التفاسير

< >
عرض

إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ
٣٤
أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ كَٱلْمُجْرِمِينَ
٣٥
مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ
٣٦
أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ
٣٧
إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ
٣٨
أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ
٣٩
سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ
٤٠
أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ
٤١
يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ
٤٢
خَٰشِعَةً أَبْصَٰرُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ وَهُمْ سَٰلِمُونَ
٤٣
فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ
٤٤
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ
٤٥
أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ
٤٦
أَمْ عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ
٤٧
فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ ٱلْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ
٤٨
لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِٱلْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ
٤٩
فَٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ
٥٠
وَإِن يَكَادُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ ٱلذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ
٥١
وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ
٥٢
-القلم

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
فيها تذييل لما تقدم من الوعيد لمكذبي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتسجيل العذاب عليهم في الآخرة إذ المتقون في جنات النعيم، وتثبيت أنهم والمتقون لا يستوون بحجة قاطعة فليس لهم أن يرجوا كرامة من الله وهم مجرمون فما يجدونه من نعم الدنيا استدراج وإملاء.
وفيها تأكيد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر لحكم ربه.
قوله تعالى: { إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم } بشرى وبيان لحال المتقين في الآخرة قبال ما بين من حال المكذبين فيها.
وفي قوله: { عند ربهم } دون أن يقال: عند الله إشارة إلى رابطة التدبير والرحمة بينهم وبينه سبحانه وأن لهم ذلك قبال قصرهم الربوبية فيه تعالى وإخلاصهم العبودية له.
وإضافة الجنات إلى النعيم وهو النعمة للإشارة إلى أن ما فيها من شيء نعمة لا تشوبها نقمة ولذة لا يخالطها ألم، وسيجيء إن شاء الله في تفسير قوله تعالى:
{ { ثم لتسألنَّ يومئذ عن النعيم } [التكاثر: 8]، أن المراد بالنعيم الولاية.
قوله تعالى: { أفنجعل المسلمين كالمجرمين } تحتمل الآية في بادئ النظر أن تكون مسوقة حجة على المعاد كقوله تعالى:
{ { أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار } [ص: 28]، وقد تقدم تفسيره.
وأن تكون رداً على قول من قال منهم للمؤمنين: لو كان هناك بعث وإعادة لكنا منعمين كما في الدنيا وقد حكى سبحانه ذلك عن قائلهم:
{ { وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إِن لي عنده للحسنى } [فصلت: 50]. ظاهر سياق الآيات التالية التي ترد عليهم الحكم بالتساوي هو الاحتمال الثاني، وهو الذي رووه أن المشركين لما سمعوا حديث البعث والمعاد قالوا: إن صح ما يقوله محمد والذين آمنوا معه لم تكن حالنا إلا أفضل من حالهم كما في الدنيا ولا أقل من أن تتساوى حالنا وحالهم.
غير أنه يرد عليه أن الآية لو سيقت لرد قولهم، سنساويهم في الآخرة أو نزيد عليهم كما في الدنيا، كان مقتضى التطابق بين الرد والمردود أن يقال: أفنجعل المجرمين كالمسلمين وقد عكس.
والتدبر في السياق يعطي أن الآية مسوقة لرد دعواهم التساوي لكن لا من جهة نفي مساواتهم على إجرامهم للمسلمين بل تزيد على ذلك بالإشارة إلى أن كرامة المسلمين تأبى أن يساويهم المجرمون كأنه قيل: إن قولكم: سنتساوى نحن والمسلمون باطل فإن الله لا يرضى أن يجعل المسلمين بما لهم من الكرامة عنده كالمجرمين وأنتم مجرمون.
فالآية تقيم الحجة على عدم تساوي الفريقين من جهة منافاته لكرامة المسلمين عليه تعالى لا من جهة منافاة مساواة المجرمين للمسلمين عدله تعالى.
والمراد بالإسلام تسليم الأمر لله فلا يتبع إلا ما أراده سبحانه من فعل أو ترك يقابله الإجرام وهو اكتساب السيئة وعدم التسليم.
والآية وما بعدها إلى قوله: { أم عندهم الغيب فهم يكتبون } في مقام الرد لحكمهم بتساوي المجرمين والمسلمين حالاً يوم القيامة تورد محتملات هذا الحكم من حيث منشئه في صور استفهامات إنكارية وتردها.
