التفاسير

< >
عرض

وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ
١٣٩
إِذْ أَبَقَ إِلَى ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ
١٤٠
فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُدْحَضِينَ
١٤١
فَٱلْتَقَمَهُ ٱلْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ
١٤٢
-الصافات

تفسير كتاب الله العزيز

قال: { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ المَشْحُونِ } أي: الموقر بأهله، فرّ من قومه إلى الفلك. وكان فيما عهد يونس إلى قومه أنهم إن لم يؤمنوا أتاهم العذاب، وجعل العَلَم بينه وبينهم أن يخرج من بين أظهرهم وأن يفقدوه. فخرج مغاضباً لقومه، مكايداً لدين ربه، ولم يجز له ذلك عند الله، في تفسير الحسن. فخرج حتى ركب في السفينة. فلما ركبها فلم تسر قال أهل السفينة: إن فيكم لمذنباً. قال: فتساهموا فقُرِع يونس، وهو قوله: { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ } أي: من المقروعين. وقال مجاهد: من المسهومين. فأوحى الله إلى الحوت فالتقمه. وهو قوله: { فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ } وهذا تفسير الحسن.
[قال بعضهم]: وبلغنا والله أعلم أن يونس دعا قومه زماناً إلى الله، فلما طال ذلك وأبوا أوحى الله إليه أن العذاب يأتيهم يوم كذا وكذا، فلما دنا الوقت تنحّى عنهم. فلما كان قبل الوقت بيوم جاء فجعل يطوف بالمدينة وهو يبكي ويقول: يأتيكم العذاب غداً. [فسمعه رجل منهم، فانطلق إلى الملك، فأخبره أنه سمع يونس يبكي ويقول: غداً يأتيكم العذاب] فلما سمع ذلك الملكُ دعا قومه، فأخبرهم بذلك، وقال: إن كان هذا حقاً فسيأتيكم العذاب غداً، فاجتمِعوا حتى ننظر في أمرنا؛ فاجتمعوا.
فخرجوا من المدينة من الغد؛ فنظروا فإذا بظلمة وريح شديدة قد أقبلت نحوهم، فعلموا أنه الحق. ففرّقوا بين الصبيان وبين أمهاتهم، وبين البهائم وبين أمهاتها، ولبسوا الشعر، وجعلوا التراب والرماد على رؤوسهم تواضعاً لله، وتضرّعوا إليه وبكوا وآمنوا. فصرف الله عنهم العذاب. فاشترط بعضهم على بعض أن لا يكذب أحدهم كذبة إلا قطعوا لسانه.
وذكر بعضهم أنهم لمّا رأوا الأمر غشيهم قامت فيهم الخطباء فقال الأول: اللهم إنك أمرتنا ألا نردَّ سؤَّالنا، ونحن اليوم سؤَّالك فلا تردّنا. ثم قام الثاني فقال: اللهم إنك أمرتنا أن نعتق رقابنا، ونحن اليوم رقابك فأعتقنا. ثم قام الثالث فقال: اللهم إنك أمرتنا أن نعفو عمن ظلمنا، وقد أخطأنا أنفسنا فاعف عنا. فصرف الله عنهم.
فجاء يونس من الغد، فنظر فإذا المدينة على حالها، وإذا الناس داخلون وخارجون؛ فقال: أمرني ربي أن أخبر قومي أن العذاب يأتيهم فلم يأتهم، فكيف ألقاهم؟ فانطلق حتى أتى إلى ساحل البحر فإذا بسفينة في البحر، فأشار إليهم فأتوا، فحملوه وهم لا يعرفونه. فانطلق إلى ناحية من السفينة فتقنّع ورقد.
فما مضوا إلا قليلاً حتى جاءتهم الريح وكادت السفينة تغرق، فاجتمع أهل السفينة ودعوا الله. ثم قالوا: أيقظوا هذا الرجل يدعو الله معنا. ففعلوا، فرفع الله عنهم تلك الريح. ثم انطلق إلى مكانه فرقد. فجاءت ريح كادت السفينة تغرق، فأيقظوه، فدعوا الله فارتفعت الريح.
