التفاسير

< >
عرض

لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
١٦
إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
١٧
فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَٱتَّبِعْ قُرْآنَهُ
١٨
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ
١٩
كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ
٢٠
وَتَذَرُونَ ٱلآخِرَةَ
٢١
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ
٢٢
إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ
٢٣
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ
٢٤
تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ
٢٥
كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ ٱلتَّرَاقِيَ
٢٦
وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ
٢٧
وَظَنَّ أَنَّهُ ٱلْفِرَاقُ
٢٨
وَٱلْتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ
٢٩
إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمَسَاقُ
٣٠
فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّىٰ
٣١
وَلَـٰكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ
٣٢
ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰ أَهْلِهِ يَتَمَطَّىٰ
٣٣
أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ
٣٤
ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ
٣٥
أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى
٣٦
أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ
٣٧
ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ
٣٨
فَجَعَلَ مِنْهُ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ
٣٩
أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِـيَ ٱلْمَوْتَىٰ
٤٠
-القيامة

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
تتمة صفة يوم القيامة باعتبار حال الناس فيه وانقسامهم إلى طائفة ناضرة الوجوه مبتهجين وأخرى باسرة الوجوه عابسين آيسين من النجاة، والإِشارة إلى أن هذا المساق تبتدئ من حين نزول الموت ثم الإِشارة إلى أن الانسان لا يترك سدى فالذي خلقه أولاً قادر على أن يحييه ثانياً وبه تختتم السورة.
قوله تعالى: { لا تحرك به لسانك لتعجل به } إلى قوله { ثم إن علينا بيانه } الذي يعطيه سياق الآيات الأربع بما يحفها من الآيات المتقدمة والمتأخرة الواصفة ليوم القيامة أنها معترضة متضمن أدباً إلهياً كلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتأدب به حينما يتلقى ما يوحى إليه من القرآن الكريم فلا يبادر إلى قراءة ما لم يقرأ بعد ولا يحرك به لسانه وينصت حتى يتم الوحي.
فالآيات الأربع في معنى قوله تعالى:
{ { ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه } [طه: 114]. فالكلام في هذه الآيات يجري مجرى قول المتكلم منا أثناء حديثه لمخاطبة إذا بادر إلى تتميم بعض كلام المتكلم باللفظة واللفظتين قبل أن يلفظ بها المتكلم وذلك يشغله عن التجرد للانصات فيقطع المتكلم حديثه ويعترض ويقول لا تعجل بكلامي وأنصت لتفقه ما أقول لك ثم يمضي في حديثه.
فقوله: { لا تحرك به لسانك لتعجل به } الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والضميران للقرآن الذي يوحى إليه أو للوحي, والمعنى لا تحرك بالوحي لسانك لتأخذه عاجلاً فتسبقنا إلى قراءة ما لم نقرأ بعد فهو كما مر في معنى قوله:
{ { ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه } [طه: 114]. وقوله: { إن علينا جمعه وقرآنه } القرآن ها هنا مصدر كالفرقان والرجحان، والضميران للوحي، والمعنى لا تعجل به إذ علينا أن نجمع ما نوحيه إليك بضم بعض أجزائه إلى بعض وقراءته عليك فلا يفوتنا شيء منه حتى يحتاج إلى أن تسبقنا إلى قراءة ما لم نوحه بعد.
وقيل: المعنى إن علينا أن نجمعه في صدرك بحيث لا يذهب عليك شيء من معانيه وأن نثبت قراءته في لسانك بحيث تقرأه متى شئت ولا يخلو من بعد.
وقوله: { فإذا قرأناه فاتبع قرآنه } أي فإذا أتممنا قراءته عليك وحياً فاتبع قراءتنا له واقرأ بعد تمامها.
وقيل: المراد باتباع قرآنه اتباعه ذهناً بالانصات والتوجه التام إليه وهو معنى لا بأس به.
وقيل: المراد فاتبع في الأوامر والنواهي قرآنه، وقيل: المراد اتباع قراءته بالتكرار حتى يرسخ في الذهن وهما معنيان بعيدان.
وقوله: { ثم إن علينا بيانه } أي علينا إيضاحه عليك بعد ما كان علينا جمعه وقرآنه فثم للتأخير الرتبي لأن البيان مترتب على الجمع والقراءة رتبة.
