التفاسير

< >
عرض

وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ
١
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلطَّارِقُ
٢
ٱلنَّجْمُ ٱلثَّاقِبُ
٣
إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ
٤
فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ
٥
خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ
٦
يَخْرُجُ مِن بَيْنِ ٱلصُّلْبِ وَٱلتَّرَآئِبِ
٧
إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ
٨
يَوْمَ تُبْلَىٰ ٱلسَّرَآئِرُ
٩
فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ
١٠
وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلرَّجْعِ
١١
وَٱلأَرْضِ ذَاتِ ٱلصَّدْعِ
١٢
إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ
١٣
وَمَا هوَ بِٱلْهَزْلِ
١٤
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً
١٥
وَأَكِيدُ كَيْداً
١٦
فَمَهِّلِ ٱلْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً
١٧
-الطارق

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
في السورة إنذار بالمعاد وتستدل عليه بإطلاق القدرة وتؤكد القول في ذلك، وفيها إشارة إلى حقيقة اليوم، وتختتم بوعيد الكفار.
والسورة ذات سياق مكي.
قوله تعالى: { والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب } الطرق في الأصل - على ما قيل - هو الضرب بشدة يسمع له صوت ومنه المطرقة والطريق لأن السابلة تطرقها بأقدامها ثم شاع استعماله في سلوك الطريق ثم اختص بالإِتيان ليلاً لأن الآتي بالليل في الغالب يجد الأبواب مغلقة فيطرقها ويدقها ثم شاع الطارق في كل ما يظهر ليلاً، والمراد بالطارق في الآية النجم الذي يطلع بالليل.
والثقب في الأصل بمعنى الخرق ثم صار بمعنى النيّر المضيء لأنه يثقب الظلام بنوره ويأتي بمعنى العلو والارتفاع ومنه ثقب الطائر أي ارتفع وعلا كأنه يثقب الجو بطيرانه.
فقوله: { والسماء والطارق } إقسام بالسماء وبالنجم الطالع ليلاً، وقوله: { وما أدراك ما الطارق } تفخيم لشأن المقسم به وهو الطارق، وقوله: { النجم الثاقب } بيان للطارق والجملة في معنى جواب استفهام مقدَّر كأنه لما قيل: وما أدراك ما الطارق؟ سئل فقيل: فما هو الطارق؟ فأجيب، وقيل: النجم الثاقب.
قوله تعالى: { إن كل نفس لما عليها حافظ } جواب للقسم ولما بمعنى إلا والمعنى ما من نفس إلا عليها حافظ، والمراد من قيام الحافظ على حفظها كتابة أعمالها الحسنة والسيئة على ما صدرت منها ليحاسب عليها يوم القيامة ويجزى بها فالحافظ هو الملك والمحفوظ العمل كما قال تعالى:
{ وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون } [الإنفطار: 10-12]. ولا يبعد أن يكون المراد من حفظ النفس حفظ ذاتها وأعمالها، والمراد بالحافظ جنسه فتفيد أن النفوس محفوظة لا تبطل بالموت ولا تفسد حتى إذا أحيا الله الأبدان أرجع النفوس إليها فكان الإِنسان هو الإِنسان الدنيوي بعينه وشخصه ثم يجزيه بما تقتضيه أعماله المحفوظة عليه من خير أو شر.
ويؤيد ذلك كثير من الآيات الدالة على حفظ الأشياء كقوله تعالى:
{ قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكّل بكم } [السجدة: 11] وقوله: { الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت } [الزمر: 42]. ولا ينافي هذا الوجه ظاهر آية الانفطار السابقة من أن حفظ الملائكة هو الكتابة فإن حفظ نفس الإِنسان أيضاً من الكتابة على ما يستفاد من قوله: { إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون } [الجاثية: 29] وقد تقدمت الإِشارة إليه.
ويندفع بهذا الوجه الاعتراض على ما استدل به على المعاد من إطلاق القدرة كما سيجيء، ومحصله أن إطلاق القدرة إنما ينفع فيما كان ممكناً لكن إعادة الإِنسان بعينه محال فإن الإِنسان المخلوق ثانياً مثل الانسان الدنيوي المخلوق أولاً لا شخصه الذي خلق أولاً ومثل الشيء غير الشيء لا عينه.
