التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحْدَى ٱلطَّآئِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ ٱلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ ٱلْكَافِرِينَ
٧
لِيُحِقَّ ٱلْحَقَّ وَيُبْطِلَ ٱلْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُجْرِمُونَ
٨
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُرْدِفِينَ
٩
وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
١٠
إِذْ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن ٱلسَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلأَقْدَامَ
١١
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلاۤئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ
١٢
ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
١٣
ذٰلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ ٱلنَّارِ
١٤
-الأنفال

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
تشير الآيات إلى قصة بدر، وهي أول غزوة في الإِسلام، وظاهر سياق الآيات أنها نزلت بعد انقضائها على ما سيتَّضح.
قوله تعالى: { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودّون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين } أي واذكروا إذ يعدكم الله، وهو بيان منن الله وعدَّ نعمه عليهم ليكونوا على بصيرة من الله سبحانه لا يستقبلهم بأمر ولا يأتيهم بحكم إلا بالحق وفيه حفظ مصالحهم وإسعاد جدّهم فلا يختلفوا فيما بينهم، ولا يكرهوا ما يختاره لهم، ويكلوا أمرهم إليه فيطيعوه ورسوله.
والمراد بالطائفتين العير والنفير، والعير قافلة قريش وفيها تجارتهم وأموالهم وكان عليها أربعون رجلاً منهم أبو سفيان بن حرب، والنفير جيش قريش وهم زهاء ألف رجل.
وقوله: { إحدى الطائفتين } مفعول ثان لقوله: { يعدكم } وقوله: { أنها لكم } بدل منه وقوله { وتودّون } الآية في موضع الحال، والمراد بغير ذات الشوكة: الطائفة غير ذات الشوكة وهي البعير الذي كان أقل عِدّة وعُدّة من النفير، والشوكة الحدّة، استعارة من الشوك.
وقوله: { ويريد الله أن يحق الحق بكلماته } في موضع الحال، والمراد بإحقاق الحق إظهاره وإثباته بترتيب آثاره عليه، وكلمات الله هي ما قضى به من نصرة أنبيائه وإظهار دينه الحق، قال تعالى:
{ { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إِنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون } [الصافات: 171-173] وقال تعالى: { يريدون ليطفؤا نور الله بأفواههم والله متمّ نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون } [الصف: 8-9]. وقرئ: { بكلمته }: وهو أوجه وأقرب والدابر ما يأتي بعد الشيء مما يتعلق به ويتصل إليه وقطع دابر الشيء، كناية عن إفنائه واستئصاله بحيث لا يبقى بعده شيء من آثاره المتفرعة عليه المرتبطة به.
ومعنى الآية: واذكروا إذ يعدكم الله أن إحدى الطائفتين لكم تستعلون عليها ببصر الله إمَّا العير وإما النفير وأنتم تودون أن تكون تلك الطائفة هي العير لما تعلمون من شوكة النفير، وقوتهم وشدتهم، مع ما لكم من الضعف والهوان، والحال أن الله يريد خلاف ذلك وهو أن تلاقوا النفير فيظهركم عليهم ويظهر ما قضى ظهوره من الحق، ويستأصل الكافرين ويقطع دابرهم.
قوله تعالى: { ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون } ظاهر السياق أن اللام للغاية، وقوله: { ليحق } الآية متعلق بقوله: { يعدكم الله } أي إنما وعدكم الله ذلك وهو لا يخلف الميعاد ليحق بذلك الحق ويبطل الباطل ولو كان المجرمون يكرهونه ولا يريدونه.
وبذلك يظهر أن قوله: { ليحق الحق } الآية ليس تكراراً لقوله: { ويريد الله أن يحق الحق بكلماته } وإن كان في معناه.
قوله تعالى: { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين } الإِستغاثة طلب الغوث وهو النصرة كما في قوله:
{ فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوّه } [القصص: 15] والإِمداد معروف، وقوله: { مردفين } من الإِرداف وهو أن يجعل الراكب غيره ردفاً له، والردف التابع، قال الراغب: الردف التابع، وردف المرأة عجيزتها، والترادف: التتابع، والرادف: المتأخر، والمردف المقدم الذي أردف غيره. انتهى.
وبهذا المعنى تلائم الآية ما في قوله تعالى فيما يشير به إلى هذه القصة في سورة آل عمران:
{ { ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إِن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم } [آل عمران: 123-126]. فإن تطبيق الآيات من السورتين يوضح أن المراد بنزول ألف من الملائكة مردفين نزول ألف منهم يستتبعون آخرين فينطبق الألف المردفون على الثلاثة آلاف المنزلين.
وبذلك يظهر فساد ما قيل: إن المراد بكون الملائكة مردفين كون الألف متبعين ألفاً آخر لأن مع كل واحد منهم ردفاً له فيكونون ألفين، وكذا ما قيل: إن المراد كون بعضهم إثر بعض، وكذا ما قيل: إن إلمراد مجيئهم على أثر المسلمين بأن يكون مردفين بمعنى رادفين، وكذا ما قيل: إن المراد إردافهم المسلمين بأن يتقدموا عسكر المسلمين فيلقوا في قلوب الذين كفروا الرعب.
