التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ
١
قُمْ فَأَنذِرْ
٢
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ
٣
وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ
٤
وَٱلرُّجْزَ فَٱهْجُرْ
٥
وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ
٦
وَلِرَبِّكَ فَٱصْبِرْ
٧
-المدثر

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
تتضمن السورة أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإِنذار في سياق يلوح منه كونه من أوامر أوائل البعثة ثم الإِشارة إلى عظم شأن القرآن الكريم وجلالة قدره، والوعيد الشديد على من يواجهه بالإِنكار والرمي بالسحر، وذم المعرضين عن دعوته.
والسورة مكية من العتائق النازلة في أوائل البعثة وظهور الدعوة حتى قيل: إنها أول سورة نزلت من القرآن وإن كان يكذبه نفس آيات السورة الصريحة في سبق قراءته صلى الله عليه وآله وسلم القرآن على القوم وتكذيبهم به وإعراضهم عنهم ورميهم له بأنه سحر يؤثر.
ولذا مال بعضهم إلى أن النازل أولاً هي الآيات السبع الواقعة في أول السورة ولازمه كون السورة غير نازلة دفعة وهو وإن كان غير بعيد بالنظر إلى متن الآيات السبع لكن يدفعه سياق أول سورة العلق الظاهر في كونه أول ما نزل من القرآن.
واحتمل بعضهم أن تكون السورة أول ما نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند الأمر بإعلان الدعوة بعد إخفائها مدة في أول البعثة فهي في معنى قوله:
{ { فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين } [الحجر: 94]، وبذلك جمع بين ما ورد من أنها أول ما نزل، وما ورد أنها نزلت بعد سورة العلق، وما ورد أن سورتي المزمل والمدثر نزلتا معاً، وهذا القول لا يتعدى طور الاحتمال.
وكيف كان فالمتيقن أن السورة من أوائل ما نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من السور القرآنية، والآيات السبع التي نقلناها تتضمن الأمر بالإِنذار وسائر الخصال التي تلزمه مما وصّاه الله به.
قوله تعالى: { يا أيها المدّثّر } المدثر بتشديد الدال والثاء أصله المتدثر اسم فاعل من التدثر بمعنى التغطي بالثياب عند النوم.
والمعنى: يا ايها المتغطي بالثياب للنوم خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد كان على هذه الحال فخوطب بوصف مأخوذ من حاله تأنيساً وملاطفة نظير قوله: { يا أيها المزمل }.
وقيل: المراد بالتدثر تلبسه صلى الله عليه وآله وسلم بالنبوة بتشبيهها بلباس يتحلى به ويتزين وقيل: المراد به إعتزاله صلى الله عليه وآله وسلم وغيبته عن النظر فهو خطاب له بما كان عليه في غار حراء، وقيل: المراد به الاستراحة والفراغ فكأنه قيل له صلى الله عليه وآله وسلم: يا أيها المستريح الفارغ قد انقضى زمن الراحة وأقبل زمن متاعب التكاليف وهداية الناس.
وهذه الوجوه وإن كانت في نفسها لا بأس بها لكن الذي يسبق إلى الذهن هو المعنى الأول.
قوله تعالى: { قم فأنذر } الظاهر أن المراد به الأمر بالإِنذار من غير نظر إلى من ينذر فالمعنى افعل الإِنذار، وذكر بعضهم أن مفعول الفعل محذوف، والتقدير أنذر عشيرتك الأقربين لمناسبته لابتداء الدعوة كما ورد في سورة الشعراء.
وذكر آخرون أن المفعول المحذوف عام وهو جميع الناس لقوله:
{ { وما أرسلناك إلا كافة للناس } [سبأ: 28]. ولم يذكر التبشير مع الإِنذار مع أنهما كالمتلازمين في تمام الدعوة لأن السورة مما نزل في ابتداء الدعوة والإِنذار هو الغالب إذ ذاك.
قوله تعالى: { وربك فكبر } أي أنسب ربك إلى الكبرياء والعظمة اعتقاداً وعملاً قولاً وفعلاً وهو تنزيهه تعالى من أن يعادله أو يفوقه شيء فلا شيء يشاركه أو يغلبه أو يمانعه، ولا نقص يعرضه، ولا وصف يحده.
