التفاسير

< >
عرض

سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ
١
ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ
٢
وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ
٣
وَٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلْمَرْعَىٰ
٤
فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَىٰ
٥
سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ
٦
إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ
٧
وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ
٨
فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ
٩
سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ
١٠
وَيَتَجَنَّبُهَا ٱلأَشْقَى
١١
ٱلَّذِى يَصْلَى ٱلنَّارَ ٱلْكُبْرَىٰ
١٢
ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا
١٣
قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ
١٤
وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ
١٥
بَلْ تُؤْثِرُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا
١٦
وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ
١٧
إِنَّ هَـٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ
١٨
صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ
١٩
-الأعلى

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
أمرٌ بتوحيده تعالى على ما يليق بساحته المقدسة وتنزيه ذاته المتعالية من أن يذكر مع اسمه اسم غيره أو يسند إلى غيره ما يجب أن يسند إليه كالخلق والتدبير والرزق ووعد له صلى الله عليه وآله وسلم بتأييده بالعلم والحفظ وتمكينه من الطريقة التي هي أسهل وأيسر للتبليغ وأنسب للدعوة.
وسياق الآيات في صدر السورة سياق مكي وأما ذيلها أعني قوله: { قد أفلح من تزكى } الخ فقد ورد من طرق أئمة أهل البيت عليهم السلام وكذا من طريق أهل السنة أن المراد به زكاة الفطرة وصلاة العيد ومن المعلوم أن الصوم وما يتبعه من زكاة الفطرة وصلاة العيد إنما شرعت بالمدينة بعد الهجرة فتكون آيات الذيل نازلة بالمدينة.
فالسورة صدرها مكّي وذيلها مدني، ولا ينافي ذلك ما جاء في الآثار أن السورة مكية فإنه لا يأبى الحمل على صدر السورة.
قوله تعالى: { سبِّح اسم ربك الأعلى } أمر بتنزيه اسمه تعالى وتقديسه، وإذ علّق التنزيه على الإِسم - وظاهر اللفظ الدال على المسمى - والإِسم إنما يقع في القول فتنزيهه أن لا يذكر معه ما هو تعالى منزه عنه كذكر الآلهة والشركاء والشفعاء ونسبة الربوبية إليهم وكذكر بعض ما يختص به تعالى كالخلق والإِيجاد والرزق والإِحياء والإِماتة ونحوها ونسبته إلى غيره تعالى أو كذكر بعض ما لا يليق بساحة قدسه تعالى من الأفعال كالعجز والجهل والظلم والغفلة وما يشبهها من صفات النقص والشين ونسبته إليه تعالى.
وبالجملة تنزيه اسمه تعالى أن يجرد القول عن ذكر ما لا يناسب ذكره ذكر اسمه تعالى وهو تنزيهه تعالى في مرحلة القول الموافق لتنزيهه في مرحلة الفعل.
وهو يلازم التوحيد الكامل بنفي الشرك الجلي كما في قوله:
{ وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون } [الزمر: 45]، وقوله: { وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولّوا على أدبارهم نفوراً } [الإسراء: 46]. وفي إضافة الاسم إلى الرب والرب إلى ضمير الخطاب تأييد لما قدمناه فإن المعنى سبح اسم ربك الذي اتخذته رباً وأنت تدعو إلى أنه الرب الإِله فلا يقعن في كلامك مع ذكر اسمه بالربوبية ذكر من غيره بحيث ينافي تسميه بالربوبية على ما عرّف نفسه لك.
وقوله: { الأعلى } وهو الذي يعلو كل عال ويقهر كل شيء صفة { ربك } دون الاسم ويعلل بمعناه الحكم أي سبح اسمه لأنه أعلى.
وقيل: معنى { سبح اسم ربك الأعلى } قل: سبحان ربي الأعلى كما عن ابن عباس ونسب إليه أيضاً أن المعنى صل.
وقيل: المراد بالاسم المسمّى والمعنى نزهه تعالى عن كل ما لا يليق بساحة قدسه من الصفات والأفعال.
وقيل: إنه ذكر الاسم والمراد به تعظيم المسمى واستشهد عليه بقول لبيد، (إلى الحول ثم اسم السلام عليكما) فالمعنى سبح ربك الأعلى.
وقيل: المراد تنزيه أسمائه تعالى عما لا يليق بأن لا يؤوّل مما ورد منها اسم من غير مقتض، ولا يبقى على ظاهره إذا كان ما وضع له لا يصحّ له تعالى، ولا يطلقه على غيره تعالى إذا كان مختصاً كاسم الجلالة ولا يتلفظ به في محل لا يناسبه كبيت الخلاء، وعلى هذا القياس.
