التفاسير

< >
عرض

وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْبُرُوجِ
١
وَٱلْيَوْمِ ٱلْمَوْعُودِ
٢
وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ
٣
قُتِلَ أَصْحَابُ ٱلأُخْدُودِ
٤
ٱلنَّارِ ذَاتِ ٱلْوَقُودِ
٥
إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ
٦
وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ
٧
وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ
٨
ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
٩
إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ ٱلْحَرِيقِ
١٠
إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ ذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْكَبِيرُ
١١
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ
١٢
إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ
١٣
وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلْوَدُودُ
١٤
ذُو ٱلْعَرْشِ ٱلْمَجِيدُ
١٥
فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ
١٦
هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ ٱلْجُنُودِ
١٧
فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ
١٨
بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي تَكْذِيبٍ
١٩
وَٱللَّهُ مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ
٢٠
بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ
٢١
فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ
٢٢
-البروج

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
سورة إنذار وتبشير فيها وعيد شديد للذين يفتنون المؤمنين والمؤمنات لإِيمانهم بالله كما كان المشركون من أهل مكة يفعلون ذلك بالذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فيعذبونهم ليرجعوا إلى شركهم السابق فمنهم من كان يصبر ولا يرجع بلغ الأمر ما بلغ، ومنهم من رجع وارتد وهم ضعفاء الإِيمان كما يشير إلى ذلك قوله تعالى:
{ ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله } [العنكبوت: 10]، وقوله: { ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه } [الحج: 11]. وقد قدم سبحانه على ذلك الاشارة إلى قصة أصحاب الاخدود، وفيه تحريض المؤمنين على الصبر في جنب الله تعالى، وأتبعها بالإِشارة إلى حديث الجنود فرعون وثمود وفيه تطييب لنفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوعد النصر وتهديد للمشركين.
والسورة مكية بشهادة سياق آياتها.
قوله تعالى: { والسماء ذات البروج } البروج جمع برج وهو الأمر الظاهر ويغلب استعماله في القصر العالي لظهوره على الناظرين ويسمى البناء المعمول على سور البلد للدفاع برجاً وهو المراد في الآية لقوله تعالى:
{ ولقد جعلنا في السماء بروجاً وزيَّناها للناظرين وحفظناها من كل شيطان رجيم } [الحجر: 16-17]، فالمراد بالبروج مواضع الكواكب من السماء.
وبذلك يظهر أن تفسير البروج بالبروج الاثني عشر المصطلح عليها في علم النجوم غير سديد.
وفي الآية إقسام بالسماء المحفوظة بالبروج، ولا يخفى مناسبته لما سيشار إليه من القصة ثم الوعيد والوعد وسنشير إليه.
قوله تعالى: { واليوم الموعود } عطف على السماء وإقسام باليوم الموعود وهو يوم القيامة الذي وعد الله القضاء فيه بين عباده.
قوله تعالى: { وشاهد ومشهود } معطوفان على السماء والجميع قسم بعد قسم على ما أريد بيانه في السورة وهو - كما تقدمت الإِشارة إليه - الوعيد الشديد لمن يفتن المؤمنين والمؤمنات لايمانهم والوعد الجميل لمن آمن وعمل صالحاً.
فكأنه قيل: اقسم بالسماء ذات البروج التي يدفع الله بها عنها الشياطين إن الله يدفع عن إيمان المؤمنين كيد الشياطين وأوليائهم من الكافرين، وأقسم باليوم الموعود الذي يجزى فيه الناس بأعمالهم، وأُقسم بشاهد يشهد ويعاين أعمال أولئك الكفار وما يفعلونه بالمؤمنين لإِيمانهم بالله وأقسم بمشهود سيشهده الكل ويعاينونه إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات، إلى آخر الآيتين.
ومن هنا يظهر أن الشهادة في { شاهد } و { مشهود } بمعنى واحد وهو المعاينة بالحضور، على أنها لو كانت بمعنى تأدية الشهادة لكان حق التعبير ومشهود عليه لأنها بهذا المعنى إنما تتعدى بعلى.