وقيل؛ المعنى ثم إن علينا بيانه للناس بلسانك تحفظه في ذهنك عن التغير والزوال حتى تقرأه على الناس.
وقال بعضهم في معنى هذه الآيات إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحرك لسانه عند الوحي بما أُلقي إليه من القرآن مخافة أن ينساه فنهي عن ذلك بالآيات وأُمر بالانصات حتى يتم الوحي فضمير { لا تحرك به } للقرآن أو الوحي باعتبار ما قرئ عليه منه لا باعتبار ما لم يقرأ بعد.
وفيه أنه لا يلائم سياق الآيات، تلك الملاءمة نظراً إلى ما فيها من النهي عن العجل والأمر باتباع قرآنه تعالى بعد ما قرئ، وكذا قوله: { إن علينا جمعه وقرآنه } فذلك كله أظهر فيما تقدم منها في هذا المعنى.
وعن بعضهم في معنى هذه الآيات، الذي اختاره أنه لم يرد القرآن، وإنما أراد قراءة العباد لكتبهم يوم القيامة يدل على ذلك ما قبله وما بعده، وليس فيه شيء يدل على أنه القرآن ولا شيء من أحكام الدنيا.
وفي ذلك تقريع وتوبيخ له حين لا تنفعه العجلة يقول: لا تحرك لسانك بما تقرأه من صحيفتك التي فيها أعمالك يعني إقرأ كتابك ولا تعجل فإن هذا الذي هو على نفسه بصيرة إذا رأى سيئاته ضجر واستعجل فيقال له توبيخاً: لا تعجل وتثبت لتعلم الحجة عليك فإنا نجمعها لك فإذا جمعناه فاتبع ما جمع عليك بالانقياد لحكمه والاستسلام للتبعة فيه فإنه لا يمكنك إنكاره ثم إن علينا بيانه لو أنكرت. انتهى.
ويدفعه أن المعترضة لا تحتاج في تمام معناها إلى دلالة مما قبلها وما بعدها عليه على أن مشاكلة قوله: { ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه } في سياقه لهذه الآيات تؤيد مشاكلتها له في المعنى.
وعن بعضهم أن الآيات الأربع متصلة بما تقدم من حديث يوم القيامة، وخطاب { لا تحرك } للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وضمير { به } ليوم القيامة، والمعنى لا تتفوه بالسؤال عن وقت القيامة أصلاً ولو كنت غير مكذب ولا مستهزئ { لتعجل به } أي بالعلم به { إن علينا جمعه وقرآنه } أي من الواجب في الحكمة أن نجمع من نجمعه فيه ونوحي شرح وصفه إليك في القرآن { فإذا قرأناه فاتبع قرآنه } أي إذا قرأنا ما يتعلق به فاتبع ذلك بالعمل بما يقتضيه من الاستعداد له { ثم إن علينا بيانه } أي إظهار ذلك بالنفخ في الصور انتهى ملخصاً وهو كما ترى.
وقد تقدم في تفسير قوله: { ولا تعجل بالقرآن } أن هذا النهي عن العجل بالقرآن يؤيد ما ورد في الروايات أن للقرآن نزولاً على النبي صلى الله عليه وآله وسلم دفعة غير نزوله تدريجاً.
قوله تعالى: { كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة } خطاب للناس وليس من تعميم الخطاب السابق في شيء لأن خطاب { لا تحرك } اعتراضي غير مرتبط بشيء من طرفيه.
وقوله: { كلا } ردع عن قوله السابق: { يحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه } وقوله: { بل تحبون العاجلة } - أي الحياة العاجلة وهي الحياة الدنيا - { وتذرون الآخرة } أي تتركون الحياة الآخرة، وما في الكلام من الإِضراب إضراب عن حسبان عدم الإِحياء بعد الموت نظير الإِضراب في قوله: { بل يريد الإِنسان ليفجر أمامه }.
قوله تعالى: { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } وصف ليوم القيامة بانقسام الوجوه فيه إلى قسمين: ناضرة وباسرة، ونضرة الوجه واللون والشجر ونحوها ونضارتها حسنها وبهجتها.
