التفاسير

< >
عرض

وَٱلْفَجْرِ
١
وَلَيالٍ عَشْرٍ
٢
وَٱلشَّفْعِ وَٱلْوَتْرِ
٣
وَٱلَّيلِ إِذَا يَسْرِ
٤
هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ
٥
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ
٦
إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ
٧
ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ
٨
وَثَمُودَ ٱلَّذِينَ جَابُواْ ٱلصَّخْرَ بِٱلْوَادِ
٩
وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ
١٠
ٱلَّذِينَ طَغَوْاْ فِي ٱلْبِلاَدِ
١١
فَأَكْثَرُواْ فِيهَا ٱلْفَسَادَ
١٢
فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ
١٣
إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ
١٤
فَأَمَّا ٱلإِنسَانُ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَكْرَمَنِ
١٥
وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَهَانَنِ
١٦
كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ ٱلْيَتِيمَ
١٧
وَلاَ تَحَآضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ
١٨
وَتَأْكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً
١٩
وَتُحِبُّونَ ٱلْمَالَ حُبّاً جَمّاً
٢٠
كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ ٱلأَرْضُ دَكّاً دَكّاً
٢١
وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً
٢٢
وَجِيۤءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ ٱلذِّكْرَىٰ
٢٣
يَقُولُ يٰلَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي
٢٤
فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ
٢٥
وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ
٢٦
يٰأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ
٢٧
ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً
٢٨
فَٱدْخُلِي فِي عِبَادِي
٢٩
وَٱدْخُلِي جَنَّتِي
٣٠
-الفجر

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
في السورة ذم التعلق بالدنيا المتعقب للطغيان والكفران وإيعاد أهله بأشد عذاب الله في الدنيا والآخرة فتبين أن الانسان لقصور نظره وسوء فكره يرى أن ما آتاه الله من نعمه من كرامته على الله وأن ما يتلبس به من الفقر والعدم من هوانه فيطغى ويفسد في الأرض إذا وجد ويكفر إذا فقد وقد اشتبه عليه الأمر فما يصيبه من القدرة والثروة ومن الفقر وضيق المعاش امتحان وابتلاء إلهي ليظهر به ماذا يقدم من دنياه لاخراه.
فليس الأمر على ما يتوهمه الإِنسان ويقوله بل الأمر كما سيتذكره إذا وقع الحساب وحضر العذاب أن ما أصابه من فقر أو غنى أو قوة أو ضعف كان امتحاناً إلهياً وكان يمكنه أن يقدم من يومه لغده فلم يفعل وآثر العقاب على الثواب فليس ينال الحياة السعيدة في الآخرة إلا النفس المطمئنة إلى ربها المسلمة لأمره التي لا تتزلزل بعواصف الابتلاءات ولا يطغيه الوجدان ولا يكفره الفقدان.
والسورة مكية بشهادة سياق آياتها.
قوله تعالى: { والفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسر هل في ذلك قسم لذي حجر } الفجر الصبح والشفع الزوج، قال الراغب: الشفع ضم الشيء إلى مثله ويقال للمشفوع شفع. انتهى. وسرى الليل مضية وإدباره، والحجر العقل فقوله: { والفجر } إقسام بالصبح وكذا الحال فيما عطف عليه من ليال والشفع والوتر والليل.
ولعل ظاهر قوله: { والفجر } أن المراد به مطلق الفجر ولا يبعد أيضاً أن يراد به فجر يوم النحر وهو عاشر ذي الحجة.
وقيل: المراد فجر ذي الحجة، وقيل: فجر المحرم أول السنة وقيل: فجر يوم الجمعة، وقيل فجر ليلة جمع، وقيل: المراد به صلاة الفجر، وقيل: النهار كله وقيل: فجر العيون من الصخور وغيرها وهي وجوه ردية.
وقوله: { وليال عشر } لعل المراد بها الليالي العشر من أول ذي الحجة إلى عاشرها والتنكير للتفخيم.
وقيل: المراد بها الليالي العشر من آخر شهر رمضان، وقيل: الليالي العشر من أوله، وقيل الليالي العشر من أول المحرم، وقيل: المراد عبادة ليال عشر على تقدير أن يراد بالفجر صلاة الفجر.