وتقرير الحجة: أن كون المجرمين كالمسلمين يوم القيامة على ما حكموا به إما أن يكون من الله تعالى موهبة ورحمة وإما أن لا يكون منه.
والأول إما أن يدل عليه دليل العقل ولا دليل عليه كذلك وذلك قوله: { ما لكم كيف تحكمون }.
وإما أن يدل عليه النقل وليس كذلك وهو قوله: { أم لكم كتاب } الخ، وإما أن يكون لا لدلالة عقل أو نقل بل عن مشافهة بينهم وبين الله سبحانه عاهدوه وواثقوه على أن يسوي بينهما وليس كذلك فهذه ثلاثة احتمالات.
وإما أن لا يكون من الله فإما أن يكون حكمهم بالتساوي حكماً جديا أو لا يكون فإن كان جدياً فإما أن يكون التساوي الذي يحكمون به مستنداً إلى أنفسهم بأن يكون لهم قدرة على أن يصيروا يوم القيامة كالمسلمين حالاً وإن لم يشأ الله ذلك وليس كذلك وهو قوله: { سلهم أيهم بذلك زعيم } أو يكون القائم بهذا الأمر المتصدي له شركاؤهم ولا شركاء وهو قوله: { أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم } الخ.
وإما أن يكون ذلك لأن الغيب عندهم والأمور التي ستستقبل الناس قدرها وقضاؤها منوطان بمشيتهم تكون وتقع كيف يكتبون فكتبوا لأنفسهم المساواة مع المسلمين، وليس كذلك ولا سبيل لهم إلى الغيب وذلك قوله: { أم عندهم الغيب فهم يكتبون } وهذه ثلاثة احتمالات.
وإن لم يكن حكمهم بالمساواة حكماً جدّياً بل إنما تفوَّهوا بهذا القول تخلصاً وفراراً من اتِّباعك على دعوتك لأنك تسألهم أجراً على رسالتك وهدايتك لهم إلى الحق فهم مثقلون من غرامته، وليس كذلك، وهو قوله: { أم تسألهم أجراً فهم من مغرم مثقلون } وهذا سابع الاحتمالات.
هذا ما يعطيه التدبر في الآيات في وجه ضبط ما فيها من الترديد وقد ذكروا في وجه الضبط غير ذلك من أراد الوقوف عليه فليراجع المطوّلات.
فقوله: { ما لكم كيف تحكمون } مسوق للتعجب من حكمهم بكون المجرمين يوم القيامة كالمسلمين، وهو إشارة إلى تأبِّي العقل عن تجويز التساوي، ومحصله نفي حكم العقل بذلك إذ معناه: أي شيء حصل لكم من اختلال الفكر وفساد الرأي حتى حكمتم بذلك؟
قوله تعالى: { أم لكم كتاب فيه تدرسون إن لكم لما تخيَّرون } إشارة إلى انتفاء الحجة على حكمهم بالتساوي من جهة السمع كما أن الآية السابقة كانت إشارة إلى انتفائها من جهة العقل.
والمراد بالكتاب الكتاب السماوي النازل من عند الله وهو حجة، ودرس الكتاب قراءته، والتخيّر الاختيار، وقوله: { إن لكم لما تخيّرون } في مقام المفعول لتدرسون والاستفهام إنكاري.
والمعنى: بل ألكم كتاب سماوي تقرأون فيه إن لكم في الآخرة - أو مطلقاً - لما تختارونه فاخترتم السعادة والجنة.
قوله تعالى: { أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون } إشارة إلى انتفاء أن يملكوا الحكم بعهد ويمين شفاهي لهم على الله سبحانه.
والأيمان جمع يمين وهو القسَم، والبلوغ هو الانتهاء في الكمال فالأيمان البالغة هي المؤكدة نهاية التوكيد، وقوله: { إلى يوم القيامة } على هذا ظرف مستقر متعلق بمقدر والتقدير: أم لكم علينا أيمان كائنة إلى يوم القيامة مؤكدة نهاية التوكيد، الخ.
ويمكن أن يكون { إلى يوم القيامة } متعلقاً ببالغة والمراد ببلوغ الأيمان انطباقها على امتداد الزمان حتى ينتهى إلى يوم القيامة.
وقد فسروا الأيمان بالعهود والمواثيق فيكون من باب إطلاق اللازم وإرادة الملزوم كناية، واحتمل أن يكون من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل.
وقوله: { إن لكم لما تحكمون } جواب القسم وهو المعاهد عليه، والاستفهام للانكار.