ولذا ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام أن معنى التكبير: الله أكبر من أن يوصف، فهو تعالى أكبر من كل وصف نصفه به حتى من هذا الوصف، وهذا هو المناسب للتوحيد الإِسلامي الذي يفوق ما نجده من معنى التوحيد في سائر الشرائع السماوية.
وهذا الذي ذكرناه هو الفرق بين كلمتي التكبير والتسبيح - الله أكبر وسبحان الله - فسبحان الله تنزيه له تعالى عن كل وصف عدمي مبني على النقص كالموت والعجز والجهل وغير ذلك، والله أكبر تنزيه مطلق له تعالى عن كل وصف نصفه به أعم من أن يكون عدمياً أو وجودياً حتى من نفس هذا الوصف لما أن كل مفهوم محدود في نفسه لا يتعدى إلى غيره من المفاهيم وهو تعالى لا يحيط به حد، فافهم ذلك.
وقيل: المراد الأمر بالتكبير في الصلاة.
والتعبير عنه تعالى بربك لا يخلو من إشعار بأن توحيده تعالى يومئذ كان يختص به.
قال في الكشاف في قوله: { فكبر }: ودخلت الفاء لمعنى الشرط كأنه قيل: وما كان فلا تدع تكبيره.
قوله تعالى: { وثيابك فطهر } قيل: كناية عن إصلاح العمل؛ ولا يخلو من وجه فإن العمل بمنزلة الثياب للنفس بما لها من الاعتقاد فالظاهر عنوان الباطن، وكثيراً ما يكنى في كلامهم عن صلاح العمل بطهارة الثياب.
وقيل: كناية عن تزكية النفس وتنزيهها عن الذنوب والمعاصي.
وقيل: المراد تقصير الثياب لأنه أبعد من النجاسة ولو طالت وانجرت على الأرض لم يؤمن أن تتنجّس.
وقيل: المراد تطهير الأزواج من الكفر والمعاصي لقوله تعالى:
{ { هن لباس لكم } [البقرة: 187]. وقيل: الكلام على ظاهره والمراد تطهير الثياب من النجاسات للصلاة والأقرب على هذا أن يجعل قوله: { وربك فكبر } إشارة إلى تكبير الصلاة وتكون الآيتان مسوقتين لتشريع أصل الصلاة مقارناً للأمر بالدعوة.
ولا يرد عليه ما قيل: إن نزول هذه الآيات كان حيث لا صلاة أصلاً وذلك أن تشريع الفرائض الخمس اليومية على ما هي عليها اليوم وإن كان في ليلة المعراج وهي جميعاً عشر ركعات ثم زيد عليها سبع ركعات إلا أن أصل الصلاة كان منذ أوائل البعثة كما يشهد به ذكرها في هذه السورة وسورتي العلق والمزمل، ويدل عليه الروايات.
وقيل: المراد بتطهير الثياب التخلق بالأخلاق الحميدة والملكات الفاضلة.
وفي معنى تطهير الثياب أقوال أُخر أغمضنا عن نقلها لإِمكان إرجاعها إلى بعض ما تقدم من الوجوه، وأرجح الوجوه المتقدمة أولها وخامسها.
قوله تعالى: { والرجز فاهجر } قيل: الرجز بضم الراء وكسرها العذاب، والمراد بهجره هجر سببه وهو الإِثم والمعصية، والمعنى اهجر الإِثم والمعصية.
وقيل: الرجز اسم لكل قبيح مستقذر من الأفعال والأخلاق فالأمر بهجره أمر بترك كل ما يكرهه الله ولا يرتضيه مطلقاً، أو أمر بترك خصوص الأخلاق الرذيلة الذميمة على تقدير أن يكون المراد بتطهير الثياب ترك الذنوب والمعاصي.
وقيل: الرجز هو الصنم فهو أمر بترك عبادة الأصنام.
قوله تعالى: { ولا تمنن تستكثر } الذي يعطيه سياق الآيات ويناسب المقام أن يكون المراد بالمن تكدير الصنيعة بذكرها للمنعم عليه كما في قوله تعالى:
{ { لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى } [البقرة: 264]، وقوله: { { يمنون عليك أن أسلموا } [الحجرات: 17] والمراد بالاستكثار رؤية الشيء وحسبانه كثيراً لا طلب الكثرة.
