التفاسير

< >
عرض

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَ وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ وَأَقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٢٠
-المزمل

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
آية مبنية على التخفيف فيما أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صدر السورة من قيام الليل والصلاة فيه ثم عمم الحكم لسائر المؤمنين بقوله: { إن هذه تذكرة } الآية.
ولسان الآية هو التخفيف بما تيسر من القرآن من غير نسخ لأصل الحكم السابق بالمنع عن قيام ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه.
وقد ورد في غير واحد من الأخبار أن الآية مكية نزلت بعد ثمانية أشهر أو سنة أو عشر سنين من نزول آيات صدر السورة لكن يوهنه اشتمال الآية على قوله تعالى: { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضاً حسناً } فإن ظاهره أن المراد بالزكاة - وقد ذكرت قبلها الصلاة وبعدها الإِنفاق المستحب - هو الزكاة المفروضة وإنما فرضت الزكاة بالمدينة بعد الهجرة.
وقول بعضهم: إن الزكاة فرضت بمكة من غير تعيين الأنصباء والذي فرض بالمدينة تعيين الأنصباء، تحكم من غير دليل، وكذا قول بعضهم: إنه من الممكن أن تكون الآية مما تأخر حكمه عن نزوله.
على أن في الآية ذكراً من القتال إذ يقول: { وآخرون يقاتلون في سبيل الله } ولم يكن من مصلحة الدعوة الحقة يومئذ ذاك والظرف ذلك الظرف أن يقع في متنها ذكر من القتال بأي وجه كان، فالظاهر أن الآية مدنية وليست بمكية وقد مال إليه بعضهم.
قوله تعالى: { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه } إلى آخر الآية. الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي التعبير بقوله: { ربك } تلويح إلى شمول الرحمة والعناية الإِلهية، وكذا في قوله: { يعلم أنك تقوم } الخ مضافاً إلى ما فيه من لائحة الشكر قال تعالى:
{ { وكان سعيكم مشكوراً } [الإسراء: 19]. وقوله: { تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه } { أدنى } اسم تفضيل من الدنو بمعنى القرب، وقد جرى العرف على استعمال أدنى فيما يقرب من الشيء وهو أقل فيقال: إن عدتهم أدنى من عشرة إذا كانوا تسعة مثلاً دون ما لو كانوا أحد عشر فمعنى قوله: { أدنى من ثلثي الليل } أقرب من ثلثيه وأقل بقليل.
والواو العاطفة في قوله: { ونصفه وثلثه } لمطلق الجمع والمراد أنه يعلم أنك تقوم في بعض الليالي أدنى من ثلثي الليل وفي بعضها نصفه وفي بعضها ثلثه.
وقوله: { وطائفة من الذين معك } المراد المعية في الإِيمان و { من } للتبعيض فالآية تدل على أن بعضهم كان يقوم الليل كما كان يقومه النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل { من } بيانية، وهو كما ترى.
وقوله: { والله يقدر الليل والنهار } في مقام التعليل لقوله: { إن ربك يعلم } والمعنى وكيف لا يعلم وهو الله الذي إليه الخلق والتقدير ففي تعيين قدر الليل والنهار تعيين ثلثهما ونصفهما وثلثيهما، ونسبة تقدير الليل والنهار إلى اسم الجلالة دون اسم الرب وغيره لأن التقدير من شؤون الخلق والخلق إلى الله الذي إليه ينتهي كل شيء.
وقوله: { علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن } الاحصاء تحصيل مقدار الشيء وعدده والإِحاطة به، وضمير { لن تحصوه } للتقدير أو للقيام مقدار ثلث الليل أو نصفه أو أدنى من ثلثيه، وإحصاء ذلك مع اختلاف الليالي طولاً وقصراً في أيام السنة مما لا يتيسر لعامة المكلفين ويشتد عسراً لمن نام أول الليل وأراد القيام بأحد المقادير الثلاثة دون أن يحتاط بقيام جميع الليل أو ما في حكمه.
فالمراد بقوله: { علم أن لن تحصوه } علمه تعالى بعدم تيسر إحصاء المقدار الذي أُمروا بقيامه من الليل لعامة المكلفين.
والمراد بقوله: { فتاب عليكم } توبته تعالى ورجوعه إليهم بمعنى انعطاف الرحمة الالهية عليهم بالتخفيف فلله سبحانه توبة على عباده ببسط رحمته عليهم وأثرها توفيقهم للتوبة أو لمطلق الطاعة أو رفع بعض التكاليف أو التخفيف قال تعالى:
{ { ثم تاب عليهم ليتوبوا } [التوبة: 118]. كما أن له توبة عليهم بمعنى الرجوع إليهم بعد توبتهم وأثرها مغفرة ذنوبهم، وقد تقدمت الإِشارة إليه.
والمراد بقوله: { فاقرءوا ما تيسر من القرآن } التخفيف في قيام الليل من حيث المقدار لعامة المكلفين تفريعاً على علمه تعالى أنهم لن يحصوه.
ولازم ذلك التوسعة في التكليف بقيام الليل من حيث المقدار حتى يسع لعامة المكلفين الشاق عليهم إحصاؤه دون النسخ بمعنى كون قيام الثلث أو النصف أو الأدنى من الثلثين لمن استطاع ذلك بدعة محرمة وذلك أن الإِحصاء المذكور إنما لا يتيسر لمجموع المكلفين لا لجميعهم ولو امتنع لجميعهم ولم يتيسر لأحدهم لم يشرع من أصله ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
