التفاسير

< >
عرض

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ تَنزِيلاً
٢٣
فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفُوراً
٢٤
وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً
٢٥
وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَٱسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً
٢٦
إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ يُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً
٢٧
نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً
٢٨
إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً
٢٩
وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً
٣٠
يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ وَٱلظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
٣١
-الإنسان

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
لما وصف جزاء الأبرار وما قدر لهم من النعيم المقيم والملك العظيم بما صبروا في جنب الله وجّه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمره بالصبر لحكم ربه وأن لا يطيع هؤلاء الآثمين والكفار المحبين للعاجلة المتعلقين بها المعرضين عن الآخرة من المشركين وسائر الكفار والمنافقين وأهل الأهواء، وأن يذكر اسم ربه ويسجد له ويسبحه مستمراً عليه ثم عمم الحكم لامته بقوله: { إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً }.
فهذا وجه اتصال الآيات بما قبلها وسياقها مع ذلك لا يخلو من شبه بالسياقات المكية وعلى تقدير مكيتها فصدر السورة مدني وذيلها مكي.
قوله تعالى: { إنَّا نحن نزّلنا عليك القرآن تنزيلاً } تصدير الكلام بإن وتكرار ضمير المتكلم مع الغير والإِتيان بالمفعول المطلق كل ذلك للتأكيد، ولتسجيل أن الذي نزل من القرآن نجوماً متفرقة هو من الله سبحانه لم يداخله نفث شيطاني ولا هو نفساني.
قوله تعالى: { فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً } تفريع على ما هو لازم مضمون الآية السابقة فإن لازم كون الله سبحانه هو الذي نزّل القرآن عليه أن يكون ما في القرآن من الحكم حكم ربه يجب أن يطاع فالمعنى إذا كان تنزيله منا فما فيه من الحكم حكم ربك فيجب عليك أن تصبر له فاصبر لحكم ربك.
وقوله: { ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً } ورود الترديد في سياق النهي يفيد عموم الحكم فالنهي عن طاعتهما سواء اجتمعا أو افترقا، والظاهر أن المراد بالإِثم المتلبس بالمعصية وبالكفور المبالغ في الكفر فتشمل الآية الكفار والفساق جميعاً.
وسبق النهي عن طاعة الإِثم والكفور بالأمر بالصبر لحكم ربه يفيد كون النهي مفسراً للأمر فمفاد النهي أن لا تطع منهم آثماً إذا دعاك إلى إثمه ولا كفوراً إذا دعاك إلى كفره لأن إثم الآثم منهم وكفر الكافر مخالفان لحكم ربك وأما تعليق الحكم بالوصف المشعر بالعلية فإنما يفيد علية الإِثم والكفر للنهي عن الطاعة مطلقاً لا عليتهما للنهي إذا دعا الآثم إلى خصوص إثمه والكافر إلى خصوص كفره.
قوله تعالى: { واذكر اسم ربك بكرة وأصيلاً } أي داوم على ذكر ربك وهو الصلاة في كل بكرة وأصيل وهما الغدو والعشي.
قوله تعالى: { ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلاً طويلاً } { من } للتبعيض والمراد بالسجود له الصلاة، ويقبل ما في الآيتين من ذكر اسمه بكرة وأصيلاً والسجود له بعض الليل الإِنطباق على صلاة الصبح والعصر والمغرب والعشاء وهذا يؤيد نزول الآيات بمكة قبل فرض الفرائض الخمس بقوله في آية الإِسراء:
{ { أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر } [الإسراء: 78]. فالآيتان كقوله تعالى: { { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل } [هود: 114]، وقوله { { وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار } [طه: 130]. نعم قيل: على أن الأصيل يطلق على ما بعد الزوال فيشمل قوله { وأصيلاً } وقتي صلاتي الظهر والعصر جميعاً، ولا يخلو من وجه.
وقوله: { وسبحه ليلاً طويلاً } أي في ليل طويل ووصف الليل بالطويل توضيحي لا احترازي، والمراد بالتسبيح صلاة الليل، واحتمل أن يكون طويلاً صفة لمفعول مطلق محذوف، والتقدير سبحه في الليل تسبيحاً طويلاً.
قوله تعالى: { إن هٰؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً } تعليل لما تقدم من الأمر والنهي والإِشارة بهؤلاء إلى جمع الإِثم والكفور المدلول عليه بوقوع النكرة في سياق النهي، والمراد بالعاجلة الحياة الدنيا، وعدّ اليوم ثقيلاً من الاستعارة، والمراد بثقله شدته كأنه محمول ثقيل يشق حمله، واليوم يوم القيامة.