والمعنى: بل ألكم علينا عهود أقسمنا فيها إقساماً مؤكداً إلى يوم القيامة إنا سلمنا لكم أن لكم لما تحكمون به.
قوله تعالى: { سلهم أيّهم بذلك زعيم } إعراض عن خطابهم والتفات إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتوجيه الخطاب لسقوطهم عن درجة استحقاق الخطاب ولذلك أورد بقية السؤالات وهي مسائل أربع في سياق الغيبة أولها قوله: { سلهم أيّهم بذلك زعيم } والزعيم القائم بالأمر المتصدي له، والاستفهام إنكاري.
والمعنى: سل المشركين أيّهم قائم بأمر التسوية الذي يدَّعونه أي إذا ثبت أن الله لا يسوِّي بين الفريقين لعدم دليل يدلُّ عليه فهل الذي يقوم بهذا الأمر ويتصدّاه هو منهم؟ فأيّهم هو؟ ومن الواضح بطلانه لا يتفوَّه به إلا مصاب في عقله.
قوله تعالى: { أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين } ردّ لهم على تقدير أن يكون حكمهم بالتساوي مبنياً على دعواهم أن لهم آلهة يشاركون الله سبحانه في الربوبية سيشفعون لهم عند الله فيجعلهم كالمسلمين والاستفهام إنكاري يفيد نفي الشركاء.
وقوله: { فليأتوا بشركائهم } الخ، كناية عن انتفاء الشركاء يفيد تأكيد ما في قوله: { أم لهم شركاء } من النفي.
وقيل: المراد بالشركاء شركاؤهم في هذا القول، والمعنى: أم لهم شركاء يشاركونهم في هذا القول ويذهبون مذهبهم فليأتوا بهم إن كانوا صادقين.
وأنت خبير بأن هذا المعنى لا يقطع الخصام.
وقيل: المراد بالشركاء الشهداء والمعنى: أم لهم شهداء على هذا القول فليأتوا بهم إن كانوا صادقين.
وهو تفسير بما لا دليل عليه من جهة اللفظ. على أنه مستدرك لأن هؤلاء الشهداء شهداء على كتاب من عند الله أو وعد بعهد ويمين وقد رد كلا الاحتمالين فيما تقدم.
وقيل: المراد بالشركاء شركاء الألوهية على ما يزعمون لكن المعني من إتيانهم بهم إتيانهم بهم يوم القيامة ليشهدوا لهم أو ليشفعوا لهم عند الله سبحانه.
وأنت خبير بأن هذا المعنى أيضاً لا يقطع الخصام.
قوله تعالى: { يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون } إلى قوله { وهم سالمون } يوم ظرف متعلق بمحذوف كاذكر ونحوه، والكشف عن الساق تمثيل في اشتداد الأمر اشتداداً بالغاً لما أنهم كانوا يشمّرون عن سوقهم إذا اشتد الأمر للعمل أو للفرار قال في الكشاف: فمعنى { يوم يكشف عن ساق } في معنى يوم يشتد الأمر ويتفاقم، ولا كشف ثم ولا ساق كما تقول للأقطع الشحيح: يده مغلولة ولا يد ثم ولا غل وإنما هو مثل في البخل انتهى.
والآية وما بعدها إلى تمام خمس آيات اعتراض وقع في البين بمناسبة ذكر شركائهم الذين يزعمون أنهم سيسعدونهم لو كان هناك بعث وحساب فذكر سبحانه أن لا شركاء لله ولا شفاعة وإنما يحرز الإنسان سعادة الآخرة بالسجود أي الخضوع لله سبحانه بتوحيد الربوبية في الدنيا حتى يحمل معه صفة الخضوع فيسعد بها يوم القيامة.
وهؤلاء المكذبون المجرمون لم يسجدوا لله في الدنيا فلا يستطيعون السجود في الآخرة فلا يسعدون ولا تتساوى حالهم وحال المسلمين فيها البتة بل الله سبحانه يعاملهم في الدنيا لاستكبارهم عن سجوده معاملة الاستدراج والإملاء حتى يتم لهم شقاؤهم فيردوا العذاب الأليم في الآخرة.
فقوله: { يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون } معناه اذكر يوم يشتد عليهم الأمر ويدعون إلى السجود لله خضوعاً فلا يستطيعون لاستقرار ملكة الاستكبار في سرائرهم واليوم تبلى السرائر.