وعلى هذا يقبل { شاهد } الانطباق على النبي صلى الله عليه وآله وسلم لشهادته أعمال أمته ثم يشهد عليها يوم القيامة، ويقبل { مشهود } الانطباق على تعذيب الكفار لهؤلاء المؤمنين وما فعلوا بهم من الفتنة وإن شئت فقل: على جزائه وإن شئت فقل: على ما يقع يوم القيامة من العقاب والثواب لهؤلاء الظالمين والمظلومين، وتنكير { مشهود } و { وشاهد } على أي حال للتفخيم.
ولهم في تفسير شاهد ومشهود أقاويل كثيرة أنهاها بعضهم إلى ثلاثين كقول بعضهم إن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة، والقول بأن الشاهد يوم النحر والمشهود يوم عرفة، والقول بأن الشاهد يوم عرفة والمشهود يوم القيامة، والقول بأن الشاهد الملك يشهد على بني آدم والمشهود يوم القيامة، والقول بأن الشاهد الذين يشهدون على الناس والمشهود الذين يشهد عليهم.
والقول بأن الشاهد هذه الأمة والمشهود سائر الأمم، والقول بأن الشاهد أعضاء بني آدم والمشهود أنفسهم والقول بأن الشاهد الحجر الأسود والمشهود الحاج والقول بأن الشاهد الأيام والليالي والمشهود بنو آدم، والقول بأن الشاهد الأنبياء والمشهود محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والقول بأن الشاهد هو الله والمشهود لا إله إلا الله.
والقول بأن الشاهد الخلق والمشهود الحق، والقول بأن الشاهد هو الله والمشهود يوم القيامة، والقول بأن الشاهد آدم وذرّيته والمشهود يوم القيامة، والقول بأن الشاهد يوم التروية والمشهود يوم عرفة، والقول بأنها يوم الاثنين ويوم الجمعة، والقول بأن الشاهد: المقربون والمشهود عليون، والقول بأن الشاهد هو الطفل الذي قال لامه في قصة الأخدود: اصبري فإنك على الحق والمشهود الواقعة، والقول بأن الشاهد الملائكة المتعاقبون لكتابة الأعمال والمشهود قرآن الفجر إلى غير ذلك من أقوالهم.
وأكثر هذه الأقوال - كما ترى - مبني على أخذ الشهادة بمعنى أداء ما حمل من الشهادة وبعضها على تفريق بين الشاهد والمشهود في معنى الشهادة وقد عرفت ضعفه، وأن الأنسب للسياق أخذها بمعنى المعاينة وإن استلزم الشهادة بمعنى الأداء يوم القيامة، وأن الشاهد يقبل الانطباق على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
كيف لا؟ وقد سماه الله تعالى شاهداً إذ قال:
{ يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً } [الأحزاب: 45]، وسماه شهيداً إذ قال: { ليكون الرسول شهيداً عليكم } [الحج: 78]، وقد عرفت معنى شهادة الأعمال من شهدائها فيما مر.
ثم إن جواب القسم محذوف يدل عليه قوله: { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات } إلى تمام آيتين، ويشعر به أيضاً قوله: { قتل أصحاب الأخدود } الخ وهو وعيد الفاتنين ووعد المؤمنين الصالحين وأن الله يوفقهم على الصبر ويؤيدهم على حفظ إيمانهم من كيد الكائدين إن أخلصوا كما فعل بالمؤمنين في قصة الأخدود.
قوله تعالى: { قتل أصحاب الأخدود } إشارة إلى قصة الأخدود لتكون توطئة وتمهيداً لما سيجيء من قوله: { إن الذين فتنوا } الخ وليس جواباً للقسم البتَّة.
والأخدود الشق العظيم في الأرض، وأصحاب الاخدود هم الجبابرة الذين خدوا أخدوداً وأضرموا فيها النار وأمروا المؤمنين بدخولها فأحرقوهم عن آخرهم نقماً منهم لإِيمانهم.
فقوله: { قتل } الخ دعاء عليهم والمراد بالقتل اللعن والطرد.
وقيل: المراد بأصحاب الأخدود المؤمنون والمؤمنات الذين احرقوا فيه، وقوله: { قتل } إخبار عن قتلهم بالإِحراق وليس من الدعاء في شيء. ويضعفه ظهور رجوع الضمائر في قوله: { إذ هم عليها } و { هم على ما يفعلون } و { ما نقموا } إلى أصحاب الأخدود، والمراد بها وخاصة بالثاني والثالث الجبابرة الناقمون دون المؤمنين المعذبين.
قوله تعالى: { النار ذات الوقود } بدل من الأخدود، والوقود ما يشعل به النار من حطب وغيره، وفي توصيف النار بذات الوقود إشارة إلى عظمة أمر هذه النار وشدة اشتعالها وأجيجها.
قوله تعالى: { إذ هم عليها قعود } أي في حال أولئك الجبابرة قاعدون في أطراف النار المشرفة عليها.
قوله تعالى: { وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود } أي حضور ينظرون ويشاهدون إحراقهم واحتراقهم.
قوله تعالى: { وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله } النقم بفتحتين الكراهة الشديدة أي ما كرهوا من أولئك المؤمنين إلا إيمانهم بالله فأحرقوهم لأجل إيمانهم.
قوله تعالى: { العزيز الحميد الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد } أوصاف جارية على اسم الجلالة تشير إلى الحجة على أن أولئك المؤمنين كانوا على الحق في إيمانهم مظلومين فيما فعل بهم لا يخفى حالهم على الله وسيجزيهم خير الجزاء، وعلى أن أولئك الجبابرة كانوا على الباطل مجترين على الله ظالمين فيما فعلوا وسيذوقون وبال أمرهم.
وذلك أنه تعالى هو الله العزيز الحميد أي الغالب غير المغلوب على الاطلاق والجميل في فعله على الاطلاق فله وحده كل الجلال والجمال فمن الواجب أن يخضع له وأن لا يتعرض لجانبه، وإذ كان له ملك السماوات والأرض فهو المليك على الإِطلاق له الأمر وله الحكم فهو رب العالمين فمن الواجب أن يتخذ إلهاً معبوداً ولا يشرك به أحد فالمؤمنون به على الحق والكافرون في ضلال.
ثم إن الله - وهو الموجد لكل شيء - على كل شيء شهيد لا يخفى عليه شيء من خلقه ولا عمل من أعمال خلقه ولا يحتجب عنه إحسان محسن ولا إساءة مسيء فسيجزي كلاً بما عمل.
وبالجملة إذ كان تعالى هو الله المتصف بهذه الصفات الكريمة كان على هؤلاء المؤمنين أن يؤمنوا به ولم يكن لأولئك الجبابرة أن يتعرضوا لحالهم ولا أن يمسوهم بسوء.
وقال بعض المفسرين في توجيه إجراء الصفات في الآية: أن القوم إن كانوا مشركين فالذي كانوا ينقمونه من المؤمنين وينكرونه عليهم لم يكن هو الإِيمان بالله تعالى بل نفي ما سواه من معبوداتهم الباطلة، وإن كانوا معطلة فالمنكر عندهم ليس إلا إثبات معبود غير معهود لهم لكن لما كان مآل الأمرين إنكار المعبود الحق الموصوف بصفات الجلال والإِكرام عبر بما عبر باجراء الصفات عليه تعالى.
وفيه غفلة عن أن المشركين وهم الوثنية ما كانوا ينسبون إلى الله تعالى إلا الصنع والإِيجاد. وأما الربوبية التي تستتبع التدبير والالوهية التي تستوجب العبادة فكانوا يقصرونها في أربابهم وآلهتهم فيعبدونها دون الله سبحانه، فليس له تعالى عندهم إلا أنه رب الأرباب وإله الآلهة لا غير.
قوله تعالى: { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق } الفتنة المحنة والتعذيب، والذين فتنوا (الخ) عام يشمل أصحاب الأخدود ومشركي قريش الذين كانوا يفتنون من آمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم من المؤمنين والمؤمنات بأنواع من العذاب ليرجعوا عن دينهم.