وقوله { والشفع والوتر } يقبل الانطباق على يوم التروية ويوم عرفة وهو الأنسب على تقدير أن يراد بالفجر وليال عشر فجر ذي الحجة والعشر الأول من لياليها.
وقيل: المراد صلاتا الشفع والوتر في آخر الليل، وقيل: مطلق الصلاة فمنها شفع ومنها وتر، وقيل: الشفع يوم النحر والوتر يوم عرفة، وقيل: الشفع جميع الخلق لأنه قال:
{ وخلقناكم أزواجاً } [النبأ: 8]، والوتر هو الله تعالى، وعلى هذه الأقوال روايات ستوافيك في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.
وقيل: المراد الزوج والفرد من العدد، وفي الإِقسام بهما تذكير بالعدد لما في ضبط المقادير به من عظيم النعمة من الله سبحانه، وقيل: الشفع والوتر جميع المخلوقات لأن الأشياء إما زوج وإما فرد، وقيل: الوتر آدم شفع بزوجته، وقيل: الشفع الأيام والليالي والوتر اليوم الذي لا ليل بعده وهو يوم القيامة، وقيل: الشفع الصفا والمروة والوتر البيت الحرام، وقيل: الشفع أيام عاد والوتر لياليها، وقيل: الشفع أبواب الجنة وهي ثمانية والوتر أبواب جهنم وهي سبعة إلى غير ذلك وهي كثيرة أنهاها بعضهم إلى ستة وثلاثين قولاً ولا يخلو أكثرها من تحكم.
وقوله: { والليل إذا يسر } أي يمضي فهو كقوله:
{ والليل إذ أدبر } [المدثر: 33] وظاهره أن اللام للجنس فالمراد به مطلق آخر الليل، وقيل: المراد به ليلة المزدلفة وهي ليلة النحر التي يسري فيها الحاج من عرفات إلى المزدلفة فيجتمع فيها على طاعة الله ثم يغدو منها إلى منى وهو كما ترى وخاصة على القول بكون المراد بليال عشر هو الليالي العشر الأوائل منها.
وقوله: { هل في ذلك قسم لذي حجر } الإِشارة بذلك إلى ما تقدم من القسم، والاستفهام للتقرير، والمعنى أن في ذلك الذي قدمناه قسماً كافياً لمن له عقل يفقه به القول ويميز الحق من الباطل، وإذا أقسم الله سبحانه بأمر - ولا يقسم إلا بما له شرف ومنزلة - كان من القول الحق المؤكد الذي لا ريب في صدقه.
وجواب الأقسام المذكورة محذوف يدل عليه ما سيذكر من عذاب أهل الطغيان والكفران في الدنيا والآخرة وثواب النفوس المطمئنة، وأن إنعامه تعالى على من أنعم عليه وإمساكه عنه فيمن أمسك إنما هو ابتلاء وامتحان.
وحذف الجواب والإِشارة إليه على طريق التكنية أوقع وآكد في باب الإِنذار والتبشير.
قوله تعالى: { ألم تر كيف فعل ربك بعاد } هم عاد الأولى قوم هود تكررت قصتهم في القرآن الكريم وأُشير إلى أنهم كانوا بالأحقاف، وقد قدمنا ما يتحصل من قصصهم في القرآن الكريم في تفسير سورة هود.
قوله تعالى: { إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد } العماد وجمعه عمد ما يعتمد عليه الأبنية، وظاهر الآيتين أن إرم كانت مدينة لهم معمورة عديمة النظير ذات قصور عالية وعمد ممددة، وقد انقطعت أخبار القوم عهدهم وانمحت آثارهم، فلا سبيل إلى الحصول على تفصيل حالهم تطمئن إليها النفس إلا ما قصه القرآن الكريم من إجمال قصتهم أنهم كانوا بعد قوم نوح قاطنين بالأحقاف وكانوا ذوي بسطة في الخلق أُولي قوة وبطش شديد، وكان لهم تقدم ورقي في المدنية والحضارة لهم بلاد عامرة وأراض خصبة ذات جنات ونخيل وزروع ومقام كريم وقد تقدمت القصة.
