التفاسير

< >
عرض

ٱلْحَاقَّةُ
١
مَا ٱلْحَآقَّةُ
٢
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْحَاقَّةُ
٣
كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِٱلْقَارِعَةِ
٤
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِٱلطَّاغِيَةِ
٥
وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ
٦
سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى ٱلْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ
٧
فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ
٨
وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَٱلْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ
٩
فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً
١٠
إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلْمَآءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي ٱلْجَارِيَةِ
١١
لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ
١٢
-الحاقة

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
السورة تذكر الحاقة وهي القيامة وقد سمَّتها أيضاً بالقارعة والواقعة.
وقد ساقت الكلام فيها في فصول ثلاثة: فصل تذكر فيه إجمالاً الأمم الذين كذَّبوا بها فأخذهم الله أخذة رابية، وفصل تصف فيه الحاقة وانقسام الناس فيها إلى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال واختلاف حالهم بالسعادة والشقاء، وفصل تؤكد فيه صدق القرآن في إنبائه بها وأنه حق اليقين، والسورة مكية بشهادة سياق آياتها.
قوله تعالى: { الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة } المراد بالحاقة القيامة الكبرى سميت بها لثبوتها ثبوتاً لا مردَّ له ولا ريب فيه، من حق الشيء بمعنى ثبت وتقرَّر تقرُّراً واقعياً.
و { ما } في { الحاقة } استفهامية تفيد تفخيم أمرها، ولذلك بعينه وضع الظاهر موضع الضمير ولم يُقَل: ما هي، والجملة الاستفهامية خبر الحاقة.
فقوله: { الحاقة ما الحاقة } مسوق لتفخيم أمر القيامة يفيد تفخيم أمرها وإعظام حقيقتها إفادة بعد إفادة.
فقوله: { وما أدراك ما الحاقة } خطاب بنفي العلم بحقيقة اليوم وهذا التعبير كناية عن كمال أهمية الشيء وبلوغه الغاية في الفخامة ولعل هذا هو المراد مما نقل عن ابن عباس: أن ما في القرآن من قوله تعالى: { ما أدراك } فقد أدراه وما فيه من قوله: { ما يدريك } فقد طوى عنه، يعني أن { ما أدراك } كناية و { ما يدريك } تصريح.
قوله تعالى: { كذّبت ثمود وعاد بالقارعة } المراد بالقارعة القيامة وسميت بها لأنها تقرع وتدكُّ السماوات والأرض بتبديلها والجبال بتسييرها والشمس بتكويرها والقمر بخسفها والكواكب بنثرها والأشياء كلها بقهرها على ما نطقت به الآيات، وكان مقتضى الظاهر أن يقال: كذبت ثمود وعاد بها فوضع القارعة موضع الضمير لتأكيد تفخيم أمرها.
وهذه الآية وما يتلوها إلى تمام تسع آيات وإن كانت مسوقة للاشارة إلى إجمال قصص قوم نوح وعاد وثمود وفرعون ومن قبله والمؤتفكات وإهلاكهم لكنها في الحقيقة بيان للحاقة ببعض أوصافها وهو أن الله أهلك أُمماً كثيرة بالتكذيب بها فهي في الحقيقة جواب للسؤال بما الاستفهامية كما أن قوله: { فإذا نفخ في الصور } الخ، جواب آخر.
ومحصل المعنى: هي القارعة التي كذبت بها ثمود وعاد وفرعون ومن قبله والمؤتفكات وقوم نوح فأخذهم الله أخذة رابية وأهلكهم بعذاب الاستئصال.
قوله تعالى: { فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية } بيان تفصيلي لأثر تكذيبهم بالقارعة، والمراد بالطاغية الصيحة أو الرجفة أو الصاعقة على اختلاف ظاهر تعبير القرآن في سبب هلاكهم في قصتهم قال تعالى
{ { وأخذ الذين ظلموا الصيحة } [هود: 67]، وقال أيضاً { { فأخذتهم الرجفة } [الأعراف: 78]، وقال أيضاً: { { فأخذتهم صاعقة العذاب الهون } [فصلت: 17]. وقيل: الطاغية مصدر كالطغيان والطغوى والمعنى: فأما ثمود فاهلكوا بسبب طغيانهم، ويؤيده قوله تعالى: { { كذبت ثمود بطغواها } [الشمس: 11]. وأول الوجهين أنسب لسياق الآيات التالية حيث سيقت لبيان كيفية إهلاكهم من الإِهلاك بالريح أو الأخذ الرابي أو طغيان الماء فليكن هلاك ثمود بالطاغية ناظراً إلى كيفية إهلاكهم.
قوله تعالى: { وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية } الصرصر الريح الباردة الشديدة الهبوب، وعاتية من العتوّ بمعنى الطغيان والابتعاد من الطاعة والملاءمة.
قوله تعالى: { سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية } تسخيرها عليهم تسليطها عليهم، والحسوم جمع حاسم كشهود جمع شاهد من الحسم بمعنى تكرار الكي مرات متتالية، وهي صفة لسبع أي سبع ليال وثمانية أيام متتالية متتابعة وصرعى جمع صريع وأعجاز جمع عجز بالفتح فالضم آخر الشيء، وخاوية الخالية الجوف الملقاة والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: { فهل ترى لهم من باقية } أي من نفس باقية، والجملة كناية عن استيعاب الهلاك لهم جميعاً، وقيل: الباقية مصدر بمعنى البقاء وقد أُريد به البقية وما قدمناه من المعنى أقرب.
قوله تعالى: { وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة } المراد بفرعون فرعون موسى، وبمن قبله الأمم المتقدمة عليه زماناً من المكذبين، وبالمؤتفكات قرى قوم لوط والجماعة القاطنة بها، { وخاطئة } مصدر بمعنى الخطأ والمراد بالمجيء بالخاطئة إخطاء طريق العبودية، والباقي ظاهر.
قوله تعالى: { فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية } ضمير { عصوا } لفرعون ومن قبله والمؤتفكات، والمراد بالرسول جنسه، والرابية الزائدة من ربا يربو ربوة إذا زاد، والمراد بالأخذة الرابية العقوبة الشديدة وقيل: العقوبة الزائدة على سائر العقوبات وقيل: الخارقة للعادة.
قوله تعالى: { إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية } إشارة إلى طوفان نوح والجارية السفينة، وعد المخاطبين محمولين في سفينة نوح والمحمول في الحقيقة أسلافهم لكون الجميع نوعاً واحداً ينسب حال البعض منه إلى الكل والباقي ظاهر.
قوله تعالى: { لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أُذن واعية } تعليل لحملهم في السفينة فضمير { لنجعلها } للحمل باعتبار أنه فعلة أي فعلنا بكم تلك الفعلة لنجعلها لكم أمراً تتذكرون به وعبرة تعتبرون بها وموعظة تتعظون بها.
وقوله: { وتعيها أُذن واعية } الوعي جعل الشيء في الوعاء، والمراد بوعي الأذن لها تقريرها في النفس وحفظها فيها لترتب عليها فائدتها وهي التذكر والاتعاظ.
وفي الآية بجملتيها إشارة إلى الهداية الربوبية بكلا قسميها أعني الهداية بمعنى إراءة الطريق والهداية بمعنى الإيصال إلى المطلوب.
توضيح ذلك أن من السنة الربوبية العامة الجارية في الكون هداية كل نوع من أنواع الخليقة إلى كماله اللائق به بحسب وجوده الخاص بتجهيزه بما يسوقه نحو غايته كما يدل عليه قوله تعالى:
{ { الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } [طه: 50]، وقوله: { { الذي خلق فسوَّى والذي قدَّر فهدى } [الأعلى: 2-3]، وقد تقدم توضيح ذلك في تفسير سورتي طه والأعلى وغيرهما.
والإنسان يشارك سائر الأنواع المادية في أن له استكمالاً تكوينياً وسلوكاً وجودياً نحو كماله الوجودي بالهداية الربوبية التي تسوقه نحو غايته المطلوبة ويختص من بينها بالاستكمال التشريعي فإن للنفس الإنسانية استكمالاً من طريق أفعالها الاختيارية بما يلحقها من الأوصاف والنعوت وتتلبس به من الملكات والأحوال في الحياة الدنيا وهي غاية وجود الإنسان التي تعيش بها عيشة سعيدة مؤبدة.
وهذا هو السبب الداعي إلى تشريع السنة الدينية بإرسال الرسل وإنزال الكتب والهداية إليها
{ { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } [النساء: 165]، وقد تقدم تفصيله في أبحاث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب وغيره، وهذه هداية بمعنى إراءة الطريق وإعلام الصراط المستقيم الذي لا يسع الإنسان إلا أن يسلكه، قال تعالى: { { إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً } [الأنسان: 3]، فإن لزم الصراط وسلكه حيّ بحياة طيبة سعيدة وإن تركه وأعرض عنه هلك بشقاء دائم وتمَّت عليه الحجة على أي حال، قال تعالى: { { ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيَّ عن بينة } [الأنفال: 42]. إذا تقرر هذا تبيّن أن من سنة الربوبية هداية الناس إلى سعادة حياتهم بإراءة الطريق الموصل إليها، وإليها الإشارة بقوله: { لنجعلها لكم تذكرة } فإن التذكرة لا تستوجب التذكر ممن ذكّر بها بل ربما أثرت وربما تخلفت.
ومن سنة الربوبية هداية الأشياء إلى كمالاتها بمعنى إنهائها وإيصالها إليها بتحريكها وسوقها نحوه، وإليها الإشارة بقوله: { وتعيها أُذن واعية } فإن الوعي المذكور من مصاديق الاهتداء بالهداية الربوبية وإنما لم ينسب تعالى الوعي إلى نفسه كما نسب التذكرة إلى نفسه لأن المطلوب بالتذكرة إتمام الحجة وهو من الله وأما الوعي فإنه وإن كان منسوباً إليه كما أنه منسوب إلى الإنسان لكن السياق سياق الدعوة وبيان الأجر والمثوبة على إجابة الدعوة والأجر والمثوبة من آثار الوعي بما أنه فعل للإنسان منسوب إليه لا بما أنه منسوب إلى الله تعالى.
ويظهر من الآية الكريمة أن للحوادث الخارجية تأثيراً في أعمال الإنسان كما يظهر من مثل قوله:
{ { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } [الأعراف: 96] أن لأعمال الإنسان تأثيراً في الحوادث الخارجية وقد تقدم بعض الكلام فيه.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: { لنجعلها لكم تذكرة } قال: لأُمَّة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكم من سفينة قد هلكت وأثر قد ذهب يعني ما بقي من السفينة حتى أدركته أُمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فرأوه كانت ألواحها ترى على الجوديّ.
أقول: وتقدم ما يؤيد ذلك في قصة نوح في تفسير سورة هود.
وفيه أخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن مكحول قال: لما نزلت { وتعيها أُذن واعية } قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"سألت ربي أن يجعلها أُذن علي" . قال مكحول: فكان علي يقول: ما سمعت عن رسول الله شيئاً فنسيته.
وفيه أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والواحدي وابن مردويه وابن عساكر وابن النجاري عن بردة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي:
"إن الله أمرني أن أُدنيك ولا أُقصيك وأن أُعلِّمك وأن تعي وحقٌ لك أن تعي فنزلت هذه الآية { وتعيها أُذن واعية }"
]. وفيه أخرج أبو نعيم في الحلية عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يا علي: إن الله أمرني أن أُدنيك وأُعلّمك لتعي فأُنزِلَت هذه الآية { وتعيها أُذن واعية } فأنت أُذن واعية لعلمي"
]. أقول: وروى هذا المعنى في تفسير البرهان عن سعد بن عبد الله بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام، وعن الكليني بإسناده عنه عليه السلام، وعن ابن بابويه بإسناده عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام.
ورواه أيضاً عن ابن شهرآشوب عن حلية الأولياء عن عمر بن علي، وعن الواحدي في أسباب النزول عن بريدة، وعن أبي القاسم بن حبيب في تفسيره عن زرّ بن حبيش عن علي عليه السلام.
وقد روى في غاية المرام من طرق الفريقين ستة عشر حديثاً في ذلك وقال في البرهان إن محمد بن العباس روى فيه ثلاثين حديثاً من طرق العامة والخاصة.