والمعنى: نظراً إلى ما يقابله من قوله: { ووجوه يومئذ باسرة } الخ وجوه يوم إذ تقوم القيامة حسنة متهللة ظاهرة المسرة والبشاشة قال تعالى:
{ { تعرف في وجوههم نضرة النعيم } [المطففين: 24]، وقال: { { ولقاهم نضرة وسروراً } } [الإنسان: 11]. وقوله: { إلى ربها ناظرة } خبر بعد خبر لوجوه، و { إلى ربها } متعلق بناظرة قدم عليها لإِفادة الحصر أو الأهمية.
والمراد بالنظر إليه تعالى ليس هو النظر الحسي المتعلق بالعين الجسمانية المادية التي قامت البراهين القاطعة على استحالته في حقه تعالى بل المراد النظر القلبي ورؤية القلب بحقيقة الإِيمان على ما يسوق إليه البرهان وتدل عليه الأخبار المأثورة عن أهل العصمة عليهم السلام وقد أوردنا شطراً منها في ذيل تفسير قوله تعالى:
{ { قال رب أرني أنظر إليك } [الأعراف: 143]، وقوله تعالى: { { ما كذب الفؤاد ما رأى } [النجم: 11]. فهؤلاء قلوبهم متوجهة إلى ربهم لا يشغلهم عنه سبحانه شاغل من الأسباب لتقطع الأسباب يومئذ، ولا يقفون موقفاً من مواقف اليوم ولا يقطعون مرحلة من مراحله إلا والرحمة الإِلهية شاملة لهم { { وهم من فزع يومئذ آمنون } [النمل: 89]، ولا يشهدون مشهداً من مشاهد الجنة ولا يتنعمون بشيء من نعيمها إلا وهم يشاهدون ربهم به لأنهم لا ينظرون إلى شيء ولا يرون شيئاً إلا من حيث إنه آية لله سبحانه والنظر إلى الآية من حيث إنها آية ورؤيتها نظر إلى ذي الآية ورؤية له.
ومن هنا يظهر الجواب عما أورد على القول بأن تقديم { إلى ربها } على { ناظرة } يفيد الحصر والاختصاص، أن من الضروري أنهم ينظرون إلى غيره تعالى كنعم الجنة.
والجواب أنهم لما لم يحجبوا عن ربهم كان نظرهم إلى كل ما ينظرون إليه إنما هو بما أنه آية، والآية بما أنها آية لا تحجب ذا الآية ولا تحول بينه وبين الناظر إليه فالنظر إلى الآية نظر إلى ذي الآية فهؤلاء لا ينظرون في الحقيقة إلا إلى ربهم.
وأما ما أُجيب به عنه أن تقديم { إلى ربها } لرعاية الفواصل ولو سلم أنه للاختصاص فالنظر إلى غيره في جنب النظر إليه لا يعد نظراً، ولو سلم فالنظر إليه تعالى في بعض الأحوال لا في جميعها.
فلا يخلو من تكلف التقييد من غير مقيد على أنه أسند النظر إلى الوجوه لا إلى العيون أو الأبصار ووجوه أهل الجنة إلى ربهم دائماً من غير أن يواجهوا بها غيره.
قوله تعالى: { ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة } فسر البسور بشدة العبوس والظن بالعلم و { فاقرة } صفة محذوفة الموصوف أي فعلة فاقرة، والفاقرة من فقره إذا أصاب فقار ظهره، وقيل: من فقرت البعير إذا وسمت أنفه بالنار.
والمعنى: ووجوه يومئذ شديدة العبوس تعلم أنه يفعل بها فعلة تقصم ظهورها أو تسم أنوفها بالنار، واحتمل أن يكون تظن خطاباً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بما أنه سامع والظن بمعناه المعروف.
قوله تعالى: { كلا إذا بلغت التراقي } ردع عن حبهم العاجلة وإيثارها على الآخرة كأنه قيل: ارتدعوا عن ذلك فليس يدوم عليكم وسينزل عليكم الموت فتساقون إلى ربكم وفاعل { بلغت } محذوف يدل عليه السياق كما في قوله تعالى:
{ { فلولا إذا بلغت الحلقوم } [الواقعة: 83] والتقدير إذا بلغت النفس التراقي.