وقيل: المراد بإرم قوم عاد - وهو في الأصل اسم أبيهم سموا باسم أبيهم كما يقال: قريش ويراد به القرشيون ويطلق إسرائيل ويراد به بنو إسرائيل - والمراد بكونهم ذات عماد كونهم أولي قوة وسطوة.
والمعنى: ألم تر كيف فعل ربك بقوم عاد الذين هم قوم ارم ذوو القوة والشدة الذين لم يخلق مثلهم في بسطة الجسم والقوة والبطش في البلاد أو في أقطار الأرض ولا يخلو من بعد من ظاهر اللفظ.
وأبعد منه ما قيل: إن المراد بكونهم ذات العماد أنهم كانوا أهل عمد سيارة في الربيع فإذا هاج النبت رجعوا إلى منازلهم.
ومن الأساطير قصة جنة إرم المشهورة المروية عن وهب بن منبه وكعب الأحبار.
قوله تعالى: { وثمود الذين جابوا الصخر بالواد } الجوب القطع أي قطعوا صخر الجبال بنحتها بيوتاً فهو في معنى قوله:
{ وتنحتون من الجبال بيوتاً } [الشعراء: 149]. قوله تعالى: { وفرعون ذي الأوتاد } هو فرعون موسى، وسمي ذا الأوتاد - على ما في بعض الروايات - لأنه كان إذا أراد أن يعذب رجلاً بسطه على الأرض ووتد يديه ورجليه بأربعة أوتاد في الأرض وربما بسطه على خشب وفعل به ذلك، ويؤيده ما حكاه الله من قوله يهدد السحرة إذ آمنوا بموسى: { ولأصلبنكم في جذوع النخل } [طه: 71] فإنهم كانوا يوتدون يدي المصلوب ورجليه على خشبة الصليب.
قوله تعالى: { الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد } صفة للمذكورين من عاد وثمود وفرعون، والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: { فصب عليهم ربك سوط عذاب } صب الماء معروف وصب سوط العذاب كناية عن التعذيب المتتابع المتواتر الشديد، وتنكير عذاب للتفخيم.
والمعنى فأنزل ربك على كل من هؤلاء الطاغين المكثرين للفساد إثر طغيانهم وإكثارهم الفساد عذاباً شديداً متتابعاً متوالياً لا يوصف.
قوله تعالى: { إن ربك لبالمرصاد } المرصاد المكان الذي يرصد منه ويرقب وكونه تعالى على المرصاد استعارة تمثيلية شبه فيها حفظه تعالى لأعمال عباده بمن يقعد على المرصاد يرقب من يراد رقوبه فيأخذه حين يمر به وهو لا يشعر فالله سبحانه رقيب يرقب أعمال عباده حتى إذا طغوا وأكثروا الفساد أخذهم بأشد العذاب.
وفي الآية تعليل ما تقدم من حديث تعذيب الطغاة المكثرين للفساد من الماضين وفي قوله: { ربك } بإضافة الرب إلى ضمير الخطاب تلويح إلى أن سنة العذاب جارية في أُمته صلى الله عليه وآله وسلم على ما جرت عليه في الأمم الماضين.
قوله تعالى: { فأما الإِنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن } متفرع على ما قبله، فيه تفصيل حال الانسان إذا أُوتي من نعم الدنيا أو حرم كأنه قيل: إن الإِنسان تحت رقوب إلهي يرصده ربه هل يصلح أو يفسد؟ ويبتليه ويمتحنه فيما أَتاه من نعمه أو حرمه هذا هو الأمر في نفسه وأما الإِنسان فإنه إذا أنعم الله عليه بنعمه حسب أن ذلك إكرام إلهي له أن يفعل بها ما يشاء فيطغى ويكثر الفساد، وإذا أمسك وقدر عليه رزقه حسب أنه أهانة الهية فيكفر ويجزع.
فقوله: { فأما الإنسان } المراد به النوع بحسب الطبع الأولي فاللام للجنس دون الإِستغراق.