وقوله: { خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة } حالان من نائب فاعل يدعون أي حال كون أبصارهم خاشعة وحال كونهم يغشاهم الذلة بقهر، ونسبة الخشوع إلى الأبصار لظهور أثره فيها.
وقوله: { وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون } المراد بالسلامة سلامتهم من الآفات والعاهات التي لحقت نفوسهم بسبب الاستكبار عن الحق فسلبتها التمكن من إجابة الحق أو المراد مطلق استطاعتهم منه في الدنيا.
والمعنى: وقد كانوا في الدنيا يدعون إلى السجود لله وهم سالمون متمكنون منه أقوى تمكن فلا يجيبون إليه.
وقيل: المراد بالسجود الصلاة وهو كما ترى.
قوله تعالى: { فذرني ومن يكذب بهذا الحديث } المراد بهذا الحديث القرآن الكريم وقوله: { فذرني ومن يكذب } الخ، كناية عن أنه يكفيهم وحده وهو غير تاركهم وفيه نوع تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتهديد للمشركين.
قوله تعالى: { سنستدرجهم من حيث لا يعلمون } استئناف فيه بيان كيفية أخذه تعالى لهم وتعذيبه إياهم المفهوم من قوله: { فذرني } الخ.
والاستدراج هو استنزالهم درجة فدرجة حتى يتم لهم الشقاء فيقعوا في ورطة الهلاك وذلك بأن يؤتيهم الله نعمة بعد نعمة وكلما أُوتوا نعمة اشتغلوا بها وفرطوا في شكرها وزادوا نسياناً له وابتعدوا عن ذكره.
فالاستدراج إيتاؤهم النعمة بعد النعمة الموجب لنزولهم درجة بعد درجة واقترابهم من ورطة الهلاك، وكونه من حيث لا يعلمون إنما هو لكونه من طريق النعمة التي يحسبونها خيراً وسعادة لا شر فيها ولا شقاء.
قوله تعالى: { وأُملي لهم إن كيدي متين } الإملاء الإمهال، والكيد ضرب من الاحتيال، والمتين القوي.
والمعنى: وأُمهلهم حتى يتوسعوا في نعمنا بالمعاصي كما يشاؤن إن كيدي قوي.
والنكتة في الالتفات الذي في { سنستدرجهم } عن التكلم وحده إلى التكلم مع الغير الدالة على العظمة وأن هناك موكلين على هذه النعم التي تصب عليهم صباً، والالتفات في قوله: { وأُملي لهم } عن التكلم مع الغير إلى التكلم وحده لأن الإملاء تأخير في الأجل ولم ينسب أمر الأجل في القرآن إلى غير الله سبحانه قال تعالى:
{ { ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده } [الأنعام: 2]. قوله تعالى: { أم تسألهم أجراً فهم من مغرم مثقلون } المغرم الغرامة، والإثقال تحميل الثقل، والجملة معطوفة على قوله: { أم لهم شركاء } الخ.
والمعنى: أم تسأل هؤلاء المجرمين - الذين يحكمون بتساوي المجرمين والمسلمين يوم القيامة - أجراً على دعوتك فهم من غرامة تحملها عليهم مثقلون فيواجهونك بمثل هذا القول تخلصاً من الغرامة دون أن يكون ذلك منهم قولاً جدياً.
قوله تعالى: { أم عندهم الغيب فهم يكتبون } ظاهر السياق أن يكون المراد بالغيب غيب الأشياء الذي منه تنزل الأمور بقدر محدود فتستقر في منصة الظهور، والمراد بالكتابة على هذا هو التقدير والقضاء، والمراد بكون الغيب عندهم تسلطهم عليه وملكهم له.
فالمعنى: أم بيدهم أمر القدر والقضاء فهم يقضون كما شاؤا فيقضون لأنفسهم أن يساووا المسلمين يوم القيامة.
وقيل: المراد بكون الغيب عندهم علمهم بصحة ما حكموا به والكتابة على ظاهر معناه والمعنى: أم عندهم علم بصحة ما يدّعونه اختصوا به ولا يعلمه غيرهم فهم يكتبونه ويتوارثونه وينبغي أن يبرزوه.
وهو بعيد بل مستدرك والاحتمالات الأخر المذكورة مغنية عنه.
وإنما أُخّر ذكر هذا الاحتمال عن غيره حتى عن قوله: { أم تسألهم أجراً } مع أن مقتضى الظاهر أن يتقدم عليه، لكونه أضعف الاحتمالات وأبعدها.
قوله تعالى: { فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم } صاحب الحوت يونس النبي عليه السلام والمكظوم من كظم الغيظ إذا تجرعه ولذا فسر بالمختنق بالغم حيث لا يجد لغيظه شفاء، ونهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن أن يكون كيونس عليه السلام وهو في زمن النداء مملوء بالغم نهي عن السبب المؤدي إلى نظير هذا الابتلاء وهو ضيق الصدر والاستعجال بالعذاب.
والمعنى: فاصبر لقاء ربك أن يستدرجهم ويملي لهم ولا تستعجل لهم العذاب لكفرهم ولا تكن كيونس فتكون مثله وهو مملوء غماً أو غيظاً ينادي بالتسبيح والاعتراف بالظلم أي فاصبر واحذر أن تبتلي بما يشبه ابتلاءه، ونداؤه قوله في بطن الحوت: { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } كما في سورة الأنبياء.
وقيل: اللام في { لحكم ربك } بمعنى إلى وفيه تهديد لقومه ووعيد لهم أن سيحكم الله بينه وبينهم، والوجه المتقدم أنسب لسياق الآيات السابقة.
قوله تعالى: { لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم } في مقام التعليل للنهي السابق: { لا تكن كصاحب الحوت } والتدارك الإدراك واللحوق، وفسرت النعمة بقبول التوبة، والنبذ الطرح، والعراء الأرض غير المستورة بسقف أو نبات، والذمّ مقابل المدح.
والمعنى: لولا أن أدركته ولحقت به نعمة من ربه وهو أن الله قبل توبته لطرح بالأرض العراء وهو مذموم بما فعل.
لا يقال: إن الآية تنافي قوله تعالى: { فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون }، فإن مدلوله أن مقتضى عمله أن يلبث في بطنه إلى يوم القيامة ومقتضى هذه الآية أن مقتضاه أن يطرح في الأرض العراء مذموماً وهما تبعتان متنافيتان لا تجتمعان.
فإنه يقال: الآيتان تحكيان عن مقتضيين مختلفين لكل منهما أثر على حدة فآية الصافات تذكر أنه عليه السلام كان مداوماً للتسبيح مستمراً عليه طول حياته قبل ابتلائه - وهو قوله: كان من المسبحين - ولولا ذلك للبث في بطنه إلى يوم القيامة، والآية التي نحن فيها تدلُّ على أن النعمة وهو قبول توبته في بطن الحوت شملته فلم ينبذ بالعراء مذموماً.
فمجموع الآيتين يدلُّ على أن ذهابه مغاضباً كان يقتضي أن يلبث في بطنه إلى يوم القيامة فمنع عنه دوام تسبيحه قبل التقامه وبعده، وقدّر أن ينبذ بالعراء وكان مقتضى عمله أن ينبذ مذموماً فمنع من ذلك تدارك نعمة ربه له فنبذ غير مذموم بل اجتباه الله وجعله من الصالحين فلا منافاة بين الآيتين.
وقد تكرر في مباحثنا السابقة أن حقيقة النعمة الولاية وعلى ذلك يتعين لقوله: { لولا أن تداركه نعمة من ربه } معنى آخر.
قوله تعالى: { فاجتباه ربه فجعله من الصالحين } تقدم توضيح معنى الاجتباء والصلاح في مباحثنا المتقدمة.
قوله تعالى: { وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر } إن مخففة من الثقيلة، والزلق هو الزلل، والإزلاق الإزلال وهو الصرع كناية عن القتل والإهلاك.
والمعنى: أنه قارب الذين كفروا أن يصرعوك بأبصارهم لما سمعوا الذكر.
والمراد بإزلاقه بالأبصار وصرعه بها - على ما عليه عامة المفسرين - الإصابة بالأعين، وهو نوع من التأثير النفساني لا دليل على نفيه عقلاً وربما شوهد من الموارد ما يقبل الانطباق عليه، وقد وردت في الروايات فلا موجب لإنكاره.
وقيل: المعنى أنهم ينظرون إليك إذا سمعوا منك الذكر الذي هو القرآن نظراً مليئاً بالعداوة والبغضاء يكادون يقتلونك بحديد نظرهم.
قوله تعالى: { ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر للعالمين } رميهم له بالجنون عندما سمعوا الذكر دليل على أن مرادهم به رمي القرآن بأنه من إلقاء الشياطين، ولذا ردَّ قولهم بأن القرآن ليس إلا ذكراً للعالمين.