والتراقي العظام المكتنفة للنحر عن يمين وشمال جمع ترقوة، والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: { وقيل من راق } اسم فاعل من الرقى أي قال من حضره من أهله وأصدقائه من يرقيه ويشفيه؟ كلمة يأس، وقيل: المعنى قال بعض الملائكة لبعض: من يرقي بروحه من الملائكة أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟
قوله تعالى: { وظن أنه الفراق } أي وعلم الإِنسان المحتضر من مشاهدة هذه الأحوال أنه مفارقته للعاجلة التي كان يحبها ويؤثرها على الآخرة.
قوله تعالى: { والتفت الساق بالساق } ظاهره أن المراد به التفاف ساق المحتضر بساقه ببطلان الحياة السارية في أطراف البدن عند بلوغ الروح التراقي.
وقيل: المراد به التفاف شدة أمر الآخرة بأمر الدنيا، وقيل: التفاف حال الموت بحال الحياة، وقيل: التفاف ساق الدنيا وهي شدة كرب الموت بساق الآخرة وهي شدة هول المطلع.
ولا دليل من جهة اللفظ على شيء من هذه المعاني نعم من الممكن أن يقال: أن المراد بالتفاف الساق بالساق غشيان الشدائد وتعاقبها عليه واحدة بعد أخرى من حينه ذلك إلى يوم القيامة فينطبق على كل من المعاني.
قوله تعالى: { إلى ربك يومئذ المساق } المساق مصدر ميمي بمعنى السوق، والمراد بكون السوق يومئذ إليه تعالى أنه الرجوع إليه، وعبر بالمساق للإِشارة إلى أن لا خيرة للانسان في هذا المسير ولا مناص له عنه فهو مسوق مسير من يوم موته وهو قوله, { إلى ربك يومئذ المساق } حتى يرد على ربه يوم القيامة وهو قوله: { إلى ربك يومئذ المستقر } ولو كان تقديم { إلى ربك } لإِفادة الحصر أفاد انحصار الغاية في الرجوع إليه تعالى.
وقيل: الكلام على تقدير مضاف وتقديم { إلى ربك } لإِفادة الحصر والتقدير إلى حكم ربك يومئذ المساق أي يساق ليحكم الله ويقضي فيه بحكمه، أو التقدير إلى موعد ربك وهو الجنة والنار، وقيل: المراد برجوع المساق إليه تعالى أنه تعالى هو السائق لا غير، والوجه ما تقدم.
قوله تعالى: { فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى } الضمائر راجعة إلى الإِنسان المذكور في قوله: { أيحسب الإِنسان } الخ، والمراد بالتصديق المنفي تصديق الدعوة الحقة التي يتضمنها القرآن الكريم، وبالتصلية المنفية التوجه العبادي إليه تعالى بالصلاة التي هي عمود الدين.
والتمطي - على ما في المجمع - تمدد البدن من الكسل وأصله أن يلوي مطاه أي ظهره، والمراد بتمطيه في ذهابه التبختر والاختيال استعارة.
والمعنى: فلم يصدق هذا الانسان الدعوة فيما فيها من الاعتقاد ولم يصل لربه أي لم يتبعها فيما فيها من الفروع وركنها الصلاة ولكن كذب بها وتولى عنها ثم ذهب إلى أهله يتبختر ويختال مستكبراً.
قوله تعالى: { أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى } لا ريب أنه كلمة تهديد كررت لتأكيد التهديد، ولا يبعد - والله أعلم - أن يكون قوله: { أولى لك } خبراً لمبتدأ محذوف هو ضمير عائد إلى ما ذكر من حال هذا الانسان وهو أنه لم يصدق ولم يصل ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله متبختراً مختالاً، وإثبات ما هو فيه من الحال له كناية عن إثبات ما هو لازمه من التبعة والعقاب.
فيكون الكلام وهي كلمة ملقاة من الله تعالى إلى هذا الانسان كلمة طبع طبع الله بها على قلبه حرم بها الإِيمان والتقوى وكتب عليه أنه من أصحاب النار، والآيتان تشبهان بوجه قوله تعالى:
{ { فإذا أُنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم } [محمد: 20]. والمعنى: ما أنت عليه من الحال أولى وأرجح لك فأولى ثم أولى لك فأولى لتذوق وبال أمرك ويأخذك ما أعد لك من العذاب.
وقيل: أولى لك اسم فعل مبني ومعناه وليك شر بعد شر.