وقوله: { إذا ما ابتلاه ربه } أي امتحنه واختبره، والعامل في الظرف محذوف تقديره كائناً إذا "الخ" وقيل: العامل فيه { فيقول }.
وقوله: { فأكرمه ونعمه } تفسير للابتلاء، والمراد بالإِكرام والتنعيم الصوريان وإن شئت فقل: الإِكرام والتنعيم حدوثاً لابقاء أي أنه تعالى أكرمه وآتاه النعمة ليشكره ويعبده لكنه جعلها نقمة على نفسه تستتبع العذاب.
وقوله: { فيقول ربي أكرمن } أي جعلني على كرامة منه بالنعم التي آتانيها وإن شئت فقل: القدرة والجدة الموهوبتان إكرام وتنعيم حدوثاً وبقاء فلي أن افعل ما أشاء.
والجملة أعني قوله: { فيقول ربي أكرمن } حكاية ما يراه الإِنسان بحسب الطبع، وقول الإِنسان: { ربي أكرمن } الظاهر في نسبة التدبير إلى الله سبحانه - ولا يقول به الوثنية والمنكرون للصانع - مبني على اعترافه بحسب الفطرة به تعالى وإن استنكف عنه لساناً، وأيضاً لرعاية المقابلة مع قوله: { إذا ما ابتلاه ربه }.
قوله تعالى: { وأما إذا ما ابتلاه ربه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن } أي وأما إذا ما امتحنه واختبره فضيق عليه رزقه فيقول ربي أذلني واستخف بي.
ويظهر من مجموع الآيتين أولاً: حيث كرَّر الابتلاء وأثبته في صورتي التنعيم والإِمساك عنه أن إيتاء النعم والإِمساك عنه جميعاً من الابتلاء والامتحان الالهي كما قال:
{ ونبلوكم بالشر والخير فتنة } [الأنبياء: 35] لا كما يراه الإِنسان.
وثانياً: أن إيتاء النعم بما أنه فضل ورحمة إكرام إن لم يبدّلها الإِنسان نقماً على نفسه.
وثالثاً: أن الآيتين معاً تفيدان أن الانسان يرى سعادته في الحياة هي التنعم في الدنيا بنعم الله تعالى وهو الكرامة عنده والحرمان منه شقاء عنده والحال أن الكرامة هي في التقرب إليه تعالى بالإِيمان والعمل الصالح سواء في ذلك الغنى والفقر وأي وجدان وفقدان فإنما ذلك بلاء وامتحان.
ولهم في معنى الآيتين وجوه أُخر تركنا التعرض لها لقلة الجدوى.
قوله تعالى: { كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين } ردع لقولهم: إن الكرامة هي في الغنى والتنعم، وفي الفقر والفقدان هوان ومذلة، والمعنى ليس كما تقولون وإنما إيتاؤه تعالى النعمة وامساكه عنه كل ذلك ابتلاء وامتحان يختبر به حال الإِنسان من حيث عبوديته.
وفي قوله: { بل لا تكرمون اليتيم } الخ إضراب يؤكد الردع بذكر بعض التنعم الذي لا يجامع الكرامة البتة كعدم إكرامهم اليتيم بأكل تراثه ومنعه منه وعدم التحريض على إطعام المسكين حباً للمال فالفطرة الإِنسانية لا يرتاب في أن لا كرامة في غنى هذا شأنه.
وفي الإِضراب مضافاً إلى أصل الردع تقريع ولتشديد هذا التقريع وقع الالتفات من الغيبة إلى الخطاب.
فقوله: { بل لا تكرمون اليتيم } عدم إكرامه حرمانه من تراث أبيه - كما كانوا يحرمون صغار الأولاد من الإِرث - وتركه صفر الكف بلغ به الجهد ما بلغ كما تؤيده الآية التالية { وتأكلون التراث } الخ.
وقوله: { ولا تحاضون على طعام المسكين } أصله ولا تتحاضون، وهو تحريض بعضهم بعضاً على التصدق على المساكين المعدمين، ومنشأه حب المال كما في الآية الآتية { وتحبون المال } الخ.