وكون اليوم وراءهم تقرره أمامهم لأن وراء تفيد معنى الإِحاطة، أو جعلهم إياه خلفهم ووراء ظهورهم بناء على إفادة { يذرون } معنى الإِعراض.
والمعنى: فاصبر لحكم ربك وأقم الصلاة ولا تطع الآثمين والكفار منهم لأن هؤلاء الآثمين والكفار يحبون الحياة الدنيا فلا يعملون إلا لها ويتركون أمامهم يوماً شديداً أو يعرضون فيجعلون خلفهم يوماً شديداً سيلقونه.
قوله تعالى: { نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلاً } الشد خلاف الفك، والأسر في الأصل الشد والربط ويطلق على ما يشد ويربط به فمعنى شددنا أسرهم أحكمنا ربط مفاصلهم بالرباطات والأعصاب والعضلات أو الأسر بمعنى المأسور والمعنى أحكمنا ربط أعضائهم المختلفة المشدودة بعضها ببعض حتى صار الواحد منهم بذلك إنساناً واحداً.
وقوله: { وإذا شئنا بدّلنا أمثالهم تبديلاً } أي إذا شئنا بدلناهم أمثالهم فذهبنا بهم وجئنا بأمثالهم مكانهم وهو إماتة قرن وإحياء آخرين، وقيل المراد به تبديل نشأتهم الدنيا من نشأة القيامة وهو بعيد من السياق.
والآية في معنى دفع الدخل كأن متوهماً يتوهم أنهم بحبهم للدنيا وإعراضهم عن الآخرة يعجزونه تعالى ويفسدون عليه إرادته منهم أن يؤمنوا ويطيعوا فأجيب بأنهم مخلوقون لله خلقهم وشد أسرهم وإذا شاء أذهبهم وجاء بآخرين فكيف يعجزونه وخلقهم وأمرهم وحياتهم وموتهم بيده؟
قوله تعالى: { إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً } تقدم تفسيره في سورة المزمل والإِشارة بهذه إلى ما ذكر في السورة.
قوله تعالى: { وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً } الاستثناء من النفي يفيد أن مشية العبد متوقفة في وجودها على مشيته تعالى فلمشيته تعالى تأثير في فعل العبد من طريق تعلقها بمشية العبد، وليست متعلقة بفعل العبد مستقلاً وبلا واسطة حتى تستلزم بطلان تأثير إرادة العبد وكون الفعل جبرياً ولا أن العبد مستقل في إرادة يفعل ما يشاؤه شاء الله أو لم يشأ، فالفعل اختياري لاستناده إلى اختيار العبد، وأما اختيار العبد فليس مستنداً إلى اختيار آخر، وقد تكرر توضيح هذا البحث في مواضع مما تقدم.
والآية مسوقة لدفع توهم أنهم مستقلون في مشيتهم منقطعون من مشيَّة ربهم، ولعل تسجيل هذا التنبيه عليهم هو الوجه في الإِلتفات إلى الخطاب في قوله { وما تشاءون إلا أن يشاء الله } كما أن الوجه في الإِلتفات من التكلم بالغير إلى الغيبة في قوله: { يشاء الله إن الله } هو الإِشارة إلى علة الحكم فإن مسمَّى هذا الإِسم الجليل يبتدئ منه كل شيء وينتهي إليه كل شيء فلا تكون مشيَّة إلا بمشيِّته ولا تؤثر مشية إلا بإذنه.
وقوله: { إن الله كان عليماً حكيماً } توطئة لبيان مضمون الآية التالية.
قوله تعالى: { يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعدَّ لهم عذاباً أليماً } مفعول { يشاء } محذوف يدل عليه الكلام، والتقدير يدخل في رحمته من يشاء دخوله في رحمته، ولا يشاء إلا دخول من آمن واتقى، وأما غيرهم وهم أهل الإِثم والكفر فبين حالهم بقوله: { والظالمين أعد لهم عذاباً أليماً }.
والآية تبين سنته تعالى الجارية في عباده من حيث السعادة والشقاء، وقد علل ذلك بما في ذيل الآية السابقة من قوله { إن الله كان عليماً حكيماً } فأفاد به أن سنته تعالى ليست سنة جزافية مبنية على الجهالة بل هو يعامل كلاً من الطائفتين بما هو أهل له وسينبئهم حقيقة ما كانوا يعملون.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: { ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً } قال: حدثنا أنها نزلت في عدوِّ الله أبي جهل.
أقول: وهو أشبه بالتطبيق.
وفي المجمع في قوله تعالى: { وسبحه ليلاً طويلاً } روي عن الرضا عليه السلام أنه سأله أحمد بن محمد عن هذه الآية وقال: ما ذلك التسبيح؟ قال: صلاة الليل.
وفي الخرائج والجرائح عن القائم عليه السلام في حديث يقول لكامل بن إبراهيم المدني: وجئت تسأل عن مقالة المفوضة كذبوا بل قلوبنا أوعية لمشيئة الله عز وجل فإذا شاء شئنا، والله يقول: { وما تشاءون إلا أن يشاء الله }.
وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه من طريق ابن شهاب عن سالم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول إذا خطب: كل ما هو آت قريب، لا بعد لما يأتي، ولا يعجل الله لعجلة أحد، ما شاء الله لا ما شاء الناس، يريد الناس أمراً ويريد الله أمراً، ما شاء الله كان ولو كره الناس، لا مباعد لما قرب الله، ولا مقرب لما باعد الله، لا يكون شيء إلا بإذن الله.
أقول: وفي بعض الروايات من طرق أهل البيت عليهم السلام تطبيق الحكم في قوله: { فاصبر لحكم ربك } والرحمة في قوله: { يدخل من يشاء في رحمته } على الولاية وهو من الجري أو البطن وليس من التفسير في شيء.