وجه الاندفاع أن شخصية الشخص من الإِنسان بنفسه لا ببدنه والنفس محفوظة فإذا خلق البدن وتعلقت به النفس كان هو الإِنسان الدنيوي بشخصه وإن كان البدن بالقياس إلى البدن مع الغض عن النفس، مثلاً لا عيناً.
قوله تعالى: { فلينظر الإِنسان مم خلق } أي ما هو مبدأ خلقه؟ وما هو الذي صيره الله إنساناً؟
والجملة متفرعة على الآية السابقة وما تدل عليه بفحواها بحسب السياق ومحصل المعنى وإذ كانت كل نفس محفوظة بذاتها وعملها من غير أن تفنى أو ينسى عملها فليذعن الإِنسان أن سيرجع إلى ربه ويجزي بما عمل ولا يستبعد ذلك ولينظر لتحصيل هذا الإِذعان إلى مبدأ خلقه ويتذكر أنه خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب.
فالذي بدأ خلقه من ماء هذه صفته يقدر على رجعه وإحيائه بعد الموت.
وفي الإِتيان بقوله: { خلق } مبنياً للمفعول وترك ذكر الفاعل وهو الله سبحانه إيماء إلى ظهور أمره، ونظيره قوله: { خلق من ماء } الخ.
قوله تعالى: { خلق من ماء دافق } الدفق تصبب الماء وسيلانه بدفع وسرعة والماء الدافق هو المني والجملة جواب عن استفهام مقدر يهدي إليه قوله: { مم خلق }.
قوله تعالى: { يخرج من بين الصلب والترائب } الصلب الظهر، والترائب جمع تريبة وهي عظم الصدر.
وقد اختلفت كلماتهم في الآية وما قبلها اختلافاً عجيباً، والظاهر أن المراد بقوله: { بين الصلب والترائب } البعض المحصور من البدن بين جداري عظام الظهر وعظام الصدر.
قوله تعالى: { إنه على رجعه لقادر } الرجع الإِعادة، وضمير { إنه } له تعالى واكتفى بالإِضمار مع أن المقام مقام الإِظهار لظهوره نظير قوله: { خلق } مبنياً للمفعول.
والمعنى أن الذي خلق الإِنسان من ماء صفته تلك الصفة، على إعادته وإحيائه بعد الموت - وإعادته مثل بدئه - لقادر لأن القدرة على الشيء قدرة على مثله إذ حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد.
قوله تعالى: { يوم تبلى السرائر } ظرف للرجع، والسريرة ما أسره الإِنسان وأخفاه في نفسه، والبلاء الاختبار والتعرف والتصفح.
فالمعنى يوم يختبر ما أخفاه الإِنسان وأسره من العقائد وآثار الأعمال خيرها وشرها فيميز خيرها من شرها ويجزى الإِنسان به فالآية في معنى قوله تعالى:
{ وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } [البقرة: 284]. قوله تعالى: { فما له من قوة ولا ناصر } أي لا قدرة له في نفسه يمتنع بها من عذاب الله ولا ناصر له يدفع عنه ذلك أي لا قدرة هناك يدفع عنه الشر لا من نفسه ولا من غيره.
قوله تعالى: { والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع } إقسام بعد إقسام لتأكيد أمر القيامة والرجوع إلى الله.
والمراد بكون السماء ذات رجع ما يظهر للحس من سيرها بطلوع الكواكب بعد غروبها وغروبها بعد طلوعها، وقيل: رجعها إمطارها، والمراد بكون الأرض ذات صدع تصدعها وانشقاقها بالنبات، ومناسبة القسمين لما أقسم عليه من الرجوع بعد الموت والخروج من القبور ظاهرة.
قوله تعالى: { إنه لقول فصل وما هو بالهزل } الفصل إبانة أحد الشيئين من الآخر حتى يكون بينهما فرجة، والتعبير بالفصل - والمراد الفاصل - للمبالغة كزيد عدل والهزل خلاف الجد.