قال في المجمع: يسأل فيقال: كيف فصل بين عذاب جهنم وعذاب الحريق وهما واحد؟ أجيب عن ذلك بأن المراد لهم أنواع العذاب في جهنم سوى الإِحراق مثل الزّقوم والغسلين والمقامع ولهم مع ذلك الإِحراق بالنار انتهى.
قوله تعالى: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنَّات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير } وعد جميل للمؤمنين يطيب به نفوسهم كما أن ما قبله وعيد شديد للكفار الفاتنين المعذبين.
قوله تعالى: { إن بطش ربك لشديد } الآية إلى تمام سبع آيات تحقيق وتأكيد لما تقدم من الوعيد والوعد، والبطش - كما ذكره الراغب - تناول الشيء بصولة.
وفي إضافة البطش إلى الرب وإضافة الرب إلى الكاف تطييب لنفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتأييد والنصر، وإشارة إلى أن لجبابرة امته نصيباً من الوعيد المتقدم.
قوله تعالى: { إنه هو يبدئ ويعيد } المقابلة بين المبدئ والمعيد يعطي أن المراد بالإِبداء البدء، والافتتاح بالشيء، قالوا: ولم يسمع من العرب الإِبداء لكن القراءة ذلك وفي بعض القراءات الشاذة يبدأ بفتح الياء والدال.
وعلى أي حال فالآية تعليل لشدة بطشه تعالى وذلك أنه تعالى مبدئ يوجد ما يريده من شيء إيجاداً ابتدائياً من غير أن يستمد على ذلك من شيء غير نفسه، وهو تعالى يعيد كل ما كان إلى ما كان وكل حال فاتته إلى ما كانت عليه قبل الفوت فهو تعالى لا يمتنع عليه ما أراد ولا يفوته فائت زائل وإذ كان كذلك فهو القادر على أن يحمل على العبد المتعدي حده، من العذاب ما هو فوق حده ووراء طاقته ويحفظه على ما هو عليه ليذوق العذاب قال تعالى:
{ والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها } [فاطر: 36]. وهو القادر على أن يعيد ما أفسده العذاب إلى حالته الأولى ليذوق المجرم بذلك العذاب من غير انقطاع قال تعالى: { إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب } [النساء: 56]. وبهذا البيان يتضح:
أولاً: أن سياق قوله: { إنه هو } الخ يفيد القصر أي ان إبداع الوجود وإعادته لله سبحانه وحده إذ الصنع والإِيجاد ينتهي إليه تعالى وحده.
وثانياً: أن حدود الأشياء إليه تعالى ولو شاء أن لا يحد لم يحد أو بدل حداً من آخر فهو الذي حد العذاب والفتنة في الدنيا بالموت والزوال ولو لم يشأ لم يحد كما في عذاب الآخرة.
وثالثاً: أن المراد من شدة البطش - وهو الأخذ بعنف - أن لا دافع لأخذه ولا رادّ لحكمه كيفما حكم إلا أن يحول بين حكمه ومتعلقه حكم آخر منه يقيد الأول.
قوله تعالى: { وهو الغفور الودود } أي كثير المغفرة والمودة ناظر إلى وعد المؤمنين كما أن قوله: { إن بطش ربك } الخ ناظر إلى وعيد الكافرين.
قوله تعالى: { ذو العرش المجيد فعال لما يريد } العرش عرش الملك، وذو العرش كناية عن الملك أي هو ملك له أن يتصرف في مملكته كيفما تصرف ويحكم بما شاء والمجيد صفة من المجد وهو العظمة المعنوية وهي كمال الذات والصفات، وقوله: { فعال لما يريد } أي لا يصرفه عما أراده صارف لا من داخل لضجر وكسل وملل وتغير إرادة وغيرها ولا من خارج لمانع يحول بينه وبين ما أراد.
فله تعالى أن يوعد الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات بالنار ويعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالجنة لأنه ذو العرش المجيد ولن يخلف وعده لأنه فعال لما يريد.
قوله تعالى: { هل أتاك حديث الجنود فرعون وثمود } تقرير لما تقدم من شدة بطشه تعالى وكونه ملكاً مجيداً فعالاً لما يريد، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتطييب لنفسه الشريفة بالإِشارة إلى حديثهم، ومعنى الآيتين ظاهر.