على أنه تعالى يصدق لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم وطائفة من الذين معه قيام الثلث والنصف والأدنى من الثلثين وينسب عدم التمكن من الإِحصاء إلى الجميع وهم لا محالة هم القائمون وغيرهم فالحكم إنما كان شاقاً على المجموع من حيث المجموع دون كل واحد فوسع في التكليف بقوله: { فاقرءوا ما تيسر من القرآن } وسهل الأمر بالتخفيف ليكون لعامة المكلفين فيه نصيب مع بقاء الأصل المشتمل عليه صدر السورة على حاله لمن تمكن من الاحصاء وأراده، والحكم استحبابي لسائر المؤمنين وإن كان ظاهر ما للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من الخطاب الوجوب كما تقدمت الإِشارة إليه.
وللقوم في كون المراد بقيام الليل الصلاة فيه أو قراءة القرآن خارج الصلاة، وعلى الأول في كونه واجباً على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين أو مستحباً للجميع أو واجباً على النبي صلى الله عليه وآله وسلم مستحباً لغيره ثم في نسخ الحكم بالتخفيف بما تيسر بهذه الآية أو تبديل الصلاة من قراءة ما تيسر من القرآن أقوال لا كثير جدوى في التعرض لها والبحث عنها.
وقوله: { علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله } إشارة إلى مصلحة أخرى مقتضية للتخفيف في أمر القيام ثلث الليل أو نصفه أو أدنى من ثلثيه، وراء كونه شاقاً على عامة المكلفين بالصفة المذكورة أولاً فإن الإِحصاء المذكور للمريض والمسافر والمقاتل مع ما هم عليه من الحال شاق عسير جداً.
والمراد بالضرب في الأرض للابتغاء من فضل الله طلب الرزق بالمسافرة من أرض إلى أرض للتجارة.
وقوله: { فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضاً حسناً } تكرار للتخفيف تأكيداً، وضمير { منه } للقرآن، والمراد الإِتيان بالصلاة على ما يناسب سعة الوقت الذي قاموا فيه.
والمراد بالصلاة المأمور بإقامتها الفريضة فإن كانت الآية مدنية فالفرائض الخمس اليومية وإن كانت مكية فبحسب ما كانت مفروضة من الصلاة، والمراد بالزكاة الزكاة المفروضة، والمراد بإقراضه تعالى غير الزكاة من الإِنفاقات المالية في سبيل الله.
وعطف الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإِقراض للتلويح إلى أن التكاليف الدينية على حالها في وجوب الاهتمام بها والاعتناء بأمرها، فلا يتوهمن متوهم سريان التخفيف والمسامحة في جميع التكاليف فالآية نظيرة قوله في آية النجوى:
{ { فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله } [المجادلة: 13]. وقوله: { وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً } { من خير } بيان للموصول، والمراد بالخير مطلق الطاعة أعم من الواجبة والمندوبة، و { هو } ضمير فصل أو تأكيد للضمير في { تجدوه }.
والمعنى: والطاعة التي تقدمونها لأنفسكم - أي لتعيشوا بها في الآخرة - تجدونها عند الله - أي في يوم اللقاء - خيراً من كل ما تعملون أو تتركون وأعظم أجراً.
وقوله: { واستغفروا الله إن الله غفور رحيم } ختم الكلام بالأمر بالاستغفار، وفي قوله: { إن الله غفور رحيم } إشعار بوعد المغفرة والرحمة، ولا يبعد أن يكون المراد بالاستغفار الإِتيان بمطلق الطاعات لأنها وسائل يتوسل بها إلى مغفرة الله فالاتيان بها استغفار.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه } ففعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك وبشر الناس به فاشتد ذلك عليهم و { علم أن لن تحصوه }، وكان الرجل يقوم ولا يدري متى ينتصف الليل ومتى يكون الثلثان، وكان الرجل يقوم حتى يصبح مخافة أن لا يحفظه.
فأنزل الله { إن ربك يعلم أنك تقوم } إلى قوله { علم أن لن تحصوه } يقول: متى يكون النصف والثلث نسخت هذه الآية { فاقرءوا ما تيسر من القرآن }، واعلموا أنه لم يأت نبي قط إلا خلا بصلاة الليل، ولا جاء نبي قط بصلاة الليل في أول الليل.
أقول: محصل الرواية أن صدر السورة توجب صلاة الليل وذيلها تنسخها، وروي ما يقرب منه من طرق أهل السنة عن ابن عباس وغيره، وقد تقدم ما يتعلق به في البيان السابق.
وفي المجمع روى الحاكم أبو القاسم إبراهيم الحسكاني بإسناده عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: { وطائفة من الذين معك } قال: علي وأبو ذر.
وفيه في قوله تعالى: { فاقرءوا ما تيسر منه } روي عن الرضا عن أبيه عن جده عليهم السلام قال: ما تيسر منه لكم فيه خشوع القلب وصفاء السر.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم { فاقرءوا ما تيسر منه } قال: مائة آية.
وفيه أخرج ابن مردويه عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"ما من جالب يجلب طعاماً إلى بلد من بلاد المسلمين فيبيعه بسعر يومه إلا كانت منزلته عند الله منزلة الشهيد" . ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله }.
وفي تفسير القمي بإسناده عن زرعة عن سماعة قال: سألته عن قول الله: { وأقرضوا الله قرضاً حسناً } قال: هو غير الزكاة.
وفي الخصال عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث الأربعمائة: أكثروا الاستغفار تجلبوا الرزق، وقدموا ما استطعتم من عمل الخير تجدوه غداً.
أقول: ذيله مأخوذ من قوله تعالى: { وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً }.