التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ ٱللَّهِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ
٢٩
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ
٣٠
وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ ٱلْكِتَابِ هُوَ ٱلْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ
٣١
ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ ٱللَّهِ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ
٣٢
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ
٣٣
-فاطر

تفسير كتاب الله العزيز

قوله: { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ } المفروضة { وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً } السرّ التطوّع، والعلانية الزكاة المفروضة. يستحب أن تعطي الزكاة علانية، والتطوّع سراً، ويقال: صدقة السرّ تطوّعاً أفضل من صدقة العلانية. قال: { يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ } أي: لن تفسد، وهي تجارة الجنة، يعملون للجنة.
قال: { لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ } أي: ثوابهم الجنة { وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ } أي: يضاعف لهم الثواب. وقال الحسن: تضاعف لهم الحسنات، أي: يثابون عليها في الجنة. { إِنَّهُ غَفُورٌ } أي: لمن تاب { شَكُورٌ } أي: يشكر اليسير ويثيب بالكثير، أي: يقبل العمل اليسير من المؤمن ويثيبه الجنة.
قال: { وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ } يعني القرآن { هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي: من التوراة والإِنجيل. { إِنَّ اللهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ }.
قوله: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا } أي: اخترنا { مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا }.
ذكروا عن جعفر بن زيد أن رجلاً بلغه أنه من أتى بيت المقدس، لم يشخصه إلا الصلاة فيه، فصلّى فيه ركعتين خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه. قال: فأتيت بيت المقدس، فدخلت المسجد فصلّيت فيه ركعتين، ثم قلت: اللهم صُن وحدتي، وآنس وحشتي، وارحم غربتي، وسق إليّ جليساً صالحاً تنفعني به. [فبينا أنا كذلك إذ دخل شيخ موسوم فيه الخير]، فقام عند سارية فصلّى ركعتين، ثم جلس. فقمت إليه، ثم سلّمت عليه، ثم جلست فقلت: من أنت، يرحمك الله، فقال: أنا أبو الدرداء، فقلت: الله أكبر! قال: ما لك يا عبد الله، أذعورة أنا؟ قلت: لا والله، ولكن بلغني أن من أتى هذا المسجد لم يشخصه إلا الصلاة فيه، فصلّى فيه ركعتين خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. قال: الحديث كما بلغك. قلت: فجئت إلى هذا المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم قلت: اللهم صُن وحدتي، وآنس وحشتي، وارحم غربتي، وسق إليّ جليساً صالحاً ينفعني. قال: فأنا أحق بالحمد منك إذ أشركني الله في دعوتك، وجعلني ذلك الجليس الصالح. لا جرم لأحدثنك بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أحدث به أحداً قبلك ولا أحدث به أحداً بعدك.
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هذه الآية: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا... } إلى آخر الآية. قال:
"فيجيء هذا السابق بالخيرات فيدخل الجنة بغير حساب، ويجيء هذا المقتصد فيحاسب حساباً يسيراً، ثم يدخل الجنة، ويجيء هذا الظالم لنفسه فيوقف ويعيّر ويوبّخ ويعرّف ذنوبه ثم يتجاوز الله عنه فيدخله الجنة بفضل رحمته، فهم الذين قالوا: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ }. غفر الذنب الكبير وشكر العمل اليسير، سبحانه وتعالى
"
. ذكروا عن أبي قلابة أنه تلا هذه الآية إلى قوله: { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } فقال: دخلوها كلهم.
ذكروا عن أبي المتوكل الناجي أن حبراً من الأحبار لقي كعباً فقال: يا كعب، تركت دين موسى واتبعت دين محمد؟ فقال: بل أنا على دين موسى واتبعت دين محمد، فقال: فما حملك على ذلك؟ فقال: إني وجدت أمة محمد يقسمون يوم القيامة ثلاثة أثلاث: ثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً، وثلث يقول الله تبارك وتعالى لملائكته: قلبوا عبادي فانظروا ما كانوا يعملون. فيقلبونهم فيقولون: ربنا نرى ذنوباً كثيرة وخطايا عظيمة. فيقول: قلبوا عبادي فانظرو ما كانوا يعملون فيقلبونهم إلى ثلاث مرات، فيقول في الرابعة: قلبوا ألسنتهم فانظروا ما كانوا يعملون، فيقلبون ألسنتهم، وهو العالم بقولهم، فيقولون: ربنا، نراهم يخلصون لك ولا يشركون بك شيئاً. فيقول عبادي اخلصوا لي ولم يشركوا بي شيئاً اشهدوا يا ملائكتي إني قد غفرت لعبادي وقد رحمتي بالغفران لعبادي بما أخلصوا لي ولم يشركوا بي شيئاً.
ذكروا عن عقبة بن صهبان قال: سألت عائشة عن هذه الآية، فقالت: نعم، يا بنيّ، كلُّهم إلى الجنّة؛ السابق من مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحياة والرزق، والمقتصد من اتَّبع أثره من أصحابه حتى لحق به، والظالم لنفسه مثلي ومثلك. فألحقت نفسَها بنا من أجل الحدَث الذي أصابت.
ذكروا عن عمر بن الخطاب قال: سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له بعد توبته.
ذكروا عن الحسن قال: السابقون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، والمقتصد رجل سأل عن آثار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فاتَّبعهم، والظالم لنفسه منافق قُطِعَ بِه دونهم.
ذكروا عن الضحاك بن مزاحم أنه قرأ هذا الحرف: { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } فقال: سقط هذا، يعني ما قال الحسن: إنه المنافق.
وتفسير مجاهد: إنه منافق. وقال: هي التي في سورة الواقعة، السابقون هم السابقون، يعني قوله تعالى:
{ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } [الواقعة: 10] فوصف صفتهم في أول السورة، والمقتصد أصحاب اليمين؛ وهم المنزل الآخِر في سورة الواقعة: { وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ الْيَمِينِ } [الواقعة: 27] فوصف صفتهم. والظالم لنفسه أصحاب المشأمة.
وقال بعضهم: إن أصحاب اليمين هم الذين يحاسبون حساباً يسيراً، وهو المقتصد في حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أصحاب المنزل الآخِر في سورة الرحمن حيث يقول:
{ وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } [الرحمن: 62] فوصفهما. ومنزل السابقين المنزل الأول في سورة الرحمن: { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [الرحمن: 46].
قوله: { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } قد فسَّرنا ذلك في غير هذه الآية.
قوله: { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً }. وقال في آية أخرى:
{ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ } [الإِنسان: 21].
قوله: { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } ذكروا عن أبي هريرة قال: دار المؤمن من درة مجوّفة، في وسطها شجرة تنبت الحلل، ويأخذ بأصبعيه حلّة منظمة باللؤلؤ والمرجان.
ذكروا عن عمرو بن ميمون الأزدي قال: إن المرأة من نساء أهل الجنة من الحور العين لَيَكُونَ عليها سبعون حلّة، وإنه ليُرى مخُّ ساقها من وراء ذلك كما يبدو الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء.