التفاسير

< >
عرض

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَـٰئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ ٱلْكِتَابِ حَتَّىٰ إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوۤاْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ
٣٧
قَالَ ٱدْخُلُواْ فِيۤ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ مِّن ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ فِي ٱلنَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّىٰ إِذَا ٱدَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَـٰؤُلاۤءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ ٱلنَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَـٰكِن لاَّ تَعْلَمُونَ
٣٨
وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ
٣٩
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَا وَٱسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ ٱلسَّمَآءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ ٱلْجَمَلُ فِي سَمِّ ٱلْخِيَاطِ وَكَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلْمُجْرِمِينَ
٤٠
لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلظَّالِمِينَ
٤١
وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
٤٢
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَٰرُ وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي هَدَانَا لِهَـٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاۤ أَنْ هَدَانَا ٱللَّهُ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ وَنُودُوۤاْ أَن تِلْكُمُ ٱلْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
٤٣
وَنَادَىۤ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَابَ ٱلنَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ
٤٤
ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ كَافِرُونَ
٤٥
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى ٱلأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ
٤٦
وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ
٤٧
وَنَادَىٰ أَصْحَابُ ٱلأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَآ أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ
٤٨
أَهَـۤؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ ٱللَّهُ بِرَحْمَةٍ ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ
٤٩
وَنَادَىٰ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى ٱلْكَافِرِينَ
٥٠
ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا فَٱلْيَوْمَ نَنسَـٰهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَـٰذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَٰتِنَا يَجْحَدُونَ
٥١
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
٥٢
هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ ٱلَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ ٱلَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
٥٣
-الأعراف

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
الآية الأولى تفريع واستخراج من الخطاب العام الأخير المصدر بقوله: { يا بني آدم } نظير التفريعات المذكورة لسائر الخطابات العامة السابقة، وما يتلوها بيان لما يستتبعه الكذب على الله وتكذيب آياته من سوء العاقبة والإِيمان بالله والعمل الصالح من السعادة الخالدة إلا آيتين من آخرها فإن فيهما رجوعاً إلى أول الكلام وبياناً لتمام الحجة عليهم بنزول الكتاب.
قوله تعالى: { فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته } تفريع على ما تتضمنه الآية السابقة من أعلام الشريعة العامة المبلغه بواسطة الرسل أي إذا كان الأمر على ذلك وقد أبلغ الله دينه العام جميع أولاد آدم وأخبر بما أعده من الجزاء للأخذ به وتركه فمن أظلم ممن استنكف عن ذلك إما بافتراء الكذب على الله، ونسبة دين إليه، ووضعه موضع ما أتى به الرسل من دين التوحيد، وقد أخبر الله أنهم وسائط بينه وبين خلقه في تبليغهم دينه، وإما بالتكذيب لآياته الدالة على وحدانيته وما يتبعه من الشرائع.
ومن هنا يظهر أن افتراء الكذب على الله وإن كان يعم كل بدعة في الدين أصوله وفروعه غير أن المورد هو الشرك بالله باتخاذ آلهه دون الله، ويدل عليه ما سيأتي من قوله: { قالوا أينما كنتم تدعون من دون الله }.
قوله تعالى: { أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا } إلى آخر الآية. المراد بالكتاب ما قضي وكتب أن يصيب الإِنسان من مقدرات الحياة من عمر ومعيشة وغنى وصحة ومال وولد وغير ذلك، والدليل عليه تقييده بقوله: { حتى إذا جاءتهم رسلنا } الخ، والمراد به أجل الموت ومن المعلوم أنه غاية للحياة الدنيا بجميع شؤونها ومقارناتها.
والمراد بالنصيب من الكتاب السهم الذي يختص كل واحد منهم من مطلق ما كتب له ولغيره، وفي جعل النصيب من الكتاب هو الذي ينالهم، والأمر منعكس بحسب الظاهر دلالة على أن النصيب الذي فرض للإِنسان وقضي له من الله سبحانه لم يكن ليخطئه البتة وما لم يفرض له لم يكن ليصيبه البتة.
والمعنى: أولئك الذين كذبوا على الله بالشرك أو كذبوا بآياته بالرد لجميع الدين أو شطر منه ينالهم نصيبهم من الكتاب، ونصيبهم ما قضي في حقهم من الخير والشر في الحياة الدنيا حتى إذا قضوا أجلهم وجاءتهم رسلنا من الملائكة وهم ملك الموت وأعوانة نزلوا عليهم وهم يتوفونهم ويأخذون أرواحهم ونفوسهم من أبدانهم سألوهم و { قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله } من الشركاء الذين كنتم تدعون أنهم شركاء الله فيكم وشفعاؤكم عنده؟ { قالوا ضلوا عنا } وإنما ضلت أوصافهم ونعوتهم { وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } بمعاينة حقيقة الأمر أن غير الله سبحانه لا ينفع ولا يضر شيئاً، وقد أخطأوا في نسبة ذلك إلى أوليائهم.
وفي مضمون الآية جهات من البحث تقدمت في نظيره الآية من سورة الأنعام وغيرها.
قوله تعالى: { قال ادخلوا في أُمم قد خلت من قبلكم من الجن والإِنس } الخطاب من الله سبحانه دون الملائكة وإن كانوا في وسائط في التوفي وغيره، والمخاطبون بحسب سياق اللفظ هم بعض الكفار وهم الذين توفيت قبلهم أُمم من الجن والإِنس إلا أن الخطاب في معنى: ادخلوا فيما دخل فيه سابقوكم ولاحقوكم وإنما نظم الكلام هذا النظم ليتخلص به إلى ذكر التخاصم الذي يقع بين متقدميهم ومتأخريهم، وقد قال تعالى:
{ { إن ذلك لحق تخاصم أهل النار } [ص: 64]. وفي الآية دلالة على أن من الجن أُمماً يموتون بآجال خاصة قبل انتهاء أمد الدنيا على خلاف إبليس الباقي إلى يوم الوقت المعلوم.
قوله تعالى: { كلما دخلت أُمة لعنت أُختها } هذا من جملة خصامهم في النار وهو لعن كل داخل من تقدم عليه في الدخول، واللعن هو الإِبعاد من الرحمة ومن كل خير والأخت المثل.
قوله تعالى: { حتى إذا اداركوا فيها جميعاً } إلى آخر الآيتين، اداركوا أي تداركوا أي أدرك بعضهم بعضاً اللاحقون السابقين أي اجتمعوا في النار جميعاً.
والمراد بالأولى والأخرى اللتين تتخاصمان ما هو كذلك بحسب الرتبة أو بحسب الزمان فإن الأولى منهم مقاماً وهم رؤساء الضلال، وأئمه الكفر المتبوعون أعانوا تابعيهم بإضلالهم على الضلال، وكذا الأولى منهم زماناً وهم الأسلاف المتقدمون أعانوا متأخريهم على ضلالتهم لأنهم هم الذين جرؤوهم بفتح الباب لهم وتمهيد الطريق لسلوكهم.
والضعف بالكسر فالسكون ما يكرر الشيء فضعف الواحد اثنان وضعف الاثنين أربعة غير أنه ربما أُريد به ما يوجب تكرار شيء آخر فقط كالاثنين يوجب بنفسه تكرار الواحد فضعف الواحد اثنان وضعفاه أربعة، وربما أُريد به ما يوجب التكرار بانضمامه إلى شيء كالواحد يوجب تكرار واحد آخر بانضمامه إليه لأنهما يصيران بذلك اثنين فكل واحد من جزئي الاثنين ضعف وهما جميعاً ضعفان نظير الزوج فالاثنان زوج وهما زوجان وعلى كلا الاعتبارين ورد استعماله في كلامه تعالى، قال تعالى كما في هذه الآية { فآتهم عذاباً ضعفاً } وقال تعالى: { ضعفين من العذاب }.
وقوله: { قالت أُخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا } الخ، نوع من الالتفات لطيف في بابه فيه رجوع من مخاطبتهم بالمخاصمة إلى مخاطبة الله سبحانه بالدعاء عليهم معللاً بظلمهم فيفيد فائدة التكنية بالإِشارة إلى الملزوم وإفادة الملازمة، وفيه مع ذلك نوع من الإِيجاز فإن فيه اكتفاء بمحاورة واحدة عن محاورتين، والتقدير قالت أُخراهم لاولاهم أنتم أشد ظلماً منا لأنكم ضالون في أنفسكم وقد أضللتمونا فليعذبكم الله عذاباً ضعفاً من النار، ثم رجعوا إلى ربهم بالدعاء عليهم وقالوا ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً.. الخ، فأجابهم الله وقال لكل ضعف ولكن لا تعلمون، ثم أجابتهم أولاهم وقالوا: فما كان لكم علينا من فضل الخ..
فمعنى الآية: { حتى إذا اداركوا } واجتمعوا بلحوق أُخراهم لاولاهم { فيها } أي في النار تخاصموا { وقالت أُخراهم } وهم اللاحقون مرتبة أو زماناً من التابعين { لأولاهم } وهم الملحوقون المتبعون من رؤسائهم وأئمتهم، ومن آبائهم والأجيال السابقة عليهم زماناً الممهدين لهم الطريق إلى الضلال أنتم أضللتمونا بإعانتكم عليه فلتعذبوا بأشد من عذابنا فسألوا ربهم ذلك وقالوا: { ربنا هـٰؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار } يكون ضعف عذابنا لأنهم ضلوا في أنفسهم وأضلوا غيرهم بالإِعانة { قال } الله سبحانه { لكل } من الأولى والأخرى { ضعف } من العذاب أما أولاكم فإنهم ضلوا وأعانوكم على الضلال، وأما أنتم فإنكم ضللتم وأعنتوهم على الإضلال باتباع أمرهم وإجابة دعوة الرؤساء منهم، وتكثير سواد السابقين منهم باللحوق بهم { ولكن لا تعلمون } فإن العذاب إنما يتحقق أو يتم في مرحله الإِدراك والعلم. وأنتم تشاهدونهم أمثال أنفسكم في شمول العذاب وإحاطة النار فتتوهمون أن عذابهم مثل عذابكم وليس كذلك بل لهم من العذاب ما لا طريق لكم إلى إدراكه والشعور به كما أنهم بالنسبة إليكم كذلك فما عندكم وعندهم من العذاب ضعف ولكن إحاطه العذاب شغلكم عن العلم بذلك.
وهذا خطاب إلهي مبني على القهر والإِذلال فيه تعذيب لهم يسمعه أُولاهم وأُخراهم جميعاً فتعود به أولاهم لاخراهم بالتهكم وتقول كما حكى الله: { وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل } بخفة العذاب { فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون } في الدنيا من الذنوب والآثام.
قوله تعالى: { إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم } إلى آخر الآية. السم هو الثقب وجمعه السموم، والخياط والمخيط الإِبرة.
والذي نفاه الله تعالى من تفتيح أبواب السماء مطلق في نفسه يشمل الفتح لولوج أدعيتهم وصعود أعمالهم ودخول أرواحهم غير أن تعقيبه بقوله: { ولا يدخلون الجنة } الخ، كالقرينة على أن المراد نفي أن يفتح بابها لدخولهم الجنة فإن ظاهر كلامه سبحانه أن الجنة في السماء كما هو في قوله:
{ { وفي السماء رزقكم وما توعدون } [الذاريات: 22]. وقوله: { حتى يلج الجمل في سم الخياط } من التعليق بالمحال وإنما يعلق الأمر بالمحال كناية عن عدم تحققه وإياساً من وجوده كما يقال: لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب ويبيض الفار، وقد قال تعالى في موضع آخر في هذا المعنى: { { وما هم بخارجين من النار } [البقرة: 167]، والآية في معنى تعليل مضمون الآية السابقة والباقي ظاهر.
قوله تعالى: { لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش } الخ. جهنم اسم من أسماء نار الآخرة التي بها التعذيب، وقد قيل: إنه مأخوذ من قولهم "بئر جهنام" أي بعيدة العقر وقيل: فارسي معرب، و "المهاد" الوطاء الذي يفترش، ومنه مهد الصبي والغواشي جمع غاشية وهي ما يغشى الشيء ويستره ومنه غاشية السرج.
وقد أُفيد بقوله: { لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش } أنهم محاطون بالعذاب من تحتهم ومن فوقهم، والباقي ظاهر.
قوله تعالى: { والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفساً إلا وسعها } الخ. الآية ما يتلوها لتتميم بيان حال الطائفتين الكفار والمؤمنين، ولتكون كالتوطئة لقوله الآتي: { ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار } الخ.
وقوله: { لا نكلف نفساً إلا وسعها } مسوق للتخفيف وتقوية الرجاء في قلوب المؤمنين فإن تقييد الإِيمان بعمل الصالحات - والصالحات جمع محلى باللام وهو يفيد الاستغراق - يفيد بظاهره لزوم العمل بجميع الصالحات حتى لا يشذ عنها شاذ، وما أقل من وفق لذلك من طبقة أهل الإِيمان ويسد ذلك باب الرجاء على أكثر المؤمنين فذكر الله سبحانه أن التكليف على قدر الوسع فمن عمل من الصالحات ما وسعه أن يعمله من غير أن يشق على نفسه ويتحمل ما لا طاقة له به بعد الإِيمان بالله فهو من أهل هذه الآية، ومن أصحاب الجنة هم فيها خالدون.
قوله تعالى: { ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار } الغل هو الحقد وضغن القلوب وعداوتها، وفي مادتها معنى التوسط باللطف والحيلة ومنه الغلالة وهي الثوب المتوسط بين الدثار والشعار، وغل الصدور من أعظم ما ينغص عيش الإِنسان، وما من إنسان يعاشر إنساناً ويأتلف به إلا وائتلافه مشروط بأن يوافقه فيما يراه ويريده فإذا شاهد من حاله ما لا يرتضيه جأش صدره بالغل وراحت الألفة وتنغصت العيشة فإذا ذهب الله سبحانه بغل الصدور لم يسؤ الإِنسان ما يشاهده من أليفه على الإِطلاق وهي اللذة الكبرى وفي قوله: { تجري من تحتهم الأنهار } إشارة إلى أنهم ساكنون في قصورها العالية.
قوله تعالى: { وقالوا الحمد لله الذي هدانا } إلى قوله { بالحق } في نسبة التحميد إليهم دلالة على أن الله سبحانه يخلصهم لنفسه فلا يوجد عندهم اعتقاد باطل ولا عمل سيء كما قال تعالى:
{ { لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيلاً سلاماً سلاماً } [الواقعة: 26]، فيصح منهم تحميد الله سبحانه ويقع توصيفهم موقعه فليس توصيفه تعالى بحيث يصيب غرضه ويقع موقعه بذلك المبتذل حتى يناله كل نائل، قال تعالى: { { سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين } [الصافات: 159 - 160]، وقد تقدم القول في معنى الحمد وخصوصية حمده تعالى في تفسير سورة الحمد.
وفي قولهم: { هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله } إشارة إلى اختصاص الهداية به تعالى فليس إلى الإِنسان من الأمر شيء.
وفي قولهم: { لقد جاءت رسل ربنا بالحق } اعتراف بحقية ما وعدهم الله تعالى بلسان أنبيائه، وهو الذي يأخذون الاعتراف به من أصحاب النار على ما تقصه الآية التالية، وفي هذا الاعتراف وسائر الاعترافات المأخوذة من الفريقين يوم القيامة من قبل مصدر العظمة والكبرياء ظهور منه تعالى بالقهر وتمام الربوبية، ويكون ذلك من أهل الجنة شكراً، ومن أهل النار تماماً للحجة.
واعتراف أهل الجنة بحقية ما وعدهم الله سبحانه بواسطة رسله هو من الحقائق العالية القرآنية وإن كان بحسب ساذج النظر معنى بسيطاً مبتذلاً، ولعلنا نوفق لشطر من البحث فيه في ذيل الكلام على هذه الآيات.
قوله تعالى: { ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون } في الإِشارة بلفظ البعيد - تلكم - إشارة إلى رفعة قدر الجنة وعلو مكانها فإن ظاهر السياق - كما قيل - أن النداء إنما هو حين كونهم في الجنة، وقد جعلت الجنة إرثاً لهم في قبال عملهم وإنما يتحقق الإِرث فيما إذا كان هناك مال أو نحوه مما ينتفع به وهو في معرض انتفاع شخص ثم زال عنه الشخص فبقي لغيره يقال: ورث فلان أباه أي مات وترك مالاً بقي له، والعلماء ورثة الأنبياء أي مختصون بما تركوا لهم من العلم، ويرث الله الأرض أي إنه كان خولهم ما بها من مال ونحوه وسوف يموتون فيبقى له ما خولهم.
وعلى هذا فكون الجنة إرثاً لهم أورثوها معناه كونها خلقت معروضة لأن يكسبها بالعمل المؤمن والكافر جميعاً غير أن الكافر زال عنها بشركه ومعاصيه فتركها فبقيت للمؤمن فهو الوارث لها بعمله، ولولا عمله لم يرثها، قال تعالى:
{ { أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس } [المؤمنون: 11]. وقال تعالى: حكاية عن أهل الجنة: { { الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأُ من الجنة حيث نشاء } [الزمر: 74]. وهذا أوضح مما ذكره الراغب في المفردات إذ قال: الوراثة والإِرث انتقال قنية إليك عن غيرك من غير عقد ولا ما يجري مجرى العقد، وسمي بذلك المنتقل عن الميت فيقال للقنية الموروثه ميراث وإرث وتراث فقلبت الواو ألفاً وتاء قال: وتأكلون التراث، وقال عليه السلام: اثبتوا على مشاعركم فإنكم على إرث أبيكم أي أصله وبقيته. قال الشاعر:

فنظــر في صحف كالربا ط فيهن إرث كتاب محي

قال: ويقال لكل من حصل له شيء من غير تعب: قد ورث كذا ويقال لكل من خول شيئاً مهنئاً: أُورث، قال تعالى: تلك الجنة التي أُورثتموها، أولئك هم الوارثون الذين يرثون. وقوله: ويرث من آل يعقوب فإنه يعني وراثة النبوة والعلم والفضيلة دون المال فالمال لا قدر له عند الأنبياء حتى يتنافسوا فيه بل قلما يقتنون المال ويملكونه ألا ترى أنه قال عليه السلام: "إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة" نصب على الاختصاص فقد قيل: ما تركناه هو العلم وهو صدقة يشترك فيها الأمة وما روي عنه عليه السلام من قوله "العلماء ورثة الأنبياء" فإشارة إلى ما ورثوه من العلم واستعمل لفظ الورثة لكون ذلك بغير ثمن ولا منة، وقال لعلي رضى الله عنه: أنت أخي ووارثي. قال: وما ارثك؟ قال: ما ورثت الأنبياء قبلي كتاب الله وسنتي، ووصف الله تعالى نفسه بأنه الوارث من حيث إن الأشياء كلها صائره إلى الله تعالى (انتهى كلامه).
وإنما كان ما قدمناه أوضح مما ذكره لصعوبة إرجاع ما ذكره من المعاني إلى أصل واحد هو معنى المادة.
قوله تعالى: { ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار } إلى آخر الآية. هذا في نفسه أخذ اعتراف من أصحاب النار بتوسط أصحاب الجنة وواقع موقع التهكم والسخرية يتهكم ويسخر به أصحاب الجنة من أصحاب النار. والاستهزاء والسخرية إنما يكون من اللغو الباطل إذا لم يتعلق به غرض حق كالاستهزاء بالحق وأهله أما إذا كان لغرض المقابلة والمجاراة أو لغرض آخر حق من غير محذور فليس من قبيل اللغو الذي لا يصدر عن أهل الجنة قال تعالى حكاية عن نوح عليه السلام:
{ { ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون } [هود: 38]، وقال: { { إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون } [المطففين: 30] إلى أن قال { { فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون } [المطففين: 34]. وأما الفرق بين قولهم: { ما وعدنا ربنا } وقولهم: { ما وعد ربكم } حيث ذكر المفعول في الوعد الأول دون الثاني فلعل ذلك للدلالة على نوع من التشريف فإن الظاهر أن المراد بما وعد الله جميع ما وعده من الثواب والعقاب لعامة الناس.
وهناك وجه آخر وهو أن متعلق اعتراف المؤمنين وإنكار الكفار من أمر المعاد مختلف في الدنيا فإن المؤمنين يثبتون البعث بجميع خصوصياته التي بينها الله لهم ووعدها إياهم، وأما الكفار المنكرون فإنهم ينكرون أصل البعث الذي اشترك في الوعد به المؤمنون والكفار جميعاً، ولذلك احتج الله سبحانه ويتم الحجة عليهم بأصله دون خصوصياته كقوله تعالى:
{ { ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا } [الأنعام: 30]، وقوله: { { ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا } [الأحقاف: 34]. وعلى هذا فقولهم: { أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً } اعتراف منهم بحقية ما وعدهم الله وكانوا يذعنون به ويشهدون من جميع خصوصيات البعث بما قصهم الله في الدنيا بلسان أنبيائه، وأما الكفار فقد كانوا ينكرون أصل البعث والعذاب، وهو مما يشتركون فيه هم والمؤمنون فلذا قيل: { فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً } ولم يقل ما وعدكم ربكم لأن الوعد بأصل البعث والعذاب لم يكن مختصاً بهم.
وبذلك يظهر الجواب عما قيل: إن الوفاء بالوعد واجب دون الوفاء بالوعيد على ما ذكره المتكلمون فما معنى أخذ الاعتراف بحقيقة ما ذكره الله من عقاب الكفار والمجرمين وأنذرهم به في الدنيا، وليس تحققه بلازم.
وذلك أن الملاك فيما ذكروه من الفرق أن الثواب حق العامل على ولي الثواب الذي بيده الأمر، والعقاب حق الولي المثيب على العامل، ومن الجائز أن يصرف الشخص نظره عن إعمال حق نفسه لكن لا يجوز إبطال حق الغير فإنجاز الوعد واجب دون إنجاز الوعيد، وهذا إنما يتم في موارد الوعيد الخاصة ومصاديقه في الجملة، وأما عدم إنجاز أصل العقاب على الذنب وإبطال أساس المجازاة على التخلف فليس كذلك إذ في إبطاله إبطال التشريع من أصله وإخلال النظام العام.
وربما وجه الفرق في قوليه: { وعدنا ربنا } { وعد ربكم } بأن المراد بقوله: { وعدنا } ما وعد الله المتقين من خصوصيات ما يعاملهم به يوم القيامة وبقوله: { وعد ربكم } عموم ما وعد به المؤمنين والكفار من الثواب والعقاب يوم القيامة كالذي في قوله: يا بني آدم
{ { إما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي } [البقرة: 38] [طه: 123] إلى آخر الآيتين. ومن المعلوم أن هذا الوعد لا يختص بالكفار حتى يقال: وعدكم ربكم بل التعبير الحق وعد ربكم.
وفيه: أن أصل الفرق لا بأس به لكنه لا يقطع السؤال فللسائل أن يعود فيقول ما هو السبب الفارق في أن أصحاب الجنة لما أوردوا اعتراف نفسهم اقتصروا بذكر ما يخصهم من أُمور يوم القيامة، وأما إذا سألوا أصحاب النار سألوهم عن جميع ما وعد الله به المؤمنين والكفار؟ وبعبارة أخرى هناك ما يشترك فيه الطائفتان وما يختص به كل منهما فما بالهم إذا اعترفوا هم أنفسهم اعترفوا بما يختص بأنفسهم ويسألون أصحاب النار الاعتراف بما يشترك فيه الجميع؟.
وربما وجه الفرق بأن المراد بقوله { ما وعد ربكم } الذي وعده أصحاب الجنة من أنواع الثواب الجزيل فإن أصحاب النار يشاهدون ذلك كما يجدون ما بهم من أليم العقاب. وهو وجه سخيف على سخافته لا يغني طائلاً.
وقوله: { فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين } تفريع على تحقق الاعتراف من الطائفتين جميعاً على حقيقة ما وعده الله سبحانه، والأذان هو قوله: { لعنة الله على الظالمين } وهو إعلام عام للفريقين - والدليل عليه ظاهر قوله: { بينهم } بقضاء اللعنة وهي الإِبعاد والطرد من الرحمة الإِلهية على الظالمين وقد فسر الظالمين الذين ضربت عليهم باللعنة بقوله: { الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً وهم بالآخرة كافرون } فهم الكافرون المنكرون للآخرة الذين يصدون عن سبيل الله محرفة منحرفة، ويصرفون غيرهم عن سلوك الصراط المستقيم فهؤلاء هم المعاندون للحق المنكرون للمعاد.
وهذا الوصف يشمل جميع المعاندين للحق الكافرين بالجزاء حتى المنكرين للصانع الذين لا يدينون بدين فإن الله سبحانه يذكر في كتابه أن دينه وسبيله الذي يهدي إليه وبه هو سبيل الإِنسانية الذي تدعو إليه الفطرة الإِنسانية والخلقة خص بها الإِنسان ليس وراءه إسلام ولا دين.
فالسبيل الذي يسلكه الإِنسان في حياته هو سبيل الله وصراطه وهو الدين الإِلهي فإن سلكه على استقامة ما تدعو إليه الفطرة وهو الذي يسوقه إلى سعادته كان هو الصراط المستقيم والإِسلام الذي هو الدين عند الله وسبيل الله الذي لا عوج فيه، وإن سلك غير ذلك سواء كان فيه إذعان بالوهية وعبادة لمعبود كالملل والأديان الباطلة أو لم يكن فيه خضوع لشيء وعبادة لمعبود كالمادية المحضة فهو سلوك يبغون فيه سبيل الله عوجاً وهو الإِسلام محرفاً عن وجهه، ونعمة الله التي بدلت كفراً، فافهم ذلك.
وقد أبهم الله هذا الذي يخبر عنه بقوله: { فأذن مؤذن بينهم } ولم يعرفه من هو؟ أمن الإِنس أم من الجن أم من الملائكة؟ لكن الذي يقتضيه التدبر في كلامه تعالى أن يكون هذا المؤذن من البشر لا من الجن ولا من الملائكه: أما الجن فلم يذكر في شيء من تضاعيف كلامه تعالى أن يتصدى الجن شيئاً من التوسط في أمر الإِنسان من لدن وروده في عالم الآخرة وهو حين نزول الموت إلى أن يستقر في جنة أو نار فيختم أمره فلا موجب لاحتمال كونه من الجن.
وأما الملائكة فإنهم وسائط لأمر الله وحملة لإِرادته بأيديهم إنفاذ الأوامر الإِلهية، وبوساطتهم يجري ما قضى به في خلقه، وقد ذكر الله سبحانه أشياء من أمرهم وحكمهم في عالم الموت وفي جنة الآخرة ونارها كقولهم للظالمين حين القبض:
{ { أَخرجوا أنفسكم } [الأنعام: 93] إلخ، وقولهم لأهل الجنة: { { سلام عليكم ادخلوا الجنة } [النحل: 32] الخ، وقول مالك لأهل النار: { { إنكم ماكثون } [الزخرف: 77] الخ، ونظائر ذلك.
وأما المحشر وهو حظيرة البعث والسؤال والشهاده وتطاير الكتب والوزن والحساب والظرف الذي فيه الحكم الفصل فلم يذكر للملائكة فيه شيء من الحكم أو الأمر والنهي ولا لغيرهم صريحاً إلا ما صرح تعالى به في حق الإِنسان.
كقوله تعالى في أصحاب الأعراف في ذيل هذه الآيات حكاية عنهم: { ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم } وقولهم لجمع من المؤمنين هناك: { ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون } هذا حكم وأمر وتأمين بإذن الله، وقوله تعالى فيما يصف يوم القيامة:
{ قال الذين أُوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين } [النحل: 27]، وقوله تعالى بعد ذكر سؤاله أهل الجمع عن مدة لبثهم في الأرض: { { وقال الذين أُوتوا العلم والإِيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون } [الروم: 56]. فهذه جهات من تصدي الشؤون، والقيام بالأمر يوم القيامة حبا الله الإِنسان به دون الملائكة مضافاً إلى أمثال الشهادة والشفاعة اللتين له.
فهذا كله يقرب إلى الذهن أن يكون هذا المؤذن من الإِنسان دون الملائكة ويأتي في البحث الروائي ما له تعلق بالمقام.
قوله تعالى: { وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كُلاًّ بسيماهم } الحجاب معروف وهو الستر المتخلل بين شيئين يستر أحدهما من الآخر. والأعراف أعالي الحجاب، والتلال من الرمل والعرف للديك وللفرس وهو الشعر فوق رقبته وأعلا كل شيء ففيه معنى العلو على أي حال، وذكر الحجاب قبل الأعراف، وما ذكر بعده من إشرافهم على الجميع وندائهم أهل الجنة والنار جميعاً كل ذلك يؤيد أن يكون المراد بالأعراف أعالي الحجاب الذي بين الجنة والنار وهو المحل المشرف على الفريقين أهل الجنة وأهل النار جميعاً.
والسيماء العلامة قال الراغب: السيماء والسيمياء العلامة، قال الشاعر:

له سيمياء لا تشق على البصر

وقال تعالى: { سيماهم في وجوههم } وقد سومته أي أعلمته، ومسومين أي معلمين (انتهى).
والذي يعطيه التدبر في معنى هذه الآية وما يلحق بها من الآيات أن هذا الحجاب الذي ذكره الله تعالى إنما هو بين أصحاب الجنة وأصحاب النار فهما مرجع الضمير في قوله: { وبينهما } وقد أنبأنا الله سبحانه بمثل هذا المعنى عند ذكر محاورة بين المنافقين والمؤمنين يوم القيامة بقوله:
{ { يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب } [الحديد: 13]، وإنما هو حجاب لكونه يفرق بين الطائفتين ويحجب إحداهما عن الأخرى لا أنه ثوب منسوج مخيط على هيأة خاصة معلق بين الجنة والنار.
ثم أخبر الله سبحانه أن على أعراف الحجاب وأعاليه رجالاً مشرفين على الجانبين لارتفاع موضعهم يعرفون كلاً من الطائفتين أصحاب الجنة وأصحاب النار بسيماهم وعلامتهم التي تختص بهم.
ولا ريب في أن السياق يفيد أن هؤلاء الرجال منحازون على الطائفتين متمايزون من جماعتهم فهل ذلك لكونهم خارجين عن نوع الإِنسان كالملائكة أو الجن مثلاً، أو لكونهم خارجين عن أهل الجمع من حيث ما يتعلق بهم من السؤال والحساب وسائر الشؤون الشبيهة بهما فيكون بذلك أهل الجمع منقسمين إلى طوائف ثلاث: أصحاب الجنة، وأصحاب النار، وأصحاب الأعراف، كما قسمهم الله في الدنيا إلى طوائف ثلاث: المؤمنين والكفار والمستضعفين الذين لم تتم عليهم الحجة وقصروا عن بلوغ التكليف كضعفاء العقول من النساء والأطفال غير البالغين والشيخ الهرم الخرف والمجنون والسفيه وأضرابهم، أو لكونهم مرتفعين عن موقف أهل الجمع بمكانتهم؟.
لا ريب أن إطلاق لفظ { رجال } لا يشمل الملائكة فإنهم لا يتصفون بالرجولية والانوثية كما يتصف به جنس الحيوان وإن قيل: إنهم ربما يظهرون في شكل الرجال فإن ذلك لا يصحح الاتصاف والتسمية، على أنه لا دليل يدل عليه.
ثم إن التعبير بمثل قوله: { رجال يعرفون } إلخ، وخاصة بالتنكير يدل بحسب عرف اللغة على اعتناء تام بشأن الأفراد المقصودين باللفظ نظراً إلى دلالة الرجل بحسب العادة على الإِنسان القوي في تعقله وإرادته الشديد في قوامه.
وعلى ذلك يجري ما يوجد في كلامه تعالى من مثل هذا التعبير كقوله تعالى:
{ { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله } [النور: 37]، وقوله: { { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } [التوبة: 108]، وقوله: { { رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } [الأحزاب: 23]، وقوله: { { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم } } [النحل: 43] حتى في مثل قوله: { { ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار } [ص: 62]، وقوله: { { وأنه كان رجال من الإِنس يعوذون برجال من الجن } [الجن: 6]. فالمراد برجال في الآية أفراد تامون في إنسانيتهم لا محالة، وإن فرض أن فيهم أفراداً من النساء كان من التغليب.
