التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ
١٣
وَحُمِلَتِ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً
١٤
فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ
١٥
وَٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ
١٦
وَٱلْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَآئِهَآ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ
١٧
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ
١٨
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ ٱقْرَءُواْ كِتَـٰبيَهْ
١٩
إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ
٢٠
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ
٢١
فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ
٢٢
قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ
٢٣
كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي ٱلأَيَّامِ ٱلْخَالِيَةِ
٢٤
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَٰبَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يٰلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَٰبِيَهْ
٢٥
وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ
٢٦
يٰلَيْتَهَا كَانَتِ ٱلْقَاضِيَةَ
٢٧
مَآ أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ
٢٨
هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ
٢٩
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ
٣٠
ثُمَّ ٱلْجَحِيمَ صَلُّوهُ
٣١
ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ
٣٢
إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ ٱلْعَظِيمِ
٣٣
وَلاَ يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ
٣٤
فَلَيْسَ لَهُ ٱلْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ
٣٥
وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ
٣٦
لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ ٱلْخَاطِئُونَ
٣٧
-الحاقة

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
هذا هو الفصل الثاني من الآيات يعرّف الحاقة ببعض أشراطها ونبذة مما يقع فيها.
قوله تعالى: { فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة } قد تقدم أن النفخ في الصور كناية عن البعث والإحضار لفصل القضاء، وفي توصيف النفخة بالواحدة إشارة إلى مضي الأمر ونفوذ القدرة فلا وهن فيه حتى يحتاج إلى تكرار النفخة، والذي سبق إلى الفهم من سياق الآيات أنها النفخة الثانية التي تحيي الموتى.
قوله تعالى: { وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة } الدك أشد الدق وهو كسر الشيء وتبديله إلى أجزاء صغار، وحمل الأرض والجبال إحاطة القدرة بها، وتوصيف الدكة بالواحدة للإشارة إلى سرعة تفتتهما بحيث لا يفتقر إلى دكة ثانية.
قوله تعالى: { فيومئذ وقعت الواقعة } أي قامت القيامة.
قوله تعالى: { وانشقت السماء فهي يومئذ واهية } انشقاق الشيء انفصال شطر منه من شطر آخر، وواهية من الوهي بمعنى الضعف، وقيل: من الوهي بمعنى شق الأديم والثوب ونحوهما.
ويمكن أن تكون الآية أعني قوله: { وانشقت السماء فهي يومئذ واهية والملك على أرجائها } في معنى قوله:
{ { ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلاً } [الفرقان: 25]. قوله تعالى: { والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } قال الراغب: رجا البئر والسماء وغيرهما جانبها والجمع أرجاء قال تعالى: { والملك على أرجائها } انتهى، والملك - كما قيل - يطلق على الواحد والجمع والمراد به في الآية الجمع.
وقوله: { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } ضمير { فوقهم } على ظاهر ما يقتضيه السياق للملائكة، وقيل: الضمير للخلائق.
وظاهر كلامه أن للعرش اليوم حملة من الملائكة قال تعالى:
{ { الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا } [غافر: 7]، وقد وردت الروايات أنهم أربعة، وظاهر الآية أعني قوله: { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } أن الحملة يوم القيامة ثمانية وهل هم من الملائكة أو من غيرهم؟ الآية ساكتة عن ذلك وإن كان لا يخلو السياق من إشعار ما بأنهم من الملائكة.
ومن الممكن - كما تقدمت الإشارة إليه - أن يكون الغرض من ذكر انشقاق السماء وكون الملائكة على أرجائها وكون حملة العرش يومئذ ثمانية بيان ظهور الملائكة والسماء والعرش للإنسان يومئذ، قال تعالى:
{ { وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبّحون بحمد ربهم } [الزمر: 75]. قوله تعالى: { يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية } الظاهر أن المراد به العرض على الله كما قال تعالى: { { وعرضوا على ربك صفاً } [الكهف: 48]، والعرض إراءة البائع سلعته للمشتري ببسطها بين يديه، فالعرض يومئذ على الله وهو يوم القضاء إبراز ما عند الإنسان من اعتقاد وعمل إبرازاً لا يخفى معه عقيدة خافية ولا فعلة خافية وذلك بتبدل الغيب شهادة والسر علناً قال: { { يوم تبلى السرائر } [الطارق: 9]، وقال: { { يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء } [غافر: 16]. وقد تقدم في أبحاثنا السابقة أن ما عد في كلامه تعالى من خصائص يوم القيامة كاختصاص الملك بالله، وكون الأمر له، وأن لا عاصم منه، وبروز الخلق له وعدم خفاء شيء منهم عليه وغير ذلك، كل ذلك دائمية الثبوت له تعالى، وإنما المراد ظهور هذه الحقائق يومئذ ظهوراً لا ستر عليه ولا مرية فيه.