وقيل: أولى فعل ماض دعائي من الولي بمعنى القرب وفاعل الفعل ضمير مستتر عائد إلى الهلاك واللام مزيدة والمعنى أولاك الهلاك.
وقيل: الفاعل ضمير مستتر راجع إليه تعالى واللام مزيدة، والمعنى أولاك الله ما تكرهه، أو غير مزيدة والمعنى أدناك الله مما تكرهه.
وقيل: معناه الذم أولى لك من تركه إلا أنه حذف وكثر في الكلام حتى صار بمنزلة الويل لك وصار من المحذوف الذي لا يجوز إظهاره.
وقيل: المعنى أهلكك الله هلاكاً أقرب لك من كل شر وهلاك.
وقيل: أولى أفعل تفضيل بمعنى الأحرى، وخبر لمبتدأ محذوف يقدر كما يليق بمقامه فالتقدير هنا النار أولى لك أي أنت أحق بها وأهل لها فأولى.
وهي وجوه ضعيفة لا تخلو من تكلف والوجه الأخير قريب مما قدمنا وليس به.
قوله تعالى: { أيحسب الإنسان أن يترك سدى } مختتم فيه رجوع إلى ما في مفتتح السورة من قوله: { أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه }.
والاستفهام للتوبيخ، والسدى المهمل، والمعنى أيظن الانسان أن يترك مهملاً لا يعتنى به فلا يبعث بإحيائه بعد الموت ولازمه أن لا يكلف ولا يجزى.
قوله تعالى: { ألم يك نطفة من مني يمنى } اسم كان ضمير راجع إلى الإِنسان، وإمناء المني صبه في الرحم.
قوله تعالى: { ثم كان علقة فخلق فسوى } أي ثم كان الإِنسان - أو المني - قطعة من دم منعقد فقدره فصوره بالتعديل والتكميل.
قوله تعالى: { فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى } أي فجعل من الإِنسان الصنفين: الذكر والأنثى.
قوله تعالى: { أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى } احتجاج على البعث الذي ينكرونه استبعاداً له بعموم القدرة وثبوتها على الخلق الابتدائي والإِعادة لا تزيد على الابتداء مؤنة بل هي أهون، وقد تقدم الكلام في تقريب هذه الحجة في تفسير الآيات المتعرضة لها مراراً.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج الطيالسي وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي معاً في الدلائل عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعالج من التنزيل شدة، وكان يحرك به لسانه وشفتيه مخافة أن ينفلت منه يريد أن يحفظه فأنزل الله { لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه } قال: إن علينا أن نجمعه في صدرك ثم نقرأه { فإذا قرأناه } يقول: إذا أنزلناه عليك { فاتبع قرآنه } فاستمع له وانصت { ثم إن علينا بيانه } بينه [نبينه ظ ] بلسانك، وفي لفظ علينا أن نقرأه فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل أطرق - وفي لفظ استمع - فإذا ذهب قرأ كما وعده الله.
وفيه أخرج ابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أُنزل عليه القرآن تعجل بقراءته ليحفظه فنزلت هذه الآية { لا تحرك به لسانك }.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يعلم ختم سورة حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم.
أقول: وروى ما في معنى صدر الحديث في المجمع عن ابن جبير وفي معناه غير واحد من الروايات، وقد تقدم أن في انطباق هذا المعنى على الآيات خفاء.
وفي تفسير القمي قوله تعالى: { كلا بل تحبون العاجلة } قال: الدنيا الحاضرة { وتذرون الآخرة } قال: تدعون { وجوه يومئذ ناضرة } أي مشرقة { إلى ربها ناظرة } قال: ينظرون إلى وجه الله أي رحمة الله ونعمته.
وفي العيون في باب ما جاء عن الرضا عليه السلام من أخبار التوحيد باسناده إلى إبراهيم بن أبي محمود قال: قال علي بن موسى الرضا عليه السلام في قوله تعالى: { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } يعني مشرقة تنتظر ثواب ربها.