وأما المستضعفون فإنهم ضعفاء أفراد الإِنسان لا مزية في أمرهم توجب الاعتناء بشأنهم، وفيهم النساء والأطفال حتى الأجنة، ولا فضل لبعضهم على بعض، ولرجالهم على غيرهم حتى يعبر به عنهم بالرجال تغليباً فلو كانوا هم المرادين بقوله { رجال يعرفون } الخ، لكان حق التعبير أن يقال: قوم يعرفون الخ، أو أُناس أو طائفة أو نحو ذلك كما هو المعهود من تعبيرات القرآن الكريم في أمثال هذه الموارد كقوله تعالى:
{ { لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم } [الأعراف: 164]، وقوله: { { إنهم أناس يتطهرون } [الأعراف: 82] وقوله: { { فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة } [الصف: 14]. على أن ما يصفهم الله تعالى به في الآيات التالية من الأوصاف ويذكرهم به من الشؤون أمور تأبى إلا أن يكون القائمون به من أهل المنزلة والمكانة، وأصحاب القرب والزلفى فضلاً أن يكونوا من الناس المتوسطين فضلاً أن يكونوا من المستضعفين.
فأول ذلك: أنهم جعلوا على الأعراف ووصفوا بأنهم مشرفون على أهل الجمع عامة ومطلون على أصحاب الجنة وأصحاب النار يعرفون كل إنسان منهم بسيماه الخاص به ويحيطون بخصوصيات نفوسهم وتفاصيل أعمالهم، ولا ريب أن ذلك منزلة رفيعة يختصون بها من بين الناس وليست مشاهدة جميع الناس يوم القيامة وخاصة بعد دخول الجنة والنار أمراً عاماً موجوداً عند الجميع فإن الله يقول حكاية عن قول أهل النار:
{ { ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار } [ص: 62]، وقولهم: { { ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإِنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين } [فصلت: 29]، وقال: { { لكل امرء منهم يومئذ شأن يغنيه } [عبس: 37]. وليس معنى السيماء أن يعلم المؤمنون والكفار بعلامة عامة يعرف صنفهم بها كل من شاهدهم كبياض الوجه وسواده مثلاً فإن قوله تعالى في الآية التالية: { ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون أهـٰؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة } يفيد أنهم ميزوا خصوصيات من أحوالهم وأعمالهم من سيماهم ككونهم مستكبرين أُولي جمع وقد أقسموا كذا وكذا، وهذه أُمور وراء الكفر والإِيمان في الجملة.
وثانياً: إنهم يحاورون الفريقين فيكلمون أصحاب الجنة ويحيونهم بتحية الجنة، ويكلمون أئمة الكفر والضلال والطغاة من أهل النار فيقرعون عليهم بأحوالهم وأقوالهم مسترسلين في ذلك من غير أن يحجزهم حاجز، وليس التكلم بمجاز يومئذ إلا للأوحدي من عباد الله الذين لا ينطقون إلا بحق قال تعالى:
{ { لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمان وقال صواباً } [النبأ: 38]، وهذا وراء ما يناله المستضعفون.
وثالثاً: أنهم يؤمنون أهل الجنة بالتسليم عليهم ثم يأمرونهم بدخول الجنة في أمر مطلق على ما هو ظاهر السياق في الآيات التالية.
ورابعاً: أنه لا يشاهد فيما يذكره الله من مكانتهم وما يحاورون به أصحاب الجنة والجبابرة المستكبرين من أصحاب النار شيء من آثار الفزع والقلق عليهم ولا اضطراب في أقوالهم، ولم يذكر أنهم محضرون فيه مختلطون بالجماعة داخلون فيما دخلوا فيه من الأهوال التي تجعل الأفئدة هواء والجبال سراباً، وقد قال تعالى:
{ { فإنهم لمحضرون إلا عباد الله المخلصين } [الصافات: 127]، فجعل ذلك من خاصة مخلصي عباده، ثم استثناهم من كل هول أُعد ليوم القيامة.
ثم إنه تعالى ذكر دعاءهم في قوله:
{ { وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين } [الأعراف: 47] ولم يعقبه بالرد فدل ذلك على أنهم مجازون فيما يتكلمون به مستجاب دعاؤهم، ولولا ذلك لعقبه بالرد كما في موارد ذكرت فيها أدعية أهل الجمع ومسائل أصحاب النار وأدعية أخرى من غيرهم.
فهذه الخصوصيات التي تنكشف واحدة بعد واحدة من هذه الآيات بالتدبر فيها وأُخرى تتبعها لا تبقي ريباً للمتدبر في أن هؤلاء الذين أخبر الله سبحانه عنهم في قوله: { وعلى الأعراف رجال } جمع من عباد الله المخلصين من غير الملائكة هم أرفع مقاماً وأعلى منزلة من سائر أهل الجمع يعرفون عامة الفريقين، لهم أن يتكلموا بالحق يوم القيامة ولهم أن يشهدوا، ولهم أن يشفعوا، ولهم أن يأمروا ويقضوا.
وأما أنهم من الإِنس أو من الجن أو من القبيلين مختلطين؟ فلا طريق من اللفظ يوصلنا إلى العلم به غير أن شيئاً من كلامه تعالى لا يدل على تصدي الجن شيئاً من شؤون يوم القيامة ولا توسطاً في أمر يعود إلى الحكم الفصل الذي يجري على الإِنسان يومئذ كالشهادة والشفاعة ونحوهما.
ولا ينافي ما قدمناه من أوصافهم ونعوتهم أمثال قوله تعالى:
{ { يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله } [الإنفطار: 19]، فإن الآية مفسرة بآيات أُخرى تدل على أن المراد بها إنما هو ظهور ملكه تعالى لكل شيء وإحاطته بكل أمر لا حدوث ملكه يومئذ فإنه مالك على الإِطلاق دائماً لا وقتاً دون وقت، ولا يملك نفس لنفس شيئاً دائماً لا في الآخرة فحسب لنفسه والملائكة على وساطتهم يومئذ والشهداء يملكون شهادتهم يومئذ، والشفعاء يملكون شفاعتهم يومئذ وقد نص على ذلك كلامه تعالى قال: { { وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون } [الأنبياء: 103]، وقال: { { يوم يقوم الأشهاد } [غافر: 51] وقال: { { ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } [الزخرف: 86]. فلله سبحانه الملك يومئذ وله الحكم يومئذ، ولغيره ما أذن له فيه كالدنيا غير أن الذي يختص به يوم القيامة ظهور هذه الحقائق ظهور عيان لا يقبل الخفاء، وحضورها بحيث لا يغيب بغفلة أو جهل أو خطا أو بطلان.
وقد اشتد الخلاف بينهم في معنى الآية حتى ساق بعضهم إلى أقوال لا تخلو عن المجازفة فقد اختلفوا في معنى الأعراف:
1 - فمن قائل: إنه شيء مشرف على الفريقين.
2 - وقيل: سور له عرف كعرف الديك.
3 - وقيل: تل بين الجنة والنار جلس عليه ناس من أهل الذنوب.
4 - وقيل: السور الذي ذكره الله في القرآن بين المؤمنين والمنافقين إذ قال: { فضرب بينهم بسور له باب }.
5 - وقيل: معنى الأعراف التعرف أي على تعرف حال الناس رجال.
6 - وقيل: هو الصراط.
ثم اختلفوا في الرجال الذين على الأعراف على أقوال أُنهيت إلى اثني عشر قولاً:
1 - أنهم أشراف الخلق الممتازون بكرامة الله.
2 - أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فلم يترجح حسناتهم حتى يدخلوا الجنة ولا غلبت سيئاتهم حتى يؤمروا بدخول النار فأوقفهم الله تعالى على هذه الأعراف لكونها درجة متوسطة بين الجنة والنار ثم يدخلهم الجنة برحمته.
3 - أنهم أهل الفترة.
4 - أنهم مؤمنو الجن.
5 - أنهم أولاد الكفار الذين لم يبلغوا في الدنيا أوان البلوغ.
6 - أنهم أولاد الزنا.
7 - أنهم أهل العجب بأنفسهم.
8 - أنهم ملائكة واقفون عليها يعرفون كلاً بسيماهم، وإذا أورد عليهم أن الملائكة لا تتصف بالرجولية والأنوثية قالوا: إنهم يتشكلون بأشكال الرجال.
9 - أنهم الأنبياء عليهم السلام يقامون عليها تمييزاً لهم على سائر الناس ولأنهم شهداء عليهم.
10 - أنهم عدول الأمم الشهداء على الناس يقومون عليها للشهادة على أُممهم.
11 - أنهم قوم صالحون فقهاء علماء.
12 - أنهم العباس وحمزة وعلي وجعفر يجلسون على موضع من الصراط يعرفون محبيهم ببياض الوجوه، ومبغضيهم بسوادها ذكر الآلوسي في روح المعاني أن هذا القول رواه الضحاك عن ابن عباس.
قال في المنار: ولم نره في شيء من كتب التفسير المأثور، والظاهر أنه نقله عن تفاسير الشيعة، وفيه أن أصحاب الأعراف يعرفون كلا من أهل الجنة وأهل النار بسيماهم فيميزون بينهم أو يشهدون عليهم فأي فائدة في تمييز هؤلاء السادة على الصراط لمن كان يبغضهم من الأمويين ومن يبغضون علياً خاصه من المنافقين والنواصب؟ وأين الأعراف من الصراط؟ هذا بعيد عن نظم الكلام وسياقه جداً (انتهى).
أقول: أما الرواية فلا توجد في شيء من تفاسير الشيعة بطرقهم إلى الضحاك، وقد نقله في مجمع البيان عن الثعلبي في تفسيره بإسناده عن الضحاك عن ابن عباس، وسيأتي ما في روايات الشيعة في رجال الأعراف في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.
وأما طرحه الرواية فهو في محله غير أن الذي استند إليه في طرحها ليس في محله فإنه يكشف عن نحو السلوك الذي يسلكه في الأبحاث المتعلقة بالمعاد فإنه يقيس نظام الوقائع التي يقصها القرآن والحديث ليوم القيامة إلى النظام الجاري في النشأة الدنيوية، ويعده من نوعه فيوجه منها ما لاح سبب وقوعه، ويبقى ما لا ينطبق على النظام الدنيوي على الجمود وهو الجزاف في الإِرادة فافهم ذلك.
ولو جاز أن يغني تمييز أهل الأعراف عن تمييز أهل الصراط فتبطل فائدته فيبطل بذلك أصله - كما ذكره - لأغنى الصراط نفسه عن تمييز أهل الأعراف، وأغنى عن المسألة والحساب، ونشر الدواوين، ونصب الموازين، وحضور الأعمال، وإقامة الشهود وإنطاق الأعضاء، ولأغنى بعض هذه عن بعض، ووراء ذلك كله إحاطة رب العالمين فعلمه يغني عن الجميع، وهو لا يسأل عما يفعل.
وكأنه فرض أن نسبة الأعراف وهي أعالي الحجاب من الصراط الممدود هناك كنسبة السور والحائط الذي عندنا إلى الصراط الممدود الذي يسلكه الطرّاق السالكون لا يجتمع ها هنا الصراط والسور ولا يتحدان فلا يسع لأحد أن يكون سالك صراط أو واقفاً عليه وواقفاً على السور معاً في زمان واحد، ولذلك قال: وأين الصراط من الأعراف؟ فقاس ما هناك إلى ما ها هنا، وقد عرفت فساده.
ثم الوارد في ظواهر الحديث أن الصراط جسر ممدود على النار يعبر منه أهل المحشر من موقفهم إلى الجنة فينجي الله الذين آمنوا ويسقط الظالمون من الناس في النار فما المانع من أن يكون الحجاب الموعود مضروباً عليه والأعراف في الحجاب؟.