قوله تعالى: { بل الذين كفروا في تكذيب } لا يبعد أن يستفاد من السياق كون المراد بالذين كفروا هم قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الآية إضراب عما تقدم من الموعظة والحجة من حيث الأثر، والمعنى لا ينبغي أن يرجى منهم الإِيمان بهذه الآيات البينات فإن الذين كفروا مصرون على تكذيبهم لا ينتفعون بموعظة أو حجة.
ومن هنا ظهر أن المراد بكون الذين كفروا في تكذيب أي بظرفية التكذيب لهم اصرارهم عليه.
قوله تعالى: { والله من ورائهم محيط } وراء الشيء الجهات الخارجة منه المحيطة به. إشارة إلى أنهم غير معجزين لله سبحانه فهو محيط بهم قادر عليهم من كل جهه، وفيه أيضاً تطييب لنفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وعن بعضهم أن في قوله: { من ورائهم } تلويحاً إلى أنهم اتخذوا الله وراءهم ظهرياً، وهو مبني على أخذ وراء بمعنى خلف.
قوله تعالى: { بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ } إضراب عن إصرارهم على تكذيب القرآن، والمعنى ليس الأمر كما يدعون بل القرآن كتاب مقروّ عظيم في معناه غزير في معارفه في لوح محفوظ عن الكذب والباطل مصون من مسّ الشياطين.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن { السماء ذات البروج } فقال: الكواكب، وسئل عن { الذي جعل في السماء بروجاً } فقال: الكواكب. قيل: { في بروج مشيدة } فقال: قصور.
وفيه أخرج عبد بن حميد والترمذي وابن أبي الدنيا في الأصول وابن جرير وابن المنذر وابن حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"اليوم الموعود يوم القيامة واليوم المشهود يوم عرفة والشاهد يوم الجمعة" . الحديث.
أقول: وروى مثله بطرق اخرى عن أبي مالك وسعيد بن المسيب وجبير بن مطعم عنه صلى الله عليه وآله وسلم، ولفظ الأخير: الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة.
وروي هذا اللفظ عن عبد الرزاق والفاريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن علي بن أبي طالب.
وفيه أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن علي قال: اليوم الموعود يوم القيامة، والشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم النحر.
وفي المجمع روى أن رجلاً دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا رجل يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: فسألته عن الشاهد والمشهود فقال: نعم الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة، فجزته إلى آخر يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألته عن ذلك فقال: أما الشاهد فيوم الجمعة وأما المشهود فيوم النحر.
فجزتهما إلى غلام كأن وجهه الدينار وهو يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: أخبرني عن شاهد ومشهود فقال: نعم أما الشاهد فمحمد واما المشهود فيوم القيامة أما سمعت الله سبحانه يقول: { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً } وقال: { ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود }.
فسألت عن الأول فقالوا: ابن عباس، وسألت عن الثاني فقالوا: ابن عمرو، وسألت عن الثالث فقالوا: الحسن بن علي.
أقول: والحديث مروي بطرق مختلفة وألفاظ متقاربة وقد تقدم في تفسير الآية أن ما ذكره عليه السلام أظهر بالنظر إلى سياق الآيات، وإن كان لفظ الشاهد والمشهود لا يأبى الانطباق على غيره أيضاً بوجه.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: { قتل أصحاب الأخدود } قال: كان سببه أن الذي هيج الحبشة على غزوة اليمن ذو نواس وهو آخر من ملك من حمير تهوَّد واجتمعت معه حمير على اليهودية وسمَّى نفسه يوسف وأقام على ذلك حيناً من الدهر.
ثم أخبر أن بنجران بقايا قوم على دين النصرانية وكانوا على دين عيسى وحكم الإِنجيل، ورأس ذلك الدين عبد الله بن بريامن فحمله أهل دينه على أن يسير إليهم ويحملهم على اليهودية ويدخلهم فيها فسار حتى قدم نجران فجمع من كان بها على دين النصرانية ثم عرض عليهم دين اليهودية والدخول فيها فأبوا عليه فجادلهم وعرض عليهم وحرص الحرص كله فأبوا عليه وامتنعوا من اليهودية والدخول فيها واختاروا القتل.