والمعنى: لا تمنن امتثالك لهذه الأوامر وقيامك بالانذار وتكبيرك ربك وتطهيرك ثيابك وهجرك الرجز حال كونك ترى ذلك كثيراً وتعجبه - فإنما أنت عبد لا تملك من نفسك شيئاً إلا ما ملكك الله وأقدرك عليه وهو المالك لما ملكك والقادر على ما عليه أقدرك فله الأمر وعليك الامتثال -.
وللقوم في الآية وجوه أُخر من التفسير لا تلائم السياق تلك الملاءمة فقيل المعنى لا تعط عطية لتعطي أكثر منها.
وقيل: المعنى لا تمنن ما أعطاك الله من النبوة والقرآن على الناس مستكثراً به الأجر.
وقيل: أي لا تمنن إبلاغ الرسالة على امتك.
وقيل: المعنى لا تضعف في عملك مستكثراً لطاعاتك.
وقيل: المعنى لا تمنن بعطائك على الناس مستكثراً له.
وقيل: أي إذا أعطيت عطية فأعطها لربك واصبر حتى يكون هو الذي يثيبك.
وقيل: هو نهى عن الربا المحرم أي لا تعط شيئاً طالباً أن تعطي أكثر مما أعطيت.
قوله تعالى: { ولربك فاصبر } أي لوجه ربك، والصبر مطلق يشمل الصبر عند المصيبة والصبر على الطاعة والصبر عن المعصية، والمعنى ولوجه ربك فاصبر عندما يصيبك من المصيبة والأذى في قيامك بالإِنذار وامتثالك هذه الأوامر واصبر على طاعة الله واصبر عن معصيته، وهذا معنى جامع لمتفرقات ما ذكروه في تفسير الآية كقول بعضهم: إنه أمر بنفس الفعل من غير نظر إلى متعلقه، وقول بعضهم: إنه الصبر على أذى المشركين، وقول بعضهم: إنه الصبر على أداء الفرائض، إلى غير ذلك.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج الطيالسي وعبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي وابن الضريس وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه وابن الأنباري في المصاحف عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن فقال: يا أيها المدثر قلت: يقولون: إقرأ باسم ربك الذي خلق؟ فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله عن ذلك، قلت له مثل ما قلت. قال جابر: لا أُحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: جاورت بحراء فلما قضيت جواري نوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً، ونظرت خلفي فلم أر شيئاً فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجثت منه رعباً فرجعت فقلت: دثروني دثروني فنزلت: { يا أيها المدثر قم فأنذر } إلى قوله { والرجز فاهجر }.
أقول: الحديث معارض بالأحاديث الأخر الدالة على كون سورة إقرأ أول ما نزل من القرآن ويؤيدها سياق سوره إقرأ، على أن قوله: "فإذا الملك الذي جاءني بحراء" يشعر بنزول الوحي عليه قبلاً.
وفيه أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة: قلنا: يا رسول الله كيف نقول إذا دخلنا في الصلاة؟ فأنزل الله { وربك فكبر } فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نفتتح الصلاة بالتكبير.
أقول: وفي الرواية شيء فأبو هريرة ممن آمن بعد الهجرة بكثير والسورة مما نزل في أول البعثة فأين كان أبو هريرة أو الصحابة يومئذ؟
وفي الخصال عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث الاربعمائة: تشمير الثياب طهور لها قال الله تبارك وتعالى: { وثيابك فطهر } يعنى فشمر.
أقول: وفي المعنى عدة أخبار مروية في الكافي والمجمع عن أبي جعفر وأبي عبد الله وأبي الحسن عليهم السلام.
وفي الدر المنثور أخرج الحاكم وصححه وابن مردويه عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: { والرجز فاهجر } برفع الراء، وقال: هي الأوثان.
أقول: وقوله: "هي الأوثان" من كلام جابر أو غيره من رجال السند.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: { ولا تمنن تستكثر } وفي رواية أبي الجارود يقول: لا تعط تلتمس أكثر منها.