فالمعنى: يومئذ يظهر أنكم في معرض على علم الله ويظهر كل فعلة خافية من أفعالكم.
قوله تعالى: { فأما من أُوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤا كتابيه } قال في المجمع: هاؤم أمر للجماعة بمنزلة هاكم، تقول للواحد: هاءَ يا رجل، وللاثنين: هاؤما يا رجلان، وللجماعة: هاؤم يا رجال، وللمرأة: هاءِ يا امرأة بكسر الهمزة وليس بعدها ياء، وللمرأتين: هاؤما، وللنساء: هاؤنَّ. هذه لغة أهل الحجاز.
وتميم وقيس يقولون: هاءَ يا رجل مثل قول أهل الحجاز، وللاثنين: هاءآ، وللجماعة: هاؤا، وللمرأة: هائي، وللنساء: هاؤنّ.
وبعض العرب يجعل مكان الهمزة كافاً فيقول: هاكَ هاكما هاكم هاكِ هاكما هاكنَّ، ومعناه: خذ وتناول، ويؤمر بها ولا ينهى. انتهى.
والآية وما بعدها إلى قوله: { الخاطئون } بيان تفصيلي لاختلاف حال الناس يومئذ من حيث السعادة والشقاء، وقد تقدم في تفسير قوله تعالى:
{ { فمن أُوتي كتابه بيمينه } [الإسراء: 71] كلام في معنى إعطاء الكتاب باليمين، والظاهر أن قوله: { هاؤم اقرؤا كتابيه } خطاب للملائكة، والهاء في { كتابيه } وكذا في أواخر الآيات التالية للوقف وتسمى هاء الاستراحة.
والمعنى: فأما من أُوتي كتابه بيمينه فيقول للملائكة: خذوا واقرؤا كتابيه أي إنها كتاب يقضي بسعادتي.
قوله تعالى: { إني ظننت أني مُلاقٍ حسابيه } الظن بمعنى اليقين، والآية تعليل ما يتحصل من الآية السابقة ومحصل التعليل إنما كان كتابي كتاب اليمين وقاضياً بسعادتي لأني أيقنت في الدنيا أني سألاقي حسابي فآمنت بربي وأصلحت عملي.
قوله تعالى: { فهو في عيشة راضية } أي يعيش عيشة يرضاها فنسبة الرضا إلى العيشة من المجاز العقلي.
قوله تعالى: { في جنة عالية } إلى قوله { الخالية } أي هو في جنة عالية قدراً فيها ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وقوله: { قطوفها دانية } القطوف جمع قطف بالكسر فالسكون وهو ما يجتنى من الثمر والمعنى: أثمارها قريبة منه يتناوله كيف يشاء.
وقوله: { كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية } أي يقال لهم: كلوا واشربوا من جميع ما يؤكل فيها وما يشرب حال كونه هنيئا لكم بما قدمتم من الإيمان والعمل الصالح في الدنيا التي تقضّت أيامها.
قوله تعالى: { وأما من أُوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أُوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه } وهؤلاء هم الطائفة الثانية وهم الأشقياء المجرمون يؤتون صحيفة أعمالهم بشمالهم وقد مر الكلام في معناه في سورة الإسراء، وهؤلاء يتمنون أن لو لم يكونوا يؤتون كتابهم ويدرون ما حسابهم يتمنون ذلك لما يشاهدون من أليم العذاب المعد لهم.
قوله تعالى: { يا ليتها كانت القاضية } ذكروا أن ضمير { ليتها } للموتة الأولى التي ذاقها الإنسان في الدنيا.
والمعنى: يا ليت الموتة الأولى التي ذقتها كانت قاضية عليَّ تقضي بعدمي فكنت انعدمت ولم أُبعث حياً فأقع في ورطة العذاب الخالد وأُشاهد ما أُشاهد.
قوله تعالى: { ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه } كلمتا تحسر يقولهما حيث يرى خيبة سعيه في الدنيا فإنه كان يحسب أن مفتاح سعادته في الحياة هو المال والسلطان يدفعان عنه كل مكروه ويسلطانه على كل ما يحب ويرضى فبذل كل جهده في تحصيلهما وأعرض عن ربه وعن كل حق يدعى إليه وكذب داعيه فلما شاهد تقطع الأسباب وأنه في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ذكر عدم نفع ما له وبطلان سلطانه تحسراً وتوجعاً وماذا ينفع التحسر؟
قوله تعالى: { خذوه فغلوه } إلى قوله { فاسلكوه } حكاية أمره تعالى الملائكة بأخذه وإدخاله النار، والتقدير يقال للملائكة خذوه الخ، و { غلوه } أمر من الغل بالفتح وهو السد بالغل الذي يجمع بين اليد والرجل والعنق.
وقوله: { ثم الجحيم صلوه } أي أدخلوه النار العظيمة وألزموه إياها.
وقوله: { ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه } السلسلة القيد، والذرع الطول، والذراع بُعد ما بين المرفق ورأس الأصابع وهو واحد الطول وسلوكه فيه جعله فيه، والمحصّل ثم اجعلوه في قيد طوله سبعون ذراعاً.
قوله تعالى: { إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحضُّ على طعام المسكين } الحضّ التحريض والترغيب، والآيتان في مقام التعليل للأمر بالأخذ والإدخال في النار أي إن الأخذ ثم التصلية في الجحيم والسلوك في السلسلة لأجل أنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحرض على طعام المسكين أي يساهل في أمر المساكين ولا يبالي بما يقاسونه.
قوله تعالى: { فليس له اليوم ها هنا حميم } إلى قوله { الخاطئون } الحميم الصديق والآية تفريع على قوله: { إنه كان لا يؤمن } الخ، والمحصل: أنه لما كان لا يؤمن بالله العظيم فليس له اليوم ها هنا صديق ينفعه أي شفيع يشفع له إذ لا مغفرة لكافر فلا شفاعة.
وقوله: { ولا طعام إلا من غسلين } الغسلين الغسالة وكأن المراد به ما يسيل من أبدان أهل النار من قيح ونحوه والآية عطف على قوله في الآية السابقة: { حميم } ومتفرع على قوله: { ولا يحض } الخ، والمحصل: أنه لما كان لا يحرض على طعام المسكين فليس له اليوم ها هنا طعام إلا من غسلين أهل النار.
وقوله: { لا يأكله إلا الخاطئون } وصف لغسلين والخاطئون المتلبسون بالخطيئة والإِثم. (بحث روائي)
في الدر المنثور في قوله تعالى: { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"يحمله اليوم أربعة ويوم القيامة ثمانية"
]. أقول: وفي تقييد الحاملين في الآية بقوله: { يومئذ } إشعار بل ظهور في اختصاص العدد بالقيامة.
وفي تفسير القمي وفي حديث آخر قال: حمله ثمانية أربعة من الأولين وأربعة من الآخرين فأما الأربعة من الأولين فنوح وإبراهيم وموسى وعيسى، وأما الأربعة من الآخرين فمحمد وعلي والحسن والحسين عليهم السلام.
أقول: وفي غير واحد من الروايات أن الثمانية مخصوصة بيوم القيامة، وفي بعضها أن حملة العرش - والعرش العلم - أربعة منا وأربعة ممن شاء الله.
وفي تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إنه إذا كان يوم القيامة يدعى كل أُناس بإمامه الذي مات في عصره فإن أثبته أُعطي كتابه بيمينه لقوله: { يوم ندعو كل أُناس بإمامهم } فمن أُوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرأون كتابهم، واليمين إثبات الإمام لأنه كتابه يقرؤه - إلى أن قال - ومن أنكر كان من أصحاب الشمال الذين قال الله: { وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم } الخ.
أقول: وفي عدة من الروايات تطبيق قوله: { فأما من أُوتي كتابه بيمينه } الخ، على علي عليه السلام، وفي بعضها عليه وعلى شيعته، وكذا تطبيق قوله: { وأما من أُوتي كتابه بشماله } الخ، على أعدائه، وهي من الجري دون التفسير.
وفي الدر المنثور أخرج الحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
"لو أن دلوا من غسلين يهراق في الدنيا لأنتن بأهل الدنيا"
]. وفيه أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن صعصعة بن صوحان قال: جاء أعرابي إلى علي بن أبي طالب فقال: كيف هذا الحرف: لا يأكله إلا الخاطون؟ كلٌ والله يخطو. فتبسَّم علي وقال: يا أعرابي { لا يأكله إلا الخاطئون } قال: صدقت والله يا أمير المؤمنين ما كان الله ليسلم عبده.
ثم التفت علي إلى أبي الأسود فقال: إن الأعاجم قد دخلت في الدين كافة فضع للناس شيئاً يستدلُّون به على صلاح ألسنتهم فرسم لهم الرفع والنصب والخفض.
وفي تفسير البرهان عن ابن بابويه في الدروع الواقية في حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ولو أن ذراعاً من السلسلة التي ذكرها الله في كتابه وضع على جميع جبال الدنيا لذابت عن حرِّها.