على أنه فات منه أن أحد الأقوال في معنى الأعراف أنه الصراط كما رواه الطبري في تفسيره عن ابن مسعود ورواه في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم عن ابن جريح قال: زعموا أنه الصراط.
وأما قوله: "هذا بعيد عن نظم الكلام وسياقه جداً" فأوضح فساداً فسياق هذه الأنباء الغيبية والنظم المأخوذ فيها يذكر لنا أُموراً بنعوت عامة وبيانات مطلقة معانيها معلومة، وحقائقها مبهمة مجهولة إلا المقدار الذي تهدي إليه بياناته تعالى، ويوضع بعض أجزائه بعضاً، ولا يأبي ذلك أن يقصد ببعض النعوت المذكورة فيها رجال معينون بأشخاصهم إذا انطبقت عليهم الأوصاف المذكورة فيها، ولا أن ينطبق بعض البيانات على بعض في موارد مع تعدد البيان لفظاً كالعدل والميزان مثلاً.
فهذه اثنا عشر قولاً ويمكن أن يضاف إلى عدتها قولان آخران:
أحدهما: أنهم المستضعفون ممن لم تتم عليهم الحجة ولم يتعلق بهم التكليف كالضعفاء من الرجال والنساء والأطفال غير البالغين، ويمكن أن يدرج في القول الثاني المتقدم بأن يقال: إنهم الذين لا تترجح أعمالهم من الحسنات أو السيئات على خلافها سواء كان ذلك لعدم تمام الحجة فيهم وتعلق التكليف بهم حتى يحاسبوا عليه كالأطفال والمجانين وأهل الفترة ونحوهم أو لأجل استواء حسناتهم وسيئاتهم في القدر والوزن فحكم القسمين واحد.
الثاني: أنهم الذين خرجوا إلى الجهاد من غير إذن آبائهم فاستشهدوا فيها فهم من أهل النار لمعصيتهم ومن أهل الجنة لشهادتهم! وعليه رواية، ويمكن إدراجه في القول الثاني.
والأقوال المذكورة غير متقابلة جميعاً في الحقيقة فإن القول بكونهم أهل الفترة والقول بكونهم أولاد الكفار إنما ملاكهما عدم ترجح شيء من الحسنات والسيئات على الآخر فيرجعان بوجه إلى القول الثاني، وكذا القول بكونهم أولاد الزنا نظراً إلى أنهم لا مؤمنون ولا كفار، وكذا رجوع القول التاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر إلى القول الأول بوجه.
فأصول الأقوال في رجال الأعراف ثلاثة:
أحدها: أنهم رجال من أهل المنزلة والكرامة على اختلاف بينهم في أنهم من هم؟ فقيل: هم الأنبياء، وقيل: الشهداء على الأعمال، وقيل: العلماء الفقهاء، وقيل: غير ذلك كما مر.
والثاني: أنهم الذين لا رجحان في أعمالهم للحسنة على السيئة وبالعكس على اختلاف منهم في تشخيص المصداق.
والثالث: أنهم من الملائكة، وقد مال الجمهور إلى الثاني من الأقوال، وعمدة ما استندوا إليه في ذلك أخبار مأثورة سنوردها في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.
وقد عرفت أن الذي يعطيه سياق الآيات هو الأول من الأقوال حتى أن بعضهم مع تمايله إلى القول الثاني لم يجد بدا من بعض الاعتراف بعدم ملاءمة سياق الآيات ذلك كالآلوسي في روح المعاني.
قوله تعالى: { ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون } المنادون هم الرجال الذين على الأعراف - على ما يعطيه السياق - وقوله: { أن سلام عليكم } يفسر ما نادوا به، وقوله: { لم يدخلوها وهم يطمعون } جملتان حاليتان فجملة { لم يدخلوها } من أصحاب الجنة، وجملة { وهم يطمعون } حال آخر من أصحاب الجنة والمعنى: أن أصحاب الجنة نودوا وهم في حال لم يدخلوا الجنة بعد وهم يطمعون في أن يدخلوها؛ أو حال من ضمير الجمع في { لم يدخلوها } وهو العامل فيه، والمعنى أن أصحاب الجنة نودوا بذلك وهم في الجنة لكنهم لم يدخلوا الجنة على طمع في دخولها لأن ما شاهدوه من أهوال الموقف ودقة الحساب كان أيأسهم من أن يفوزوا بدخول الجنة لكن قوله بعد: { أهـٰؤلاء الذين } إلى آخر الآية يؤيد أول الاحتمالين وأنهم إنما سلموا عليهم قبل دخولهم الجنة.
وأما احتمال أن تكون الجملتان حالين من ضمير الجمع في { نادوا } فيوجب سقوط الجملة عن الإِفادة كما هو ظاهر، وذلك لرجوع المعنى إلى أن هؤلاء الرجال الذين هم على أعراف الحجاب بين الجنة والنار نادوا وهم لم يدخلوا.
وعلى من يميل إلى أن يجعل قوله: { لم يدخلوها وهم يطمعون } بياناً لحال أصحاب الأعراف أن يجعل قوله: { لم يدخلوها } استئنافاً يخبر عن حال أصحاب الأعراف أو صفة لرجال والتقدير: وعلى الأعراف رجال لم يدخلوها وهم يطمعون وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا.. الخ كما نقل عن الزمخشري في الكشاف.
لكن يبعد الاستئناف أن اللازم حينئذ إظهار الفاعل في قوله: { لم يدخلوها } دون إضماره لمكان اللبس كما فعل ذلك في قوله: { ونادى أصحاب الأعراف رجالاً } الخ، ويبعد الوصفية الفصل بين الموصوف والصفة بقوله: { ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم } من غير ضرورة موجبة.
وهذا التقدير الذي تقدم أعني رجوع معنى قوله: { لم يدخلوها وهم يطمعون وإذا صرفت أبصارهم } إلى آخر الآية، إلى قولنا: وعلى الأعراف رجال يطمعون في دخول الجنة ويتعوذون من دخول النار - على ما زعموا - هو الذي مهد لهم الطريق وسواه للقول بأن أصحاب الأعراف رجال استوت حسناتهم وسيئاتهم فلم يترجح لهم أن يدخلوا الجنة أو النار فاوقفوا على الأعراف!.
لكنك عرفت أن قوله: { لم يدخلوها } الخ، حال أصحاب الجنة لا وصف أصحاب الأعراف، وأما قوله: { وإذا صرفت أبصارهم } الخ، فسيأتي ما في كونه بياناً لحال أصحاب الأعراف من الكلام.
قوله تعالى: { وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين } التلقاء كالبيان مصدر لقي يلقى ثم استعمل بمعنى جهة اللقاء، وضمير الجمع في قوله: { أبصارهم } وقوله: { قالوا } عائد إلى { رجال } والتعبير عن النظر إلى أصحاب النار بصرف أبصارهم إليه كأن الوجه فيه أن الإِنسان لا يحب إلقاء النظر إلى ما يؤلمه النظر إليه وخاصة في مثل المورد الذي يشاهد الناظر فيه أفظع الحال وأمر العذاب وأشقه الذي لا يطاق النظر إليه غير أن اضطراب النفس وقلق القلب ربما يفتح العين نحوه للنظر إليه كأن غيره هو الذي صرف نظره إليه وإن كان الإِنسان لو خلي وطبعه لم يرغب في النظر ولو بوجه نحوه، ولذا قيل: { وإذا صرفت أبصارهم } الخ ولم يقل وإذا نظروا إليه أو ما يفيد مفاده.
ومعنى الآية: وإذا نظر أصحاب الأعراف أحياناً إلى أصحاب النار تعوذوا بالله من أن يجعلهم مع أصحاب النار فيدخلهم النار، وقالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين.
وليس دعاؤهم هذا الدعاء دالاً على سقوط منزلتهم، وخوفهم من دخول النار كما يدل على رجائهم دخول الجنة قوله { وهم يطمعون } وذلك أن ذلك مما دعا به أُولوا العزم من الرسل والأنبياء المكرمون والعباد الصالحون وكذا الملائكه المقربون فلا دلالة فيه ولو بالإِشعار الضعيف على كون الداعي ذا سقوط في حاله وحيرة من أمره. هذا ما فسروا به الآية بإرجاع ضميري الجمع إلى { رجال }.
لكنك خبير بأن ذلك لا يلائم الإِظهار الذي في مفتتح الآية التالية في قوله: { ونادى أصحاب الأعراف } إذ الكلام في هذه الآيات الأربع جار في أوصاف أصحاب الأعراف وأخبارهم كقوله: { يعرفون كلاً } الخ، وقوله: { ونادوا أصحاب الجنة } الخ وقوله: { لم يدخلوها } الخ، على احتمال، وقوله: { وإذا صرفت أبصارهم } الخ، فكان من اللازم أن يقال: { ونادوا } أي أصحاب الأعراف { رجالاً يعرفونهم } الخ، وليس في الكلام أي لبس ولا نكتة ظاهرة توجب العدول من الإِضمار الذي هو الأصل في المقام إلى الإِظهار بمثل قوله: { ونادى أصحاب الأعراف }.
فالظاهر أن ضميري الجمع أعني ما في قوله { أبصارهم } وقوله { قالوا } راجعان إلى أصحاب الجنة، والجملة إخبار عن دعائهم إذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار كما أن الجملة السابقة بيان لطمعهم في دخول الجنة، وكل ذلك قبل دخولهم الجنة.
قوله تعالى: { ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم } إلى آخر الآية، في توصيف الرجال بقوله: { يعرفونهم بسيماهم } دلالة على أن سيماءهم كما يدلهم على أصل كونهم من أصحاب الجنة يدلهم على أُمور أُخر من خصوصيات أحوالهم، وقد مرت الإِشارة إليه.
وقوله: { قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون } تقريع لهم وشماتة، وكشف عن تقطع الأسباب الدنيوية عنهم فقد كانوا يستكبرون عن الحق ويستذلونه ويغترون بجمعهم.
قوله تعالى: { أهـٰؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة } إلى آخر الآية. الإِشارة إلى أصحاب الجنة، والاستفهام للتقرير أي هؤلاء هم الذين كنتم تجزمون قولاً أنهم لا يصيبهم فيما يسلكونه من طريق العبودية خير، وإصابة الخير هي نيله تعالى إياهم برحمة ووقوع النكرة - برحمة - في حيز النفي يفيد استغراق النفي للجنس، وقد كانوا ينفون عن المؤمنين كل خير.
وقوله: { ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون }، أمر من أصحاب الأعراف للمؤمنين أن يدخلوا الجنة بعد تقرير حالهم بالاستفهام، وهذا هو الذي يفيده السياق.
وقول بعضهم في الآية: إنها بتقدير القول أي قيل لهم من قبل الرحمان: أُدخلوا الجنة لا خوف عليكم مما يكون في مستقبل أمركم، ولا أنتم تحزنون من شيء ينغص عليكم حاضركم، وحذف القول للعلم به من قرائن الكلام كثير في التنزيل وفي كلام العرب الخلص (انتهى). مدفوع بعدم مساعدة السياق ودلالة القرائن عليه بوجه كما تقدم بيانه، وليس إذا جاز تقدير القول في محل لتبادر معناه من الكلام جاز ذلك في أي مقام أُريد، وأي سياق أم أية قرينة تدل على ذلك في المقام؟.
