التفاسير

< >
عرض

إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
١
قَالَ يٰقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
٢
أَنِ ٱعبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ
٣
يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
٤
قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً
٥
فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيۤ إِلاَّ فِرَاراً
٦
وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوۤاْ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِمْ وَٱسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَٱسْتَكْبَرُواْ ٱسْتِكْبَاراً
٧
ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً
٨
ثُمَّ إِنِّيۤ أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً
٩
فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً
١٠
يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً
١١
وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً
١٢
مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً
١٣
وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً
١٤
أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ ٱللَّهُ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقاً
١٥
وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ ٱلشَّمْسَ سِرَاجاً
١٦
وَٱللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً
١٧
ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً
١٨
وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ بِسَاطاً
١٩
لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً
٢٠
قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَٱتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً
٢١
وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً
٢٢
وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً
٢٣
وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً وَلاَ تَزِدِ ٱلظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً
٢٤
-نوح

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
تشير السورة إلى رسالة نوح عليه السلام إلى قومه وإجمال دعوته وعدم استجابتهم له ثم شكواه إلى ربه منهم ودعائه عليهم واستغفاره لنفسه ولوالديه ولمن دخل بيته مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات ثم حلول العذاب بهم وإهلاكهم بالإِغراق والسورة مكية بشهادة سياق آياتها.
قوله تعالى: { إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم } { أن أنذر قومك } الخ، تفسير لرسالته أي أوحينا إليه أن أنذر، "الخ".
وفي الكلام دلالة على أن قومه كانوا عرضة للعذاب بشركهم ومعاصيهم كما يدل عليه ما حكى من قوله عليه السلام في الآية التالية: { اعبدوا الله واتقوه } وذلك أن الإِنذار تخويف والتخويف إنما يكون من خطر محتمل لا دافع له لولا التحذر، وقد أفاد قوله: { من قبل أن يأتيهم عذاب أليم } أنه متوجه إليهم غير تاركهم لولا تحذرهم منه.
قوله تعالى: { قال يا قوم إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون } بيان لتبليغه رسالته إجمالاً بقوله: { إني لكم نذير مبين }، وتفصيلاً بقوله: { أن اعبدوا الله } الخ.
وفي إضافته اليوم إلى نفسه إظهار إشفاق ورحمة أي إنكم قومي يجمعكم وإياي مجتمعنا القومي تسوؤني ما أساءكم فلست أُريد إلا ما فيه خيركم وسعادتكم إني لكم نذير الخ.
وفي قوله: { أن اعبدوا الله } دعوتهم إلى توحيده تعالى في عبادته فإن القوم كانوا وثنيين يعبدون الأصنام، والوثنية لا تجوّز عبادة الله سبحانه لا وحده ولا مع غيره، وإنما يعبدون أرباب الأصنام بعبادة الأصنام ليكونوا شفعاء لهم عند الله، ولو جوزوا عبادته تعالى لعبدوه وحده فدعوتهم إلى عبادة الله دعوة لهم إلى توحيده في العبادة.
وفي قوله: { واتقوه } دعوتهم إلى اجتناب معاصيه من كبائر الإِثم وصغائره وهي الشرك فما دونه، وفعل الأعمال الصالحة التي في تركها معصية.
وفي قوله: { وأطيعون } دعوة لهم إلى طاعة نفسه المستلزم لتصديق رسالته وأخذ معالم دينهم مما يعبد به الله سبحانه ويستن به في الحياة منه عليه السلام ففي قوله: { اعبدوا الله واتقوه وأطيعون } ندب إلى أصول الدين الثلاثة: التوحيد المشار إليه بقوله: { اعبدوا الله } والمعاد الذي هو أساس التقوى والتصديق بالنبوة المشار إليه بالدعوة إلى الطاعة المطلقة.