فاتخذ لهم أخدوداً وجمع فيه الحطب وأشعل فيه النار فمنهم من أُحرق بالنار ومنهم من قتل بالسيف ومثل بهم كل مثلة فبلغ عدد من قتل واحرق بالنار عشرين ألفاً وأفلت منهم رجل يدعى دوش ذو ثعلبان على فرس له ركضة، واتبعوه حتى أعجزهم في الرمل، ورجع ذو نواس إلى صنيعه في جنوده فقال الله: { قتل أصحاب الأخدود } إلى قوله { العزيز الحميد }.
وفي المجمع وروى سعيد بن جبير قال: لما انهزم أهل إسفندهان قال عمر بن الخطاب: ما هم يهود ولا نصارى ولا لهم كتاب وكانوا مجوساً فقال علي بن أبي طالب: بلى قد كان لهم كتاب رفع.
وذلك أن ملكاً لهم سكر فوقع على ابنته - أو قال: على أخته - فلما أفاق قال لها: كيف المخرج مما وقعت فيه؟ قالت: تجمع أهل مملكتك وتخبرهم أنك ترى نكاح البنات وتأمرهم أن يحلّوه فجمعهم فأخبرهم فأبوا أن يتابعوه فخدّ لهم اخدوداً في الأرض، وأوقد فيه النيران وعرضهم عليها فمن أبى قبول ذلك قذفه في النار، ومن أجاب خلي سبيله.
أقول: وروي هذا المعنى في الدر المنثور عن عبد بن حميد عنه عليه السلام.
وعن تفسير العيَّاشي بإسناده عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: أرسل علي عليه السلام إلى أسقف نجران يسأله عن أصحاب الأخدود فأخبراه بشيء فقال عليه السلام: ليس كما ذكرت ولكن سأخبرك عنهم:
إن الله بعث رجلاً حبشياً نبياً وهم حبشية فكذبوه فقاتلهم فقتلوا أصحابه فاسروه وأسروا أصحابه ثم بنوا له حيراً ثم ملأوه ناراً ثم جمعوا الناس فقالوا: من كان على ديننا وأمرنا فليعتزل، ومن كان على دين هؤلاء فليرم نفسه في النار فجعل أصحابه يتهافتون في النار فجاءت امرأة معها صبي لها ابن شهر فلما هجمت هابت ورقَّت على ابنها فنادى الصبي: لا تهابي وارميني ونفسك في النار فإن هذا والله في الله قليل، فرمت بنفسها في النار وصبيها، وكان ممن تكلم في المهد.
أقول: وروي هذا المعنى في الدر المنثور عن ابن مردويه عن عبد الله بن نجى عنه عليه السلام، وروي أيضاً عن ابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن نجي عنه عليه السلام قال: كان نبيُّ أصحاب الأخدود حبشياً.
وروي أيضاً عن ابن أبي حاتم وابن المنذر من طريق الحسن عنه عليه السلام في قوله تعالى: { أصحاب الأخدود } قال: هم الحبشة.
ولا يبعد أن يستفاد أن حديث أصحاب الأخدود وقائع متعددة وقعت بالحبشة واليمن والعجم والإِشارة في الآية إلى جميعها وهناك روايات تقص القصة مع السكوت عن محل وقوعها.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: { بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ } قال: اللوح المحفوظ له طرفان طرف على يمين العرش على جبين إسرافيل فإذا تكلم الرب جل ذكره بالوحي ضرب اللوح جبين إسرافيل فنظر في اللوح فيوحى بما في اللوح إلى جبرئيل.
وفي الدر المنثور أخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
"خلق الله لوحاً من درة بيضاء دفتاه من زبرجدة خضراء كتابه من نور يلحظ إليه في كل يوم ثلاث مائة وستين لحظة يحيي ويميت ويخلق ويرزق ويعز ويذل ويفعل ما يشاء"
]. أقول: والروايات في صفة اللوح كثيرة مختلفة وهي على نوع من التمثيل.