(كلام في معنى الأعراف في القرآن)
لم يذكر الأعراف في القرآن إلا في هذه الآيات الأربع من سورة الأعراف [46 - 49] وقد استنتج باستيفاء البحث في الآيات الشريفة أنه من المقامات الكريمة الإِنسانية التي تظهر يوم القيامة وقد مثله الله سبحانه بأن بين الدارين دار الثواب ودار العقاب حجاباً يحجز إحداهما من الأخرى - والحجاب بالطبع خارج عن حكم طرفيه في عين أنه مرتبط بهما جميعاً - وللحجاب أعراف وعلى الأعراف رجال مشرفون على الناس من الأولين والآخرين يشاهدون كل ذي نفس منهم في مقامه الخاص به على اختلاف مقاماتهم ودرجاتهم ودركاتهم من أعلى عليين إلى أسفل سافلين، ويعرفون كلاً منهم بما له من الحال الذي يخصه والعمل الذي عمله، لهم أن يكلموا من شاؤوا منهم، ويؤمنوا من شاؤوا، ويأمروا بدخول الجنة بإذن الله.
ويستفاد من ذلك أن لهم موقفاً خارجاً من موقفي السعادة التي هي النجاة بصالح العمل، والشقاوة التي هي الهلاك بطالح العمل، ومقاماً أرفع من المقامين معاً ولذلك كان مصدراً للحكم والسلطة عليهما جميعاً.
ولك أن تعتبر في تفهم ذلك بما تجده عند الملوك ومصادر الحكم فهناك جماعة منعمون بنعمتهم مشمولون لرحمتهم يستدرون ضرع السعادة بما تشتهيه أنفسهم، وآخرون محبوسون في سجونهم معذبون بأليم عذابهم قد أحاط بهم هوان الشقاوة من كل جانب فهذان ظرفان ظرف السعادة وظرف الشقاوة، والظرفان متمائزان لا يختلطان بظرف آخر ثالث يحكم فيهما ويصلح شأن كل منهما وينظم أمره وفي هذا الظرف قوم خدمة يخدمون العرش بمداخلتهم الجانبين وإهداء النعم إلى أهل السعادة، وإيصال النقم إلى أهل الشقاوة، وهم مع ذلك من السعداء، وقوم آخر وراء الخدمة والعمال هم المدبرون لأمر الجميع وهم أقرب الوسائط من العرش، وهم أيضاً من السعداء، فللسعادة مراتب من حيث الإِطلاق والتقييد.
وليس من الممتنع على ملك يوم الدين أن يخص قوماً برحمته فيدخلهم بحسناتهم الجنة ويبسط عليهم بركاته بما أنه الغفور ذو الفضل العظيم، ويدخل آخرين في ناره ودار هوانه بما عملوه من سيئاتهم وهو عزيز ذو انتقام شديد العقاب ذو البطش، ويأذن لطائفة ثالثة أن يتوسطوا بينه وبين الفريقين بإجراء أوامره وأحكامه فيهم أو إصدارها عليهم بإسعاد من سعد منهم وإشقاء من شقي فإنه الواحد القهار الذي يقهر بوحدته كل شيء كما شاء بتوسيط أو إسعاد أو إشقاء، وقد قال تعالى: { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } فافهم.
قوله تعالى: { ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا } الخ، الإِفاضة من الفيض وهو سيلان الماء منصباً، قال تعالى: { ترى أعينهم تفيض من الدمع } أي يسيل دمعها منصباً، وعطف سائر ما رزقهم الله من النعم على الماء يدل على أن المراد بالإِفاضة صب مطلق النعم أعم من المائع وغيره على نحو عموم المجاز، وربما قيل: إن الإِفاضة حقيقة في إعطاء النعمة الكثيرة فيكون تعليقه على الماء وغيره حقيقة حينئذ.
وكيف كان ففي الآية إشعار بعلو مكانة أهل الجنة بالنسبة إلى مكان أهل النار.
وإنما أفرز الماء وهو من جملة ما رزقهم الله ثم قدم في الذكر على سائر ما رزقهم الله لأن الحاجة إلى بارد الماء أسبق إلى الذهن طبعاً بالنسبة إلى غيره عندما تحيط الحرارة بالإِنسان، ومعنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: { الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً } إلى آخر الآية. اللهو ما يشغلك عما يهمك، واللعب الفعل المأتي به لغاية خيالية غير حقيقية، والغرور إظهار النصح واستبطان الغش، والنسيان يقابل الذكر، وربما يستعار لترك الشيء وعدم الاعتناء بشأنه كالشيء المنسي، وعلى ذلك يجري في الآية، والجحد النفي والإِنكار، والآية مسوقة لتفسير الكافرين، ويستفاد منها تفسيرات ثلاثة للكفر: أولها: أنه اتخاذ الإِنسان دينه لهواً ولعباً وغرور الحياة الدنيا له، والثاني: نسيان يوم اللقاء، والثالث: الجحد بآيات الله، ولكل من التفاسير وجه.
وفي قوله تعالى: { الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً } دلالة على أن الإِنسان لا غنى له عن الدين على أي حال حتى من اشتغل باللهو واللعب ومحض حياته فيها محضاً فإن الدين - كما تقدمت الإِشارة إليه في تفسير قوله: { الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً } الآية - هو طريق الحياة الذي يسلكه الإِنسان في الدنيا، ولا محيص له عن سلوكه، وقد نظمه الله سبحانه بحسب ما تهدى إليه الفطرة الإِنسانية ودعت إليه، وهو دين الإِنسان الذي يخصه وينسب إليه، وهو الذي يهم الإِنسان ويسوقه إلى غاية حقيقية هي سعادة حياته.
فحيث جرى عليه الإِنسان وسلكه كان على دينه الذي هو دين الله الفطري، وحيث اشتغل عنه إلى غيره الذي يلهو عنه ولا يهديه إلا إلى غايات خيالية وهي اللذائذ المادية التي لا بقاء لها ولا نفع فيها يعود إلى سعادته فقد اتخذ دينه لهواً ولعباً وغرته الحياة الدنيا بسراب زخارفها.
وقوله تعالى: { فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا } أي اليوم نتركهم ولا نقوم بلوازم حياتهم السعيدة كما تركوا يومهم هذا فلم يقوموا بما يجب أن يعملوا له وبما كانوا بآياتنا يجحدون ونظير الآية في جعل تكذيب الآيات سبباً لنسيان الله له يوم القيامة قوله:
{ { قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى } [طه: 126]، وقد بدل هناك الجحد نسياناً.
قوله تعالى: { ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم } الآية عود على بدء الكلام أعني قوله في أول الآيات: { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته } أي من أعظم من هؤلاء ظلماً ولقد أتممنا عليهم الحجة وأقمنا لهم البيان فجئناهم بكتاب فصلناه وأنزلناه إليهم على علم منا بنزوله؟.
فقوله: { على علم } متعلق بقوله: { لقد جئناهم } والكلمة تتضمن احتجاجاً على حقيقة الكتاب والتقدير: ولقد جئناهم بكتاب حق: وكيف لا يكون حقاً؟ وقد نزل على علم منا بما يشتمل عليه من المطالب.
وقوله: { هدى ورحمة لقوم يؤمنون } أي هدى وإراءة طريق للجميع ورحمة للمؤمنين به خاصة، أو هدى وإيصالاً بالمطلوب للمؤمنين ورحمة لهم، والأول أنسب بالمقام وهو مقام الاحتجاج.
قوله تعالى: { هل ينظرون إلا تأويله } إلى آخر الآية. الضمير في تأويله راجع إلى الكتاب وقد تقدم في تفسير قوله تعالى:
{ { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات } [آل عمران: 7] الآية أن التأويل في عرف القرآن هو الحقيقة التي يعتمد عليها حكم أو خبر أو أي أمر ظاهر آخر اعتماد الظاهر على الباطن والمثل على المثل.
فقوله: { هل ينظرون إلا تأويله } معناه هل ينتظر هؤلاء الذين يفترون على الله كذباً أو يكذبون بآياته وقد تمت عليهم الحجة بالقرآن النازل عليهم، إلا حقيقة الأمر التي كانت هي الباعثة على سوق بياناته وتشريع أحكامه والإِنذار والتبشير الذين فيه؟ فلو لم ينتظروه لم يتركوا الأخذ بما فيه.
ثم يخبر تعالى عن حالهم في يوم إتيان التأويل بقوله: { يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه } الخ، أي إذا انكشفت حقيقة الأمر يوم القيامة يعترف التاركون له بحقيقة ما جاءت به الرسل من الشرائع التي أوجبوا العمل بها، وأخبروا أن الله سيبعثهم ويجازيهم عليها.
وإذ شاهدوا عند ذلك أنهم صفر الأيدي من الخير، هالكون بفساد أعمالهم سألوا أحد أمرين يصلح به ما فسد من أمرهم أما شفعاء ينجونهم من الهلاك الذي أطل عليهم أو أنفسهم، بأن يردوا إلى الدنيا فيعملوا صالحاً غير الذي كانوا يعملونه من السيئات وذلك قوله حكاية عنهم: { فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل }؟
وقوله تعالى: { قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون } فصل في معنى التعليل لما حكي عنهم من سؤال أحد أمرين: إما الشفعاء وإما الرد إلى الدنيا كأنه قيل: لماذا يسألون هذا الذي يسألون؟ فقيل: { قد خسروا أنفسهم } فيما بدلوا دينهم لهواً ولعباً، واختاروا الجحود على التسليم وقد زال عنهم الافتراءات المضلة التي كانت تحجبهم عن ذلك في الدنيا فبان لهم أنهم في حاجة إلى من يصلح لهم أعمالهم إما أنفسهم أو غيرهم ممن يشفع لهم.
وقد تقدم في مبحث الشفاعة في الجزء الأول من الكتاب أن في قوله: { فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا } دلالة على أن هناك شفعاء يشفعون للناس إذ قال: من شفعاء، ولم يقل: من شفيع فيشفع لنا.
(بحث روائي)
في الكافي بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال في قوله تعالى: { وما أضلنا إلا المجرمون } إذ دعوهم إلى سبيلهم ذلك قول الله عز وجل فيهم إذ جمعهم إلى النار: { قالت أُخراهم لأولاهم ربنا هـٰؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار } وقوله: { كلما دخلت أُمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها } يتبرأ بعضهم من بعض ويلعن بعضهم بعضاً يريد أن بعضهم يحج بعضاً رجاء الفلج فيفلتوا من عظيم ما نزل بهم، وليس بأوان بلوى ولا اختبار ولا قبول معذرة ولا حين نجاة.
أقول: وقوله عليه السلام: قوله كلما دخلت أُمة "الخ" نقل للآية بالمعنى.
وفي الدر المنثور في قوله تعالى: { لا تفتح لهم أبواب السماء } أخرج ابن مردويه عن البراء بن عازب قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: { لا يفتح لهم } بالياء.