وما قدمناه من المعنى أوسع وأشمل وأنسب لسياق قوله الآتي { سنقرئك فلا تنسى } { ونيسرك لليسرى فذكّر } فإن السياق سياق البعث إلى التذكرة والتبليغ فبدئ أولاً بإصلاح كلامه صلى الله عليه وآله وسلم وتجريده عن كل ما يشعر بجليّ الشرك وخفيَّة بأمره بتنزيه اسم ربه، ووعد ثانياً بإقرائه بحيث لا ينسى شيئاً مما أوحي إليه وتسهيل طريقة التبليغ عليه ثم أمر بالتذكير والتبليغ فافهم.
قوله تعالى: { الذي خلق فسوَّى } خلق الشيء جمع أجزائه، وتسويته جعلها متساوية بحيث يوضع كل في موضعه الذي يليق به ويعطى حقه كوضع كل عضو من أعضاء الإِنسان فيما يناسبه من الموضع.
والخلق والتسوية وإن كانا مطلقين لكنهما إنما يشملان ما فيه تركيب أو شائبة تركيب من المخلوقات.
والآية إلى تمام أربع آيات تصف التدبير الإِلهي وهي برهان على ربوبيته تعالى المطلقة.
قوله تعالى: { والذي قدّر فهدى } أي جعل الأشياء التي خلقها على مقادير مخصوصة وحدود معينة في ذواتها وصفاتها وأفعالها لا تتعداها وجهزّها بما يناسب ما قدر لها فهداها إلى ما قدر فكل يسلك نحو ما قدر له بهداية ربانية تكوينية كالطفل يهتدي إلى ثدي أمه والفرخ إلى زق امه وأبيه، والذكر إلى الانثى وذي النفع إلى نفعه وعلى هذا القياس.
قال تعالى:
{ وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم } [الحجر: 21] وقال: { ثم السبيل يسره } [عبس: 20]، وقال: { ولكل وجهة هو موليها } [البقرة: 148]. قوله تعالى: { والذي أخرج المرعى } المرعى ما ترعاه الدواب فالله تعالى هو الذي أخرجها أي أنبتها.
قوله تعالى: { فجعله غثاء أحوى } الغثاء ما يقذفه السيل على جانب الوادي من الحشيش والنبات، والمراد هنا - كما قيل - اليابس من النبات، والأحوى الأسود.
وإخراج المرعى لتغذي الحيوان ثم جعله غثاء أحوى من مصاديق التدبير الربوبي ودلائله كما أن الخلق والتسوية والتقدير والهداية كذلك.
قوله تعالى: { سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى } قال في المفردات: والقراءة ضم الحروف والكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل، وليس يقال ذلك لكل جمع لا يقال: قرأت القوم إذا جمعتهم، ويدل على ذلك أنه لا يقال للحرف الواحد إذا تفوه به قراءة، انتهى، وقال في المجمع: والإِقراء أخذ القراءة على القارئ بالاستماع لتقويم الزلل، والقاري التالي. انتهى.
وليس إقراؤه تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم القرآن مثل إقراء بعضنا بعضاً باستماع المقري لما يقرأه القاري واصلاح ما لا يحسنه أو يغلط فيه فلم يعهد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقرأ شيئاً من القرآن فلا يحسنه أو يغلط فيه عن نسيان للوحي ثم يقرأ فيصلح بل المراد تمكينه من قراءة القرآن كما أُنزل من غير أن يغيره بزيادة أو نقص أو تحريف بسبب النسيان.
فقوله: { سنقرئك فلا تنسى } وعدٌ منه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يمكنه من العلم بالقرآن وحفظه على ما أُنزل بحيث يرتفع عنه النسيان فيقرأه كما أنزل وهو الملاك في تبليغ الوحي كما أوحي إليه.
وقوله: { إلا ما شاء الله } استثناء مفيد لبقاء القدرة الإِلهية على إطلاقها وأن هذه العطية وهي الإِقراء بحيث لا تنسى لا ينقطع عنه سبحانه بالإِعطاء بحيث لا يقدر بعد على إنسائك بل هو باق على إطلاق قدرته له أن يشاء انساءك متى شاء وإن كان لا يشاء ذلك فهو نظير الاستثناء الذي في قوله:
{ وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض الا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ } [هود: 108] وقد تقدم توضيحه.