قوله تعالى: { وتأكلون التراث أكلاً لماً } اللم أكل الإِنسان نصيب نفسه وغيره وأكله ما يجده من دون أن يميز الطيب من الخبيث، والآية تفسير لعدم إكرامهم اليتيم كما تقدم.
قوله تعالى: { وتحبون المال حباً جماً } الجم الكثير العظيم، والآية تفسر عدم تحاضهم على طعام المسكين كما تقدم.
قوله تعالى: { كلا إذا دكت الأرض دكاً دكاً } الدك هو الدق الشديد، والمراد بالظرف حضور يوم القيامة.
ردع ثان عما يقوله الإِنسان في حالي الغنى والفقر، وقوله: { إذا دكت الأرض } الخ في مقام التعليل للردع، ومحصل المعنى ليس كما يقوله الإِنسان فإنه سيتذكر إذا قامت القيامة أن الحياة الدنيا وما فيها من الغنى والفقر وأضرابهما لم تكن مقصودة بالذات بل كانت ابتلاء وامتحاناً من الله تعالى يميز به السعيد من الشقي ويهيئ الإِنسان فيها ما يعيش به في الآخرة وقد التبس عليه الأمر فحسبها كرامة مقصودة بالذات فاشتغل بها ولم يقدم لحياته الآخرة شيئاً فيتمنى عند ذلك ويقول: يا ليتني قدمت لحياتي ولن يصرف التمني عنه شيئاً من العذاب.
قوله تعالى: { وجاء ربك والملك صفاً صفاً } نسبة المجيء إليه تعالى من المتشابه الذي يحكمه قوله تعالى:
{ ليس كمثله شيء } [الشورى: 11]، وما ورد في آيات القيامة من خواص اليوم كتقطع الأسباب وارتفاع الحجب عنهم وظهور أن الله هو الحق المبين.
وإلى ذلك يرجع ما ورد في الروايات أن المراد بمجيئه تعالى مجيء أمره قال تعالى:
{ والأمر يومئذ لله } [الإنفطار: 19]، ويؤيد هذا الوجه بعض التأيد قوله تعالى { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضى الأمر } [البقرة: 210]، إذا انضم إلى قوله: { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك } [النحل: 33]، وعليه فهناك مضاف محذوف والتقدير جاء أمر ربك أو نسبة المجيء إليه تعالى من المجاز العقلي.
والكلام في نسبة المجيء إلى الملائكة وكونهم صفاً صفاً كما مر.
قوله تعالى: { وجيء يومئذ بجهنم } إلى آخر الآية لا يبعد أن يكون المراد بالمجيء بجهنم إبرازها لهم كما في قوله تعالى:
{ وبرَّزت الجحيم لمن يرى } [النازعات: 36]، وقوله: { وبرُّزت الجحيم للغاوين } [الشعراء: 91] وقوله: { لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد } [ق: 20]. وقوله: { يومئذ يتذكر الإِنسان } أي يتذكر أجلى التذكر أن ما كان يؤتاه في الحياة الدنيا من خير أو شر كان من ابتلاء الله وامتحانه وأنه قصر في أمره، هذا ما يفيده السياق.
وقوله: { وأنى له الذكرى } أي ومن أين له الذكرى كناية عن عدم انتفاعه بها فإن الذكرى إنما تنفع فيما أمكنه أن يتدارك ما فرَّط فيه بتوبة وعمل صالح واليوم يوم الجزاء لا يوم الرجوع والعمل.
قوله تعالى: { يقول ياليتني قدمت لحياتي } أي لحياتي هذه وهي الحياة الآخرة أو المراد الحياة الحقيقية وهي الحياة الآخرة على ما نبه تعالى عليه بقوله:
{ وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون } [العنكبوت: 64]. والمراد بالتقديم للحياة تقديم العمل الصالح للحياة الآخرة وما في الآية تمن يتمناه الإِنسان عندما يتذكر يوم القيامة ويشاهد أنه لا ينفعه.