قوله تعالى: { وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم } الضميران في قوله: { جعله } وقوله: { به } للإِمداد بالملائكة على ما يدل عليه السياق، والمعنى أن الإِمداد بالملائكة إنما كان لغرض البشرى واطمئنان نفوسكم لا ليهلك بأيديهم الكفار كما يشير إليه قوله تعالى بعد: { إذ يوحي ربك إلى الملائكة إني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب }.
وبذلك يتأيد ما ذكره بعضهم: إن الملائكة لم ينزلوا ليقتلوا المشركين ولا قتلوا منهم أحداً فقد قتل ثلث المقتولين منهم أو النصف علي عليه السلام والثلثين الباقين أو النصف سائر المسلمين. وإنما كان للملائكة تكثير سواد المسلمين حينما اختلطوا بالقوم وتثبيت قلوب المسلمين، وإلقاء الرعب في قلوب المشركين، وسيجيء بعض الكلام في ذلك.
وقوله: { وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم } بيان انحصار حقيقة النصر فيه تعالى وأنه لو كان بكثرة العدد والقوة والشوكة كانت الدائرة يومئذ للمشركين بما لهم من الكثرة والقوة على المسلمين على ما بهم من القلة والضعف.
وقد علل بقوله: { إن الله عزيز حكيم } جميع مضمون الآية وما يتعلق به من الآية السابقة فبعزّته نصرهم وأمدهم، وبحكمته جعل نصره على هذه الشاكلة.
قوله تعالى: { إذ يغشيكم النعاس أمنة منه } إلى آخر الآية. النعاس أول النوم وهو خفيفه والتغشية الإِحاطة، والأمنة الأمان، وقوله: { منه } أي من الله وقيل: أي من العدو، والرجز هو الرجس والقذارة، والمراد برجز الشيطان القذارة التي يطرأ القلب من وسوسته وتسويله.
ومعنى الآية: ان النصر والإِمداد بالبشرى واطمئنان القلوب كان في وقت يأخذكم النعاس للأمن الذي أفاضه الله على قلوبكم فنمتم ولو كنتم خائفين مرتاعين لم يأخذكم نعاس ولا نوم، وينزّل عليكم المطر ليطهّركم به ويذهب عنكم وسوسة الشيطان وليربط على قلوبكم ويشد عليها - وهو كناية عن التشجيع - وليثبت بالمطر أقدامكم في الحرب بتلبّد الرمل أو بثبات القلوب.
والآية تؤيد ما ورد أن المسلمين سبقهم المشركون إلى الماء فنزلوا على كثيب رمل، وأصبحوا محدثين ومجنبين، وأصابهم الظمأ، ووسوس إليهم الشيطان فقال: إن عدوكم قد سبقكم إلى الماء، وأنتم تصلون مع الجنابة والحدث وتسوخ أقدامكم في الرمل فأمطر عليهم الله حتى اغتسلوا به من الجنابة، وتطهروا به من الحدث، وتلبدت به أرضهم، وأوحلت أرض عدوهم.
قوله تعالى: { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } إلى آخر الآية حال الظرف في أول الآية كحال الظرف في قوله: { إذ تستغيثون ربكم } وقوله: { إذ يغشيكم النعاس } ومعنى الآية ظاهر.
وأما قوله: { فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان } فالظاهر أن يكون المراد بفوق الأعناق الرؤوس وبكل بنان جميع الأطراف من اليدين والرجلين أو أصابع الأيدي لئلا يطيقوا حمل السلاح بها والقبض عليه.
ومن الجائز أن يكون الخطاب بقوله: { فاضربوا } الخ للملائكة كما هو المتسابق إلى الذهن، والمراد بضرب فوق الأعناق وكل بنان ظاهر معناه، أو الكناية عن إذلالهم وإبطال قوة الإِمساك من أيديهم بالإِرعاب، وأن يكون الخطاب للمؤمنين والمراد به تشجيعهم على عدوهم بتثبيت أقدامهم والربط على قلوبهم، وحثهم وإغراؤهم بالمشركين.
قوله تعالى: { ذلك بأنهم شاقّوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب } المشاقة المخالفة وأصله الشق بمعنى البعض كأن المخالف يميل إلى شق غير شق من يخالفه، والمعنى أن هذا العقاب للمشركين بما أوقع الله بهم، لأنهم خالفوا الله ورسوله وألحّوا وأصرّوا على ذلك ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب.
قوله تعالى: { ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار } خطاب تشديدي للكفار يشير إلى ما نزل بهم من الخزي ويأمرهم بأن يذوقوه، ويذكر لهم أن وراء ذلك عذاب النار.
(بحث روائي)
في المجمع قال ابن عباس: لما كان يوم بدر واصطفّ القوم للقتال قال أبو جهل: اللهم أولانا بالنصر فانصره، واستغاث المسلمون فنزلت الملائكة ونزل قوله: { إذ تستغيثون ربكم } إلى آخره.