وليس المراد بالاستثناء إخراج بعض أفراد النسيان من عموم النفي والمعنى سنقرئك فلا تنسى شيئاً الا ما شاء الله أن تنساه وذلك أن كل إنسان على هذه الحال يحفظ أشياء وينسى أشياء فلا معنى لاختصاصه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بلحن الامتنان مع كونه مشتركاً بينه وبين غيره فالوجه ما قدمناه.
والآية بسياقها لا تخلو من تأييد لما قيل: إنه كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا نزل عليه جبريل بالوحي يقرؤه مخافة أن ينساه فكان لا يفرغ جبريل من آخر الوحي حتى يتكلم هو بأوله فلما نزلت هذه الآية لم ينس بعده شيئاً.
ويقرب من الاعتبار أن تكون هذه الآية أعني قوله: { سنقرئك فلا تنسى } نازلة أولاً ثم قوله:
{ لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه } [القيامة: 16-19] ثم قوله: { ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه وقل رب زدني علماً } [طه: 114]. وقوله: { إنه يعلم الجهر وما يخفى } الجهر كمال ظهور الشيء لحاسة البصر كقوله. { فقالوا أرنا الله جهرة } [النساء: 153]، أو لحاسة السمع كقوله: { إنه يعلم الجهر من القول } [الأنبياء: 110] والمراد بالجهر الظاهر للإِدراك بقرينة مقابلته لقوله: { وما يخفى } من غير تقييده بسمع أو بصر.
والجملة في مقام التعليل لقوله. { سنقرئك فلا تنسى } والمعنى سنصلح لك بالك في تلقِّي الوحي وحفظه لأنا نعلم ظاهر الأشياء وباطنها فنعلم ظاهر حالك وباطنها وما أنت عليه من الاهتمام بأمر الوحي والحرص على طاعته فيما أمر به.
وفي قوله: { إلا ما شاء الله إنه يعلم } الخ التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة والنكتة فيه الإِشارة إلى حجة الاستثناء فإفاضة العلم والحفظ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما لا يسلب القدرة على خلافه ولا يحدّها منه تعالى لأنه الله المستجمع لجميع صفات الكمال ومنها القدرة المطلقة ثم جرى الالتفات في قوله: { إنه يعلم } الخ لمثل النكتة.
قوله تعالى: { ونيسرك لليسرى } اليسرى - مؤنث أيسر - وهو وصف قائم مقام موصوفه المحذوف أي الطريقة اليسرى والتيسير التسهيل أي ونجعلك بحيث تتخذ دائماً أسهل الطرق للدعوة والتبليغ قولاً وفعلاً فتهدي قوماً وتتم الحجة على آخرين وتصبر على أذاهم.
وكان مقتضى الظاهر أن يقال: ونيسر لك اليسرى كما قال:
{ ويسر لي أمري } [طه: 26] وإنما عدل عن ذلك إلى قوله: { ونيسرك لليسرى } لأن الكلام في تجهيزه تعالى نفس النبي الشريفة وجعله إياها صالحة لتأدية الرسالة ونشر الدعوة. على ما في نيسر اليسرى من إيهام تحصيل الحاصل.
فالمراد جعله صلى الله عليه وآله وسلم صافي الفطرة حقيقاً على اختيار الطريقة اليسرى التي هي طريقة الفطرة فالآية في معنى قوله حكاية عن موسى:
{ حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق } [الأعراف: 105]. قوله تعالى: { فذكر إن نفعت الذكرى } تفريع على ما تقدم من أمره صلى الله عليه وآله وسلم بتنزيه اسم ربه ووعده إقراء الوحي بحيث لا ينسى وتيسيره لليسرى وهي الشرائط الضرورية التي يتوقف عليها نجاح الدعوة الدينية.
والمعنى إذ تم لك الأمر بامتثال ما أمرناك به وإقرائك فلا تنسى وتيسيرك لليسرى فذكر إن نفعت الذكرى.
وقد اشترط في الأمر بالتذكرة أن تكون نافعة وهو شرط على حقيقته فإنها إذا لم تنفع كانت لغواً وهو تعالى يجل عن أن يأمر باللغو فالتذكرة لمن يخشى لأول مرة تفيد ميلاً من نفسه إلى الحق وهو نفعها وكذا التذكرة بعد التذكرة كما قال: { سيذكر من يخشى } والتذكرة للأشقى الذي لا خشية في قلبه لأول مرة تفيد تمام الحجة عليه وهو نفعها ويلازمها تجنبه وتوليه عن الحق كما قال: { ويتجنبها الأشقى } والتذكرة بعد التذكرة له لا تنفع شيئاً ولذا أمر بالإِعراض عن ذلك قال تعالى:
{ فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا } [النجم: 29]. وقيل: الشرط شرط صوري غير حقيقي وإنما هو اخبار عن أن الذكرى نافعة لا محالة في زيادة الطاعة والانتهاء عن المعصية كما يقال: سله إن نفع السؤال ولذا قال بعضهم (إنّ) (إن) في الآية بمعنى قد, وقال آخرون: إنها بمعنى إذ.