قوله تعالى: { فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد } ضميرا (عذابه ووثاقه) لله تعالى والمعنى فيومئذ لا يعذب عذاب الله أحد من الخلق ولا يوثق وثاق الله أحد من الخلق أي إن عذابه ووثاقه تعالى يومئذ فوق عذاب الخلق ووثاقهم، تشديد في الوعيد.
وقرأ { لا يعذَّب } بفتح الذال و { ولا يوثق } بفتح الثاء بالبناء للمفعول وضميرا (عذابه ووثاقه) على هذا الإِنسان والمعنى لا يعذب أحد يومئذ مثل عذاب الانسان ولا يوثق أحد يومئذ مثل وثاقه.
قوله تعالى: { يا أيُّتها النفس المطمئنة } الذي يعطيه سياق المقابلة بين هذه النفس بما ذكر لها من الأوصاف وعين لها من حسن المنقلب وبين الإِنسان المذكور قبل بما ذكر له من وصف التعلق بالدنيا والطغيان والفساد والكفران، وما أُوعد من سوء المصير هو أن النفس المطمئنة هي التي تسكن إلى ربها وترضى بما رضي به فترى نفسها عبداً لا يملك لنفسه شيئاً من خير أو شر أو نفع أو ضر ويرى الدنيا دار مجاز وما يستقبله فيها من غنى أو فقر أو أي نفع وضر ابتلاء وامتحاناً إلهياً فلا يدعوه تواتر النعم عليه إلى الطغيان وإكثار الفساد والعلو والاستكبار، ولا يوقعه الفقر والفقدان في الكفر وترك الشكر بل هو في مستقر من العبودية لا ينحرف عن مستقيم صراطه بإفراط أو تفريط.
قوله تعالى: { إرجعي إلى ربك راضية مرضية } خطاب ظرفه جميع يوم القيامة من لدن إحيائها إلى استقرارها في الجنة بل من حين نزول الموت إلى دخول جنة الخلد وليس خطاباً واقعاً بعد الحساب كما ذكره بعضهم.
وتوصيفها بالراضية لأن اطمئنانها إلى ربها يستلزم رضاها بما قدَّر وقضى تكويناً أو حكم به تشريعاً فلا تسخطها سانحة ولا تزيغها معصية، وإذا رضي العبد من ربه رضي الرب منه إذ لا يسخطه تعالى إلا خروج العبد من زي العبودية فإذا لزم طريق العبودية استوجب ذلك رضى ربه ولذا عقَّب قوله { راضية } بقوله { مرضية }.
قوله تعالى: { فادخلي في عبادي وادخلي جنتي } تفريع على قوله { ارجعي إلى ربك } وفيه دلالة على أن صاحب النفس المطمئنة في زمرة عباد الله حائز مقام العبودية.
وذلك أنه لما اطمأن إلى ربه انقطع عن دعوى الاستقلال ورضي بما هو الحق من ربه فرأى ذاته وصفاته وأفعاله ملكاً طلقاً لربه فلم يرد فيما قدر وقضى ولا فيما أمر ونهى إلا ما أراده ربه، وهذا ظهور العبودية التامة في العبد ففي قوله: { فادخلي في عبادي } تقرير لمقام عبوديتها.
وفي قوله: { وادخلي جنتي } تعيين لمستقرها، وفي إضافة الجنة إلى ضمير التكلم تشريف خاص، ولا يوجد في كلامه تعالى إضافة الجنة إلى نفسه تعالى وتقدس إلا في هذه الآية.
(بحث روائي)
في المجمع في قوله تعالى: { والشفع والوتر }، وقيل: الشفع الخلق لأنه قال: { وخلقناكم أزواجاً } والوتر الله تعالى، عن عطية العوفي وأبي صالح وابن عباس ومجاهد وهي رواية أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل: الشفع والوتر الصلاة منها شفع ومنها وتر وهي رواية عن ابن حصين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل الشفع يوم النحر والوتر يوم عرفة عن ابن عباس وعكرمة والضحاك، وهي رواية جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والوجه فيه أن يوم النحر يشفع بيوم نفر بعده ويتفرد يوم عرفة بالموقف، وقيل: الشفع يوم التروية والوتر يوم عرفة وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام.