وقد ردَّ قولهم: { إنه لمجنون } في أول السورة بقوله: { ما أنت بنعمة ربك بمجنون } وبه ينطبق خاتمة السورة على فاتحتها.
(بحث روائي)
في المعاني بإسناده عن الحسين بن سعيد عن أبي الحسن عليه السلام في قوله عز وجل: { يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود } قال: حجاب من نور يكشف فيقع المؤمنون سجَّداً وتدمج أصلاب المنافقين فلا يستطيعون السجود.
وفيه بإسناده عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول الله عز وجل: { يوم يكشف عن ساق } قال: كشف إزاره عن ساقه فقال: سبحان ربي الأعلى.
أقول: قال الصدوق بعد نقل الحديث: قوله: سبحان ربي الأعلى تنزيه الله سبحانه أن يكون له ساق. انتهى. وفي هذا المعنى رواية أُخرى عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام.
وفيه بإسناده عن معلى بن خنيس قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما يعني بقوله: { وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون } قال: وهم مستطيعون.
وفي الدر المنثور أخرج البخاري وابن المنذر وابن مردويه عن أبي سعيد: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول:
"يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً"
وفيه أخرج ابن مندة في الرد على الجهمية عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "{ يوم يكشف عن ساق } قال: يكشف الله عن ساقه" .
وفيه أخرج إسحاق بن راهويه في مسنده وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا والطبراني والآجري في الشريعة والدارقطني في الرؤية والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "يجمع الله الناس يوم القيامة وينزل الله في ظلل من الغمام فينادي منادياً أيها الناس ألم ترضوا من ربكم [الذي] خلقكم وصوركم ورزقكم أن يولي كل إنسان منكم ما كان يعبد في الدنيا ويتولى؟ أليس ذلك من ربكم عدلاً؟ قالوا: بلى.
قال: فينطلق كل إنسان منكم إلى ما كان يعبد في الدنيا ويتمثل لهم ما كانوا يعبدون في الدنيا فيتمثل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى، ويتمثل لمن كان يعبد عزيراً شيطان عزير حتى يمثل لهم الشجرة والعود والحجر.
ويبقى أهل الإسلام جثوماً فيتمثل لهم الرب عز وجل فيقول لهم: مالكم لم تنطلقوا كما انطلق الناس؟ فيقولون: إن لنا رباً ما رأيناه بعد فيقول: فبم تعرفون ربكم إن رأيتموه؟ قالوا: بيننا وبينه علامة إن رأيناه عرفناه؟ قال: وما هي؟ قالوا: يكشف عن ساق.
فيكشف عند ذلك عن ساق فيخرّ كل من كان يسجد طائعاً ساجداً ويبقى قوم ظهورهم كصياصي البقر يريدون السجود فلا يستطيعون"
. الحديث.
أقول: والروايات الثلاث مبنية على التشبيه المخالف للبراهين العقلية ونص الكتاب العزيز فهي مطروحة أو مُأَوَلة.
وفي الكافي بإسناده عن سفيان بن السمط قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: إن الله إذا أراد بعبد خيراً فأذنب ذنباً أتبعه بنقمة وذكره الاستغفار، فإذا أراد بعبد شراً فأذنب ذنباً أتبعه بنعمة لينسيه الاستغفار ويتمادى بها، وهو قول الله عز وجل:
{ { سنستدرجهم من حيث لا يعلمون } [الأعراف: 182] بالنعم والمعاصي.
أقول: وقد تقدم بعض روايات الاستدراج في ذيل قوله تعالى:
{ { سنستدرجهم من حيث لا يعلمون } [الأعراف: 182]. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: { إذ نادى وهو مكظوم } في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام: يقول: مغموم.
وفيه في قوله تعالى: { لولا أن تداركه نعمة من ربه } قال: النعمة الرحمة.
وفيه في قوله تعالى: { لنبذ بالعراء } قال: الموضع الذي لا سقف له.
وفي الدر المنثور في قوله تعالى: { وإن يكاد الذين كفروا } أخرج البخاري عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
"العين حق" .
وفيه أخرج أبو نعيم في الحلية عن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر" .
أقول: وهناك روايات تطبق الآيات السابقة على الولاية وهي من الجري دون التفسير ولذلك لم نوردها.