أقول: ورواه في التوحيد والاحتجاج والمجمع عن عليّ عليه السلام، وقد اعترض على أخذ ناظرة بمعنى منتظرة بأن الانتظار لا يتعدى بإلى بل هو متعد بنفسه، ورد عليه في مجمع البيان بالاستشهاد بقول جميل بن معمر:

وإذا نظرت إليك من ملك والبحر دونك جدتني نعما

وقول الآخر:

إنـي إليك لمـا وعـدت لناظر نظر الفقير إلى الغني الموسر

وعد في الكشاف إطلاق النظر في الآية بمعنى الانتظار استعمالاً كنائياً وهو معنى حسن.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر والآجري في الشريعة والدارقطني في الرؤية والحاكم وابن مردويه واللالكائي في السنة والبيهقي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن أدنى أهل الجنة منزلاً لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية.
ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: { وجوه يومئذ ناضرة } قال: البياض والصفاه { إلى ربها ناظرة } قال: ينظر كل يوم في وجهه.
أقول: الرواية تقبل الانطباق على المعنى الذي أوردناه في تفسير الآية، ومع الغض عنه تقبل الحمل على رحمته وفضله وكرمه تعالى وسائر صفاته الفعلية فإن وجه الشيء ما يستقبل به الشيء غيره وما يستقبل به الله سبحانه خلقه هو صفاته الكريمي فالنظر إلى رحمة الله وفضله وكرمه وصفاته الكريمة نظر إلى وجه الله الكريم.
وفيه أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قول الله: { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } قال: ينظرون إلى ربهم بلا كيفية ولا حد محدود ولا صفة معلومة.
أقول: والرواية تؤيد ما قدمنا في تفسير الآية أن المراد به النظر القلبي ورؤية القلب دون العين الحسية، وهي تفسر ما ورد في عدة روايات من طرق أهل السنة مما ظاهره التشبيه وأن الرؤية بالعين الحسية التي لا تفارق المحدودية.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: { كلا إذا بلغت التراقي } قال: يعني النفس إذا بلغت الترقوة { وقيل من راق } قال: يقال له: من يرقيك { وظن أنه الفراق } علم أنه الفراق.
وفي الكافي بإسناده إلى جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن قول الله عز وجل { وقيل من راق وظن أنه الفراق } قال: فإن ذلك ابن آدم إذا حل به الموت قال: هل من طبيب { وظن أنه الفراق } أيقن بمفارقة الأحبة { والتفت الساق بالساق } قال: التفت الدنيا بالآخرة { إلى ربك يومئذ المساق } قال: المسير إلى رب العالمين.
وفي تفسير القمي { والتفت الساق بالساق } قال: التفت الدنيا بالآخرة { إلى ربك يومئذ المساق } قال: يساقون إلى الله.
وفي العيون باسناده عن عبد العظيم الحسني قال، سألت محمد بن علي الرضا عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ، { أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى } قال: يقول الله عز وجل بعداً لك من خير الدنيا وبعداً لك من خير الآخرة.
أقول: يمكن إرجاعه إلى ما قدمناه من معنى الآيتين، وكذا إلى بعض ما قيل فيه.
وفي المجمع وجاءت الرواية أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بيد أبي جهل ثم قال له: أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى. فقال أبو جهل: بأي شيء تهددني لا تستطيع أنت وربك أن تفعلا بي شيئاً، وإني لأعز أهل هذا الوادي، فأنزل الله سبحانه كما قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
أقول: وروي ما في معناه في الدر المنثور عن عدة عن قتادة قال: ذكر لنا وساق الحديث.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: { أيحسب الإِنسان أن يترك سدى } قال: لا يحاسب ولا يعذب ولا يسأل عن شيء.
وفي العلل بإسناده إلى مسعدة بن زياد قال: قال رجل لجعفر بن محمد عليه السلام، يا أبا عبد الله إنا خلقنا للعجب قال: وما ذلك لله أنت؟ قال: خلقنا للفناء فقال يابن أخ خلقنا للبقاء، وكيف يفنى جنة لا تبيد ونار لا تخمد؟ ولكن قيل: إنما نتحول من دار إلى دار.
وفي المجمع وجاء في الحديث عن البراء عن عازب قال:
" لما نزلت هذه الآية { أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى } قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:سبحانك اللهم وبلى" وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام.
أقول: وروي في الدر المنثور عن أبي هريرة وغيره أنه صلى الله عليه وآله وسلم إذا قرأ الآية قال: سبحانك اللهم وبلى، وكذا في العيون عن الرضا عليه السلام أنه كان إذا قرأ السورة قال عند الفراغ سبحانك اللهم بلى.