قوله تعالى: { يغفر لكم من ذنوبكم } مجزوم في جواب الأمر وكلمة { من } للتبعيض على ما هو المتبادر من السياق، والمعنى إن تعبدوه وتتقوه وتطيعوني يغفر لكم بعض ذنوبكم وهي الذنوب التي قبل الإيمان: الشرك فما دونه، وأما الذنوب التي لم تقترف بعد مما سيستقبل فلا معنى لمغفرتها قبل تحققها، ولا معنى أيضاً للوعد بمغفرتها إن تحققت في المستقبل أو كلما تحققت لاستلزام ذلك إلغاء التكاليف الدينية بإلغاء المجازاة على مخالفتها.
ويؤيد ذلك ظاهر قوله تعالى:
{ { يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم } [الأحقاف: 30]. وقوله: { { يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم } [إبراهيم: 10]، وقوله: { { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } [الأنفال: 38]. وأما قوله تعالى يخاطب المؤمنين من هذه الأمة: { { يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذٰلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات } [الصف: 10-12] فهو وإن كان ظاهراً في مغفرة جميع الذنوب لكن رتبت المغفرة فيه على استمرار الايمان والعمل الصالح وإدامتهما ما دامت الحياة فلا مغفرة فيه متعلقة بما لم يتحقق بعد من المعاصي والذنوب المستقبلة ولا وعد بمغفرتها كلما تحققت.
وقد مال بعضهم اعتماداً على عموم المغفرة في آيه الصف إلى القول بأن المغفور بسبب الإِيمان في هذه الأمة جميع الذنوب وفي سائر الأمم بعضها كما هو ظاهر قول نوح لأُمته: { يغفر لكم من ذنوبكم } وقول الرسل: كما في سورة إبراهيم { يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم } وقول الجن كما في سورة الأحقاف لقومهم: { يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم }.
وفيه أن آية الصف موردها غير مورد المغفرة بسبب الإِيمان فقط كما أشرنا إليه. على أن آية الأنفال صريحة في مغفرة ما قد سلف، والمخاطب به كفار هذه الأُمة.
وذهب بعضهم إلى كون { من } في قوله: { من ذنوبكم } زائدة، ولم تثبت زيادة { من } في الإِثبات فهو ضعيف ومثله في الضعف قول من ذهب إلى أن { من } بيانيّة، وقول من ذهب إلى أنها لابتداء الغاية.
قوله تعالى: { ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون } تعليق تأخيرهم إلى أجل مسمى على عبادة الله والتقوى وطاعة الرسول يدل على أن هناك أجلين أجل مسمى يؤخرهم الله إليه إن أجابوا الدعوة، وأجل غيره يعجل إليهم لو بقوا على الكفر، وأن الأجل المسمى أقصى الأجلين وأبعدهما.
ففي الآية وعدهم بالتأخير إلى الأجل المسمى إن آمنوا وفي قوله: { إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر } تعليل للتأخير إلى الأجل المسمى إن آمنوا فالمراد بأجل الله إذا جاء مطلق الأجل المقضي المتحتم أعم من الأجل المسمى وغير المسمى فلا راد لقضائه تعالى ولا معقب لحكمه.
والمعنى: أن أعبدوا الله واتقوه وأطيعوني يؤخركم الله إلى أجل مسمى هو أقصى الأجلين فإنكم إن لم تفعلوا ذلك جاءكم الأجل غير المسمى بكفركم ولم تؤخروا فإن أجل الله إذا جاء لا يؤخر، ففي الكلام مضافاً إلى وعد التأخير إلى الأجل المسمى إن آمنوا، تهديد بعذاب معجل إن لم يؤمنوا.
وقد ظهر بما تقدم عدم استقامة تفسير بعضهم لأجل الله بالأجل غير المسمى وأضعف منه تفسيره بالأجل المسمى.