وقيل: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما نظر إلى كثرة عدد المشركين وقلة عدد المسلمين استقبل القبلة وقال:
"اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض" فما زال يهتف ربه ماداً يديه حتى سقط رداؤه من منكبيه فأنزل الله: { إذ تستغيثون ربكم } الآية عن عمر بن الخطاب والسدي وأبي صالح وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام.
قال: ولما أمسى رسول الله وجنّه الليل ألقى الله على أصحابه النعاس وكانوا قد نزلوا في موضع كثير الرمل لا تثبت فيه قدم فأنزل الله عليهم المطر رذاذاً حتى لبّد الأرض وثبت أقدامهم وكان المطر على قريش مثل العزالى، وألقى الله في قلوبهم الرعب كما قال الله تعالى: { سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب }.
أقول: لفظ الآية: { إذ تستغيثون ربكم } الخ لا يلائم نزولها يوم بدر عقيب استغاثتهم بل السياق يدل على نزولها مع قوله تعالى: { يسألونك عن الأنفال } والآيات تالية له، وهي تدل على حكاية حال ماضية وامتنانه تعالى على المسلمين بما أنزل عليهم من آيات النصر وتفاريق النعم ليشكروا له ويطيعوه فيما يأمرهم وينهاهم.
ولعل المراد من ذكر نزول الآية بعد ذكر استغاثتهم انطباق مضمون الآية على الواقعة، وهو كثير النظير في الروايات المشتملة على أسباب النزول.
وفي تفسير البرهان عن ابن شهر آشوب: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العريش:
"اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد بعد هذا اليوم" فنزل: { إذ تستغيثون ربكم } فخرج يقول: سيهزم الجمع ويولون الدبر فأيده الله بخمسة آلاف من الملائكة مسومين، وكثرهم في أعين المشركين، وقلل المشركين في أعينهم فنزل: { وهم بالعدوة القصوى من الوادي خلف العقنقل والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالعدوة الدنيا عند القليب.
أقول: والكلام فيه كالكلام في سابقه.
وفي المجمع: ذكر البلخي عن الحسن أن قوله: { وإذ يعدكم الله } الآية نزلت قبل قوله: { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق } وهي في القراءة بعدها.
أقول: وتقدم مدلول إحدى الآيتين على مدلول الأخرى بحسب الوقوع لا يلازم سبقها نزولاً، ولا دليل من جهة السياق يدل على ما ذكره.
وفي تفسير العياشي عن محمد بن يحيى الخثعمي عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين إنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم } فقال: الشوكة التي فيها القتال.
أقول: وروى مثله القمي في تفسيره.
وفي المجمع قال أصحاب السير وذكر أبو حمزة وعلي بن إبراهيم في تفسيرهما - دخل حديث بعضهم في بعض - أقبل أبو سفيان بعير قريش من الشام وفيها أموالهم وهي اللطيمة، وفيها أربعون راكباً من قريش فندب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه للخروج إليها ليأخذوها، وقال: لعل الله أن ينفلكموها فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم، ولم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلقى كيداً ولا حرباً فخرجوا لا يريدون إلا أبا سفيان والركب لا يرونها إلا غنيمة لهم.
فلما سمع أبو سفيان بمسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتي قريشاً فيستنفرهم ويخبرهم أن محمداً قد تعرض لعيرهم في أصحابه فخرج ضمضم سريعاً إلى مكة.
وكانت عاتكة بنت عبد المطلب رأت فيما يرى النائم قبل مقدم ضمضم بن عمرو بثلاث ليال أن رجلاً أقبل على بعير له ينادي يا آل غالب اغدوا إلى مصارعكم ثم وافى بجملة على أبي قبيس فأخذ حجراً فدهدهه من الجبل فما ترك داراً من دور قريش إلا أصابته منه فلذة فانتبهت فزعة من ذلك وأخبرت العباس بذلك فأخبر العباس عتبة بن ربيعة فقال عتبة: هذه مصيبة تحدث في قريش، وفشت الرؤيا فيهم وبلغ ذلك أبا جهل فقال: هذه نبيَّة ثانية في بني عبد المطلب، واللات والعزى لننظرن ثلاثة أيام فإن كان ما رأت حقاً وإلا لتكتبن كتاباً بيننا: إنه ما من أهل بيت من العرب أكذب رجالاً ونساءً من بني هاشم.
فلما كان اليوم الثالث أتاهم ضمضم يناديهم بأعلى الصوت: يا آل غالب يا آل غالب. اللطيمة اللطيمة. العير العير. ادركوا وما أراكم تدركون إن محمداً والصباة من أهل يثرب قد خرجوا يتعرضون لعيركم فتهيأوا للخروج، وما بقي أحد من عظماء قريش إلا أخرج مالاً لتجهيز الجيش، وقالوا من لم يخرج نهدم داره، وخرج معهم العباس بن عبد المطلب، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وعقيل بن أبي طالب، وأخرجوا معهم القيان يضربن الدفوف.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً فلما كان بقرب بدر أخذ عيناً للقوم فأخبره بهم، وفي حديث أبي حمزة: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً عيناً له على العير اسمه عدي فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره اين فارق العير نزل جبرائيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره بنفير المشركين من مكة فاستشار أصحابه في طلب العير وحرب النفير فقام أبو بكر فقال: يا رسول الله إنها قريش وخيلاؤها ما آمنت منذ كفرت، ولا ذلّت منذ عزت، ولم نخرج على هيئة الحرب؛ وفي حديث أبي حمزة: أنا عالم بهذا الطريق فارق عدي العير بكذا وكذا، وساروا وسرنا فنحن والقوم على ماء بدر يوم كذا وكذا كأنا فرسا رهان فقال صلى الله عليه وآله وسلم: اجلس فجلس. ثم قام عمر بن الخطاب فقال مثل ذلك، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: اجلس فجلس.
ثم قام المقداد فقال: يا رسول الله إنها قريش وخيلاؤها، وقد آمنا بك وصدقنا وشهدنا إن ما جئت به حق، والله لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا وشوك الهراس لخضناه معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: إذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ولكنا نقول: إمض لأمر ربك فإنا معك مقاتلون، فجزاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيراً على قوله ذاك.
ثم قال: أشيروا علي أيها الناس وإنما يريد الأنصار لأن أكثر الناس منهم، ولأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: إنا برآء من ذمتك حتى تصل إلى دارنا ثم أنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع ابناءنا ونساءنا، فكان صلى الله عليه وآله وسلم يتخوف أن لا يكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا على من دهمه بالمدينة من عدو، وأن ليس عليهم أن ينصروه خارج المدينة.
فقام سعد بن معاذ فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله كأنك أردتنا. فقال: نعم. قال: بأبى أنت وأمي يا رسول الله إنا قد آمنا بك وصدّقناك وشهدنا إن ما جئت به حق من عند الله فمرنا بما شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، واترك منها ما شئت، والله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك ولعل الله عز وجل ان يريك منا ما تقرُّ به عينك فسر بنا على بركة الله.
ففرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال:
"سيروا على بركة الله فان الله عز وجل قد وعدني إحدى الطائفتين ولن يخلف الله وعده، والله لكأني انظر إلى مصرع أبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وفلان وفلان"
]. وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالرحيل، وخرج إلى بدر وهو بئر، وفي حديث أبي حمزة الثمالي: بدر رجل من جهينة والماء ماؤه فإنما سمي الماء باسمه، وأقبلت قريش وبعثوا عبيدها ليستقوا من الماء فأخذهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا لهم: من أنتم؟ قالوا: نحن عبيد قريش. قالوا: فأين العير؟ قالوا: لا علم لنا بالعير فأقبلوا يضربونهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي فانفتل من صلاته وقال: إن صدقوكم ضربتموهم وإن كذبوكم تركتموهم، فأتوه بهم فقال لهم: من أنتم؟ قالوا: يا محمد نحن عبيد قريش، قال: كم القوم؟ قالوا: لا علم لنا بعددهم، قال: كم ينحرون في كل يوم من جزور؟ قالوا: تسعة إلى عشرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: القوم تسعمائة إلى ألف رجل، وأمر صلى الله عليه وآله وسلم بهم فحبسوا وبلغ ذلك قريشاً ففزعوا وندموا على مسيرهم.
ولقي عتبة بن ربيعة ابا البختري بن هشام فقال: أما ترى هذا البغي والله ما أبصر موضع قدمي خرجنا لنمنع عيرنا وقد افلتت فجئنا بغياً وعدواناً، والله ما افلح قوم بغوا قط، ولوددت أن ما في العير من أموال بني عبد مناف ذهبت ولم نسر هذا المسير، فقال له ابو البختري: إنك سيد من سادات قريش فسر في الناس وتحمّل العير التي أصابها محمد وأصحابه بنخلة ودم ابن الحضرمي فإنه حليفك. فقال له: عليّ ذلك، وما على أحد منا خلاف إلا ابن الحنظلية يعني أبا جهل فصر إليه وأعلمه اني حملت العير ودم ابن الحضرمي وهو حليفي وعليّ عقله.
قال: فقصدت خباءه وأبلغته ذلك، فقال: إن عتبة يتعصب لمحمد فإنه من بني عبد مناف وابنه معه يريد أن يخذل بين الناس واللاَّت والعزى حتى نقحم عليهم يثرب أو نأخذهم اسارى فندخلهم مكة وتتسامع العرب بذلك، وكان ابو حذيفة بن عتبة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وكان أبو سفيان لما جاز بالعير بعث إلى قريش: قد نجّى الله عيركم فارجعوا ودعوا محمداً والعرب، وادفعوه بالراح ما اندفع، وإن لم ترجعوا فردّوا القيان فلحقهم الرسول في الجحفة، فأراد عتبة أن يرجع فأبى أبو جهل وبنو مخزوم وردوا القيان من الجحفة.
قال: وفزع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما بلغهم كثرة قريش، واستغاثوا وتضرعوا، فأنزل الله عز وجل: { إذ تستغيثون ربكم } وما بعده.
قال الطبرسي: ولما اصبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر عبأ أصحابه، وكان في عسكره فرسان: فرس للزبير بن عوام، وفرس للمقداد بن الأسود، وكان في عسكره سبعون جملاً كانوا يتعاقبون عليها، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي بن أبي طالب عليه السلام ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يتعاقبون على جمل لمرثد بن أبي مرثد، وكان في عسكر قريش اربعمائة فرس، وقيل: مائتا فرس.
فلما نظرت قريش إلى قلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال أبو جهل: ما هم إلا أُكلة رأس لو بعثنا إليهم عبيدنا لأخذوهم أخذاً باليد، فقال عتبة بن ربيعة: أترى لهم كميناً أو مدداً؟ فبعثوا عمير بن وهب الجمحي وكان فارساً شجاعاً فجال بفرسه حتى طاف على عسكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم رجع فقال: ليس لهم كمين ولا مدد ولكن نواضح يثرب قد حملت الموت الناقع أما ترونهم خرساً لا يتكلمون ويتلمظون تلمظ الأفاعي ما لهم ملجأ إلا سيوفهم، وما أراهم يولون حتى يقتلوا، ولا يقتلون حتى يقتلوا بعددهم فارتأوا رأيكم، فقال له أبو جهل: كذبت وجبنت.
فأنزل الله تعالى: { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها } فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا معشر قريش اني أكره أن أبدأ بكم فخلوني والعرب وارجعوا فقال عتبة: ما ردّ هذا قوم قط فأفلحوا، ثم ركب جملاً له احمر فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يجول بين العسكرين وينهى عن القتال فقال صلى الله عليه وآله وسلم:
"إن يك عند أحد خير فعند صاحب الجمل الأحمر وإن يطيعوه يرشدوا"
]. وخطب عتبة فقال في خطبته: يا معشر قريش اطيعوني اليوم واعصوني الدهر إن محمداً له إلُّ وذمة وهو ابن عمكم فخلوه والعرب فإن يك صادقاً فأنتم أعلى عيناً به وإن يك كاذباً كفتكم ذؤبان العرب أمره فغاظ أبا جهل قوله وقال له: جبنت وانتفخ سحرك فقال: يا مصفرّ إسته مثلي يجبن؟ وستعلم قريش أيّنا ألأم وأجبن؟ وأيّنا المفسد لقومه.
ولبس دروعه وتقدم هو وأخوه شيبة وابنه الوليد، وقال: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قريش فبرز إليهم ثلاثة نفر من الأنصار وانتسبوا لهم فقالوا: ارجعوا إنما نريد الأكفاء من قريش فنظر رسول الله صلى الله عيله وآله وسلم إلى عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب - وكان له يومئذ سبعون سنة - فقال: قم يا عبيدة، ونظر إلى حمزة فقال: قم يا عم ثم نظر إلى علي بن أبي طالب فقال: قم يا علي - وكان أصغر القوم - فاطلبوا بحقكم الذي جعله الله لكم فقد جاءت قريش بخيلائها وفخرها تريد أن تطفئ نور الله ويأبى الله إلا أن يتم نوره. ثم قال: يا عبيدة عليك بعتبة بن ربيعة، وقال لحمزة عليك بشيبة، وقال لعلي: عليك بالوليد.
فمروا حتى انتهوا إلى القوم فقالوا: أكفاء كرام فحمل عبيدة على عتبة فضربه على رأسه ضربة فلقت هامته، وضرب عتبة عبيدة على ساقه فأطنها فسقطا جميعاً، وحمل شيبة على حمزة فتضاربا بالسيفين حتى انثلما، وحمل أمير المؤمنين علي عليه السلام على الوليد فضربه على حبل عاتقه فأخرج السيف من إبطه قال علي: لقد أخذ الوليد يمينه بيساره فضرب بها هامتي فظننت أن السماء وقعت على الأرض.
ثم اعتنق حمزة وشيبة فقال المسلمون: يا علي أما ترى أن الكلب قد نهز عمك فحمل عليه علي عليه السلام ثم قال: يا عم طأطئ رأسك وكان حمزة أطول من شيبة فأدخل حمزة رأسه في صدره فضربه علي فطرح نصفه، ثم جاء إلى عتبة وبه رمق فأجهز عليه.
وفي رواية أخرى أنه برز حمزة لعتبة، وبرز عبيدة لشيبة، وبرز علي للوليد فقتل حمزة عتبة، وقتل عبيدة شيبة، وقتل علي عليه السلام الوليد، فضرب شيبة رجل عبيدة فقطعها فاستنقذه حمزة وعلي، وحمل عبيدة حمزة وعلي حتى أتيا به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاستعبر فقال: يا رسول الله ألست شهيداًَ؟ قال:
"بلى أنت أول شهيد من أهل بيتي
"
]. وقال ابو جهل لقريش: لا تعجلوا ولا تبطروا كما بطر ابناء ربيعة عليكم بأهل يثرب فأجزروهم جزراً، وعليكم بقريش فخذوهم أخذاً حتى ندخلهم مكة فنعرّفهم ضلالتهم التي هم عليها.
وجاء إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جشعم فقال لهم: أنا جار لكم ادفعوا إليَّ رايتكم فدفعوا إليه راية الميسرة، وكانت الراية مع بني عبد الدار فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لأصحابه:
"غضوا أبصاركم، وعضوا على النواجذ، ورفع يده فقال: اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد ثم أصابه الغشي فسري عنه وهو يسلك العرق عن وجهه فقال: هذا جبرائيل قد أتاكم بألف من الملائكة مردفين"
]. وفي الأمالي بإسناده عن الرضا عن آبائه عليه السلام: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سافر إلى بدر في شهر رمضان وافتتح مكة في شهر رمضان.
أقول: وعلى ذلك اطبق أهل السير والتواريخ، قال اليعقوبي في تاريخه: وكانت وقعة بدر يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان بعد مقدمه صلى الله عليه وآله وسلم - يعني إلى المدينة - بثمانية عشر شهراً.
وقال الواقدي: ونزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وادي بدر عشاء ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من شهر رمضان فبعث علياً والزبير وسعد بن أبي وقاص وبسبس بن عمرو يتجسسون على الماء فوجدوا روايا قريش فيها سقاؤهم فأسروهم وأفلت بعضهم وأتوا بهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي فسألهم المسلمون فقالوا: نحن سقاء قريش بعثونا نسقيهم من الماء فضربوهم فلما أن لقوهم بالضرب قالوا: نحن لأبي سفيان ونحن في العير، وهذا العير بهذا القوز فكانوا إذا قالوا ذلك يمسكون عن ضربهم فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته ثم قال: إن صدقوكم ضربتموهم وإن كذبوكم تركتموهم.
فلما أصبحوا عدّل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصفوف وخطب المسلمين فحمد الله وأَثنى عليه ثم قال:
أما بعد فإني أحثكم على ما حثكم الله عليه، وأنهاكم عما نهاكم الله عنه فإن الله عظيم شأنه، يأمر بالحق، ويحب الصدق، ويعطي على الخير أهله على منازلهم عنده به يذكرون، وبه يتفاضلون، وإنكم قد أصبحتم بمنزل من منازل الحق لا يقبل الله فيه من أحد إلا ما ابتغى به وجهه، وإن الصبر في مواطن البأس مما يفرج الله به الهم وينجي به من الغم تدركون به النجاة في الآخرة، فيكم نبي الله يحذركم ويأمركم فاستحيوا اليوم أن يطلع الله على شيء من أمركم يمقتكم عليه فإنه تعالى يقول: لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم انظروا في الذي أمركم به من كتابه، وأراكم من آياته وما أعزكم به بعد الذلة فاستكينوا له يرض ربكم عنكم، وأبلوا ربكم في هذه المواطن أمراً تستوجبوا به الذي وعدكم من رحمته ومغفرته فإن وعده حق، وقوله صدق، وعقابه شديد، وإنما أنا وأنتم بالله الحي القيوم، إليه ألجأنا ظهورنا، وبه اعتصمنا، وعليه توكلنا، وإليه المصير، ويغفر الله لي وللمسلمين.
وفي المجمع: ذكر جماعة من المفسرين كابن عباس وغيره: أن جبرائيل قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر خذ قبضة من تراب فارمهم بها فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما التقى الجمعان لعلي: أعطني قبضة من حصا الوادي فناوله كفّاً من حصا عليه تراب فرمى به في وجوه القوم وقال: شاهت الوجوه فلم يبق مشرك إلا دخل في عينه وفمه ومنخريه منها شيء ثم ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم، وكانت تلك الرمية سبب هزيمة القوم.
وفي الأمالي بإسناده عن ابن عباس قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على قتلى بدر فقال: جزاكم الله من عصابة شرّاً لقد كذبتموني صادقاً وخوّنتم أميناً، ثم التفت إلى أبي جهل بن هشام فقال: إن هذا أعتى على الله من فرعون إن فرعون لما أيقن بالهلاك وحدّ الله، وإن هذا لما أيقن بالهلاك دعا باللات والعزّى.
وفي المغازي للواقدي: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر بالقليب أن تغوّر ثم أمر بالقتلى فطرحوا فيها كلهم إلا أُمية بن خلف فإنه كان مسمناً انتفخ من يومه فلما أرادوا أن يلقوه تزايل لحمه فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أُتركوه، فأقروه وألقوا عليه من التراب والحجارة ما غيبه.
ثم وقف على أهل القليب فناداهم رجلاً رجلاً: هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً بئس القوم كنتم لنبيّكم كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس. فقالوا يا رسول الله أتنادي قوماً قد ماتوا؟ فقال: لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حق، وفي رواية أُخرى: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني.
