عتل زنيم. قلت: فما جواظ قال: كل جمّاع منَّاع. قلت: فما الجعظري؟ قال: الفظ الغليظ. قلت: فما العتل الزنيم؟ قال: كل رحيب الجوف سيء الخلق أكول شروب غشوم ظلوم زنيم"
]. وفيه في معنى الزنيم: قيل هو الذي لا أصل له.
وفي تفسير القمي في قوله: { عتل بعد ذلك زنيم } قال: العتل العظيم الكفر الزنيم الدعي.
وفيه في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: { إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة } إن أهل مكة ابتلوا بالجوع كما ابتلي أصحاب الجنة وهي كانت في الدنيا وكانت باليمن يقال له الرضوان على تسعة أميال من صنعاء.
وفيه بإسناده إلى ابن عباس أنه قيل له إن قوماً من هذه الأُمة يزعمون أن العبد يذنب فيحرم به الرزق، فقال ابن عباس: فوالله الذي لا إله إلا هو هذا أنور في كتاب الله من الشمس الضاحية ذكره الله في سورة ن والقلم.
أنه كان شيخ وكان له جنة وكان لا يدخل إلى بيته ثمرة منها ولا إلى منزله حتى يعطي كل ذي حق حقه فلما قبض الشيخ ورثه بنوه وكان له خمس من البنين فحملت جنتهم في تلك السنة التي هلك فيها أبوهم حملاً لم يكن حملته قبل ذلك فراحوا الفتية إلى جنتهم بعد صلاة العصر فأشرفوا على ثمرة ورزق فاضل لم يعاينوا مثله في حياة أبيهم.
فلما نظروا إلى الفضل طغوا وبغوا وقال بعضهم لبعض: إن أبانا كان شيخاً كبيراً قد ذهب عقله وخرف فهلموا نتعاقد فيما بيننا أن لا نعطي أحداً من فقراء المسلمين في عامنا شيئاً حتى نستغني ويكثر أموالنا ثم نستأنف الصنيعة فيما استقبل من السنين المقبلة فرضي بذلك منهم أربعة وسخط الخامس وهو الذي قال الله: { قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبّحون }.
فقال الرجل: يا ابن عباس كان أوسطهم في السن؟ فقال: لا بل كان أصغرهم سناً وأكبرهم عقلاً وأوسط القوم خير القوم، والدليل عليه في القرآن قوله: إنكم يا أُمة محمد أصغر الأمم وخير الأمم قوله عز وجل: { وكذلك جعلناكم أُمة وسطاً }.
قال لهم أوسطهم: اتقوا وكونوا على منهاج أبيكم تسلموا وتغنموا فبطشوا به وضربوه ضرباً مبرحاً فلما أيقن الأخ منهم أنهم يريدون قتله دخل معهم في مشورتهم كارهاً لأمرهم غير طائع.
فراحوا إلى منازلهم ثم حلفوا بالله ليصرمنَّ إذا أصبحوا ولم يقولوا إن شاء الله فابتلاهم الله بذلك الذنب وحال بينهم وبين ذلك الرزق الذي كانوا أشرفوا عليه فأخبر عنهم في الكتاب فقال: { إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم } قال: كالمحترق.
فقال الرجل: يا ابن عباس ما الصريم؟ قال: الليل المظلم، ثم قال: لا ضوء له ولا نور.
فلما أصبح القوم { فتنادوا مصبحين أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين } قال: { فانطلقوا وهم يتخافتون } قال الرجل: وما التخافت يا ابن عباس؟ قال: يتشاورون فيشاور بعضهم بعضاً لكيلا يسمع أحد غيرهم فقالوا: { لا يدخلنَّها اليوم عليكم مسكين وغدوا على حرد قادرين } في أنفسهم أن يصرموها ولا يعلمون ما قد حلَّ بهم من سطوات الله ونقمته.
{ فلما رأوها } وما قد حلَّ بهم { قالوا إنا لضالُّون بل نحن محرومون } فحرمهم الله ذلك الرزق بذنب كان منهم ولم يظلمهم شيئاً.
{ قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبّحون قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون } قال: يلومون أنفسهم فيما عزموا عليه { قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين عسى ربنا أن يبدلنا خيراً منها إنا إلى ربنا راغبون } فقال الله: { كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون }.
أقول: وقد ورد ما يقرب من مضمون هذا الحديث والذي قبله في روايات أُخر وفي بعض الروايات أن الجنة كانت لرجل من بني إسرائيل ثم مات وورثه بنوه فكان من أمرهم ما كان.