وذكر بعضهم: أن المراد بأجل الله يوم القيامة والظاهر أنه يفسر الأجل المسمى أيضاً بيوم القيامة فيرجع معنى الآية حينئذ إلى مثل قولنا: إن لم تؤمنوا عجل الله إليكم بعذاب الدنيا وإن آمنتم أخركم إلى يوم القيامة إنه إذا جاء لا يؤخر.
وأنت خبير بأنه لا يلائم التبشير الذي في قوله: { يغفر لكم من ذنوبكم }.
وقوله: { لو كنتم تعلمون } متعلق بأول الكلام أي لو كنتم تعلمون أن لله أجلين وأن أجله إذا جاء لا يؤخر استجبتم دعوتي وعبدتم الله واتقيتموه وأطعتموني هذا فمفعول { تعلمون } محذوف يدل عليه سابق الكلام.
وقيل: إن { تعلمون } منزل منزلة الفعل اللازم، وجواب لو متعلق بأول الكلام، والمعنى: لو كنتم من أهل العلم لاستجبتم دعوتي وآمنتم، أو متعلق بآخر الكلام، والمعنى: لو كنتم من أهل العلم لعلمتم أن أجل الله إذا جاء لا يؤخر.
قوله تعالى: { قال ربي إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً فلم يزدهم دعائي إلا فراراً } القائل هو نوح عليه السلام والذي دعا إليه هو عبادة الله وتقواه وطاعة رسوله، والدعاء ليلاً ونهاراً كناية عن دوامه من غير فتور ولا توان.
وقوله: { فلم يزدهم دعائي إلا فراراً } أي من إجابة دعوتي فالمراد بالفرار التمرد والتأبي عن القبول استعارة، وإسناد زيادة الفرار إلى دعائه لما فيه من شائبة السببية لأن الخير إذا وقع في محل غير صالح قاومه المحل بما فيه من الفساد فأفسده فانقلب شراً، وقد قال تعالى في صفة القرآن:
{ { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً } [الإسراء: 82]. قوله تعالى: { وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم } الخ ذكر مغفرته تعالى غاية لدعوته والأصل "دعوتهم ليؤمنوا فتغفر لهم" لأن الغرض الإِشارة إلى أنه كان ناصحاً لهم في دعوته ولم يرد إلا ما فيه خير دنياهم وعقباهم.
وقوله: { جعلوا أصابعهم في آذانهم } كناية عن استنكافهم عن الاستماع إلى دعوته، وقوله: { واستغشوا ثيابهم } أي غطوا بها رؤوسهم ووجوههم لئلا يروني ولا يسمعوا كلامي وهو كناية عن التنفر وعدم الاستماع إلى قوله.
وقوله: { وأصروا واستكبروا استكباراً } أي وألحوا على الامتناع من الاستماع واستكبروا عن قبول دعوتي استكباراً عجيباً.
قوله تعالى: { ثم إني دعوتهم جهاراً } { ثم } للتراخي بحسب رتبة الكلام والجهار النداء بأعلى الصوت.
قوله تعالى: { ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً } الإِعلان والإِسرار متقابلان وهما الإِظهار والإِخفاء، وظاهر السياق أن مرجع ضمير لهم في الموضعين واحد فالمعنى دعوتهم سراً وعلانية فتارة علانية وتارة سراً سالكاً في دعوتي كل مذهب ممكن وسائراً في كل مسير مرجو.
قوله تعالى: { فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً } إلى قوله { أنهاراً } علل أمرهم بالاستغفار بقوله: { إنه كان غفاراً } دلالة على أنه تعالى كثير المغفرة وهي مضافاً إلى كثرتها منه سنة مستمرة له تعالى.
وقوله: { يرسل السماء عليكم مدراراً } مجزوم في جواب الأمر، والمراد بالسماء السحاب، والمدرار كثير الدرور بالأمطار.
وقوله: { ويمددكم بأموال وبنين } الإِمداد إلحاق المدد وهو ما يتقوى به الممد على حاجته، والأموال والبنون أقرب الأعضاد الابتدائية التي يستعين بها المجتمع الإِنساني على حوائجه الحيوية.