أقول: الروايات الثلاث المشار إليها مروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طرق أهل السنة ويمكن الجمع بينها بأن المراد مطلق الشفع والوتر والروايات من قبيل الإِشارة إلى بعض المصاديق.
وفي تفسير القمي { وليال عشر } قال: عشر ذي الحجة { والشفع والوتر } قال: الشفع ركعتان والوتر ركعة، وفي حديث: الشفع الحسن والحسين والوتر أمير المؤمنين عليهم السلام { والليل إذا يسر } قال: هي ليلة جمع.
وفيه في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: { لذي حجر } يقول: لذي عقل.
وفي العلل بإسناده إلى أبان الأحمر قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: { وفرعون ذي الأوتاد } لأي شيء سمي ذا الأوتاد؟ فقال: لأنه كان إذا عذب رجلاً بسطه على الأرض على وجهه ومد يديه ورجليه فأوتدها بأربعة أوتاد في الأرض.
وربما بسطه على خشب منبسط فوتَّد رجليه ويديه بأربعة أوتاد ثم تركه على حاله حتى يموت فسماه الله عز وجل فرعون ذا الأوتاد.
وفي المجمع في قوله تعالى: { إن ربك لبالمرصاد } وروي عن علي عليه السلام أنه قال: إن معناه أن ربك قادر أن يجزي أهل المعاصي جزاءهم.
أقول: بناء الرواية على أخذ الجملة استعارة تمثيلية.
وفيه عن الصادق عليه السلام أنه قال: المرصاد قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة عبد.
وعن الغوالي عن الصادق عليه السلام في حديث في تفسير قوله تعالى: { وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه } إنما ظن بمعنى استيقن أن الله تعالى لن يضيق عليه رزقه ألا تسمع قول الله تعالى: { وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه } أي ضيق عليه.
وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: { كلا إذا دكت الأرض دكاً دكاً } قال: هي الزلزلة.
وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
"هل تدرون ما تفسير هذه الآية { كلا إذا دكت الأرض } إلى قوله { وجيء يومئذ بجهنم } قال: إذا كان يوم القيامة تقاد جهنم بسبعين ألف زمام بيد سبعين ألف ملك فتشرد شردة لولا أن الله حبسها لأحرقت السماوات والأرض"
]. أقول: وهو مروي أيضاً عن أبي سعيد وابن مسعود ومن طرق الشيعة في أمالي الشيخ باسناده عن داود بن سليمان عن الرضا عن آبائه عن علي عليهم السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي العيون في باب ما جاء عن الرضا من أخبار التوحيد باسناده عن علي بن فضال عن أبيه قال: سألت الرضا عليه السلام عن قول الله عز وجل: { وجاء ربك والملك صفاً صفاً } فقال: إن الله سبحانه لا يوصف بالمجيء والذهاب تعالى عن الانتقال إنما يعني بذلك وجاء أمر ربك.
وفي الكافي باسناده عن سدير الصيرفي قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: جعلت فداك يا بن رسول الله هل يكره المؤمن على قبض روحه؟ قال: لا والله إنه إذا أتاه ملك الموت ليقبض روحه جزع عند ذلك فيقول ملك الموت: يا ولي الله لا تجزع فوالذي بعث محمداً لأني أبرّ بك وأشفق عليك من والد رحيم لو حضرك، افتح عينيك فانظر.
قال: ويمثل له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من ذريتهم عليهم السلام فيقال له: هذا رسول الله وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والأئمة عليهم السلام رفقاؤك.
قال: فيفتح عينيه فينظر فينادي روحه مناد من قبل رب العزة فيقول: يا أيتها النفس المطمئنة إلى محمد وأهل بيته ارجعي إلى ربك راضية بالولاية مرضية بالثواب فادخلي في عبادي يعني محمداً وأهل بيته وادخلي جنتي فما من شيء أحب إليه من استلال روحه واللحوق بالمنادي.
أقول: وروى هذا المعنى القمي في تفسيره والبرقي في المحاسن.