وفيه أن كون الذكرى نافعة مفيدة دائماً حتى فيمن يعاند الحق - وقد تمت عليه الحجة - ممنوع كيف؟ وقد قيل فيهم:
{ سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة } [البقرة: 6-7]. وقيل: إن في الكلام إيجازاً بالحذف، والتقدير فذكر إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع وذلك لأنه صلى الله عليه وآله وسلم بعث للتذكرة والإِعذار فعليه أن يذكر نفع أو لم ينفع فالآية من قبيل قوله: { وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر } [النحل: 81] أي والبرد.
وفيه أن وجوب التذكرة عليه صلى الله عليه وآله وسلم حتى فيما لا يترتب عليها أثراً أصلاً ممنوع.
وقيل: إن الشرط مسوق للإِشارة إلى استبعاد النفع في تذكرة هؤلاء المذكورين نعياً عليهم كأنه قيل: افعل ما أُمرت به لتوجر وإن لم ينتفعوا به.
وفيه أنه يرده قوله تعالى بعده بلا فصل: { سيذكر من يخشى }.
قوله تعالى: { سيذكر من يخشى } أي سيتذكر ويتعظ بالقرآن من في قلبه شيء من خشية الله وخوف عقابه.
قوله تعالى: { ويتجنبها الأشقى } الضمير للذكرى والمراد بالأشقى بقرينة المقابلة من ليس في قلبه شيء من خشية الله تعالى، وتجنب الشيء التباعد عنه، والمعنى وسيتباعد عن الذكرى من لا يخشى الله.
قوله تعالى: { الذي يصلى النار الكبرى } الظاهر أن المراد بالنار الكبرى نار جهنم وهي نار كبرى بالقياس إلى نار الدنيا، وقيل: المراد بها أسفل دركات جهنم وهي أشدها عذاباً.
قوله تعالى: { ثم لا يموت فيها ولا يحيى } ثم للتراخي بحسب رتبة الكلام، والمراد من نفي الموت والحياة عنه معاً نفي النجاة نفياً مؤبداً فإن النجاة بمعنى انقطاع العذاب بأحد أمرين إما بالموت حتى ينقطع عنه العذاب بانقطاع وجوده وأما بتبدل صفة الحياة من الشقاء إلى السعادة ومن العذاب إلى الراحة فالمراد بالحياة في الآية الحياة الطيبة على حد قولهم في الحرض: لا حي فيرجى ولا ميت فينسى.
قوله تعالى: { قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى } التزكي هو التطهر والمراد به التطهر من ألواث التعلقات الدنيوية الصارفة عن الآخرة بدليل قوله بعد { بل تؤثرون الحياة الدنيا } الخ، والرجوع إلى الله بالتوجه إليه تطهر من الإِخلاد إلى الأرض، والإِنفاق في سبيل الله تطهر من لوث التعلق المالي حتى أن وضوء الصلاة تمثيل للتطهر عما كسبته الوجوه والأيدي والأقدام.
وقوله: { وذكر اسم ربه فصلى } الظاهر أن المراد بالذكر الذكر اللفظي، وبالصلاة التوجه الخاص المشروع في الإِسلام.
والآيتان بحسب ظاهر مدلولهما على العموم لكن ورد في المأثور عن أئمة أهل البيت عليهم السلام أنهما نزلتا في زكاة الفطر وصلاة العيد وكذا من طرق أهل السنة.
قوله تعالى: { بل تؤثرون الحياة الدنيا } إضراب بالخطاب لعامة الناس على ما يدعو إليه طبعهم البشري من التعلق التام بالدنيا والاشتغال بتعميرها، والإِيثار الاختيار، وقيل: الخطاب للكفار، والكلام على أي حال مسوق للعتاب والالتفات لتأكيده.
قوله تعالى: { والآخرة خير وأبقى } عد الآخرة أبقى بالنسبة إلى الدنيا مع أنها باقية أبدية في نفسها لأن المقام مقام الترجيح بين الدنيا والآخرة ويكفي في الترجيح مجرد كون الآخرة خيراً وأبقى بالنسبة إلى الدنيا وإن قطع النظر عن كونها باقية أبدية.