وقوله: { ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً } هما من قسم الأموال غير أنهما لكونهما من أبسط ضروريات المعاش خصا بالذكر.
والآيات - كما ترى - تعد النعم الدنيوية وتحكي عنه عليه السلام أنه يعد قومه توافر النعم وتواترها عليهم إن استغفروا ربهم فلمغفرة الذنوب أثر بالغ في رفع المصائب والنقمات العامة وانفتاح أبواب النعم من السماء والأرض أي أن هناك ارتباطاً خاصاً بين صلاح المجتمع الانساني وفساده وبين الأوضاع العامة الكونية المربوطة بالحياة الإِنسانية وطيب عيشه ونكده.
كما يدل عليه قوله تعالى:
{ { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس } [الروم: 21]، وقوله: { { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } [الشورى: 30]، وقوله: { { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } [الأعراف: 96]، وقد تقدم في تفسير الآيات ما لا يخلو من نفع في هذا المقام.
قوله تعالى: { ما لكم لا ترجون لله وقاراً } استفهام إنكاري والوقار - كما في المجمع - بمعنى العظمة اسم من التوقير بمعنى التعظيم، والرجاء مقابل الخوف وهو الظن بما فيه مسرة، والمراد به في الآية مطلق الاعتقاد على ما قيل، وقيل: المراد به الخوف للملازمة بينهما.
والمعنى: أي سبب حصل لكم حال كونكم لا تعتقدون أو لا تخافون لله عظمة توجب أن تعبدوه.
والحق أن المراد بالرجاء معناه المعروف وهو ما يقابل الخوف ونفيه كناية عن اليأس فكثيراً ما يكنى به عنه يقال: لا أرجو فيه خيراً أي أنا آئس من أن يكون فيه خير، والوقار الثبوت والاستقرار والتمكن وهو الأصل في معناه كما صرح به في المجمع، ووقاره تعالى ثبوته واستقراره في الربوبية المستتبع لالوهيته ومعبوديته.
كأن الوثنيين طلبوا رباً له وقار في الربوبية لعبدوه فيئسوا منه تعالى فعبدوا غيره وهو كذلك فإنهم يرون أنه تعالى لا يحيط به أفهامنا فلا سبيل للتوجه العبادي إليه، والعبادة أداء لحق الربوبية التي يتفرع عليها تدبير الأمر وتدبير أمور العالم مفوض إلى أصناف الملائكة والجن فهم أربابنا الذين يجب علينا عبادتهم ليكونوا شفعاء لنا عند الله، وأما هو تعالى فليس له إلا الإِيجاد إيجاد الأرباب ومربوبيهم جميعاً دون التدبير.
والآية أعني قوله: { ما لكم لا ترجون لله وقاراً } وما يتلوها إلى تمام سبع آيات مسوقة لإِثبات وقاره تعالى في الربوبية وحجة قاطعة في نفي ما لفَّقوه لوجوب عبادة غيره من الملائكة وغيرهم لاستناد تدبير العالم إليهم، ويتبين به إمكان التوجه العبادي إليه تعالى.
ومحصل الحجة: ما الذي دعاكم إلى نفي ربوبيته تعالى المستتبع للالوهية والمعبودية واليأس عن وقاره؟ وأنتم تعلمون أنه تعالى خلقكم وخلق العالم الذي تعيشون فيه طوراً من الخلق لا ينفك عن هذا النظام الجاري فيه، وليس تدبير الكون ومن فيه من الإِنسان إلا التطورات المخلوقة في أجزائه والنظام الجاري فيه فكونه تعالى خالقاً هو كونه مالكاً مدبراً فهو الرب لا رب سواه فيجب أن يتخذ إلهاً معبوداً.
ويتبين به صحة التوجه إليه تعالى بالعبادة فإنا نعرفه بصفاته الكريمة من الخلق والرزق والرحمة وسائر صفاته الفعلية فلنا أن نتوجه إليه بما نعرفه من صفاته.