والآيتان جواب القسم، وضمير { إنه } للقرآن والمعنى أُقسم بكذا وكذا إن القرآن لقول فاصل بين الحق والباطل وليس هو كلاماً لا جد فيه فما يحقه حق لا ريب فيه وما يبطله باطل لا ريب فيه فما أخبركم به من البعث والرجوع حق لا ريب فيه.
وقيل: الضمير لما تقدم من خبر الرجوع والمعاد، والوجه السابق أوجه.
قوله تعالى: { إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً } أي الكفار يحتالون بكفرهم وإنكارهم المعاد احتيالاً يريدون به إطفاء نور الله وإبطال دعوتك، وأحتال عليهم بعين أعمالهم بالاستدراج والإِملاء والإِضلال بالطبع على قلوبهم وجعل الغشاوة على سمعهم وأبصارهم احتيالاً أسوقهم به إلى عذاب يوم القيامة.
قوله تعالى: { فمهِّل الكافرين أمهلهم رويداً } التمهيل والإِمهال بمعنى واحد غير أن باب التفعيل يفيد التدريج والإِفعال يفيد الدفعة، والرويد القليل.
والمعنى: إذا كان منهم كيد ومنِّي كيد عليهم بعين ما يكيدون به والله غالب على أمره، فانتظر بهم ولا تعاجلهم انتظر بهم قليلاً فسيأتيهم ما أوعدهم به فكل ما هو آت قريب.
وفي التعبير أولاً بمهِّل الظاهر في التدريج وثانياً مع التقييد برويداً بأمهل الظاهر في الدفعة لطف ظاهر.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في قوله تعالى: { إن كل نفس لما عليها حافظ } قال: الملائكة.
وفيه في قوله تعالى: { خلق من ماء دافق } قال: النطفة التي تخرج بقوة.
وفيه في قوله تعالى: { يخرج من بين الصلب والترائب } قال: الصلب الرجل والترائب المرأة، وهو صدرها.
أقول: الرواية على إضمارها وإرسالها لا تخلو من شيء.
وفيه في قوله تعالى: { يوم تبلى السرائر } قال: يكشف عنها.
وفي المجمع روي مرفوعاً عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"ضمن الله خلقه أربع خصال: الصلاة، والزكاة، وصوم شهر رمضان، والغسل من الجنابة، وهي السرائر التي قال الله تعالى: يوم تبلى السرائر"
]. أقول: ولعله من قبيل ذكر بعض المصاديق كما تؤيده الرواية التالية.
وفيه عن معاذ بن جبل قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما هذه السرائر التي ابتلى الله بها العباد في الآخرة؟ فقال:
"سرائركم هي أعمالكم من الصلاة والصيام والزكاة والوضوء والغسل من الجنابة وكل مفروض لأن الأعمال كلها سرائر خفية فإن شاء الرجل قال: صليت ولم يصل وإن شاء قال: توضيت ولم يتوضَّ فذلك قوله: { يوم تبلى السرائر }"
]. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: { فما له من قوة ولا ناصر } قال: ما له من قوة يهوي بها على خالقه، ولا ناصر من الله ينصره إن أراد به سوء.
وفيه في قوله تعالى: { والسماء ذات الرجع } قال: ذات المطر { والأرض ذات الصدع } أي ذات النبات.
وفي المجمع { إنه لقول فصل } يعني أن القرآن يفصل بين الحق والباطل بالبيان عن كل واحد منهما، وروي ذلك عن الصادق عليه السلام.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة والدارمي والترمذي ومحمد بن نصر وابن الأنباري في المصاحف
"عن الحارث الأعور قال: دخلت المسجد فإذا الناس قد وقعوا في الأحاديث فأتيت علياً فأخبرته فقال: أوقد فعلوها؟
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:إنها ستكون فتنة. قلت: فما المخرج منها يا رسول الله قال: كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر من بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، من ابتغى الهوى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا يشبع منه العلماء، ولا تلتبس منه الألسن، ولا يخلق من الرد، ولا تنقضي عجائبه هو الذي لم ينته الجن إذ سمعته حتى قالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد. من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعي إليه هدي إلى صراط مستقيم."
أقول: وروي ما يقرب منه عن معاذ بن جبل عنه صلى الله عليه وآله وسلم، ورواه مختصراً عن ابن مردويه عن علي عليه السلام.