قال: وكان انهزام قريش حين زالت الشمس فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر وأمر عبد الله بن كعب بقبض الغنائم وحملها، وأمر نفراً من أصحابه أن يعينوه فصلى العصر ببدر ثم راح فمر بالأثيل قبل غروب الشمس فنزل به وبات، وبأصحابه جراح وليست بالكثيرة، وأمر ذكوان بن عبد قيس أن يحرس المسلمين حتى كان آخر الليل فارتحل.
وفي تفسير القمّي في خبر طويل: وخرج أبو جهل من بين الصفين وقال: اللهم إن محمداً أقطعنا للرحم، وأتانا بما لا نعرفه فأحنه الغداة فأنزل الله على رسوله: { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئاً ولو كثرت وإن الله مع المؤمنين }.
ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كفاً من حصى ورمى به في وجوه قريش وقال: شاهت الوجوه فبعث الله رياحاً تضرب في وجوه قريش فكانت الهزيمة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"اللهم لا يفلتن فرعون هذه الأُمة أبو جهل بن هشام فقتل منهم سبعين، وأسر منهم سبعين"
]. وألتقى عمرو بن الجموع مع أبي جهل فضرب عمرو أبا جهل على فخذه وضرب ابو جهل عمراً على يده فأبانها من العضد فتعلقت بجلده فاتكى عمرو على يده برجله ثم تراخى إلى السماء حتى انقطعت الجلدة ورمى بيده.
وقال عبد الله بن مسعود: انتهيت إلى أبي جهل وهو يتشحط بدمه فقلت: الحمد لله الذي أخزاك فرفع رأسه فقال: إنما أخزى الله عبداً، ابن ام عبد لمن الدبرة ويلك؟ قلت: لله ولرسوله وإني قاتلك، ووضعت رجلي على عنقه فقال: ارتقيت مرتقى صعباً يا رويعي الغنم أما أنه ليس شيء أشد من قتلك إياي في هذا اليوم ألا تولّى قتلي رجل من المطَّلبيين أو رجل من الأحلاف؟ فاقتلعت بيضة كانت على رأسه فقتلته وأخذت رأسه وجئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقلت: يا رسول الله البشرى هذا رأس أبي جهل بن هشام فسجد لله شكراً.
وفي الإِرشاد للمفيد ثم بارز أمير المؤمنين عليه السلام العاص بن سعيد بن العاص بعد ان احجم عنه من سواه فلم يلبث أن قتله، وبرز إليه حنظلة بن أبي سفيان فقتله، وبرز إليه بعده طعيمة بن عدي فقتله، وقتل بعده نوفل بن خويلد وكان من شياطين قريش، ولم يزل يقتل واحداً منهم بعد واحد حتى أتى على شطر المقتولين منهم وكانوا سبعين رجلاً، تولى كافة من حضر بدراً من المسلمين مع ثلاثة آلاف من الملائكة المسوّمين قتل الشطر منهم، وتولى أمير المؤمنين عليه السلام قتل الشطر الآخر وحده.
وفي الإِرشاد أيضاً: قد أثبتت رواة العامة والخاصة معاً أسماء الذين تولى أمير المؤمنين عليه السلام قتلهم ببدرمن المشركين على اتفاق فيما نقلوه من ذلك واصطلاح فكان ممن سموه: الوليد بن عتبة كما قدمنا وكان شجاعاً جريّاً وَقاحاً فتاكاً تهابه الرجال، والعاص بن سعيد وكان هولاً عظيماً تهابه الابطال، وهو الذي حاد عنه عمر بن الخطاب وقصته فيما ذكرناه مشهورة نحن نبيِّنها فيما نورده، وطعيمة بن عدي بن نوفل وكان من رؤوس أهل الضلال، ونوفل بن خويلد وكان من أشد المشركين عداوة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت قريش تقدمه وتعظمه وتطيعه، وهو الذي قرن أبا بكر وطلحة قبل الهجرة بمكة وأوثقهما بحبل وعذبهما يوماً إلى الليل حتى سئل في أمرهما، ولما عرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حضوره بدراً سأل الله أن يكفيه أمره فقال: اللهم اكفني نوفل بن خويلد فقتله أمير المؤمنين عليه السلام.
وزمعة بن الأسود، والحارث بن زمعة، والنضر بن الحارث بن عبد الدار، وعمير بن عثمان بن كعب بن تميم عم طلحة بن عبيد الله، وعثمان ومالك ابنا عبيد الله أخوا طلحة بن عبيد الله، ومسعود بن أبي أُمية بن المغيرة، وقيس بن الفاكه بن المغيرة وحذيفة بن أبي حذيفة بن المغيرة، و [أبو] قيس بن الوليد بن المغيرة، وحنظلة بن أبي سفيان، وعمرو بن مخزوم، وأبو منذر بن أبي رفاعة، ومنبّه بن الحجاج السهمي، والعاص بن منبّه، وعلقمة بن كلدة، وأبو العاص بن قيس بن عدي، ومعاوية بن المغيرة بن أبي العاص، ولوذان بن ربيعة، وعبد الله بن المنذر بن أبي رفاعة، ومسعود بن أُمية بن المغيرة، وحاجب بن السائب بن عويمر، وأوس بن المغيرة بن لوذان، وزيد بن مليص، وعاصم بن أبي عوف، وسعيد بن وهب حليف بني عامر، ومعاوية بن [عامر بن] عبد القيس، وعبد الله بن جميل بن زهير بن الحارث بن أسد، والسائب بن مالك، وأبو الحكم بن الأخنس، وهشام بن أبي أُمية بن المغيرة.