قوله تعالى: { وقد خلقكم أطواراً } حال من فاعل { لا ترجون } والأطوار جمع طور وهو حد الشيء وحاله التي هو عليها.
ومحصل المعنى - لا ترجعون لله وقاراً في ربوبية - والحال أنه أنشأكم طوراً بعد طور يستعقب طوراً آخر فأنشأ الواحد منكم تراباً ثم نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم جنيناً ثم طفلاً ثم شاباً ثم شيخاً وأنشأ جمعكم مختلفة الأفراد في الذكورة والأنوثة والألوان والهيآت والقوة والضعف إلى غير ذلك، وهل هذا إلا التدبير فهو مدبر أمركم فهو ربكم.
قوله تعالى: { ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقاً } مطابقة السماوات السبع بعضها لبعض كون بعضها فوق بعض أو تطابقهن وتماثلهن على الاحتمالين المتقدمين في تفسير أوائل سورة الملك.
والمراد بالرؤية العلم، وتوصيف السماوات السبع - والكلام مسوق سوق الحجة - يدل على أنهم كانوا يرون كونها سبعاً ويسلمون ذلك فاحتج عليهم بالمسلم عندهم.
وكيف كان فوقوع حديث السماوات السبع في كلام نوح دليل على كونه مأثوراً من الأنبياء (عليهم السلام) من أقدم العهود.
قوله تعالى: { وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجاً } الآيات - كما يشهد به سياقها - مسوقة لبيان وقوع التدبير الإِلهي على الانسان بما يفيض عليه من النعم حتى تثبت ربوبيته فتجب عبادته.
وعلى هذا فكون الشمس سراجاً هو كونها مضيئة لعالمنا ولولاها لانغمرنا في ظلمة ظلماء، وكون القمر نوراً هو كونه منوراً لأرضنا بنور مكتسب من الشمس فليس منوراً بنفسه حتى يعد سراجاً.
وأما أخذ السماوات ظرفاً للقمر في قوله: { وجعل القمر فيهن نوراً } فالمراد به كما قيل كونه في حيزهن وإن كان في واحدة منها كما تقول: إن في هذه الدور لبئراً وإن كانت في واحدة منها لأن ما كان في إحداهن كان فيهن وكما تقول: أتيت بني تميم وإنما أتيت بعضهم.
قوله تعالى: { والله أنبتكم من الأرض نباتاً } أي أنبتكم إنبات النبات وذلك أن الإِنسان تنتهي خلقته إلى عناصر أرضية تركبت تركباً خاصاً به يغتذي وينمو ويولد المثل، وهذه حقيقة النبات، فالكلام مسوق سوق الحقيقة من غير تشبيه واستعارة.
قوله تعالى: { ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً } الإِعادة فيها بالإِماتة والإِقبار، والاخراج للجزاء يوم القيامة فالآية والتي قبلها قريبتا المعنى من قوله تعالى:
{ { فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون } [الأعراف: 25]. وفي قوله: { ويخرجكم } دون أن يقول: ثم يخرجكم إيماء إلى أن الاعادة والإِخراج كالصنع الواحد والاعادة مقدمة للاخراج، والانسان في حالتي الاعادة والإِخراج في دار الحق كما أنه في الدنيا في دار الغرور.
قوله تعالى: { والله جعل لكم الأرض بساطاً } أي كالبساط يسهل لكم التقلب من جانب إلى جانب، والانتقال من قطر إلى قطر.
قوله تعالى: { لتسلكوا منها سبلاً فجاجاً } السبل جمع سبيل بمعنى الطريق والفجاج جمع فج بمعنى الطريق الواسعة، وقيل: الطريق الواقعة بين الجبلين.
قوله تعالى: { قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خساراً } رجوع منه عليه السلام إلى شكواه من قومه إلى ربه بعد ما ذكر تفصيل دعوته لهم وما ألقاه من القول إليهم من قوله: { ثم إني دعوتهم جهاراً } إلى آخر الآيات.