فتفكّر العبد الصالح وقال: هذا من خطيئتي، أو قال: هذا من ذنوبي أو كما قال فقال لأهل السفينة: شُدُّوني وثاقاً وألقُونِي في البحر. فقالوا: ما كنا لنفعل وحالك حالك، ولكنا نقترع فمن أصابته القرعة ألقيناه في البحر. [فاقترعوا فأصابته القرعة. فقال: قد أخبرتكم. فقالوا: ما كنا لنفعل، ولكن اقترعوا. فاقترعوا الثانية فأصابته القرعة، ثم اقترعوا الثالثة فأصابته القرعة]. وهو قول الله تعالى: { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ } أي: من المقروعين. ويقال: من المسهومين، أي: وقع السهم عليه.
فانطلق إلى صدر السفينة ليلقي نفسه في البحر فإذا هو بحوت فاتح فاه، ثم جاء إلى ذنب السفينة فإذا بالحوت فاتحاً فاه، ثم جاء إلى جنب السفينة فإذا هو بالحوت فاتحاً فاه، ثم جاء إلى الجانب الآخر فإذا بالحوت فاغراً فاه. فلما رأى ذلك القى بنفسه، فالتقمه الحوت. فأوحى الله إلى الحوت: أن لا تأكل عليه ولا تشرب عليه، وقال: إني لم أجعله لك رزقاً، ولكن جعلت بطنك له سجناً، فلا تقطع له شعراً ولا تكسر له عظماً.
فمكث في بطن الحوت أربعين ليلة فنادى في الظلمات كما قال الله:
{ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } [الأنبياء: 87] قال الله: { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ } [الأنبياء: 87]. والظلمات ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت.
قال الله:
{ { وَكَذَلِكَ نُنجِي المُؤْمِنِينَ } [الأنبياء: 88 ] وأوحى الله إلى الحوت أن يلقيه إلى البحر.
قال الله: { فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ سَقِيمٌ } أي: وهو مريض مثل الصبي. فأصابته حرارة الشمس فأنبت الله عليه شجرة من يقطين، وهي القرعة، فأظلّته؛ فنام. فاستيقظ، وقد يبست. فحزن عليها. فأوحى الله إليه: أحزنت على هذه الشجرة وأردت أن أهلك مائة ألف من خلقي أو يزيدون، أي: بل يزيدون. وبلغنا أنهم كانوا عشرين ومائة ألف. فعلم عند ذلك أنه ابْتُلِي.
فانطلق فإذا هو بذَوْدِ غنم، فقال للراعي: اسقني لبناً، فقال: ما ها هنا شاة لها لبن. فأخذ شاة منها فمسح على ضرعها بيده، فدرّت بإذن الله. فشرب من لبنها. فقال له الراعي: من أنت يا عبد الله، لَتُخبِرَنِّي. قال: أنا يونس. فانطلق الراعي إلى قومه فبشّرهم به. فأخذوه وجاءوا معه إلى موضع الغنم فلم يجدوا يونس. فقالوا: إنا قد اشترطنا لربّنا ألا يكذب أحد منا إلا قطعنا لسانه. فتكلّمت الشاة بإذن الله وقالت: قد شرب من لبني. وقالت شجرة كان قد استظل بظلّها: قد استظل بظلّي. فطلبوه فأصابوه. فرجع إليهم. فكان فيهم حتى قبضه الله. وكانوا بمدينة يقال لها نينوى من أرض الموصل، وهي على دجلة.
ذكروا عن ابن عباس أنه قال: في دجلة ركب السفينة، وفيها التقمه الحوت، ثم أفضى به إلى البحر، فدار في البحر ثم رجع إلى دجلة، فثم نبذ بالعراء، فأرسل إليهم بعد ذلك. قال الله: { وَأَرْسَلْنَاهُ إلَى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ }.
قال الحسن: فأعاد الله له الرسالة فآمنوا عن آخرهم، ولم يشذَّ منهم أحد. وقال مجاهد: { وَأَرْسَلْنَاهُ إلَى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } قبل أن يلتقمه الحوت. قوله: { وَهُوَ مُلِيمٌ } أي: مذنب في تفسير مجاهد.