فذلك خمسة وثلاثون رجلاً سوى من اختلف فيه أو شرك أمير المؤمنين عليه السلام فيه غيره وهم أكثر من شطر المقتولين ببدر على ما قدمناه.
أقول: وذكر غيره كما في المجمع أنه قتل يوم بدر سبعة وعشرين رجلاً، وذكر الواقدي: ان الذي اتفق عليه قول النقلة والرواة من قتلاه تسعة رجال والباقي مختلف فيه.
لكن البحث العميق عن القصة وما يحتف بها من أشعارهم والحوادث المختلفة التي حدثت بعدها تسيء الظن بهذا الاختلاف، وقد نقل عن محمد بن إسحاق أن أكثر قتلى المشركين يوم بدر كان لعلي عليه السلام.
وقد عد الواقدي فيما ذكره ابن أبي الحديد من قتلى المشركين في وقعة بدر اثنين وخمسين رجلاً ونسب قتل أربعة وعشرين منهم إليه عليه السلام ممن انفرد بقتله أو شارك غيره.
ومن شعر اسيد بن ابي أياس يحرض مشركي قريش على علي عليه السلام على ما في الإِرشاد والمناقب قوله:

في كـــل مجمــــع غايـة أخزاكم جـــزعٌ أبرّ علـى المذاكي القرّح
لله درّكــــــــم ألمّـــــا تنكـــــروا قد ينكـــر الحـر الكريم ويستحي
هـــذا ابــــن فاطمــة الذي أفناكم ذبحـاً وقتلــــة قعصـــة لــم تذبح
اعطــوه خرجــاً واتقـوا تضريبه فعـــل الذليــــل وبيعـــة لم تربح
أيــــن الكهـــول وأين كل دعامة في المعظلات وأين زين الأبطح
أفناهــــم قعصــاً وضرباً يفترى بالسيـــف يعمـــل حدّه لم يصفح

وفي الإِرشاد روى شعبة عن ابي اسحاق عن حارث بن مضرب قال: سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام يقول: لقد حضرنا بدراً وما فينا فارس غير المقداد بن الأسود، ولقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا من نام غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنه كان منتصباً في أصل شجرة يصلي فيها ويدعو حتى الصباح.
أقول: والروايات في قصة بدر كثيرة جداً وقد اقتصرنا منها على ما يتضح به فهم مضامين الآيات، ومن الأخبار ما سيأتي إن شاء الله في تضاعيف البحث عن الآيات التالية المشيرة إلى بعض أطراف القصة.
(فهرس اسماء شهداء بدر "رض")
في البحار عن الواقدي قال: حدثني عبد الله بن جعفر قال: سألت الزهري كم استشهد من المسلمين ببدر؟ قال: أربعة عشر: ستة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار.
قال: فمن بني المطلب بن عبد مناف، عبيدة بن الحارث قتله عتبة وفي غير رواية الواقدي قتله شيبة فدفنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصفراء، ومن بني زهرة عمير بن أبي وقاص قتله عمرو بن عبدود فارس الأحزاب، وعمير بن عبدود ذو الشمالين حليف لبني زهرة قتله أبو أسامة الجشمي، ومن بني عدي عاقل بن أبي البكير حليف لهم من بني سعيد قتله مالك بن زهير، ومهجع مولى عمر بن الخطاب قتله عامر بن الحضرمي ويقال: إن مهجعاً أول من قتل من المهاجرين، ومن بني الحارث بن فهر صفوان بن بيضاء قتله طعيمة بن عدي.
ومن الأنصار ثم من بني عمرو بن عوف، مبشر بن عبد المنذر قتله أبو ثور، وسعد بن خيثمة قتله عمرو بن عبدود، ويقال: طعيمة بن عدي، ومن بني عدي بن النجار حارثة بن سراقة رماه حنان بن العرقة بسهم فأصاب حنجرته فقتله، ومن بني مالك بن النجار عوف ومعوذ ابنا عفراء قتلهما أبو جهل، ومن بني سلمة عمير بن الحمام بن الجموح قتله خالد بن الأعلم، ويقال: إنه أول قتيل قتل من الأنصار، وقد روي: أن أول قتيل منهم حارثة بن سراقة، ومن بني زريق رافع بن المعلى قتله عكرمة بن أبي جهل، ومن بني الحارث بن الخزرج يزيد بن الحارث قتله نوفل بن معاوية فهؤلاء الثمانية من الأنصار.
وروي عن ابن عباس: أن أنسة مولى النبي صلى الله عليه وسلم قتل ببدر، وروي: أن معاذ بن ماعص جرح ببدر فمات من جراحته بالمدينة، وابن [ان ظ] عبيد بن السكن جرح فاشتكى جرحه فمات منه.