وفيه أخرج الطيالسي وابن شيبة وأحمد وهناد بن السري وعبد بن حميد وأبو داود في سننه وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في كتاب عذاب القبر عن البراء بن عازب قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد فجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجلسنا حوله وكأن على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به الأرض فرفع رأسه فقال: استعيذوا من عذاب القبر مرتين أو ثلاثاً.
ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم أكفان من كفن الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان فتخرج تسيل كما تسيل القطر من في السقاء وإن كنتم ترون غير ذلك فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط فتخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون على ملاء من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فتفتح لهم فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي به إلى السماء السابعة فيقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أُعيدهم ومنها أخرجهم تارة أُخرى فيعاد روحه في جسده.
فيأتيه الملكان فيجلسان فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإِسلام فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له باباً إلى الجنة فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرّك، هذا يومك الذي كنت توعد! فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير. فيقول: أنا عملك الصالح فيقول: رب أقم الساعة أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي.
قال: وإن العبد الكافر إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة أخرجي إلى سخط من الله وغضب فيفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها.
فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فيستفتح فلا تفتح له. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تفتح لهم أبواب السماء.
فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى فيطرح روحه طرحاً. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: { من يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق }.
فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسان فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه، هاه، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري! فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري! فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي فافرشوا له من النار، وافتحوا له باباً إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه القبر حتى تختلف فيه أضلاعه.
ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوؤك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول: من أنت فوجهك؟ الوجه يجيء بالشر فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب لا تقم الساعة.
أقول: والرواية من المشهورات رواها جمع من المؤلفين في كتبهم كما رأيت، وفي معناها روايات من طرق الشيعه عن أئمة أهل البيت عليهم السلام أودعنا بعضها في البحث الروائي الموضوع في ذيل قوله تعالى:
{ { ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات } [البقرة: 154] الخ، في الجزء الأول من الكتاب.
وفي تفسير العياشي عن سعيد بن جناح قال: حدثني عوف بن عبد الله الأزدي عن جابر بن يزيد الجعفي عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قبض روح الكافر: فإذا أُوتي بروحه إلى السماء الدنيا أُغلقت منه أبواب السماء، وذلك قوله: { لا تفتح لهم أبواب } إلى آخر الآية. يقول الله ردوها عليه فـ:
{ { منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أُخرى } [طه: 55]. أقول: وروي ما في معناه في المجمع عنه عليه السلام.
وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلا هذه الآية: { لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش } قال: هي طبقات من فوقه، وطبقات من تحته لا يدري ما فوقه أكبر أو ما تحته؟ غير أنه ترفعه الطبقات السفلى وتضعه الطبقات العليا، ويضيق عليهما حتى يكون بمنزلة الزج في القدح.
وفيه أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن علي ابن طالب قال: فينا والله أهل بدر نزلت هذه الآية: { ونزعنا ما في صدورهم من غل }.
أقول: وقوع الجملة في سياق هذه الآيات وهي مكية يأبى نزولها يوم بدر أو في أهل بدر، وقد وقعت الجملة أيضاً في قوله تعالى:
{ { ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين } [الحجر: 47]، وهي أيضاً في سياق آيات أهل الجنة، وهي مكية.
وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يحبس أهل الجنة بعدما يجوزون الصراط حتى يؤخذ لبعضهم من بعض ظلاماتهم في الدنيا فيدخلون الجنة وليس في قلوب بعضهم على بعض غل.
وفيه أخرج النسائي وابن أبي الدنيا وابن جرير في ذكر الموت وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"كل أهل النار يرى منزله من الجنة يقول: لو هدانا الله، فيكون حسرة عليهم، وكل أهل الجنة يرى منزله من النار فيقول لولا أن هدانا الله، فهذا شكرهم"
]. وفيه أخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والدارمي ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: { ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون } قال: نودوا أن صحوا فلا تسقموا، وأنعموا فلا تيأسوا، وشبوا فلا تهرموا، واخلدوا فلا تموتوا.
أقول: وفي معنى وراثة الجنة أخبار أُخر سيأتي إن شاء الله.
وفي الكافي وتفسير القمي بإسنادهما عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الرضا عليه السلام في قوله تعالى: { فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين } قال المؤذن أمير المؤمنين عليه السلام.
أقول: ورواه العياشي عنه عليه السلام ورواه في روضة الواعظين عن الباقر عليه السلام قال: المؤذن علي عليه السلام.
وفي المعاني بإسناده عن جابر الجعفي عن أبي جعفر محمد بن على عليه السلام قال: خطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بالكوفة منصرفه من النهروان وبلغه أن معاوية يسبه ويعيبه ويقتل أصحابه فقام خطيباً، وذكر الخطبة إلى أن قال فيها: وأنا المؤذن في الدنيا والآخرة قال الله عز وجل: { فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين } أنا ذلك المؤذن، قال: { وأذان من الله ورسوله } أنا ذلك الأذان.
أقول: أي أنا المؤذن بذلك الأذان بقرينة صدر الكلام ويشير عليه السلام به إلى قصة آيات البراءة.
وفي المجمع روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده عن محمد بن الحنفية عن علي أنه قال: أنا ذلك المؤذن.
وبإسناده عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال: لعلي في كتاب الله أسماء لا يعرفها الناس قوله: فأذن مؤذن بينهم يقول: ألا لعنة الله على الذين كذبوا بولايتي واستخفوا بحقي.
أقول: قال الآلوسي في روح المعاني في قوله تعالى: { فأذن مؤذن } الآية. هو على ما روي عن ابن عباس صاحب الصور، وقيل: مالك خازن النار، وقيل: ملك من الملائكة غيرهما يأمره الله تعالى بذلك، ورواية الإِمامية عن الرضا وابن عباس أنه علي كرم الله وجهه مما لم يثبت من طريق أهل السنة وبعيد عن هذا الإِمام أن يكون مؤذناً وهو إذ ذاك في حظائر القدس (انتهى).
وقال صاحب المنار في تفسيره بعد نقله عنه: وأقول: إن واضعي كتب الجرح والتعديل لرواة الآثار لم يضعوها على قواعد المذاهب، وقد كان في أئمتهم من يعد في شيعة علي وآله كعبد الرزاق والحاكم، وما منهم أحد إلا وقد عدل كثيراً من الشيعة في روايتهم، فإذا ثبت هذه الرواية بسند صحيح قبلنا ولا نرى كونه في حظائر القدس مانعاً منها، ولو كنا نعقل لإِسناد هذا التأذين إليه كرم الله وجهه معنى يعد به فضيلة أو مثوبة عند الله تعالى لقبلنا الرواية بما دون السند الصحيح ما لم يكن موضوعاً أو معارضاً برواية أقوى سنداً أو أصح متناً (انتهى).
ولقد أجاد فيما أفاد غير أن الآحاد من الروايات لا تكون حجة عندنا إلا إذا كانت محفوفة بالقرائن المفيدة للعلم أعني الوثوق التام الشخصي سواء كانت في أصول الدين أو التاريخ أو الفضائل أو غيرها إلا في الفقه فإن الوثوق النوعي كاف في حجية الرواية كل ذلك بعد عدم مخالفة الكتاب والتفصيل موكول إلى فن أُصول الفقه.
وأما كون هذا التأذين فضيلة فلا ينبغي الارتياب فيه وليعتبر التأذين الاخروي بالتأذين الدنيوي فالتأذين هو إعلام الحكم من قبل صاحبه ليستقر على المحكومين فالمؤذن هو الرابطة يربط صاحب الحكم بالمحكومين بتقرير حكمه عليهم والرابطة في شرفها وخستها يتبع الطرفين، ومن الواضح أن الطرف إذا كان هو الله عز اسمه كان في ذلك من الشرف والكرامة ما لا يعادله شيء كما في وساطة إبراهيم عن الله سبحانه في قوله:
{ { وأذن في الناس بالحج } [الحج: 27]، ووساطة علي عليه السلام في إبلاغ آيات البراءة: { { وأذان من الله ورسوله إلى الناس } [التوبة: 3] الخ، هذا في الأذان والإِعلام التشريعي الذي يستقر به حكم الحاكم على المحكومين به، وأما الأذان غير التشريعي كما في أذان يوم القيامة أن لعنة الله على الظالمين ففيه استقرار البعد التام واللعن المطلق الدائم على الظالمين بعد إشهادهم حقيه الوعد الإِلهي الذي بلغهم منه تعالى من طريق أنبيائه ورسله، وفيه تثبيت ما في ظهور حقائق الوعد والوعيد للظالمين من النتيجة العائدة إليهم فافهم ذلك ولا يهونن عليك أمر الحقائق، ولا تساهل في البحث عنها إن كنت ذا قدم فيه.
وهذا هو الذي يشير إليه علي عليه السلام نفسه فيما مر من خطبته إذ قال: وأنا المؤذن في الدنيا والآخرة.
والرواية - كما تقدم - مروية بطرق متعددة من الشيعة عن علي والباقر والرضا عليهم السلام من طرق أهل السنة ما رواه الحاكم بإسناده عن ابن الحنفية عن علي وبإسناده عن أبي صالح عن ابن عباس والرجل جيد الرواية ضابط في الحديث ينقل في التفاسير الروائية وغيرها رواياته في التفسير لكنهم لم يذكروا روايته هذه حتى مثل السيوطي الذي يستوفي في الدر المنثور ما رواه في التفسير ترك ذكر الحديث، وما أدري ما هو السبب فيه؟.
وفي الدر المنثور أخرج أبو الشيخ وابن مردويه وابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يوضع الميزان يوم القيامة فيوزن الحسنات والسيئات فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال صؤابه دخل الجنه، ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال صؤابه دخل النار.
قيل: يا رسول الله فمن استوى حسناته وسيئاته؟ قال: أُولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون.
وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير قال:
" سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أصحاب الأعراف فقال:هم آخر من يفصل بينهم من العباد فإذا فرغ رب العالمين من الفصل بين العباد قال: أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار ولم تدخلوا الجنة فأنتم عتقائي فارعوا في الجنة حيث شئتم"
]. أقول: وروي القول بكون أهل الأعراف هم الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم عن ابن مسعود وحذيفة وابن عباس من الصحابة.
وفي الكافي بإسناده عن حمزة الطيار قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: الناس على ستة أصناف - إلى أن قال - قلت: وما أصحاب الأعراف؟ قال: قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فإن أدخلهم النار فبذنوبهم، وإن أدخلهم الجنة فبرحمته، الحديث.
وفيه بإسناده عن زرارة قال: قال أبو جعفر عليه السلام: ما تقول في أصحاب الأعراف؟ فقلت: ما هم إلا مؤمنون أو كافرون إن دخلوا الجنة فهم مؤمنون، وإن دخلوا النار فهم كافرون. فقال: والله ما هم بمؤمنين ولا كافرين ولو كانوا مؤمنين لدخلوا الجنة كما دخلها المؤمنون، ولو كانوا كافرين لدخلوا النار كما دخلها الكافرون، ولكنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فقصرت بهم الأعمال، وإنهم كما قال الله عز وجل.
فقلت: أمن أهل الجنة هم أم من أهل النار؟ فقال: اتركهم كما تركهم الله. فقلت: أفأرجئهم؟ قال: نعم أرجئهم كما أرجأهم الله إن شاء الله أدخلهم الجنة برحمته، وإن شاء ساقهم إلى النار بذنوبهم ولم يظلمهم. فقلت: هل يدخل الجنة كافر؟ قال: لا. قلت: فهل يدخل النار إلا كافر؟ فقال: لا إلا أن يشاء الله. يا زرارة إني أقول: ما شاء الله أما إن كبرت رجعت وتحللت عنك عقدك.
أقول: قوله عليه السلام: أما إن كبرت الخ، أي إن استعظمت قولي ولم تقبله خرجت عما كنت عليه من الحق وانحل ما عقدت عليه قلبك من التصديق.
والروايات - كما ترى - يفسر أصحاب الأعراف بمن استوت حسناتهم وسيئاتهم في الميزان، وفي بعضها أن قوله تعالى: { لم يدخلوها وهم يطمعون } الخ، من كلامهم وهذا لا ينطبق على آيات الأعراف البتة كما مر بيانه.
على أنك عرفت فيما تقدم من تفسير قوله تعالى:
{ { والوزن يومئذ الحق } [الأعراف: 8] الخ، أن الميزان الذي يذكره إما أن يثقل وهو رجحان الحسنات أو يخف وهو رجحان السيئات، ولا معنى حينئذ لاستواء الحسنات والسيئات الذي هو ثقل الميزان وخفته معاً! فلو فرض أن هناك من لا يشخص الميزان رجحان بعض أعماله، على بعض مثلاً كان ممن لا يقام له وزن يوم القيامة كالكافر الذي أُحبطت أعماله، والمستضعف الذي لم تتم عليه الحجة ولم يتعلق به التكليف.
نعم ربما يستفاد من الرواية الأخيرة أن المراد بالذين استوت حسناتهم وسيئاتهم هم المستضعفون المرجون لأمر الله إن يشأ يغفر لهم وإن يشأ يعذبهم. فالاستواء كناية عن عدم الرجحان، ويندفع حينئذ إشكال الوزن لكن يبقى الإِشكال من جهة الانطباق على ظاهر الآيات وفيها من صفات رجال الأعراف وأصحابه ما لا يتصف به إلا السابقون المقربون المتصدرون في حظيرة الكرامة والسعادة، وهؤلاء المستضعفون إن صح عدهم من أهل السعادة فهم نازلون في أنزل منازلها.
وفي المجمع قال أبو عبد الله: الأعراف كثبان بين الجنة والنار يوقف عليها كل نبي وكل خليفة مع المذنبين من أهل زمانه كما يقف صاحب الجيش مع الضعفاء من جنده وقد سبق المحسنون إلى الجنة فيقول ذلك الخليفة للمذنبين الواقفين معه: انظروا إلى إخوانكم المحسنين قد سبقوا فيسلم عليهم المذنبون: وذلك قوله: { ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم } ثم أخبر سبحانه وتعالى: أنهم لم يدخلوها وهم يطمعون يعني هؤلاء المذنبين لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون أن يدخلهم الله بشفاعة النبي والإِمام، وينظر هؤلاء المذنبون إلى أهل النار فيقولون ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين.
ثم ينادي أصحاب الأعراف وهم الأنبياء والخلفاء رجالاً من أهل النار مقرعين لهم ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون أهؤلاء الذين أقسمتم يعني أهؤلاء المستضعفين الذين كنتم تستضعفونهم وتحتقرونهم بفقرهم وتستطيلون بدنياكم عليهم - ثم يقولون لهؤلاء المستضعفين عن أمر من الله بذلك لهم: ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون.
أقول: وروى القمي في تفسيره عن أبيه عن الحسن بن محبوب عن أبي أيوب عن مرثد عن أبي عبد الله عليه السلام ما يقرب منه.
وهذه الرواية - كما ترى - تذكر المستضعفين مكان من استوت حسناتهم وسيئاتهم صريحاً ثم تذكر أن هناك جماعة من المستضعفين يطمعون في دخول الجنة ويتعوذون من دخول النار من غير أن تفسر بهم الرجال الذين ذكر الله تعالى أنهم على الأعراف يعرفون كلاً بسيماهم، ويسميهم أصحاب الأعراف. ويسهل حينئذ انطباق مضمونها على الآيات، ولا يبقى من الإِشكال إلا ظهور الآيات في أن المسلم على أهل الجنة هم أصحاب الأعراف والرجال الذين على الأعراف.
والظاهر أن في الروايات اختلالاً وهو ناشئ عن سوء فهم بعض النقلة ثم النقل ولعل الذي بينه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو بعض الأئمة أن هناك جماعة من المستضعفين يدخلهم الله الجنة بشفاعة أو مشيئة ثم غيره النقل بالمعنى وأخرجه إلى الصورة التي تراها، وهذا ظاهر كسائر الروايات الواردة عن ابن عباس وابن مسعود وحذيفه وغيرهم القائلة إن الرجال على الأعراف هم الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم مع ما فيها من الاختلاف في المتون وكذا رواية القمي عن الصادق عليه السلام فراجعها تعرف صدق ما ادعيناه.
وفي البصائر بإسناده عن جابر بن يزيد قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الأعراف ما هم؟ قال: هم أكرم الخلق على الله تبارك وتعالى.
أقول: السائل يأخذ الأعراف والرجال الذين عليه واحداً وعلى ذلك ورد الجواب منه عليه السلام فكأنه أخذ جمعاً لعرف بمعنى العريف والعارف وفي هذا المعنى روايات كثيرة يأتي بعضها.
وفيه بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام: { وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم } قال: نحن أصحاب الأعراف من عرفنا فمآله إلى الجنة ومن أنكرنا فمآله إلى النار.
أقول: قوله من عرفنا ومن أنكرنا إن كان فعلاً وفاعلاً فهو، وأن كان فعلاً ومفعولاً كان على وزان سائر الروايات من عرفهم وعرفوه، ومن أنكرهم وأنكروه.
وفيه بإسناده عن الأصبغ بن نباتة قال: كنت عند أمير المؤمنين عليه السلام فقال له رجل: { وعلى الأعراف رجال يعرفون كلاً بسيماهم } فقال له علي عليه السلام: نحن الأعراف نعرف أنصارنا بسيماهم، ونحن الأعراف الذين لا يعرف الله إلا بسبيل معرفتنا ونحن الأعراف نوقف يوم القيامة بين الجنة والنار فلا يدخل الجنة إلا من عرفنا وعرفناه، ولا يدخل النار إلا من أنكرنا وأنكرناه وذلك قول الله عز وجل.
لو شاء لعرف الناس نفسه حتى يعرفوا حده ويأتونه من بابه، جعلنا أبوابه وصراطه وسبيله وبابه الذي يؤتى منه.
أقول: ورواه أيضاً بإسناده عن مقرن عن أبي عبد الله عليه السلام والرجل السائل هو ابن الكواء، وروى هذه القصة أيضاً الكليني في الكافي عن مقرن قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: جاء ابن الكواء، الخ.
والظاهر أن المراد بالمعرفة والإِنكار في الرواية المعرفة بالحب والبغض أي لا يدخل الجنة إلا من عرفنا بالولاية وعرفناه بالطاعة، ولا يدخل النار إلا من أنكر ولايتنا وأنكرنا طاعته وهذا غير معرفتهم الجميع بأعيانهم، وإلا أشكل انطباقه على قوله تعالى: { رجال يعرفون كلاً بسيماهم } وقوله تعالى: { ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم } الخ، ولعل ذلك إنما نشأ من نقل بعض الرواة الرواية بالمعنى، ويؤيد ما استظهرناه ما يأتي في الرواية التالية.
وفي المجمع روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده رفعه إلى الأصبغ بن نباتة قال: كنت جالساً عند علي عليه السلام فأتاه ابن الكواء فسأله عن هذه الآية فقال ويحك يا ابن الكواء نحن نوقف يوم القيامة بين الجنة والنار فمن نصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنة ومن أبغضنا عرفناه بسيماه فأدخلناه النار.
وفي تفسير العياشي عن هلقام عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن قول الله: { وعلى الأعراف رجال يعرفون كلاً بسيماهم } ما يعني بقوله: { وعلى الأعراف رجال؟ } قال: ألستم تعرفون عليكم عرفاء على قبائلكم ليعرفوا من فيها من صالح أو طالح؟ قلت: بلى. قال: فنحن أُولئك الرجال الذين يعرفون كلا بسيماهم.
أقول: وهو مبني على أخذ الأعراف جمعاً للعرف كأقطاب جمع قطب والعرف هو المعروف من الأمر ولعله مصدر بمعنى المفعول فمعنى { وعلى الأعراف رجال }: وُكّل على أُمورهم وأحوالهم المعروفة منهم رجال، ولا ينافي ذلك ما تقدم أن الأعراف أعالي الحجاب وكذا ما تقدم في بعض الروايات أن الأعراف كثبان بين الجنة والنار فإن المعرفة التي هي مادة اللفظ حافظة لمعناه في مشتقاته وموارد استعمالها على أي حال.
واعلم أن الأخبار من طرق أئمه أهل البيت عليهم السلام في ما يقرب من هذه المعاني في الأعراف كثيرة جداً، وفيما أوردناه للإِشارة إلى أنواع مضامينها في تفسير الأعراف وأصحاب الأعراف كفاية.
وفي تفسير البرهان عن الثعلبي في تفسيره عن ابن عباس أنه قال: الأعراف موضع عال من الصراط عليه العباس وحمزة وعلي بن أبي طالب وجعفر ذو الجناحين يعرفون شيعتهم ببياض الوجوه ومبغضيهم بسواد الوجوه.
أقول: وقد تقدم في البيان السابق نقل الرواية عن مجمع البيان عن تفسير الثعلبي عن الضحاك عن ابن عباس.
وفي الدر المنثور أخرج الحارث بن أبي أُسامة في مسنده وابن جرير وابن مردويه عن عبد الله بن مالك الهلالي عن أبيه:
" قال قائل: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما أصحاب الأعراف قال:هم قوم خرجوا في سبيل الله بغير إذن آبائهم فاستشهدوا فمنعتهم الشهادة أن يدخلوا النار، ومنعتهم معصية آبائهم إن يدخلوا الجنة فهم آخر من يدخل الجنة"
]. أقول: وهذا المعنى مروي بطرق أُخرى عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة وابن عباس وقد تقدم الإِشكال عليه بعدم الانطباق على ظاهر الآيات، والأصول المسلمه تعطي إنه إن تعين الخروج وجوباً عينياً لم يؤثر فيه عدم إذن الوالدين، وإن لم يتعين وبقي على الكفاية كان الخروج محرماً ولم ينفعه القتل في المعركة إلا أن يكون مستضعفاً من جهة الجهل بالحكم فيعود إلى القول بكون أصحاب الأعراف هم المستضعفين ويجري فيه البحث السابق.