قوله تعالى: { إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى } الإِشارة بهذا إلى ما بين في قوله: { قد أفلح من تزكى } إلى تمام أربع آيات، وقيل: هذا إشارة إلى مضمون قوله: { والآخرة خير وأبقى }.
قيل: وفي إبهام الصحف ووصفها بالتقدم أولاً ثم بيانها وتفسيرها بصحف إبراهيم وموسى ثانياً ما لا يخفى من تفخيم شأنها وتعظيم أمرها.
(بحث روائي)
في تفسير العياشي عن عقبة بن عامر الجهني قال: لما نزلت: { فسبح باسم ربك العظيم } قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"اجعلوها في ركوعكم" ، ولما نزل { سبح اسم ربك الأعلى } قال: "اجعلوها في سجودكم"
]. أقول: ورواه أيضاً في الدر المنثور عن أحمد وأبي داود وابن ماجة وابن المنذر وابن مردويه عن عقبة عنه صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي تفسير القمي { سبح اسم ربك الأعلى } قال: قل: سبحان ربي الأعلى { الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى } قال: قدر الأشياء بالتقدير الأول ثم هدى إليها من يشاء.
وفيه في قوله تعالى: { والذي أخرج المرعى } قال: أي النبات. وفي قوله: { غثاء أحوى } قال: يصير هشيماً بعد بلوغه ويسود.
وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستذكر القرآن مخافة أن ينساه فقيل له: كفيناك ذلك ونزلت { سنقرئك فلا تنسى }.
وفي الفقيه وسئل الصادق عليه السلام عن قول الله عز وحل: { قد أفلح من تزكى } قال قال: من أخرج الفطرة قيل له: و { ذكر اسم ربه فصلى } قال: خرج إلى الجبانة فصلَّى.
أقول: وروي هذا المعنى أيضاً عن حماد عن جرير عن أبي بصير وزرارة عنه عليه السلام ورواه القمي في تفسيره مرسلاً مضمراً.
وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: { قد أفلح من تزكَّى وذكر اسم ربه فصلَّى } ثم يقسِّم الفطرة قبل أن يغدو إلى المصلّى يوم الفطر.
أقول: وروي أيضاً نزول الآيتين في زكاة الفطرة وصلاة العيد بطريقين عن أبي سعيد موقوفاً، وكذا بطريقين عن ابن عمر وبطريق عن نائلة بن الأصقع وبطريقين عن أبي العالية وبطريق عن عطاء وبطريق عن محمد بن سيرين وبطريق عن إبراهيم النخعي وكذا عن عمرو بن عوف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الخصال عن عتبة بن عمرو الليثي عن أبي ذر في حديث قلت: يا رسول الله فما في الدنيا مما أنزل الله عليك شيء مما كان في صحف إبراهيم وموسى؟ قال: يا أبا ذر اقرأ { قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى }.
أقول: يؤيد الحديث كون الإِشارة بهذا إلى مجموع الآيات الأربع كما تقدم.
وفي البصائر بإسناده عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: عندنا الصحف التي قال الله: { صحف إبراهيم وموسى } قلت: الصحف هي الألواح؟ قال: نعم.
أقول: ورواه أيضاً بطريق آخر عن أبي بصير عنه عليه السلام والظاهر أن المراد بكون الصحف هي الألواح كونها هي التوراة المعبّر عنها في مواضع من القرآن بالألواح كقوله تعالى:
{ وكتبنا له في الألواح من كل شيء } [الأعراف: 145]، وقوله: { وألقى الألواح } [الأعراف: 150] وقوله: { أخذ الألواح } [الأعراف: 154]. وفي المجمع روي "عن أبي ذر أنه قال: قلت: يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألفاً قلت: يا رسول الله كم المرسلون منهم؟ قال: ثلاث مائة وثلاثة عشر وبقيتهم أنبياء. قلت: كان آدم نبياً؟ قال: نعم كلمه الله وخلقه بيده.
يا أبا ذر أربعة من الأنبياء عرب: هود وصالح وشعيب ونبيك.
قلت: يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب؟ قال: مائة وأربعة كتب أنزل منها على آدم عشرة صحف، وعلى شيث خمسين صحيفة، وعلى اخنوخ وهو إدريس ثلاثين صحيفة وهو أول من خط بالقلم وعلى إبراهيم عشر صحائف والتوراة والإِنجيل والزبور والفرقان."
أقول: وروي ذلك في الدر المنثور عن عبد بن حميد وابن مردويه وابن عساكر عن أبي ذر غير أنه لم يذكر صحف آدم وذكر لموسى عشر صحف قبل التوراة.