وشكواه السابق له قوله: { فلم يزدهم دعائي إلا فراراً } بعد ما أخبر بإجمال دعوته بقوله: { رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً }.
وفي الآية دلالة على أن العظماء المترفين من قومه عليه السلام كانوا يصدون الناس عنه ويحرضونهم على مخالفته وإيذائه.
ومعنى قوله: { لم يزده ماله وولده إلا خساراً } - وقد عد المال والولد في سابق كلامه من النعم - أن المال والولد اللذين هما من نعمك وكان يجب عليهم شكرهما لم يزيداهم إلا كفراً وأورثهم ذلك خسراناً من رحتك.
قوله تعالى: { ومكروا مكراً كباراً } الكبار اسم مبالغة من الكبر.
قوله تعالى: { وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً } توصية منهم بالتمسك بآلهتهم وعدم ترك عبادتها.
وود وسواع ويغوث ويعوق ونسر خمس من آلهتهم لهم اهتمام تام بعبادتهن ولذا خصوها بالذكر مع الوصية بمطلق الآلهة، ولعل تصدير ود وذكر سواع ويغوث بلا المؤكدة للنفي لكونها أعظم أمراً عندهم من يعوق ونسر والله أعلم.
قوله تعالى: { وقد أضلوا كثيراً ولا تزد الظالمين إلا ضلالاً } ضمير { أضلوا } للرؤساء المتبوعين ويتأيد به أنهم هم المحدث عنهم في قوله: { ومكروا } { وقالوا لا تذرن آلهتكم } وقيل: الضمير للأصنام فهم المضلون، ولا يخلو من بعد.
وقوله: { ولا تزد الظالمين إلا ضلالاً } دعاء من نوح على الظالمين بالضلال والمراد به الضلال مجازاة دون الضلال الابتدائي فهو دعاء منه أن يجازيهم الله بكفرهم وفسقهم مضافاً إلى ما سيحكي عنه من دعائه عليهم بالهلاك.
(بحث روائي)
في نهج البلاغة: وقد جعل الله سبحانه الاستغفار سبباً لدرور الرزق ورحمة الخلق فقال سبحانه: { استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين } فرحم الله امرء استقبل توبته، واستقال خطيئته، وبادر منيته.
أقول: والروايات في استفادة سببية الاستغفار لسعة الرزق والإِمداد بالأولاد من هذه الآيات كثيرة.
وفي الخصال عن علي عليه السلام في حديث الأربعماة: أكثر الاستغفار تجلب الرزق.
وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: { لا ترجون لله وقاراً } قال؟ لا تخافون لله عظمة.
أقول: وقد روي هذا المعنى من طرق أهل السنة عن ابن عباس.
وفيه في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: { سبع سماوات طباقاً } يقول بعضها فوق بعض.
وفيه في قوله تعالى: { رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خساراً } قال: اتبعوا الأغنياء.
وفي الدر المنثور أخرج البخاري وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال: صارت الأصنام والأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد.
أما ود فكانت لكلب في دومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع.
وكانوا أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت.
أقول: لعل المراد بصيرورة تلك الأصنام التي كانت لقوم نوح إلى العرب مطابقة ما عند العرب لما كان عندهم في الأسماء أو في الأوصاف والأسماء، وأما انتقال تلك الأصنام بأشخاصهن إلى العرب فبعيد غايته.
وروى القصة أيضاً في علل الشرائع بإسناده عن جعفر بن محمد عليه السلام كما في الرواية.
وفي روضة الكافي بإسناده عن المفضل عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث: فعمل نوح سفينته في مسجد الكوفة بيده فأتى بالخشب من بعد حتى فرغ منها.
قال: فالتفت عن يساره وأشار بيده إلى موضع دار الداريين وهو موضع دار ابن الحكيم، وذاك فرات اليوم، فقال لي يا مفضل وهنا نصبت أصنام قوم نوح: يغوث ويعوق ونسر.